بكاء الشباب
أيها السادة
رأيتم غراميات الشريف، وحجازيات الشريف، فلم يبق إلا أن تروا ما صنع في بكاء الشباب، وأنا أستعير هذا العنوان المفجع من كتاب (مدامع العشاق)؛ لأن الشريف بكى شبابه بكاء لم يتفق لشاعر قديم أو حديث، وما ظنكم بشاعر لم يعش أكثر من سبع وأربعين سنة، ثم اتفق له أن يبكي شبابه في أكثر من سبع وأربعين قصيدة!
ما ظنكم بشاعر مؤجج الإحساس، مرهف الذوق، مفطور القلب يبكي دنيا الحب بكاء الأطفال، ويخشع أمام ذكريا الشباب خشوع المؤمن أمام المحراب.
ما ظنكم بشاعر لا يمسي ولا يصبح إلا وهو على موعد من عيون الظباء، ثم يروعه الشيب فجأة، فيفهم أن الدهر يؤذنه بإلقاء السيف وطيّ اللواء!
ما ظنكم بشاعر عرف ملاعب الهوى على شواطئ دجلة، وشواطئ الفرات، وساقه القلب إلى معاقرة العيون في شتيت البقاع، وذاق أطايب الخلوات في مكة والمدينة وبغداد، ثم ينظر فإذا هو مهدد بالرحيل عن فردوس الصبابة العاتية، والوجد المشبوب!
ما ظنكم بشاب حاد الشباب عنيفه، كما عبر الدكتور طه حسين وهو يصف بعض الشبان، ما ظنكم بشاب هذا حاله يتلفت فيرى دنيا العافية تهجره، وتجفوه بلا ذنب ولا جريرة، فيوقن أن دنيا المحبين إلى زوال!
ما ظنكم بشاعر يؤمن بأن الله لم يخلق أجمل من الشباب، ولم يبدع أنضر من الحب، ثم ينظر مرتاعًا إلى مصيره في الشباب، ومصيره في الحب!
ما ظنكم بشاعر يعيش عزيزًا بين الملاح، ثم يعترف بالذل والضيم حين يرى في فوديه طلائع البياض! والبياض يعشق في كل موضع إلا في الرأس، البياض يعشق في الخدود والصدور، والمعاصم والمباسم، ولكنه في الشعر بغيض ممجوج.
البياض في الزهر بشير الأنس والابتهاج، ولكنه في الشعر نذير الحزن والاكتئاب.
ولن أنسى ما حييت تلك اللوعة التي سمعتها من المسيو ماسينيوس في باريس سنة ١٩٢٩، وكنا نقرأ بعض الأشعار الغرامية فتنهد، وقال: لقد فارقت شبابي! فقلت: لا تجزع، فإن الشاعر العربي يقول:
فتنهد مرة ثانية وقال: إن الشاعر قال الثلاثين، ولم يقل الخمسين! وسأعيش دهري كله أتحسر على مصاير من عرفت من الرجال في باريس، الرجال الذين رأيتهم يبالغون في التلطف مع النساء، وما أتعس الرجل الذي لا تبقي الأيام من مزية غير التلطلف والترفق في معاملة الملاح!
أيها السادة
أتحسبونني أبكي شبابي؟ وهل عرفت نعيم الشباب، حتى أبكي الشباب؟
إنما أريد أن أهيئ قلوبكم إلى إحساس الفجيعة التي سيتوجع منها الشريف، الفجيعة القاسية التي تصور سقوط السماء على الأرض، وغيض البحار، وزوال الجبال!! أريد أن أصنع مثل الذي صنعت وأنا أتكلم عن عمر بن أبي ربيعة بالجامعة المصرية في أواخر سنة ١٩١٨، وكنت يومئذ طالبًا لا يدري عواقب ما يصنع، فقد دعوت المستمعين إلى استقدام صباباتهم ليدركوا ما تصنع الصبابة بالشاعر اللعوب، واليوم وأنا ألقي محاضرتي بكلية الحقوق في أوائل سنة ١٩٣٨ أدعوكم إلى استقدام صباباتكم … أستغفر الحب، بل أدعوكم إلى استقدام أساكم وشجاكم لتدركوا ما يصنع الحزن على الشباب بشاعر كان وهّاج الشباب.
ومعاذ الأدب أن أدعوكم إلى انتهاب ما توحي الغواية والفتون، وإن كنت أتمنى أن يكون فيكم خلفاء لعمر بن أبي ربيعة، والشريف الرضي، فقد كان عمر على ضلاله رجلًا شهمًا ينزه شعره عن التزلف، ويترفع عن مدح الخلفاء، في زمن كان شعراؤه عبيد الخلفاء، وكان الشريف الرضي على غرامه الأثيم — إن كان في الغرام إثم — رجلًا شهمًا يحسب له في مصاير الأمور ألف حساب، ولم يمت إلا وهو مهيب جليل.
فإن عجزتم عن اللحاق بهذين الشاعرين فلا أقل من أن تدركوا ما يهدد اللغة العربية من القحط: قحط العواطف والقلوب، فإن اللغات لا ترقى بالثرثرة اللفظية التي يغرم بها النحويون والفقهاء، وإنما ترقى اللغات بمن يبدعون في وصف المشاعر والأحاسيس، ولكم أن تذكروا كيف ارتقت الإنجليزية بأمثال شلي وبيرون، وكيف ارتقت الفرنسية بأمثال ميسيه ولامرتين.
وهل عاشت العبرانية وقد تقوض ملكها منذ أزمان وأزمان إلا بفضل اللوعة المبثوثة في سفر أيوب؟ ولو أن اللغة العبرانية وقفت عندما يحسن اليهود في الميادين الاقتصادية لأدركها الموت منذ مئات السنين، ولكنها مضت تشرح آلام اليهود، ومآتمهم، ومآسيهم، وأحزانهم، وأشجانهم، فعاشت على وجه الزمان.
إنما ألح في شرح هذا المعنى، وألح فرارًا من شر المتزمتين، فقد يقولون: لقد رأت بغداد أديبًا يزيّن اللهو والمجون.
وما أنا بلاه ولا عابث ولا ماجن، وإنما أنا رجل يبكي مصير لغته بين اللغات، ويؤذيه أن تصبح لغته جافة جامدة، غبية بليدة لا تتكلم عن غير أسعار القطن، وأسعار الحبوب، ولا تروج إلا بحرب الهجاء في الجرائد والمجلات.
أريد أيها السادة أن تتعبوا قليلًا في إنهاض لغتكم، وهي لن تنهض إلا يوم تصبح قيثارة تعبر عن المآسي الإنسانية، وأخطر المآسي هي مآسي القلوب، ولن تصلوا إلى هذه الغاية إلا يوم تدوسون النفاق بأقدامكم، كما داسه عمر الخيام الذي خلق للغة الفارسية ألوفًا وملايين من الأنصار والمعجبين.
لست بلاه — أيها السادة — ولست بماجن ولا عابث، كما قد يتوهم من لا يفهمون.
والذين قرأوا منكم كتاب (حب ابن أبي ربيعة) يذكرون أني دعوت منذ سنين إلى التنبه إلى أثرة المرأة في تلوين العواطف والأحاسيس، وهي دعوة أجد أثرها اليوم عند بعض الأدباء في مصر، ولكن أدباء مصر على علمهم وذكائهم لا يهتمون بأسرار القلوب، كما يهتمون بأهواء العقول.
•••
فما الذي يمنع من إيجاد نهضة أدبية وذوقية في العراق؟
ما الذي يمنع من أن تتذكروا ماضيكم الجميل يوم كان علماؤكم أعلم الناس، وشعراؤكم أشعر الناس؟
ما الذي يمنع من أن تقوم المنافسة بين القاهرة وبغداد؟ المنافسة القوية التي يسمو بها الشعر، والفن، والخيال؟
أترونني أجدت الاعتذار عن نفسي؟
أنا أريد أن أنقلكم إلى الأجواء الروحية التي عاش فيها الشريف وهو يبكي صباه.
أنا أريد أن ندرك معًا سرائر هذا الروح الحزين لنعيش مع لحظات في فردوس الوجدان.
ويجب أن نتفق أولًا على أن الشاعر قد يزوّر عواطفه في بعض الأحيان، فتكون مدائحه مثلًا ضربًا من المجاملة أو الرياء، حتى الحب قد تزوّر فيه العواطف، فيكون الدمع في عين العاشق كالسم في ناب الثعبان، وبعض المحبين يبكون ليخدروا فرائسهم فتعجز عن المقاومة، كما يلدغ الثعبان ليخدر الفريسة، ثم يبتلعها بلا عناء.
إن تزوير العواطف مما يعرف الشعراء — ولا أستثني الشريف، ولكن هناك عاطفة لا تزوير فيها ولا رياء، وهي سورة الحزن على الشباب.
لكم أن ترتابوا في صدق الشاعر حين يحب أو يبغض، وحين يمدح أو يعاتب، ولكن الارتياب في صدقه حين يبكي صباه أمر غير مقبول.
وأعيذكم أن تروا في هذا البكاء لونًا من الضعف، لا، فهو من فيض القوة، وأظنني حدثتكم فيما سلف أن الحزن على ما نفقد هو الشاهد على قوة شعورنا بقيمة ما نفقد، والحزن عاطفة كاد يتفرد بها الإنسان من بين سائر الحيوان.
فبكاء الشريف على شبابه هو دليل القوة والحيوية، وهو يصور إدراكه لمعاني السعادة في الحياة، ويرينا كيف كانت الدنيا في عينيه، وفي قلبه، وفي خياله، وفي رؤياه، فالقصائد التي سندرسها معًا في هذا المساء هي عنوان الصدق، وعنوان الحيوية، وهي من شعر العافية لا من شعر المرض، كما يتوهم بعض من يعقلون.
أيها السادة
نزل الشيب ضيفًا ثقيلًا برأس الشريف وهو في الثالثة والعشرين، والشيب في مثل تلك السن لا يخيف، ولكن شاعرنا تفجع فقال:
فهو يرى الشيب نذير الموت، وإن كان لا يزال في ميعة صباه، ويشير على العذول بالصمت وبالنوم، فالشيب أقوى زاجر، وأعنف عذول.
ثم يراجع نفسه، فيرى الشيب نبت الحلم والسيادة:
ثم تنقله الأيام إلى سن السابعة والعشرين فيقول:
فماذا ترون؟ هذا شاعر يرحب بالمشيب لو أنه ظفر بحقوق المشيب، وهي: السيادة والملك، ولكنه يجمع بين النكبتين: بياض الرأس، وسواد البخت! وبعد أن جاوز الثلاثين بقليل وقع له حادث مزعج في الحجاز، فقد حلق شعره في منى، ثم تطلع إلى الشعر وهو مرميّ على الأرض، فرأى الخصل البيض تختلط بالخصل السود، فتوقع أن يكون ذلك آخر العهد بغلبة السواد على البياض.
ثم ينقله الدهر إلى السابعة والثلاثين فيقول:
ويطيب لشاعرنا أن يوازن بين جنايات الليالي، وعنده أن جناية الشيب أفظع من جناية الفراق:
وهو قد أشار مرة إلى بلواه بالشيب والعذل:
وتكرير هذا المعنى يشهد بأنه كان يعرف أن الجمهور لا ينظر إلى غرامياته بعين الارتياح، وهو يبادر بانتهاب اللذات، ويراها إمارة يتولاها الرجل بالشباب، ويعزل عنها بالمشيب:
وهو لا يعجب من أن يعيش بعد فراق الأحباب؛ لأنه عاش بعد فراق الشباب:
ويرجع إلى التفكير في النكبتين: بياض الرأس، وسواد البخت، فيقول:
وتقهره البلية — بلية الشيب — على عرفان الحق، فيذكر أن الشيب قد يفسد ما بينه وبين الحسان من وثيق الصلات.
ويرى تعبيره بالشيب لؤمًا وقلة أدب؛ لأنه لم يبتدع الشيب حتى يحاسب عليه:
ويؤكد لمحبوبته أنه لم يفوّف برد الشيب، وإنما فوفته الأيام:
وتوجعه سخرية الغواني فيقول:
ويرى دنياه كلها تذهب بذهاب الشباب: فلا حب ولا قتال، يرى نفسه كالقوس بلا وتر، والثعبان بلا ناب، والغصن بلا ورق، والغمد بلا سيف، والخميلة بلا أزهار:
فما رأيكم في هذه القصيدة؟
إن جامع الديوان لم يذكر متى قالها الشريف، ولكن يظهر من روح الشاعر أنه قالها بعد الأربعين، ونراه مع ذلك يمتلك عزيمته أقوى امتلاك، وهل يستطيع رجل فان أن يقول هذا البيت:
ففي هذا البيت صورة شعرية يدرك قيمتها من تستبيهم كرائم المعاني، والشاعر يؤكد لمحبوبته أن قلبه لم يتلون، وإن كان شعره تلون:
ويغالط نفسه فيزعم أن السواد عمى على ما فيه من لذات، وأن البياض بصر على ما فيه من علات، ويزعم أن الشعر الأبيض أوفى؛ لأنه لا يفارق الرأس، وأن الشعر الأسود غادر؛ لأنه يهجر وطنه في الرأس، ثم لا يرجع.
ويبالغ في تضليل نفسه، فيزعم أنه كان كالجواد البهيم يوم كان أسود الشعر، ثم عاد كالجواد الأغر المحجل منذ اختلط البياض بالسواد.
ثم يفيق فيقول:
ثم يقع الحزن على صدره وقوع الصواعق، صواعق الغدر التي تتفزع من هولها صدور الأوفياء، فيقول:
وهذا بيت قليل الأمثال، وهو يصور جزع الشريف على صباه، وهل هناك صورة تحزن وتوجع كصورة الصل وهو يطرق بالرمل إطراق المساكين؛ لأن الشيخوخة أسقطت ما كان يملك من أنياب حداد؟
وهل رأى الراءون أذل من القوس وهي معراة من الوتر.
ثم ماذا؟ ثم يرى الشريف أنه أمسى:
فهل تحسون جزع الغصن حين يسقط عنه الورق؟ لقد أحسست هذا المعنى منذ أعوام قبل أن يقول بعض العلماء بإحساس النبات. وهل تحسون جزع الغمد على فراق السيف؟ أرجو أن لا يطويكم الموت قبل أن تدركوا هذه المعاني، فما أحب لأحدكم أن يلقى الله إلا وهو من الأذكياء.
ثم ماذا؟ ثم يبكي شاعرنا فيقول:
وهذا البيت مزعج، وهو يردني إلى حادثة لن أنساها طول حياتي، يوم رأيت أبناء عمي يطوون بعض الأخبار عن أبي، فمضيت أتوجع في مقال نشرته بجريدة البلاغ، ثم وقعت مخاوفي مع الأسف القتال فمات أبي بعد أسابيع: رحمك الله يا أبي، وطيب مثواك!
ثم ماذا؟ ثم يقول الشريف:
وأنتم تعرفون مصاير الخمائل بعد ذبول الأزهار، وهلاك الرياحين، ثم ماذا؟ ثم يذكر الشاعر خلاصة حياته فيقول:
وليس في الدنيا آلم ولا أوجع من أن يصبح الرجل بلا حول ولا طول بعد أن كان ينتهب طعام الأسود.
وليس هذا كل ما عند الشريف في بكاء الشباب، فله وقفات يحلل فيها مصاير الرجال، كان يقول:
فماذا ترون في هذه القطعة؟ ماذا ترون؟ حدثوني فإني أخشى أن تقولوا إنها من الحديث المعاد، ففيها معان عرفها الشعراء قبل الشريف، وهذا حق، ولكن تذكروا ما حدثتكم به في المحاضرة الماضية، تذكروا أني قلت لكم: إن أساس الابتكار هو الإحساس، فالعاشق الذي يخاطب هواه فيقول: «أحبك» لا يتهم بالمحاكاة والتزييف بحجة أن هذه الجملة قالها قبله الناس منذ أجيال وأجيال، وكذلك كان شاعرنا، فهو يحسّ المعاني أصدق إحساس.
وقد فهمت من جملة حاله أنه كان يشكو مرضًا يكتمه عن الأطباء، ولذلك شواهد كثيرة في شعره نكتمها عنكم، وبسبب ذلك المرض المكتوم لم يعش نصف ما عاش أبوه، وقد حملته تلك العلة على بغض العيش، وهذه القطعة تمثل إحساسه بما كان يعانيه، وقد كان مع ذلك قليل البخت؛ فلم يجد من يتوجع على بلواه، ولو فكرتم لرأيتم أنه طاف حول المعاني التي فصّلها ناظم «سفر أيوب»، ولكن ناظم «سفر أيوب» وجد من ينصفه بعد مئات السنين، وجد الشاعر الفرنسي العظيم «لامرتين» الذي كتب عن «سفر أيوب» كتابًا وجدانيًّا حملني وأنا طالب في باريس على أن أبيع ساعتي، وطائفة من ثيابي لأشتري نسخة أنيقة من التوراة.
أراكم تستغربون هذا الحديث؟ لا بأس، فهو والله غريب، فمن أدب هذا الزمان أن ننسى ماضينا، وأن نصرح بأن الأدب الحق لا يكون إلا عند اللاتينيين والسكسونيين والجرمان.
ارجعوا إلى هذه القطعة مرة أو مرتين أو مرات، ثم انظروا كيف بكى شاعرنا مصير الإنسانية، وكيف توجع لمصير الرجال.
انظروا إلى هذين البيتين:
انظروا إلى هذين البيتين، ثم اسألوا أنفسكم كيف جمع مصاير الرجال في بيتين، وكيف لوّن هذه الصورة تلوينًا أخاذًا تنفطر له القلوب القاسية، وتنزعج منه راجحات العقول.
وهذا البيت:
فهو يصور الإنسان في حومة حرب مع الداء، ومع الأقدار، ومع الموت.
ثم، ثم ماذا؟
ثم يتوجع الشاعر، ويلتاع حين يرى مصيره بين العذال، وعند الملاح فيقول:
أترون كيف قال الشاعر «يا عذوليّ»، والشعراء جميعًا يقولون: «يا خليليّ»، والبيت الأول مختلس برفق من قول مالك بن الريب:
ولكن هذا الاختلاس هو الشاهد على براعة الشريف، فقد نقل موقف الموت إلى موقف الشيب، وصح له أن يقول:
وإلى أين يذهب العاذلان بزمام الشاعر الأشيب؟ إلى أين؟ إلى المسجد؟ ولكن الشاعر كان يتقرب إلى ربه وهو شاب بالتأمل في ملكوت النحور، والثغور، والخدود، والعيون، واليوم يتقرب إلى ربه بالعظة والاعتبار، فيكبر ويسبح كلما رأى جنازة في الطريق!
ويرى الشاعر ألا مجال لبرد البطالة، وبرد الفتك بعد أن لبس عمامة الشيب، وكيف يفتك أو يصول بعد أن خمدت نزوة الشباب، وحال الهمّ بين حشاه وبين الغرام؟ ويذكر أنهم غالطوه فزعموا أن الشيب جلاء الحسام، فيصرخ كما صرخ من قبله مئات الشعراء:
ثم يذكر ما أجاب به من غالطوه:
ولكم أن تتأملوا عبارة «صارم الجد»، فهي من غرائب التعابير، ثم يحدد مصيره فيقول:
وهو يصور الشيب أفظع تصوير فيرى موقفه وهو أشيب موقف الذئب من الآرام، وكان موقفه وهو شاب موقف الذئب من الآرام أيضًا، ولكن الفرق بين الموقفين بعيد، فقد كانت الآرام في عهد شبابه تشتهي يفترسها، ثم أصبحت وهو أشيب يؤذيها الافتراس.
ثم ماذا؟ ثم يرى أن لا مفر من تحية الشيب؛ لأنه رسول الموت، فيقول:
ومعنى ذلك: أنه كان يبكي أولًا لما حل بالشعر، فصار يبكي لما حل بالعمر، فواحر قلباه!
ثم يعود إلى تحليل تلك التحية في موطن آخر فيقول:
أترون كيف يرى الشاعر ما صنع الشيب في تثقيف هواه، ولكن أي تثقيف؟ لقد هذبه تهذيبًا أليمًا، فاقتلع الأنابيب التي يتوقد بقوتها الصيال.
أترون هذا الميعاد «واعدني عقر مراحي له»، وهل هناك موعد أشأم من هذا الموعد؟ إنه موعد فاجع، الموعد الذي يعقر فيه مراح الشباب، فواحر قلباه! ثم؟ ثم ماذا؟
ثم يرى الشاعر لقاء الشيب أفظع من لقاء العدو فيقول:
وهذا حق، فنحن نحارب الأعداء بعزائم الشباب، فبأي سلاح نحارب يوم يودّع الشباب.
وفي موطن آخر يعالج الشاعر هذه المعضلة فيقول:
أيها السادة
أخشى أن يطول القول إذا مضينا في استعراض حسرات الشاعر على صباه، وهو يبكي نصيبه من الغواني، فلننتقل إلى موضوع آخر، وهو جزعه من الشيب بسبب ما سيضيع من حظوظه في المعالي، وكان الشاعر يدخر صباه ليصيب به أعظم الأغراض من هموم الرجال، وانظروا كيف يقول:
وهذه الأبيات من قصيد طويل، وهي تريكم أنه كان يدخر الشباب عظائم الأعمال:
انظروا أيضًا كيف يتوجع على ما ضاع من أمانيه في المعالي بسبب الشيب فيقول:
وهذه أبيات تفيض بالإحساس وقوة الروح، وهي تشعركم بأن الشاعر كانت له من شبابه غاياته أشرف من الأنس بالغواني.
إن شاعرنا — أيها السادة — لم يبك شبابه وهو عابث، وإنما بكاء؛ لأنه كان الوسيلة إلى إدراك ما في الدنيا من صبوات وأمجاد، والصبوة والمجد معنيان من أشرف المعاني، والشاعر الحق هو الذي يدرك قيمة الصبوة، وقيمة المجد.
كان شاعرنا إمامًا في الفتوة، وفي الفروسية، فارحموه إن رأيتموه يبكي على شبابه بكاء الأطفال، فليس في الدنيا ما يستحق أن تذال في سبيله دموع الرجال غير الشباب.
وقديمًا قيل: إن أبا العتاهية أشعر الناس؛ لأنه قال:
أيها السادة: لقد طوفت بكم حول المناحة التي أقامها الشريف على صباه، والآن أنظر فأراكم فريقين: فريق الشباب، وفريق الكهول.
أما الكهول، فإني أرجو أن لا يصنعوا مثل صنيع الشريف، فيقتلوا عزائمهم بكثرة النوح على الشباب، فإن لله حكمة عالية حين قضى بألا يحمل نبيه الرسالة إلا بعد الأربعين؛ ليعرف من لم يكن يعرف أن شباب العزائم لا يبتدئ إلا بعد الأربعين.
وأما الشبان الذين واظبوا على هذه المحاضرات من طلبة دار المعلمين العالية، وطلبة كلية الحقوق، وأدباء بغداد، فإن لي في سبيلهم مع الله كلمة، ولي في سبيل المجد معهم كلمة.
أما كلمتي مع الله — تباركت أسماؤه — فهي دعوة أرجو أن تستجاب.
ادعوا الله أن تعيشوا يا تلاميذي، ويا حواري حتى تشيب نواصيكم، ادعوا الله أن يبقيكم جميعًا حتى تطول بلواكم بالشيب، ادعوا الله أن تعيشوا حتى يشيب أبناؤكم وأنتم أقوياء.
ادعوا الله أن يمنحكم البركة في العمر، والبركة في العافية، فلا يدرككم الشيب إلا ولكم في بلادكم منازل عالية تحقق بعض آمال العراق.
أما كلمتي معكم في سبيل المجد فهي كلمة عنيفة، هي دعوتكم إلى إنفاق الشباب في سبيل المجد، لا في سبيل الحب؛ لأن أكثر الحب في زماننا متاع رخيص، لا يذكي الأفئدة، ولا يوقظ القلوب.
تذكروا دائمًا يا تلاميذي ويا حواري أن في مقدور الشاب النبيل أن يخلق لنفسه عرائس من الخيال، تذكروا أن سهر الليل في تحقيق مشكلة فلسفية، أو معضلة علمية، ألذّ وأمتع من سهر الليل بين غانية وكأس.
تذكروا يا تلاميذي، ويا حواري أن شهوة المجد أقوى من شهوة الحب، تذكروا أن عشق المعاني هو الذي يخلق العظماء، والمرأة نفسها لا تذكي قريحة الرجل فتصيره عظيمًا إلا إن كانت عظيمة في الشمائل والخصال.
إني أخاف عليكم سفاهة هذا الزمان، يا تلاميذي ويا حواريّ، فإن لم يكن لكم بدّ من درس الوجود فادرسوه دراسة الرجال، وليكن موقفكم منه موقف الطبيب من العليل، وأنا لا أدعوكم إلى إغماض أعينكم، وإنما أدعوكم إلى التخلق بالقوة والجبروت، فلا يدرككم الشيب إلا بعد أن تكونوا رفعتم قواعد الحياة العلمية، والأدبية، والاقتصادية في هذه البلاد.
وقد رأيتموني أعطف على الشريف وهو يبكي صباه.
وكانت مواهبه شبيهة بالمائدة الغريبة الألوان: فكان شاعرًا، وكان كاتبًا، وكان نحويًّا، وكان فقيهًا، وكان فارسًا، وكان سياسيًّا، كان يجمع بين الحلاوة والمرارة، والجد والهزل، والقلب والعقل.
ومثل هذه الشخصية القوية لا ينظر إليها رجل مثلي بغير العطف والإعجاب.
فمن شاء منكم أن يقضي حق الشباب فأنا حارسه وراعيه، ولكن علي شرط أن يقيم البراهين على أنه رجل عظيم يضر وينفع، ويبرم وينقض، ولا يبيت إلا وهو مثقل بهموم الرجال.
تلاميذي الأعزاء:
احترسوا، ثم احترسوا، فما توغلت في هذه الدراسات الوجدانية لا حولكم إلى قوم بكائين، وإنما قضى واجب الدرس أن نفهم شاعرنا حق الفهم، فننظر كيف كان يدرك ما في الوجود من ألوان.
وما جاز له لا يجوز لكم في كل حين. وليتكم تغنمون لأنفسكم ما غنم لنفسه من القوة والجبروت، فقد طاب له أن يلهو ويلعب، ومع ذلك لم يفارق دنياه إلا بعد أن هذب ألوفًا من التلاميذ، وبعد أن ترك ثروة شعرية وأدبية وفقهية تعزّ على من رامها وتطول.
تلاميذي الأعزاء:
ستحيون بإذن الله حتى تشيب نواصيكم، وستكون لكم في سبيل المجد وثبات صوادق، وسيذكر العراق أن أبناءه لم يخذلوه، وأنهم استطابوا في سبيله كل عذاب، حتى الحرمان من نعيم الشباب.