الشاعر المثقف
أيها السادة
حديث الليلة عن ثقافة الشريف الرضي وبصره بالبلاغة وإحساسه قوة الكلام البليغ.
ولا يمكن تصور هذا الجانب من حياة الشريف إلا بتصور ما كانت عليه الحياة العقلية في القرن الرابع، ذلك العهد الذي رأى كيف تتصاول العقول، وكيف تصطرع الأقلام، وكيف يكون الحول والطول مقرونين بسلاح المنطق وبراعة البيان.
ففي ذلك العصر عرفت اللغة العربية نهضة أدبية لا تزال تسيطر على الأقلام والعقول إلى اليوم، في ذلك العصر نبغ أبو الحسن الجرجاني صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه. وفي ذلك العصر نبغ أبو بكر الباقلاني صاحب إعجاز القرآن. وفيه نبغ أبو القاسم الآمدي صاحب الموازنة بين الطائيين أبي تمام والبحتري. وفيه ظهر أبو علي الحاتمي الذي سن المذاهب للهجوم على المتنبي. وفيه تفجرت فصاحة أبي هلال العسكري صاحب الصناعتين.
وفي ذلك العصر ظهر إخوان الصفاء الذين دانوا اللغة العربية برسائلهم العميقة التي وعت معارف العرب والفرس واليونان. وفيه نبغ أبو حيان التوحيدي وابن مسكويه. وفيه عرف النثر الفني أقطابًا عظامًا لا يزالون أعلام الفصاحة وفرسان البيان، وكيف تنسى لغة العرب آثار ابن العميد وابن عباد والهمذاني والخوارزمي والتنوخي وابن وشمكير وابن شهيد.
ومن هذه الإشارات ترون القرن الرابع تميز بمزايا ثلاث: النقد الأدبي والجدل العقلي، والنثر الفني، وهي مزايا كانت تفترق ما شاء لها الزمن الجائر، فيرى بعضها في الشام، وبعضها في مصر، وبعضها في الأندلس، ولكنها كانت تجتمع في بغداد، وكانت بغداد وطن الشريف كما تعلمون.
وصورة بغداد في القرن الرابع تتمثل في قول الصاحب بن عباد في خطابه إلى ابن العميد: «بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد» وتتمثل أيضًا في الجزع على فراقها، الجزع الذي أحسه أبو العلاء وأبو العلاء كما تعرفون كان يرى الدنيا بأذنيه لا بعينيه، فلما قدم بغداد رأت أذناه ما لم تريا من قبل، وصارت المجالس والمساجد هي الزهر والماء في إحساس ذلك الأديب الفيلسوف.
ومن ثقافة القرن الرابع ومعارف بغداد تكونت عقلية أبي العلاء، الذي دان الأدب برسالة الغفران وبقصائده اللزوميات.
وقد شاءت الظروف أن يعيش الشريف الرضي في القرن الرابع، وبعقل القرن الرابع، وشاءت الظروف أيضًا أن يكون من أسرة لها في العلم والأدب ماض جميل، بل وشاءت الظروف أن يكون له أخ من الأئمة في العلوم العقلية والنقلية، ثم قضت بأن يكون الشريف الرضي نقيب الأشراف في زمن لم يكن فيه للأشراف عرش ولا تاج، وإنما كان لهم مجد العلم والأدب والبيان.
وقد وفى الشريف الرضي لعصره وأسرته أصدق الوفاء، فأقبل على الحياة العلمية والأدبية إقبال الرجال، وشارك في التأليف مشاركة الفحول، فألف كتاب «حقائق التأويل في متشابه التنزيل» وكتاب: «مجازات الآثار النبوية» وكتاب: «تلخيص البيان عن مجازات القرآن» وكتاب: «الخصائص» و«أخبار قضاة بغداد».
وما أزعم أني اطلعت على جميع هذه المؤلفات، فقد ضاع أكثرها مع الأسف، وإنما اطلعت على مجازات الآثار النبوية، وهو كتاب ممتع، يمثل ثقافة الشريف أصدق تمثيل، ويدل على بصره باللغة والأدب ومذاهب البيان.
ولم تكن ثقافة الشريف مقصورة على الجوانب الجافية التي وقف عندها بعض الأعلام في ذلك الزمان، وإنما رق الشريف وظرف، فمشى به ذوقه اللطيف إلى دراسة شعر ابن حجاج أظرف شعراء القرن الرابع وأبرعهم في وصف اللهو والمجون، وقد تخير الشريف طائفة من شعره سماها: (الحسن من شعر الحسين) ولعله بهذه التسمية كان صاحب الفضل على أبي العلاء الذي سمى كتابه عن المتنبي: (معجز أحمد) وكتابه عن البحتري: (عبث الوليد) وكتابه عن أبي تمام: (ذكرى حبيب).
ولم تكن ثقافة الشريف موقوفة على ما وعت الكتب والمصنفات، وإنما امتد بصره فدرس الدنيا وخبر الناس، وساقه إلى ذلك أسباب خطيرة ترجع في جملتها إلى اثنين: الأول: تطلعه إلى الخلافة وحرصه على الاتصال بأقطاب الزعماء في الحواضر الإسلامية، والثاني. تشوفه إلى ما أجن الوجود من غرائب الصباحة، وعجائب الجمال، وسترون في الليالي المقبلات كيف كان الشريف يعيش موزع القلب والعقل بين الحب وبين المجد، وكيف كان فريسة للدسائس في عالم المجد وعالم الوجدان.
فالشريف الرضي أيها السادة عاش شعره كله، كما يعبر الفرنسيون، وهو لم يصف أزمات الحياة كما يفعل اللاهون والعابثون، وإنما وصف حياة رآها بعينيه، وأحسها بقلبه، وذاق من شهدها وصابها ما يذوق أحرار الرجال.
ونحن بهذه الأحكام لا نتعصب لشاعر أحببناه، وإنما نطوف حول نفس روحانية لم يعرف نظيرها العلم، ولم يشهد مثيلها الخيال.
نطوف حول نفس مظلومة مهيضة كافحت في الحياة أصدق كفاح، وناضلت في سبيل المجد أشرف نضال.
لقد كان الناس في عهد الشريف يتفقهون ليعيشوا، أما هو فكان يتفقه ليسود.
كان الشعراء في عهد الشريف ينظمون الشعر ليحظوا بأعطيات الخلفاء، أما هو فكان ينظم الشعر ليزلزل الرواسي من عروش الخلفاء.
كان الشعراء يتغزلون لاهين لاعبين، أما الشريف فكان له في كل أرض صبابة، وكان له في كل بقعة غرام ماحق مبيد.
وكان ذلك مزاجًا بين طغيان العقل وعدوان القلب، كان مزاجًا بين العقل المثقف والقلب الحساس.
وجملة القول: أن الرضي لم يكن من طراز شعراء الجاهلية، الشعراء العوام الذين لم يعرفوا غير ما كان يعرف سكان البيداء، ولم يكن من طراز شعراء العصر الأموي الذين وقفوا عند المعارف الجاهلية بعد أن أنارتها بعض المعارف الدينية، ولم يكن من طراز الشعراء الذين شهدوا صباح العصر العباسي، أولئك الشعراء الذين وقفوا عند عربدة الكؤوس، ولم يعرفوا الخلفاء إلا في طلب الرزق الحرام أو الحلال، وإنما كان شاعرًا مثقفًا يدرك تمام الإدراك كيف تصطرع العقول والمذاهب والأهواء، ويفهم أن الدنيا في عصره نهب مقسم بين الديلم وأحفاد بني العباس، ويتمنى لو أقام على شواطئ دجلة حاضرة تساوي الحاضرة التي أقامها الفاطميون على شواطئ النيل.
فالشريف الرضي كان يرى الدنيا بعين الرجل المثقف، المثقف الشريف لا المثقف الصعلوك، وكانت أحاسيسه في دنياه لا تقدر بالأوهام، وإنما كان ينصب لها دقيق الموازين، ويسعى في تحقيقها سعي الفحول.
كان الشريف في حرب شعواء بين القلب والعقل، وكان يطمح في أن يجمع لنفسه جميع أقطار المجد، فيكون من أئمة الفقهاء، وأقطاب الشعراء، وأعيان الخلفاء.
وقد ضاعت أمانيه ضياع الزهر في الوادي الجديب، ولم يبق منها الإمامة في الشعر والبيان.
أيها السادة
قد تقولون: وأين الشواهد على بصره بالمذاهب اللغوية والأدبية؟
إن قلتم ذلك فنحن نحدثكم عن فهمه لأصول الكلام البليغ، وحجتنا في ذلك ما وصف به شعره وما تحدث به عن البلاغة وهو يتحدث عن اللغويين والشعراء.
وأول ما ننص عليه: إحساس الشريف بالصلة بين المعاني وبين الأوزان، يدل على ذلك ما جاء في ص٩٤٥ من الديوان، فقد أرسل إليه أبو إسحاق الصابي قصيدة مدح نثبت منها هذا المطلع:
قال جامع الديوان: «فأجابه عن هذه القصيدة وجعل الجواب على رويها دون وزنها؛ لأن ذلك الوزن المقيد لا يجيء في الكلام إلا مقلقلًا ولا النظم إلا مختلًّا».
فما كان ابن العميد يراه من الوجهة النظرية كان الشريف يحققه من الوجهة العملية، وما كان الشريف شاعرًا فحسب، وإنما كان كذلك من أقطاب الناقدين.
وقيمة هذا الشاهد ترجع إلى دلالته على احتفال الشريف بقرض القصائد، فقد كان يتخير المناسبات ويستعد لها أتم استعداد.
وهناك وجه آخر من وجوه البصر بالتاريخ الأدبي، فقد تفرد بميزة لم نجدها إلا قليلًا عند غيره من الشعراء، وتلك عنايته بتاريخ قصائده، فهو الشاعر الوحيد الذي نجد جميع قصائده مؤرخة من بين سائر القدماء، ولهذا التاريخ نفع من وجهتين: فهو أولًا شاهد على شعور الشريف بأن البلاغة من المواد الوصفية في حياة المجتمع، وأنها لذلك خليقة بالتاريخ، وهو ثانيًا يسعف من يهمهم أن يعرفوا كيف تطورت عقلية الشاعر من حال إلى حال.
ولقد تظنون أن هذا العمل النافع قام به جامع الديوان، ولم يقم به الشريف، ونجيب بأن ديوان الشريف رُتِّبَ بعنايته وهو حيٌّ، وقد طلبت منه «تقية» بنت سيف الدولة نسخة وهي بمصر، وطلبه كذلك الصاحب بن عباد، ولا يطلب الديوان إلا وهو عند صاحبه حاضرٌ عتيد.
وقد كان الشريف ينظر إلى الشعر نظر الفنان، فنراه يقول في وصف قصائده الجياد:
وكان يشعر بأن أهم عناصر البلاغة قوة الذاتية، نعرف ذلك من كلامه في تجريح من يسرقون شعره وينتحلونه في بعض البلاد، فقد هدَّدهم بالفضيحة وأعلنهم أن شعره سينمُّ عليه وسيبوءون بالخيبة والإخفاق، وذلك إذ يقول:
فهذا الشاعر يصور قصائده المسروقة حين تضاف إلى قصائد غيره بصور الصحاح من الإبل والخيل، حين تضاف إلى المراض، ويتمثلها تلوي رقابها نزاعًا إلى وطنها الأصيل، وتأبى ورود الماء الغريب ثم يرمي سارقي شعره بأنهم ليسوا أكفاء للزواج من تلك القصائد، وأنهم لم يحسنوا رعي البقل فكيف يخاطرون بركوب الجياد الجوامع؟
ووصف قصائده المسروقة في مكان آخر فقال:
فأنتم ترون أن الشريف يؤمن بأن سرقة شعره عناء في عناء وهي نظرة لا تقع إلا من رجل مثقف العقل، وهي دليل على قوة الذاتية التي تعد من أهم العناصر في مقومات الآداب والفنون، فالشاعر الوسط، أو الكاتب الوسط، أو الموسيقار الوسط، تضاف آثاره إلى آثار غيره فلا يحس أحد أنها نقلت من أرض إلى أرض. ومن الأدباء والفنانين من تصبح آثارهم كالدنانير التي يتميز بها جيل عن جيل، ولا يمكن تزييفها إلا بجهد عنيف، وأنتم تجدون شواهد ذلك عند كثير من أدباء اليوم، فشوقي ينم شعره عليه، والبارودي ينم شعره عليه، وكذلك ينم الأسلوب عن أمثال إبراهيم المازني وطه حسين، ولو نشروا رسائلهم بدون إمضاء.
والشريف الرضي كان أعجوبة الأعاجيب في هذا الباب، فلا هو من طراز أبي نواس ولا مسلم بن الوليد ولا أبي تمام ولا البحتري ولا المتنبي، وإنما هو الشريف صاحب الحجازيات.
•••
وإحساس الشريف بخطر البلاغة قاده إلى الإشادة بقوة القلم وما له من السيطرة على الوجود. والحديث عن قوة القلم معروف، فقد أقسم الله به في كتابه الكريم، واهتم بوصفه كثير من الشعراء والكتاب، كما ترون في الفقرات التي أثبتها الثعالبي في سحر البلاغة ونقلها الحصري في زهر الآداب، ولكن حديث الشريف عن القلم لا دلالة على اتجاهاته الذوقية والنفسية، فهو يتحدث عنه حديث المتيم المشتاق، ويكاد يتغزل فيه وهو يجول فوق القراطيس. وأي سحر فات الشريف وهو يصف قلم الصاحب بن عباد:
أو حين يقول:
أو حين يقول:
والشريف حين يمنح القلم هذه الأوصاف إنما يفعل ذلك وهو يتمثل ما صنعت الأقلام في بناء الممالك والشعوب، ويتصور جناياتها على التيجان والعروش.
وهو أيضًا يشعر بمعنى الوصف ومعنى البيان، فليست الأوصاف عنده تهاويل وتزاويق، وإنما هي استقراء واستقصاء، وليس البيان في فهمه ضربًا من المحاجاة أو التنميق، وإنما هو كشف وجلاء، نعرف هذا من قوله في خطابه خاله أبي الحسين:
وهو بهذا يثور على التقاليد الأدبية التي شاعت في القرن الرابع، وكانت تعتمد على البهرج والبريق.
وكان معه فهمه لقيمة البيان ذلك الفهم يدرك تمام الإدراك أن البيان يوجب على طالبه أن يكد خاطره في تصيد كرائم المعاني، وتحير الألفاظ الصحاح التي لا يصلح بغيرها أداء، نفهم ذلك من قوله عتاب الخليفة الطائع لله:
وفي هذا المعنى نفسه يقول في مدح أبيه:
وكذلك يقول في آخر موطن:
وفي هذا المعنى يقول في العتاب:
ويقول في وصف نظام قصائده وهو يمدح أحد وزراء بهاء الدولة:
وفي قوة نظام القصائد يقول أيضًا وهو يمدح أباه:
وفي سلاسة النظام يقول:
وفي رنين شعره يقول:
ويصف جلجلة شعره فيقول:
ويصف قدرته على إيذاء الأعداء بالشعر فيقول:
ويصف نفسه بالسيطرة على الألفاظ فيقول:
فما رأيكم فيما سمعتم، يا أدباء بغداد؟
أترون كيف يتحدث عن صقال الألفاظ وطلاب المعاني، وكيف يصف نفسه مرات بأنه صنع، ويصف قصائده بأنها كمشرعات الأسل ومحكمات الدروع؟
أرأيتم كيف يبدئ ويعيد في وصف ما تمتاز به قصائده من إحكام النظام، وكيف تجلجل جلجلة الرعود والبروق؟
إن هذا الشاعر يقفنا أمام حقيقتين: الأولى: أن البلاغة بريئة من البهرج والتكلف، والثانية: أن البلاغة لا تكون دائمًا من عفو الطبع، وإنما يصل إليها الرجال بالجهاد والجلاد في تخير الألفاظ وتصيد المعاني، وهذا ولا ريب مطمح الشاعر المثقف الذي يعرف أنه مهدد بالشهرة التي غنمها المتنبي والشهرة التي سيغنمها أبو العلاء.
وعقل القرن الرابع هو الذي أورد شاعرنا هذه الموارد، فقد كان يرى العلم والفلسفة يحيطان به من كل جانب، وكان يرى الناس لا يقنعون بالمواهب الفطرية التي كانت تغني في عصر امرئ القيس أو عمر بن أبي ربيعة أو مسلم بن الوليد، وكان يرى الأدباء يتغنون بفنون أبي تمام والبحتري وابن الرومي، وكان يتطلع إلى أن تكون له منزلة في صدور الأدباء المتفلسفين أمثال التوحيدي والصاحب بن عباد.
وسترون في المحاضرة المقبلة أن الشريف الرضي لم يكن يعيش وحده، وإنما كان يعيش في زمن أكثر علمائه شعراء، فهو يقارعهم مقارعة الشاعر المثقف، ويلقاهم بعزائم الفحول.
•••
ننتقل إلى فن آخر يظهر فيه حرصه على الكلام البليغ، فنرى كيف كان يدرك أن محاسن الرجال لا تتم بغير العقل والبيان.
كتب إليه الصابي يشكو زمنه عرضت له، فقال الشريف يجيبه من قصيد طويل:
وهو في هذه الأبيات يرى أن مرض الصابي غير ضائر ما دام له قلب ولسان. ونصه على بلاغة الصابي وهو يعزيه في علته يشرح لكم كيف كان يقدر نعمة الكلام البليغ.
ولما مات الصابي رثاه الشريف أكثر من مرة، وكان كلما رثاه نص على قلمه وبلاغته، كأن يقول:
فماذا ترون في هذه الصورة الشعرية، صورة القلم البليغ الذي يحز في قلوب الأعداء وكأنه السيف المسلول، القلم البليغ الذي يستنزل الرماح ويرد الجنود، ويسترد موارق القلوب بالترهيب والتخويف، القلم الذي يصير الصحائف وكأنها مملوءة بكوامن الأراقم والصلال، القلم الذي يخيل الصحائف للعدو وهي حمر قانية كتبت بالدم لا بالمداد، القلم الذي يسد مسد السوط في رياضة الحرون، ومسد العنان في عنق الجواد الجموح، القلم الذي يلدغ القلوب إن شاء، ويرقيها إن شاء، ويحط النجوم من الابعاد حين يريد.
إن هذا الوصف يعطينا فكرة واضحة عن فهم الشريف لقوة القلم البليغ، وهو ليس كالوصف الذي رأيناه منذ لحظات، وإنما هو وصف حي يأخذ ملامحه من قوة الإحساس ويقظة الجنان.
وقد وصف البلاغة مرة ثانية وهو يرثي الصابي فقال:
وهو في هذه الأبيات يضع أمام أعيننا صورة ثانية تغاير الصورة الأولى بعض المغايرة وتماثلها في المدلول، ولكنه يأتي بمعنى جديد حين يصور ما كان عليه القلم في الحالين: حال الشباب وحال المشيب، فهو في الحال الأول يشد كلامه بوثاق القوة، وهو في الحال الثاني يسند كلامه بقوة الروح.
وقد وصف بلاغة الصابي وهو يرثيه مرة ثانية فقال:
وهذا يدلكم على أن البلاغة كانت تملأ أقطار ذهنه فيراها أكرم ما يبكي به الرجال.
•••
ومدح الشريف ابن جنى ورثاه، وقد رأيناه في الحالين ينص على بلاغته، فيقول في المدح:
ويقول في الرثاء:
فهو في الأبيات الأولى يصفه بحلاوة القول، وهو في الأبيات الأخيرة يصفه بسياسة القول. ولا يلتفت إلى سياسة القول إلا الشعراء المثقفون الذين راضتهم الأيام على وزن مقامات البيان.
ولا بأس من أن نستطرد قليلًا فنقول: إن اهتمام الشريف بمدح ابن جني ورثائه موصول الأواصر بحياته الأدبية، فقد كان ابن جني شرح قصيدته الرائعة في رثاء إبراهيم بن ناصر الدولة الحمداني، وهي التي يقول في مطلعها:
وسنعود إلى هذه القصيدة بعد حين، ولكن المهم أن نسجل أن الشريف كان يعادي ويصادق في سبيل حياته الشعرية، فهو قد مدح ابن جني ورثاه؛ لأنه شرح إحدى قصائده في الرثاء، وكذلك فعل مع الصاحب بن عباد، فقد بلغه أن شيئًا من شعره وقع إليه فأعجب به وأنفذ إلى بغداد لاستنساخ سائر شعره، فلما بلغه ذلك أخذ منه الطرب كل مأخذ، ومدح الصاحب بقصيدة بارعة منها الأبيات التي سلفت في وصف القلم، ولكنه أخفاها عنه ولم يرسلها إليه خوفًا من أن يتهم بالسعي في طلب المال، ثم مدحه بقصيدة ثانية لا يعنينا منها في هذا المقام إلا اهتمامه بوصف بلاغة الصاحب إذ يقول:
فهذه الأبيات تمثل فهمه لخطر الجدل والقلم أصدق تمثيل، وترينا كيف كان يدرك أن القلم واللسان يغنيان أحيانًا عن سل السيوف في كبح الخصوم وتأييد الآراء؟
ولما مات الصاحب رثاه الشريف بقصيدة قوية جاء فيها قوله في وصف ما تصنعه الأقلام:
فهو يجعل الحجج الصوائب في قوة الخيل المغيرات، وهي أخيلة بدوية كلن يحس صورها كل الإحساس.
•••
وفي الشواهد التي سلفت ما يريكم كيف كان الشريف يهتم بوصف اللسن، وكيف كانت تروعه قوة الجدل، وقد وصل في ذلك إلى أبعد الغايات وهو يقول في رثاء عبد العزيز بن يوسف:
وهذا فن جديد عند الشريف، فأكثر من وصفهم بالبلاغة كانوا من رجال السيف، أما عبد العزيز بن يوسف فلم يكن له من أدوات القتال غير القلم واللسان، وقد وصف كلماته بأنها تفعل ما لا تفعل مشرعات الرماح، وإنها ترد الخيل المغيرة وعليها أقطاب الدارعين، وحدد مقامه بين مقامات الأبطال بهذا البيت:
وقد وصفه بالكيد، وذلك وصف طريف؛ لأنه يفصح عن خصلة نادرة لا يجيدها إلا الأقلون، والكيد سلاح عرفه الساسة من قديم الزمان وأنا لا أعرف من أصوله شيئًا، ولكني سمعت أنه يبني ويهدم ويبرم وينقض. والشريف يعني ما يقول وهو ينعت مبكيه بالكيد في موقف لا تذكر فيه غير كرائم الخلال.
وقد قلت في كتاب النثر الفني: إن ما بين أيدينا من أخبار عبد العزيز بن يوسف ورسائله لا يعطينا صورة صحيحة عن نفسه وأخلاقه، فهل أستطيع اليوم أن أعتمد على حكم الشريف فأقول: إن ذلك الكاتب كان من كبار الكائدين؟
المهم أن نسجل أن الشريف كان يفهم جيدًا خطر القول، وكان يعرف أنه يطلب لكثير من الغايات، ويدرك أن البلاغة لها مواطن خفية يدركها أقطاب الليل. ونعوذ بالله من كيد الكائدين، ودسائس الخاتلين.
•••
ومع هذا لم يكن الشريف يرى الدنيا في جميع أحوالها حومة قتال، فقد كانت عنده مواطن يرى فيها البلاغة تطلب لإيناس الافئدة والقلوب، أليس هو الذي يقول في رثاء أبي منصور الشيرازي؟:
وكيف لا يعشق البلاغة ويراها من موارد الأنس من يقرنها بجمال العزم والحلم، فيقول في مدح أبي سعيد بن خلف:
أيها السادة
تلكم ثقافة الشريف الرضي، وذلكم إحساسه بخطر البلاغة وقوة الكلام البليغ.
وإنما أطلنا في سرد الشواد وضرب الأمثال لنريكم أن الشريف لم يكن في حياته الشعرية من اللاهين، وإنما كان يقتحم البلاغة اقتحام الفحول، ويؤمن بأن الفصاحة من أشرف ما يزدان به الرجال، ويرى آثار الأقلام أبقى على الزمن من آثار الرماح والسيوف.
فإن قلتم: وكيف صح للشريف أن يفتن بنفسه وبشعره ذلك الفتون؟
قلنا: إن لذلك موجبات سنعود إليها في المحاضرة المقبلة بالتفصيل.