وقف الشريف على منازله قبل أن يموت بنحو عام واحد فقال:
أمل من مثانيها فهذا مقيلها
وهذي مغاني دورهم وطلولها
حرام على عيني تجاوز أرضها
ولم يرو أظماء الديار همولها
وقد خالطت ذاك الثرى نفحاتها
وجرت على ذاك الصعيد ذيولها
حقوف رمال ما يخاف انهيالها
وأغصان بان ما يخاف ذبولها
إذا ما تراءاها اللوائم ساعة
فأعذرها فيمن يحب عذولها
رضينا ولم تسمح من النيل بالرضا
ولكن كثير لو علمنا قليلها
شموس قباب قد رأينا شروقها
فيا ليت شعري أين منا أفولها
تعالين عن بطن العقيق تيامنًا
يقومها قصد السرى ويميلها
فهل من معيري نظرة فأريكها
شرقيّ نجد يوم زالت حمولها
كطامية التيار يجري سفينها
أو الفلج العلياء يهفو نخيلها
١
ولم تر إلا ممسكًا بيمينه
رواجف صدر ما يبل غليلها
ومختنقًا من عبرة ما تزوله
ومختبطًا في لوعة ما يزولها
محا بعدكم تلك العيون بكاؤها
وغال بكم تلك الأضالع غولها
فمن ناظر لم تبق إلا دموعه
ومن مهجة لم يبق إلا غليلها
دعوا لي قلبًا بالغرام أذيبه
عليكم وعينًا في الطلول أجيلها
سقاها الرباب الجون كل غمامه
يهش لها حزن الملا وسهولها
٢
نجائب لا يودي بأخفافها السرى
وإن طال بالبيد القواء ذميلها
فكم نفحة من أرضها بردت حشا
وبلّ غليلًا من فؤاد بليلها
منازل لا يعطي القياد مقيمها
مغالبة ولا يهان نزيلها
خليليّ قد خف الهوى وتراجعت
إلى الحكم نفس لا يعز مذيلها
فلست ابن أم الخيل إن لم أمل بها
عوابس في دار العدوّ أبيلها
إذا انجفلت من غمرة ثاب كرها
وعاد إلى مرّ المنايا جفولها
يزعفر من عض الشكيم لعلبها
ويرعد من قرع العوالي خصيلها
٣
ونحن القروم الصيد إن جاش بأسها
تغودر مرعى ذودها ومقيلها
بأيماننا بيض الغروب خفائف
نغول بها هام العداء وتغولها
تفللن حتى كاد من طول وقعها
بيوم الوغى يقضي عليها فلولها
قوائم قد جربن كل مجرّب
بضرب الطلى حتى تفانت نصولها
وأودية بين العراق وحاجر
ببيض المواضي والعوالي نسيلها
يمدّ بدفّاع الدماء غثاؤها
ويجري بأعناق الرجال حميلها
٤
إذا هاشم العلياء عب عبابها
وسالت بأطناب البيوت سيولها
مدفّعة تحت الرحال ركابها
محفزة تحت اللبود خيولها
رأيت المساعي كلها وتلاحقت
فروع العلا مجموعة وأصولها
إذا استبقت يومًا تراخي تبيعها
وخلّى لها الشأو البعيد رسيلها
٥
فثم عوال ما ترد صدورها
وثم جياد ما يفل رعيلها
وثم الحماة الذائدون عن الحمى
عشية لا يحمي النساء بعولها
أبي ما أبي لا تدّعون نظيره
رديف العلا من قبلكم وزميلها
هو الحامل الأعباء كل مطيقها
وعجّ عجيج الموقرات حمولها
طويل نجاد يجتبي في عصابة
فيفرعها مستعليًا ويطولها
إذا صال قلنا أجمع الليث وثبة
وإن جاد قلنا مدّ من مصر نيلها
حليم إذا التفتت عليه عشيرة
تطاطا له شبانها وكهولها
وإن نعرة يومًا أمالت رؤوسها
أقام على نهج الهدى يستميلها
وأنظرها حتى تعود حلومها
وأمهلها حتى تثوب عقولها
ولم يطوها بالحلم فضل زمامها
فتعثر فيه عثرة لا يقيلها
فعن بأسه المرهوب يرمي عدوها
ومن ماله المبذول يودي قتيلها
أكابرنا والسابقون إلى العلا
ألا تلك آساد ونحن شبولها
وإن أسودًا كنت شبلًا لبعضها
لمحقوقة ألا يذل قتيلها
وهذه القصيدة على قوتها ليست إلا زفرة شاعر مودع، ولا سيما هذه
الأبيات:
ونقل صاحب التبيان أن أبا الحسن النحوي قال: دخلت على السيد المرتضى — طاب ثراه —
يومًا،
وكان قد نظم أبياتًا فوقف به بحر الشعر فقال: خذ هذه الأبيات إلى أخي الرضي، وقل له:
تممها،
وهي هذه:
قال: فأخذتها ومضيت إلى السيد الرضي، وأعطيته القرطاسة، فلما رآها قال: عليّ بالمحبرة،
وكتب:
فأتيت بها إلى المرتضي، فلما قرأها ضرب بعمامته الأرض وبكى، وقال: يعز عليّ أخي، يقتله
الفهم بعد أسبوع، فما جاء الأسبوع إلا وجاء نعي الرضي، ومضى إلى سبيله.
وهذه نادرة يستبعدها الناس، ولكنها طريفة؛ إذ تجعل موت الشريف بالشعر شبيهًا بحال
من
يخنقه أرج الأزهار فيموت.
وكانت وفاته — رحمه الله — في أوائل المحرم سنة ٤٠٦، ورثاه أخوه المرتضى فقال:
ورثاه تلميذه مهيار بقصيدة يحفظها أكثر الأدباء:
ورثيته أنا بقصيدة طويلة جدًّا، هي هذا الكتاب.