مقام الشريف الرضي بين شعراء القرن الرابع
أيها السادة
حديث الليلة عن شاعرية الشريف الرضي كما يصورها في قصائده القصار والطوال، وقد تعقبنا حديثه عن شعره فرأينا زُهي به واختال أكثر من ستين مرة، فساقنا ذلك إلى البحث عن السر فيما أدى به إلى الإسراف في الزهو والاختيال.
قد تقولون: وهل تفرد الشريف الرضي بالحديث عن شعره حتى تبحث عن السر في ذلك؟ ألم تعرف هذه السجية فيمن سبقه من الشعراء كأبي تمام والبحتري وابن الرومي والمتنبي؟
وأجيب بأن هذه الخصلة لم يتفرد بها الشريف، ولكنه أفرط وأسرف فلم يكن بد من الكشف عن سر ما وقع فيه من الإفراط والإسراف.
ولكي تعرفوا كيف أفرط وأسرف، أسوق إليكم شواهد تبين غلبة الزهو على ذلك الشاعر، ثم أتبعها بالبحث عن أسرار ذلك الاختيال.
ولا أرى موجبًا للإشارة إلى جميع المواطن التي زُهي فيها بشعره، فقد حدثتكم أنها تزيد على الستين، وإنما أطوف ببعض الأشعار التي تكشف عن تلك الخصلة بوضوح وجلاء.
وأول ما أشير إليه هو إحساسه بأن الشعر دون قدره، وأن نفسه أعلا من أنفس الشعراء وأرفع، وهو يحدثنا أنه يتخذ الشعر وسيلة إلى غرضه فيقول:
ويرى سيماه غير سيماء الشعراء فيقول:
ويرى القول دون الفعل فيقول:
وهذه الشواهد الثلاثة ترينا كيف كان يرى الشعر دون قدره، وكيف كان يرى منزلته أرفع من منازل الشعراء.
•••
ولكن هل يهرب من شاعريته؟ أن هذا محال!
فلم يبق ألا أن يرى نفسه أشعر الأمم فيقول:
أو يرى شعره فوق شعر البحتري ومسلم بن الوليد فيقول:
أو يتواضع فيرى نفسه زميل الفرزدق أو جرير فيقول:
أو يرى قوافيه كقوافي البحتري وأبي نواس فيقول:
أو يرى نفسه ضريبًا لزهير فيقول:
أو يرى شعره فوق شعر زهير فيقول:
أو يرى كلامه فوق كلام الرجال فيقول:
أو يقول:
أو يرى لسانه أمضى من السيف فيقول:
ويرى نفسه فوق الشعراء — إذ كان يبتغي الكرامة ويبتغون المال فيقول:
ويرى شعره يرفع أقدار الرجال فيقول:
أو يقول:
ويرى شعره أعز من أن يمدح به غير الخلفاء، فيقول في خطاب الطائع لله:
وقد يرى شعره بشيرًا بالنعيم، ونذيرًا بالعذاب، فيراه غيثًا ينفع الأولياء، وصواعق تحرق الأعداء، كأن يقول في خطاب أبيه:
وكأن يقول في التهديد:
وللشريف أفانين من التهديد، وهو يتوعد توعُّد الباطشين، ويرى شعره يعرق العظام وينكل بالأحساب. وانظروا كيف يقول:
والشريف في وعيده يكشف عن صدر صهره الغيظ، وقلب أضرمته الضغائن والحقود. وما كان لمثل هذا الرجل أن يلقى جميع الناس بقلب رفيق، وهل يعرف الرفق من يقول:
•••
أيها السادة
قد أشرت كما ترون إلى نحو عشرين موضعًا زهي فيها الشريف بشعره واختال، وقد حدثتكم أن تلك المواضع نيفت على الستين، والآن أحب أن نفهم معًا كيف صح ذلك الزهو وذلك الاختيال:
كان يكفي أن نسجل هذه الظاهرة النفسية، وأن نقول: إنه سلك طريقًا سار فيه كثير من الشعراء، ولكني رأيت بعد التأمل والدرس أن هذه الظاهرة النفسية تجر وراءها أشياء، وأكاد أجزم بأنها تدل دلالة على أن الرجل كان يحس أنه يحيا في عصره حياة المغبون، وأنه كان على أهل زمانه من الحاقدين.
ولكن كيف يصح هذا الافتراض؟ هاكم البينات:
كان الشريف يعيش في عصر احتله الأموات واحتله الأحياء.
أما الأموات الذين احتلوا عصره فهم: البحتري وأبو تمام والمتنبي، وقد شاء النقاد أن يمكنوا أولئك الأموات من ذلك الاحتلال، وأظهر شاهد على ذلك ما صنع أبو العلاء المعري الذي عاش دهره كله وهو يحقد على الشريف الرضي أبشح الحقد، فقد ألف ثلاثة كتب في شاعرية أبي تمام والبحتري والمتنبي، وأراد أن يسجل أن دنيا الشعر وقف على هؤلاء الثلاثة فقال: البحتري هو الشاعر، وأبو تمام والمتنبي حكيمان. وكان الغرض من هذا الحكم أن يكون هؤلاء الثلاثة محور الجدل والخلاف.
ويضاف إلى هذا أن الشريف الرضي أعلن خصومته لشاعرية المتنبي وإعلان هذه الخصومة عاد على ذكرى المتنبي بأجزل النفع، فقد كان للشريف كثير من الأعداء، وأولئك الأعداء أصابوا فرصة لم تكن تخطر ببال، فقد مضوا يبدئون ويعيدون في الكلام عن عبقرية المتنبي، وأذاعوا في الناس أنه شاعر لن يجود بمثله الزمان، وكانت هذه الأحكام ظاهرها حب الأدب وباطنها إغاظة الشريف.
قد تقولون: وكيف جاز للشريف أن يحقد على رجل مات قبل أن يجيء هو إلى الدنيا بأعوام؟
وأجيب بأن موت المتنبي في القرن الرابع لم يكن مثل موت شوقي في القرن الرابع عشر: فقد سكت النقاد عن شوقي بعد إذ مات؛ لأن شوقي كان ملك الجماهير في زمانه ملكًا قويًّا، وكان تفرد بأفانين من الشعر عجز عنها معاصروه، فلما مات سلموا له بالإمارة الشعرية، وعادوا إلى شؤونهم ساكتين.
ولم يكن الحال كذلك بعد موت المتنبي، فقد كان على جهارة صوته وجلجلة شعره يحدث الناس بما يألفون، وكانت له بدوات لفظية ومعنوية تؤلب الناس عليه، وتهيج النحويين واللغويين، فلما مات بقيت الفرصة للجدل والشغب والضجيج، وانقسم الناس حول شعره إلى فريقين: عدو وصديق، وكذلك ظل يثير الهيجاء وهو هامد بين الصفائح والتراب، ولو تسمع الناس صوت رفاته البالي لرأوه يقول:
ومن المؤكد أن الشريف شهد الخصومة حول شعر المتنبي وهو طفل، ومن المؤكد أيضًا أن عظمة المتنبي احتلت أقطار نهاه، ولعلها كانت السبب في أن ينظم الشريف أجود الشعر وهو ابن عشر سنين، فليس من المستبعد أن يكون في أساتذة الشريف من لقنه الحقد على المتنبي، ثم ظل هذا الحقد عقيدة أدبية يساورها وتساوره طول الحياة.
وأقف عند الغرض الأصيل فأقول: إن الشريف كان يعجب لانصراف الناس عن شعره وإقبالهم على شعر المتنبي، وقد انقلب هذا العجب إلى حقد؛ لأنه كان يرى نفسه أشعر من المتنبي، وكان يفهم جيدًا أن الناس لو خلصت ضمائرهم من أوضار العصبيات الدينية والسياسية والأدبية لفضلوه على المتنبي، ولكنهم لن يخلصوا ولن يسعفوا الشريف بما يريد.
ولم يكن المتنبي هو الشاعر الوحيد الذي يحتل أذهان أهل بغداد، فقد كانت هناك أطياف ترد إلى أهل بغداد من شاعر ولد في بلد بعيد وعاش في القرن الرابع: وهو أبو القاسم بن هاني الذي ولد في إشبيلية، وسمت به همته إلى أن يكون أمير الشعراء في مصر، ثم احتضره الموت وهو في الطريق، فلم يشهد بساتين الجزيرة ولا مساجد الفسطاط.
وكانت أطياف ابن هاني تغيظ الشريف الرضي أشد الغيظ؛ لأن الناس لم يكونوا يجدون عبارة تفيه حقه من الثناء إلا أن يقولوا هو: متنبي المغرب. ولا نعرف بالضبط كيف عرف العراقيون شعر ابن هاني لعهد الشريف، ولكن من المؤكد أن ابن هاني كانت له سمات تلفت العراقيين إليه: فقد كان شاعر الفاطميين أعداء العباسيين، الفاطميين الذين أنشأوا القاهرة لينافسوا بغداد، وليخلقوا الخصومة بين دجلة والنيل.
أيها السادة
حدثتناكم حديثًا موجزًا عن شاعرين كانا يحتلان أذهان الناس في بغداد من بين الأموات، وهما المتنبي وابن هاني، وبينا كيف كان الشريف يغتاظ لصيرورة ما أبدعا من الآيات، فما بالنا لا نخبط شجرة الشعر في القرن الرابع لنرى كيف كان الشريف يتعب ويضجر ويلتاع؛ ليرفع رايته في ذلك البحر المحيط؟
لقد كان العراق في القرن الرابع مسرحًا لعرائس الشعر الجميل، وكان المرء لا يلتفت إلا رأى نفائس وغرائب تبهر الأذواق والقلوب والعقول.
وقد مضى السلامي يبدع ويجيد حتى فتن أهل بغداد، وحتى استطاع أن يقول:
واستطاع أن يجيد وصف الزنانير التي تضجر أهل بغداد فيقول:
والسلامي هذا كان شغل أهل العراق في القرن الرابع فمنحوه لقب أمير الشعراء، فانظروا كيف كان يصح للشريف الرضي أن يسكت عن ضياع شعره، وهو أشعر من أمثال السلامي بلا جدال.
وفي ذلك العصر نبغ في العراق ابن نباتة السعدي الذي وصف الثعالبي قصائده بأنها أحسن من مطالع الأنوار وعهد الشباب. وأرق من نسيم الأسحار وشكوى الأحباب، ابن نباتة الذي يقول:
ابن نباتة الذي يقول:
وأكاد أجزم بأن السري الرفاء نال من نفس الشريف كل منال، فقد شغل النقاد بشعر الرفاء شغلهم بشعر المتنبي، فأفنوا الليالي في إخراج سرقاته الشعرية ومزقوه كل ممزق، وكان الشريف يتمنى أن يظفر شعره من النقاد بعض ما ظفر به شعر الرفاء.
وقد طغى هذان الشاعران في زمانهما أبشع الطغيان، بفضل ما خلبما به الناس من أشعار الهزل والمجون، وبفضل ما رزقا من قوة الافتنان مع خفة الروح.
أما ابن سكرة فكان يبدع في وصف مجالس اللهو والأنس كأن يقول:
ولم يكن السخف كل بضاعة ابن حجاج: فقد كان يجيد في سائر ضروب الشعر إجادة الفحول، واضطر الشريف إلى العكوف على دراسة شعره فأخرج منه مختارات سماها (الحسن من شعر الحسين).
ولما مات رثاه الشريف بقصيدة جيدة ابتدأها بهذين البيتين:
وختمها بهذين البيتين:
وأستطيع أن أقول: إن الشريف كان يعطف على ابن حجاج لبعض الوفاق في المذاهب الدينية أو السياسية: فقد كان يعرض ببعض خصوم أهل البيت، كأن يقول في خطاب أبي إسحاق الصابي:
ولكن من الظلم أن تقضي بأن ذلك التوافق المذهبي كان كل الأسباب في عطف الشريف على ابن حجاج، فقد كانت لهذا الرجل وثبات شعرية قليلة الأمثال، فهو الذي يقول:
تلكم حال ابن سكرة وابن حجاج، فهل يمكن القول: بأن الشريف كان ينظر إلى نجاح هذين الشاعرين بعين الارتياح؟
وكيف وهو يراهما ينتهبان الجو الأدبي أفظع انتهاب، ويبلغان بالهزل ما لا يبلغ معشاره أصحاب الجد الصراح؟
ولا تنسوا أني أسوق هذا الكلام لأبين السر في حرص الشريف على الزهو بشعره، والاختيال بعبقريته، فقد كان مضطرًّا إلى تذكير أهل العراق بما له في الشعر من مقام جليل.
•••
ومن نوابغ القرن الرابع أبو الفتح كشاجم، وكان شعره في ذلك العهد ريحانة أهل الأدب في العراق، وكان مورد رزق للنساخ والوراقين، وطوفت أشعاره بالمشرق والمغرب حتى وصلت إلى القيروان، وتخير أطايبها مؤلف «زهر الآداب» فانظروا كيف يضيق صدر الشريف الرضي وهو يرى هذه الشهرة لشعر كشاجم، على حين يظل شعره الفخم بلا رواة ولا شراح ولا نقاد، وهو في نفسه أشعر الناس.
•••
ومن أعلام ذلك العصر أبو حامد الأنطاكي، وهو شاعر نشأ بالشام ثم رحل إلى مصر فعاش فيها عيش الترف إلى أن مات سنة ٣٩٩، وقد كانت لهذا الشاعر في زمانه شهرة عظيمة؛ لأنه أراد أن يكون في مصر والشام كابن سكرة وابن حجاج في العراق.
ويظهر أنه صادف في مصر جماعة من أهل الهزل والمجون، فأوغل في السخف كل الإيغال، وسمى نفسه أبا الرقعمق، وأعلن أنه حليف الرقاعة والحماقة، حتى صح له أن يقول:
ولكن هذا الشاعر لم يخل من عبقرية نبيلة، فقد سجل في شعره ليل تنيس وهي مدينة مصرية كان لها حظ مرموق، وكان بها في بعض العهود خمس مائة صاحب محبرة يكتبون الحديث، وكانت كذلك من أماكن الصيد صيد الطير لا صيد الظباء، فكان بها من أنواع الطيور مئة ونيف وثلاثون صنفًا ذكرها بأسمائها صاحب معجم البلدان. وسجل الأنطاكي كذلك ملاعب الجزيرة، جزيرة الفسطاط، لا الجزيرة التي يصلنا بملاعبها في هذه الأيام جسر إسماعيل، وانظروا كيف يقول وقد طال شوقه إلى ملاعب الفسطاط:
ولا يمكن الشك في أن الشريف الرضي سمع بأخبار هذا الشاعر، وما كان لشعره من الذيوع في الأقطار الشامية والديار المصرية.
وفي القرن الرابع نبغ ابن درَّاج الأندلسي، وقد فصلتُ أخباره ووازنت بينه وبين أبي نواس في كتاب «الموازنة بين الشعراء»، وإنما يهمني أن أنص على أن في أشعاره ما يدل على أنه رحل إلى المشرق فعرف العراق وخراسان إذ يقول:
ولا تندهشوا أيها السادة حين أحدثكم عن غيرة الشريف الرضي من سلطان الشعراء في المشرق والمغرب، فقد كانت الدواوين الشعرية تصل إلى بغداد في حَيَوات أصحابها، وكانت بغداد تشعر بخطر المنافسة، منافسة القاهرة وقرطبة، فكانت تستورد كل ما تجود به القرائح، وإن تباعدت البلاد.
وكان العراقيون ومن والاهم من أهل المشرق يضنون بالكتب ضن الأشراف بالأعراض؛ فقد غلب أديب على نسخة الجمهرة لابن دريد، غلبه الفقر، وهو أبو الحسن علي بن أحمد الفالي، فباعها للشريف المرتضى بستين دينارًا، فلما تصفحها الشريف وجد فيها بخط البائع هذه الأبيات.
ويقال: إن المرتضى رد النسخة إلى صاحبها بعد قراءة هذه الأبيات وترك الدنانير.
أيها السادة
رأيتم كيف كان الشعر يرفع أهله في القرن الرابع، وكيف كان الشريف يضجر من خموله بين الشعراء، مع أنه كان في نفسه وفي الواقع سيد الشعراء.
فلننظر الآن نظرة ثانية نرى بها كيف عظمت منزلة الشعر في القرن الرابع، حتى استطاع الرضيُّ على شرف منبته أن يرى الشعر من أظهر مزاياه.
كان الشعر في ذلك العصر ممَّا يتحلى به الأمراء والرؤساء، فكان من أقطابه أمير مصر تميم بن المعز، وكان من أعلامه السادة الحمدانيون من أمثال سيف الدولة وأبي فراس.
وكيف لا يعز الشعر في زمن يكون من شعرائه وزراء عظام كأبي الفضل ابن العميد والصاحب بن عباد؟ كيف لا يعز الشعر في زمن يكون من شعرائه قاضٍ كأبي الحسن الجرجاني وكاتب مثل عبد العزيز بن يوسف؟
ومن عجائب ذلك العصر أن رجاله كانوا في الأغلب يجمعون بين الصناعتين: الشعر والإنشاء، فكانت البلاد تموج موجًا بمواكب الخيال والبيان.
وكان الشريف الرضي ينظر إلى تلك المواكب بعين القلق والحيرة؛ لأن الظروف السياسية كانت ضيقت عليه الخِنَاق، وأقصت عنه أسباب السلطة الأدبية، وهي سلطة هائلة كان لها الأمر يومئذٍ في مصاير الرجال.
وسترون في المحاضرة المقبلة تفصيل هذا الجانب من حياة الشريف، ولكن المهم في هذه اللحظة أن تثقوا بأن الظروف هي التي أحرجته وقضت عليه وهو رجل مهذب بأن يخرج على قواعد الذوق فيُزْهَى بشعره ويختال، المهم عندي أن تعذِروا الشريف حتى ترونه يقول:
أيها السادة
ذلكم مقام الشريف الرضي بين شعراء القرن الرابع، وتلكم شكواه من جماهير الناس في بغداد، فليته يعود اليوم ليرى كيف تعطفون عليه بعد مئات السنين، وكيف تتوجعون لما كان يتوجع، وكيف تشفقون عليه إشفاق الأكرمين من الأوفياء.