أعوام البؤس في حياة الشريف
أيها السادة
أحدثكم هذه الليلة عن أعظم حادثة أثرت في حياة الشريف، وأضرمت النار في صدره، وبصرته بحقائق الدنيا وخلائق الناس.
وهذه الحادثة تفسر لكم إلحاح الشريف في مدح أبيه، والتشوق إليه، بطريقة لم تعرف عن أحد من الشعراء.
هذه الحادثة هي اعتقال أبيه وحبسه في قلعة فارس من سنة ٣٦٩ إلى سنة ٣٧٦.
وقبل أن نفصل أسباب هذه الحادثة نذكر أن الرضي ولد في أيام كانت تفيض بالنكبات، وتعج بالدماء، فقد حدث وهو صبي في المهد أن ثارت الفتن بين الديلم والأتراك ثورة عادت على بغداد بأعظم الفجائع، وأبيحت مدينة الكرخ فدام فيها الحريق أكثر من أسبوع، وأحرق الرجال والنساء في الدور والحمامات، وتقدم أبو أحمد الموسوي والد الرضي لمخاطبة العباس بن الحسين وزير بختيار ومحاسبته على ما وقع في الكرخ، فغضب الوزير وصرفه عن النقابة، وكانت يومئذ أعظم منصب يتولاه الأشراف.
وما كاد الشريف يدرك كيف يبتسم لأبويه وهو في المهد حتى وقع حادث انكشفت به الخلافة الإسلامية أبشع انكشاف: فقد وردت الأخبار إلى بغداد بأن الروم غزوا نصيبين فملكوها وأحرقوها وقتلوا الرجال وسبوا الذراري، ثم ورد ناس من ديار ربيعة وديار بكر مدينة بغداد واستنفروا المسلمين في المساجد والأسواق، وخوفوا البغداديين عواقب ما يتطلع إليه الروم من غزو العراق، وقامت مظاهرة هائلة توجهت إلى قصر الخليفة المطيع لله، وحاول المتظاهرون الهجوم عليه، وقلعوا طائفة من نوافذ القصر، فأغقلت دونهم الأبواب بعد أن كادوا يصلون إلى الخليفة، ولكنهم لم ينصرفوا حتى أسمعوه أفحش السباب.
إن الغزو يلزمني إذا كانت الدنيا في يدي وإليَّ تدبير الأموال والرجال، وأما الآن وليس لي منها إلا القوت القاصر عن كفايتي، والدنيا في أيديكم وأيدي أصحاب الأطراف، فما يلزمني غزو ولا حج ولا شيء مما تنظر الأئمة فيه، وإنما لكم مني هذا الاسم الذي يخطب به على منابركم تسكنون به رعاياكم، فإن أحببتم أن أعتزل اعتزلت عن هذا المقدار أيضًا، وتركت لكم الأمر كله.
ولكن هذا الجواب على ما فيه من فضيحة الخليفة لم يرض بختيار: فما زال يوعد ويهدد حتى اضطر الخليفة المطيع لله إلى بيع ثيابه، وبعض أنقاض داره ليجمع أربع مائة ألف درهم يسلم بها من غضب بختيار الذي أخذ من الخليفة ومن الناس ما أخذ ولم يخط خطوة واحدة في قتال الروم!
وقد تجلت هذه البلايا عن قوتين تخاصمان بني بويه: قوة الخلافة إن بقيت لها قوة، وقوة أبي أحمد الموسوي الذي عزله وزير بختيار عن نقابة الأشراف.
وفي سنة ٣٣٦ قامت الحرب بين بختيار وعضد الدولة، وكانت لهذه الحرب نتائج دميمة في تمزيق البصرة، فقد انضمت مضر إلى عضد الدولة وانضمت ربيعة إلى بختيار، ولم يكن يهم ربيعة أن ينتصر بختيار، وإنما فعلت ذلك طوعًا للأحقاد الموروثة بينها وبين مضر، وكذلك استفحلت الثورة فأحرقت المحال، وانتهبت البضائع، وانتهكت الحرمات.
وفي تلك الأزمنة العصيبة نرى اسم أبي أحمد الموسوي بين الأسماء، ولكن في أي صف؟ في صف بختيار لا صف عضد الدولة، بختيار الذي عزله عن نقابة الأشراف منذ سنين، وما تقول: إن أبا أحمد الموسوي امتشق الحسام في سبيل بختيار، وإنما قبل: أن يكون رسول بختيار إلى عضد الدولة في مطلب لم يكن يراه عضد الدولة لائقًا بالملوك: فقد كان صورة دميمة من صور الشهوات.
ثم دارت الدائرة على بختيار وانتهى أمره بالقتل، وخلع الخليفة المطيع وتولى ابنه الطائع، ونال عضد الدولة من الهيبة والقوة ما فرض على الخليفة الجديد أن يمنحه خصائص لم يظفر بمثلها أحد من قبل.
وكان الظن أن يستوحش عضد الدولة من أبي أحمد الموسوي لسابقة اتصاله بعدوه الغادر بختيار، ولكن رأينه يعتمد عليه في بعض شؤونه حين جدت الحرب بينه وبين المسيطرين على الأٌطار الشامية، فنفهم أن عضد الدولة يرى في أبي أحمد قوة أدبية يحسب لها حساب، وتغفر لصاحبها بعض الذنوب.
فما الذي جد من الأمور حتى نفض عضد الدولة يده من أبي أحمد وقضى على أملاكه بالمصادرة، وعلى شخصه وشخص أخيه بالقبض والاعتقال؟
هناك أسباب كثيرة لم تفصلها كتب التاريخ، وإنما فهمناها من ملامح الحروف ونحن نستخبر ما سطر المؤرخون عن ذلك العهد، ويكفي أن نشير إلى كلمة عضد الدولة وهو يقول لمن سأله العفو عن أبي الصابي: «أما العفو عنه فقد شفعناك له عن ذنب لم نعف عما دونه لأهلينا — يعني الديلم — ولا لأولاد نبينا ﷺ يعني: أبا الحسن محمد بن عمر وأبا أحمد الموسوي وأخاه — ولكنا وهبنا إساءته لخدمته».
ومن هذه الكلمة نفهم أن عضد الدولة كان نقم على أبي أحمد الموسوي أشياء دعته إلى المبادرة باعتقاله، ومصادرة أملاكه ليكون عبرة لغير من الرؤساء.
وهنا تبدأ أعوام البؤس في حياة الشريف الرضي، ذلك الطفل الذكي النبيل الذي يواجه مكاره الحياة وهو ابن عشر سنين.
وما ظنكم بطفل يتوقد غيرة وحماسة، ويقبل على الدرس إقبال الرجال فيصل النهار بالليل في درس العلوم العقلية والنقلية، ويأوي إلى بيت عامر بالكرم والجود تعج أرجاؤه بأصوات الخدم والحاشية، ويرى أباه في الصباح والمساء وهو عماد المكروبين، وغياث الملهوفين، ويرى أساتذته يبالغون في إكرامه؛ لأنه ابن النقيب، ما ظنكم بطفل هذه أحواله يمسي بعافية ثم يصبح فيرى البيت اللب، ذاهل العقل، أن أباه جرد من الحول والطول، وألقى به في غياهب الاعتقال.
دعوا جانبًا ما حدثتكم به في المحاضرة الماضية من أن شهرة المتنبي هي التي أطعمت هذا الفتى في الشعر، وأنطقته به وسنه فوق العشر بقليل، فأصدق الرأي أيها السادة، أن هذه النكبة هي التي خلقت ذلك الشاعر في يوم واحد رجلًا ينظر إلى الدنيا بعين الكهول وهو في سن الأطفال.
إن من العسير أن تتصوروا النبوغ الشعري في طفل عرير؛ لأنكم تعيشون في أزمان لا تعرف الشقاء، أزمان يكون فيها من النبوغ أن يحفظ الطفل قصيدة وهو ابن عشر سنين، ولكن يسهل عليكم تخيل ذلك حين تتذكرون كيف كان حال الشريف الرضي حين نقل أبوه منفيًّا إلى فارس، حين تتصورون كيف أمسى ذلك الطفل فقيرًا ذليلًا بعد الغنى والعزة، حتى صح لبعض أساتذته أن يهبه دارًا يسكنها.
وما أظلم الأيام التي تحوج طفلًا مثل الشريف إلى قبول هذه الهدية بعد تمنع وإباء. تصوروا حال الشريف وهو يحاور أستاذه فيقول: بر أبي فكيف أقبل برك؟! فيجيب الأستاذ وهو يتوسل إليه: إن حقي عليك أعظم من حق أبيك!
إي والله! إن حق الأستاذ أعظم من حق الوالد، ولكن القسوة هي في تلك الحال، حال الطفل الذي تروضه الأيام على أن يلقي أساتذته وهو غني الرأس، فقير الجيب!
كانت هذه الحادثة مشئومة على الشريف الرضي، وإن أحسنت في إيقاظ ما غفا من مشاعر ذلك الطفل النبيل.
كانت مشئومة؛ لأنها سدت عليه منافذ القول في هجاء عضد الدولة وحرمته اللذة الطبيعية، لذة التشفي بالهجاء والسباب؛ لأن عضد الدولة أخرسه وأخرس جميع أهل العراق، وسكت الطالبيون أنفسهم فلم يرتفع لهم صوت في وجه ذلك «المستبد»، الذي أودع نقيبهم غيابات السجن والاعتقال!
فإن سألتم: وكيف صح ذلك؟ فإنا نجيبكم بأن عضد الدولة شغل الناس جميعًا بشواغل شريفة كان لها أحسن الوقع في أنفس الأعداء قبل الأصدقاء، فقد أمر بعمارة ما هدمته الثورات من مرافق بغداد، فأعيدت المنازل والمساجد والاسواق، وأدرت الأرزاق على القوام والأئمة والمؤذنين والقراء، وأقيمت الجرايات لمن يأوي إلى المساجد من الغرباء والضعفاء، وألزم أرباب العقارات التي احترقت في أيام الفتنة بإعادتها إلى أحسن أحوالها من العمارة والزينة، فمن قصرت يده عن ذلك اقترض من بيت المال ليرتجع منه عند الميصرة، ومن لم يوثق منه بذلك أو كان غائبًا أقيم عنه وكيل وأطلق له ما يحتاج إليه، فأصبحت بغداد بعد مدة يسيرة وهي أحسن مما كانت عليه من قبل.
ثم مضى عضد الدولة في تجميل شواطئ دجلة مما يساير بغداد، فقضى بأن تقوم عليها عمارات المنازل ونضيرات البساتين.
وتلفت فرأى بغداد كانت ترويها أنهار كثيرة، ثم قضت عليها الثورات — أنهار تنقل ماء دجلة إلى سكان بغداد، تشبه القنوات التي كانت تنقل ماء النيل إلى سكان الفسطاط — تلفت عضد الدولة فرأى أهل بغداد يشربون مياه الآبار وهي ثقيلة، أو يتكلفون حمل الماء من دجلة من مسافات طويلة، فأمر بحفر الأنهار القديمة، وأقام عليها القناطر ليجتاز عليها النساء والأطفال والضعفاء.
ونظر فرأى جسر بغداد قد ضعف بحيث لا يجتاز عليه إلا المخاطر بنفسه، لا سيما الراكب لشدة ضيقه وضعفه وتزاحم الناس عليه، فاختار له السفن الكبار المتقنة وعرضه حتى صار كالشوارع الفسيحة وحصنه بالدرابزينات، ووكل به الحفظة والحراس.
وامتدت نظراته الإصلاحية فشغل نفسه بالفلاحين، وأقام لهم قناطر الأنهار وساعدهم على استنبات الأرض وإقامة البساتين: فشعر العراقيون بأنهم خلقوا من جديد.
ولم يكفه كل ذلك بل مضى فأنشأ المستشفيات لمداواة المرضى من الفقراء ورفع الجباية عن قوافل الحجيج، وأمن الطريق إلى الحج وأقام فيه المناهل وأفاض الينابيع، وحمل الكسوة إلى الكعبة، وأطلق الصلات لأهل الشرف والمقيمين بالمدينة وغيرهم من ذوي الفاقة. وهدته السياسة الرشيدة إلى إصلاح المشهدين بالغري والحائر وإصلاح مقابر قريش، فاشتركت الناس في الزيارات والمصليات، وكادوا ينسون ما توارثوه من العداوات. وهدته السياسة أيضًا إلى بسط الرسوم للفقراء وللفقهاء والمفسرين والمتكلمين والمحدثين والنسابين والشعراء والنحويين والعروضيين والأطباء والمنجمين والمهندسين.
•••
تلكم أيها السادة خلاصة ما صنع عضد الدولة في مدينة بغداد وأرجاء العراق.
فماذا يصنع الشريف لو فكر في هجاء رجل مثل هذا الداهية؟!
ماذا يصنع وقد تطوع أهل بغداد أنفسهم لخلق الأساطير والأقاصيص في الإشادة بأعمال هذا المصلح العظيم؟
ماذا يصنع والألسنة كلها تلهج بالثناء على عضد الدولة، وتراه أشرف من شهدت بغداد بعد عصور المصلحين من الخلفاء.
لقد نسي الناس أبا أحمد الموسوي ونسوا أخاه، فليظلا في غياهب الاعتقال، وليشرب الشريف الرضي كؤوس الصاب والعلقم — إن شاء.
ولكن عضد الدولة سيموت كسائر الأحياء، وقد مات في الثامن من شوال سنة ٣٧٢، فماذا يصنع الشريف الرضي وقد وصل إليه هذا النبأ «السعيد»؟
كان في ذلك العهد شابًّا مراهقًا يجاوز الثلاث عشرة بقليل، ولكنه كان يفهم أن موت عضد الدولة لن يكون باب الفرج لأبيه؛ لأنه كان يرى الظروف السياسية لا تزال حالكة السواد، وكان يدرك أن أبناء عضد الدولة سيجرون على سنة أبيهم في معاملة من كان يعادي أو يصادق من الرجال.
فلم يبق إلا أن يخاطب أباه بهذه الأبيات:
هذا كل ما استطاع الشريف أن يقوله يوم مات عضد الدولة، فهو يراه فنيقًا هلك، وشهابًا هوى، وجبلًا ساخ، ولكنه يتخوف العواقب: لأن تلك العُقاب تركت أفراخًا من الجوارح عاد بها الزمان غلامًا بعد أن كان اكتهل وشاب.
والواقع أن الشريف الرضي عجز عن إعلان الشماتة بالقصائد الطوال؛ لأن موت عضد الدولة أحاطت به قوتان: قوة الرأي العام، وقوة ابنه صمصام الدولة.
أما قوة الرأي العام فتمثِّلها الكلمات التي قالها أقطاب البيان في ذلك الحين، وقد سجَّلها التوحيدي فقال: لما صحَّت وفاة عضد الدولة كنا عند أبي سليمان السجستاني، وكان القومسي حاضرًا والنوشجاني وأبو القاسم غلام زحل وابن المقداد والعروضي والأندلسي والصيمري فتذاكروا الكلمات العشر المشهورة التي قالها الحكماء العشرة عند وفاة الإسكندر. فقال الأندلسي: لو تفوَّه مجلسكم هذا بمثل هذه الكلمات لكان يؤثر عنكم.
فقال أبو سليمان: ما أحسن ما بعثت عليه. أما أنا فأقول: لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها، وأعطاها فوق قيمتها، وحسبك أنه طلب الربح فيها فخسر روحه.
وقال الصيمري: من استيقظ للدنيا فهذا نومه، ومن حلم بها فهذا انتباهه.
وقال النوشجاني: ما رأيت غافلًا في غفلته ولا عاقلًا في عقله مثله، لقد كان ينقض جانبًا وهو يظن أنه مبرم، ويغرم وهو يظن أنه غانم.
وقال العروضي: أما إنه لو كان معتبرًا في حياته، لما صار عبرة في مماته، وقال الأندلسي: الصاعد في درجاتها إلى سفال، والنازل من درجاتها إلى معال.
وقال القومسي: من جد للدنيا هزلت به، ومن هزل راغبًا عنها جدت له، انظر إلى هذا كيف انتهى أمره، وإلى أي حضيض وقع شأنه، وإني لا أظن أن الرجل الزاهد الذي مات بالشونيزية أخف ظهرًا وأعز ظهيرًا من هذا الذي ترك الدنيا شاغرة، ورحل عنها بلا زاد ولا راحة.
وقال غلام زحل: ما ترك هذا الشخص استظهارًا بحسن نظره وقوته، ولكن غلبه ما منه كان، وبمعونته بان.
وهذه الكلمات — وإن كان ظاهرها الشماتة — تمثل قوة الرأي العام أصدق تمثيل، فهم كانوا يرون عضد الدولة شبيهًا بالإسكندر الذي دوخ ممالك الأرض، وطئت حوافر خيله أمنع البقاع في أرباض الشرق.
ومع أن عضد الدولة لم يملك العراق غير خمس سنين ونصف، فقد استطاع أن يملك قلوب العراقيين، وأن يشغلهم بالعلم والحضارة، وأن ينسيهم ما صنعت عواصف السنين بالأنفس والأموال.
أما القوة الثانية التي صدمت الشريف الرضي وحرمته لذة التشفي بموت عضد الدولة، فهي قوة صمصام الدولة. وكان هذا الملك الجديد على جانب من صحة الرأي في بداية أمره، فقد أخفى على الناس موت أبيه عضد الدولة إلى أن تستقيم له الأمور، فلما تم له من ذلك ما أراد أعلن موت أبيه وأعلن في الوقت نفسه إلغاء الضرائب التي كان فرضها أبوه، وهي ضرائب كان يضج منها الناس في السر، ويتهيبون التضجر منها في العلانية.
وكذلك رأى الشريف الرضي أن الدنيا بالنسبة إليه انتقلت من قبح إلى قبح، وأن سجن أبيه سيطول، فأخفى ضغائن قلبه، وأقبل على شؤونه العادية وهو كاسف البال حزين.
ولكن وقع بعد ذلك ما لم يكن في الحسبان: فقد كان لعضد الدولة ابن آخر هو شرف الدولة، وكان لهذا الابن رجل من الخواص يقيم في بغداد، فلما وصلت إليه الأخبار السرية بأن عضد الدولة مات وأن صمصام الدولة يخفي موته بادر ذلك الرجل وكتب إلى شرف الدولة بموت أبيه. وكان شرف الدولة يقيم بكرمان، فكتم أمره وسار إلى فارس، ثم أعلن موت أبيه وجلس للعزاء وأخذ البيعة على أوليائه وأطلق لهم ما جرت به العادة من العطاء.
وعلى هذه الصورة ظهرت في دنيا السياسة لذلك العهد قوتان: قوة شرف الدولة في فارس وقوة صمصام الدولة في العراق.
وهنا تحدثكم خواطركم بأن الشريف الرضي اندفع يهدر بالشعر فرحًا بنجاة أبيه من غياهب الاعتقال، ثم تأخذ منكم الدهشة كل مأخذ حين تعلمون بأنه طوى فرحه في صدره وسكت عن هذه القضية زمنًا غير قليل.
فما سبب ذلك السكوت البليغ؟
سبب ذلك، أيها السادة، أن صمصام الدولة كان ينقم من أخيه شرف الدولة كل شيء، فكان يرى الإفراج عن أبي أحمد الموسوي ضربًا من العقوق لعضد الدولة الذي اعتقله وصادر أملاكه، وكان عضد الدولة أساس الميراث للأخوين المسيطرين في فارس والعراق، ولا بد أن يكون الشريف الرضي قد خشي أن يكون عطف شرف الدولة على أبيه سببًا من أسباب الوحشة بين أسرته وبين صمصام الدولة القابض على العراق، وكذلك كتم سروره بنجاة أبيه وأخفى عواطفه نحو شرف الدولة إلى أن يزول العبوس من وجه الزمان.
وفي خلال تلك السنين كانت الجفوة متصلة بين شرف الدولة وصمصام الدولة، ثم بلغ الشر أشده في سنة ٣٧٦ فأغار شرف الدولة على أطايب ما يملك صمصام الدولة، وهاجت بينهما الحرب، فانتصر شرف الدولة وقبض على أخيه ودخل بغداد دخول الفاتحين.
وباندحار صمصام الدولة صار من حق أبي أحمد الموسوي أن يعود إلى بغداد، ويرى ابنه المحبوب الذي نظم من القصائد في التوجع لأبيه ما لا ينظم مثله إلا أبر الأبناء في أكرم الآباء.
أيها السادة
أتروني أضجرتكم بهذه الصفحات الدامية من التاريخ؟
لقد أقذيت عيني تحت المصباح ليالي كثيرة لاراجع حوادث تلك السنين وأستخلص منها هذه الصفحات، وما أظنني ظلمت التاريخ حين وجهته على غير ما ينتظر المؤرخون، فقد دونوا ما دونوا وفهمت ما فهمت، ولكل باحث أسلوب.
ولا يعنيني إلا أن أصل بكم إلى تعرف نفسية الشريف التي صبغتها أعوام البؤس بالدم النجيع، لا يعنيني إلا أن تعرفوا كيف صح لذلك الرجل أن ينظم عشرات القصائد في مدح أبيه. وتلك خصلة لا نجدها بهذا الوضوح عند غيره من الشعراء.
إن الأدب، أيها السادة، لا يستطيع أن يستقل عن التاريخ، وكيف وهو من صور التاريخ؟
وقد استطعنا بهذه الجولة السريعة أن نعرف ألوان الأيام التي تفتحت فيها عبقرية الشريف الرضي، وفهمنا كيف كان يرى الدنيا بأعين الكهول وهو في نضرة الشباب. فلنسجل مع ذلك أن الشريف أفاد من أعوام البؤس نعمة باقية، فقد أحب أباه حبًّا لم يسمع بمثله الناس، وصار يتلهف عليه تلهفًا موجعًا، وينظم فيه أشعارًا لها رنين الأسجاع، إسجاع الحمائم الباكية في إثر الأليف المفقود.
وما كان اعتقال والد الشريف إلا نكبة حلت بذلك البيت:
فقد ذهبت دنيا أولئك الناس مرة واحدة، إذ سجن سيد البيت، ثم صودرت الأملاك، وتتابعت الرزايا على صورة تنبت الشجي في أقسى القلوب.
وزاد في تلك المأساة أنها صادفت فتى رقيق الحس، مرهف القلب، شاعر الروح، فصيرته وترًا حنانًا يجيد تصوير الأسى وترجيع الأنين.
وضاعف من نكد تلك البلية أن ذلك الفتى كان يرى الكفر أهون من المكسب الخسيس: فساقه التصون إلى الضنك، ولم يبق أمامه وأمام أخيه غير التصرف فيما كانت تملك أمهما الرؤوم، وقد قسا الدهر وعنف فاضطر تلك السيدة إلى بيع أملاكها وحليها؛ لتضمن لولديها العزيزين عيش الكفاف إلى أن يمن الله على زوجها بالخلاص.
أيها السادة
لم أرد أن أطبع القلم وأنا أكتب هذه المحاضرة فأغزو قلوبكم بالحزن على رجل صار في ذمة التاريخ، ويكفي أن تعرفوا أن صاحبنا لم يقل الشعر الجيد، وهو ابن عشر سنين؛ إلا لأن الزمن رماه في طفولته بما يمنح الأطفال عقول الكهول، وسترون في الليالي المقبلة أنه بدأ يشكو الشيب، وهو في سن العشرين «وشيب الرأس من شيب الفؤاد».
•••
والآن نواجه أشعار الشريف في مدح أبيه فنقول:
إن الشريف مدح أباه بأكثر من أربعين قصيدة. وأشعاره في مدح أبيه تنقسم إلى ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: في التوجع لأبيه وهو سجين، والطائفة الثانية: في تهنئة أبيه بالخلاص ورد أملاكه إليه، والطائفة الثالثة: في تهنئته بالأعياد بعد أن لان الزمان. ولكل طائفة من هذه الأشعار خصائص: فالطائفة الأولى: تصور الحزن والجزع والتفجع، والثانية: يغلب عليها الابتسام ولكنها تفيض بالسم الزعاف في الثورة على الناس، والثالثة: تخلع على أبيه رداء الملوك: فهو يدخل عليه في كل عيد بقصيدة كما يصنع الشعراء في تحية الخلفاء والملوك.
وقبل أن ندخل في تحليل هذه القصائد نوجه أنظاركم إلى شرح الظاهرة الأدبية التي تجدونها في ديوان الشريف الرضي، فأنتم تذكرون أن جامع الديوان يسمى قصائده القديمة «قواذف»، ويذكر في أغلب الأحيان أن الشريف حذف من تلك «القواذف» أشياء.
وتعليل هذه الظاهرة لا يصعب على من يتذكر الظروف السياسية التي فصلناها في صدر هذه المحاضرة، فتلك «القواذف» كانت بالتأكيد تمس بني بويه، ثم هذبت طلبًا للسلامة من شر أولئك الملوك.
وينبغي أيضًا أن ننص على خصائص الأشعار التي نظمها الشريف بين ٣٦٩ و٣٧٦، فهذه القصائد كان يغلب عليها التبرم والضجر والاكتئاب، وقد حولته الحوادث إلى رجل ودود يعطف على مصائب الناس، لا سيما المنكوبين بقسوة الملوك.
ومن شواهد ذلك قصيدته الهمزية إلى صديق حلت به نكبة، ولم يذكر جامع الديوان ما هي تلك النكبة، ولكننا نفهم أنها نكبة سياسية، إذ نراه يقول:
وهي قصيدة كثيرة الفنون، نقف منها عند قوله في تعزية ذلك المنكوب.
وهو بهذه الأبيات يمدح السجن، أو يتكلف مدح السجن؛ لأن أباه مسجون.
وفي تلك المدة تدلنا أشعار الشريف على أن ناسًا كانوا اجترأوا على شتمه وتجريحه، فكان يتجمل ويتحلم صونًا لنفسه عن التسلح بالسباب، كأن يقول:
وما نحب أن نطيل في سرد الشواهد، فهي كثيرة في الديوان، ويكفي أن ندل على ملامحها بهذه التوجيهات، وإن كان الشريف أفصح عنها أبلغ إفصاح وهو يقول في مخاطبة الصاحب إسماعيل بن عباد:
ونعود فنذكر أن أول قصيدة قالها الشريف في التوجع لأبيه هي الدالية:
وقد نظمها وسنه فوق العشر بقليل، نظمها وهو في لفح العبارة القاسية التي فاه بها المطهر بن المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة حين اعتقل والد الشريف، فقد قال: إلى كم تدل علينا بالعظام النخرة!
وكان المنتظر أن تكون هذه القصيدة ضعيفة؛ لأنها من نسج شاعر طفل ولكن قسوة الحوادث أمدت الطفل بعقل الكهول، وأضافته إلى فحول الشعراء.
تقع هذه القصيدة في ثمانية وسبعين بيتًا، فهو فيها طويل النفس، وقد عرض فيها بالخليفة العباسي ولوح له بعظمة الفاطميين في مصر، وكان ذلك يومئذ من المحظورات، وانظروا كيف يقول:
وفي هذه القصيدة تحدث الشريف عن سجن أبيه وعمه حديث الحكماء.
وهناك قصائد بلا تاريخ، منها قصيدة:
وقصيدة:
وقصيدة:
وقصيدة:
وقصيدة:
وقصيدة:
وقصيدة:
وقصيدة:
وقصيدة:
فهذه القصائد التسع بلا تاريخ، ولكن الذي يتذكر ما شرحناه آنفًا يستطيع أن يعرف تواريخها بلا عناء، فليجعلها تلاميذنا في دار المعلمين العالية مجالًا للدرس والتحقيق.
ثم ننظر فنراه نظم ثلاث قصائد سنة ٣٧٤، الأولى قصيدة:
والثانية قصيدة:
والثالثة نظمها بعد أن سنحت الفرصة بالاجتماع مع أبيه عند قدومه من بلاد تدمر، كذلك يقول جامع الديوان، ولا نعرف ما هو قدوم الشريف من بلاد تدمر، ذلك القدوم الذي يسمح له بالاجتماع مع أبيه في بلاد فارس؟
ولكن لا بأس من الموافقة على أنه استطاع أن يرى أباه في ذلك العهد، فنحن في سنة ٣٧٤ وكان صمصام الدولة بدأ يشهد ضعف سلطانه في العراق. وفي هذه القصيدة يظهر شيء من البشاشة، فنرى الشريف يتغزل فيقول:
وفي هذه القصيدة يعرض الشريف بمن خذلوه من الأقارب، ويذكر بعض ما لاقى من الخطوب، ثم يمضي إلى مدح أبيه فيقول:
وهذا تعريض جارح برجال كان يعرفهم الشريف، ورجال اضطهدهم عضد الدولة فلم يثبتوا على البأساء، وقهرتهم الحوادث على التنصل من مذاهبهم السياسية وقد حاولنا أن نتعرف إلى بعض كبار العلويين في ذلك العهد، ولكنا خشينا أن نظلم الأموات بلا سبب تسنده البراهين، وأول من فكرنا فيه أبو الحسن العلوي، وكان شخصية هائلة تمتلك جماهير الناس في الكرخ وبغداد أقوى امتلاك، وقد اعتقل مع أبي أحمد الموسوي وصودرت أملاكه فكان في خزائنه من الذهب مليون دينار، وهو أضخم مبلغ للثروة الفردية في ذلك الحين، وهذا الرجل سكت عنه الشريف الرضي حين توجع لأبيه وعمه، فهل يمكن الظن بأنه دخل في مكاتبات سرية مع عضد الدولة لينعم بالخلاص:
•••
وفي سنة ٣٧٥ نظم الشريف ثلاث قصائد، الأولى قصيدة:
وهي من روائع المدائح.
والثانية قصيدة:
وهي من طلائع الفرح؛ لأنه نظمها وقد توجه أبوه من فارس في صحبة شرف الدولة، وهي قصيدة جرى فيها على مذاهب الشعراء فابتدأها بالتشبيب ثم تخلص إلى مدح أبيه فقال:
والثالثة قصيدة:
وقد نظمها حين وصل أبوه وعمه إلى شيراز، وفيها يقول في تعزيتهما عن ضياع الأملاك:
وهناك قصيدة غير مؤرخة نظمها الشاعر، وأنفذها إلى أبيه قبل دخوله بغداد بأيام يسيرة على يد بعض أصحابه، فهو كان يعرف معنى التحية تحية الراجع إلى وطنه وهو في الطريق، كما نرسل برقيات التحية في هذه الأيام ليفرح بها القادمون وهم على متون البواخر، وهذه القصيدة ليست من الطوال، ولكنها على قصرها تصور شوقه إلى أبيه، شوق الطفل المضيع إلى الوالد العطوف، فهو يذكر كيف تركه أبوه وهو نبت ضعيف ويشير إلى ما صنعت به الأيام فيقول في آخر القصيدة:
ثم يطلع البدر بعد طول الاحتجاب، ويرى الفتى أباه في بغداد سنة ٣٧٦ ولكن كيف رآه؟ رآه شاحب اللون، هزيل الجسم، قد نالت منه ظلمات الاعتقال، فيتمثله في حالين: حال البؤس، وحال النعيم، وتزيده أخيلة الماضي المخزن تعلقًا بذلك الشيخ الجليل الذي يعود إلى وطنه عود الجراز المفلول.
ولا يعلم إلا الله كيف خفق قلب ذلك الفتى حين رأى أباه، فقد كان لا يزال طفلًا، وكانت المعاني السود والبيض تلذع قلبه لذعًا عنيفًا، والعواطف العاصفة لا يعرفها غير الأطفال.
ولكن قصيدته في استقبال أبيه تدلنا على بعض ما جاش في صدره من المعاني، ولننظر كيف يقول:
إلى أن يقول:
وفي تلك السنة يظهر لون جديد في شعر الشريف: هو مدح بني بويه، وكان من قبل لا يمدح غير الخلفاء. لقد كان ذلك الفتى يبغض بني بويه بغضًا شديدًا. ولكن ذاك البغض هدأ بعد أن رأى شرف الدولة الذي أنقذ أباه من الاعتقال.
وكذلك نراه ينظم قصيدة جيدة في مدح ذلك الملك، ولكنه لا ينسى أن ينص على سبب المدح فيقول:
أيها السادة
لقد زفت سنة ٣٧٦ أعظم بشرى إلى الشريف، إذ سمح له الدهر برؤية أبيه في بغداد، ولكن هناك بشرى ثانية، فما هي تلك البشرى؟ أهي رد الأملاك التي صودرت بعد الاعتقال؟ هيهات، فلن ترد الأملاك إلا بعد سنين، فما هي تلك البشرى إذن؟
هي موت المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة، وقد شمت الشريف في موت ذلك الوزير الذي اعتقل أباه وعبره الإدلال بالعظام النخرات، عظام أهل البيت.
وأعيذكم أن تؤاخذوا الشريف على الشماتة في ميت، فللشريف عذره وهو أنه لا يزال فتى غض تبصره الأيام بمقامات الكلام، وموقفنا في هذه المحاضرات موقف المؤرخ للأفكار الأدبية، فلا بأس من الإشارة إلى هذا الحادث الذي كنا نتمنى أن لا تزل فيه قدم الشريف.
ولكن من الذي يوجب احترام عظام ذلك الميت بعد أن أهان عظام أهل البيت؟ هي غلطة بغلطة، وجزاء سيئة سيئة مثلها، وليس الشريف من المعصومين.
وفي الحق أني أنكرت تلك الشماتة، ولو كنت رأيت الشريف الرضي لرجوته تمزيق هذه القصيدة! ومن يدري فلعلي لو كنت مكانه لوقعت في أقبح مما وقع فيه، وهل للشعراء عقول؟
ابتدأ الشريف تلك القصيدة بمدح أبيه، فلما وصل إلى التعريض بذلك الميت قال:
أيها السادة
في هذا البيت الأخير ترون الشريف يصرح بأن أباه لم ينل بعودته من فارس كل شيء، وهذا حق، فقد ضاعت من أبي أحمد الموسوي أشياء، ضاعت منه الأعمال الرسمية وكانت من أعظم مظاهر التشريف، وهي نقابة الطالبيين، وإمارة الحج، والنظر في المظالم، وضاعت منه الموارد الأساسية للرزق، وهي الأملاك التي صودرت وحرم منها أطفاله منذ سنين.
أما الأعمال الرسمية فلم تعد إليه بعودته إلى بغداد، وإنما طاولتها الظروف فلم تعد إلا في سنة ٣٨٠، وكان لرجوع تلك المناصب إلى أبي أحمد الموسوي نشوة طرب رقصت لها أخيلة الشعر في خواطر الشريف الرضي فاندفع يقول:
وهي قصيدة على جانب عظيم من السلاسة والقوة، وقد سكتنا عن رواية الأبيات الخاصة برجوع تلك المناصب، وأثبتنا الأبيات التي تعبر عن الثورة على الأقارب؛ لأن هذه الأبيات ستنفعنا فيما بعد، حين نبحث عن السبب في شراسته وهو يخاطب الأقرباء.
•••
أما الأملاك التي صودرت فسيطول عليها التفجع، ولكن سيرد منها جزء في سنة ٣٨٦ وجزء في سنة ٣٩٦، ومعنى ذلك أن أبا أحمد الموسوي سيظل في انتظار أملاكه المسلوبة إلى أن تضعفه الشيخوخة، ويقضي الزمن على نور عينيه بالذهاب.
وإنما نعبر بهذه العبارة الحزينة لنعلل فرح الشريف برجوع تلك الأملاك، فقد كان يرى أباه شيخًا ضعيفًا لا يعرف السبيل إلى مسالك الرزق، ولا تستر شيخوخته إلا برجوع تلك الأملاك.
وهنا نشير إلى خطأ وقع فيه جامع الديوان، فقد ذكر أن الشريف هنا أباه برد أملاكه إليه بأسرها في سنة ٣٨٦، والصواب أن تقرن هذه العبارة بالقصيدة التي نظمها سنة ٣٩٦.
فعندنا إذن قصيدتان في التهنئة برد تلك الأملاك: الأولى عينيه والثانية دالية.
أما العينية فهي قصيدة جزلة تحدث فيها الشريف عن عزمه الوثاب، وبليته بالأعداء، ثم وجه الخطاب إلى أبية فقال:
وقد ساقه المقام إلى أن يسجل مكرمة شرف الدولة فقال:
وأما الرائية فهي قصيدة مرقصة:
وهي طويلة وكلها على هذا النسق المرقص.
أيها السادة
إلى هنا أكتفي بترتيب الحوادث في مسايرة الشريف وهو يمدح أباه، ويكفي أن ننص على أن ما سنغفله من تهنئة أبيه بالأعياد له دلالة سياسية، فهو كان يرى أباه خليقًا بأن يهنأ بالأعياد كما يهنأ الملوك والخلفاء، وأريد التهنئة الدورية التي تصاغ في كل موسم بلا تخلف، وهي بالتأكيد شارة الرياسة وعنوان السلطان.
أترك هذا الجانب من قصائد الشريف في مدح أبيه، وهي مبثوثة في الديوان يرجع إليها منكم من يشاء.
ثم أشير إلى قصائد لها قيمة في بيان المنزلة الاجتماعية لأبي أحمد الموسوي.
ويشهد ديوان الشريف بأن الموسوي تلافى الفتنة بين السنة والشيعة في سنة ٣٨٠، فهو على ذلك كان من الزعماء المصلحين، ولم يكن من الزعماء المفسدين.
والخلاف بين السنة والشيعة قديم في العراق، وهو خلاف كان مشئومًا من جانب، وميمونًا من جانب؛ كان مشؤومًا لأنه قسم العراق إلى جيشين يقتتلان؛ وكان ميمونًا لأنه علم العراقيين الجدل وجعلهم من أعرف الأمم الإسلامية بأصول المذاهب والآراء، وربما جاز لي أن أصرح بأن هذا الخلاف كان سببًا في حياة اللغة العربية؛ لأنه أمد التصنيف والتأليف بفنون من القوة والحيوية، وعاد على الشعر والنثر بأجزل النفع، وللشر مزايا في بعض الأحيان.
ولكن هذا الخلاف كان في حاجة إلى من يرعاه ويحوله إلى جدل مقبول يشحذ به الذهن والعقل، وقد استطاع أبو أحمد الموسوي أن يقف مرة موقف المصلح فيحقن الدماء، ويغنم السلامة للإخوان المتخاصمين. وتظهر قيمة هذا الموقف النبيل إذا تذكرنا أن الخلاف بين السنة والشيعة كانت تؤرثه دسائس خارجية، وما تقول هذا رجمًا بالظن، وإنما عرفنا هذه الحقيقة بعد التعمق في دراسة الوضع السياسي للنصف الثاني من القرن الرابع، فموقف أبي أحمد الموسوي كان موقف السياسي المحنك الذي يبصر ما وراء الأكمة من المعاطب والحتوف.
وقد سجل ابنه ذلك الموقف الصالح فقال:
وأنتم تلاحظون أن هذه الأبيات تمثل عطف الشريف على بغداد: فهو يكره أن تكون مسايل دماء.
والواقع أن الشريف كان قليل الرعاية للعصبية المذهبية، والظاهر أنه كان حر العقل إلى حد بعيد: فقد كان يدرس جميع المذاهب الإسلامية؛ ليمد عقله بالأنوار التي يرسلها اختلاف الفقهاء، واهتمامه بمذهب الشافعي معروف، مع أن مذهب الشافعي في ذلك العهد لم يكن له أنصار أقوياء في العراق، وإنما كان أنصاره من المصريين.
•••
ويشهد الديوان أيضًا بأن أبا أحمد المسوي سافر إلى فارس للإصلاح بين الملكين: بهاء الدولة وصمصام الدولة، والإصلاح بين العسكرين: البغدادي والفارسي.
ومعنى ذلك أن هذا الرجل كان يرجَى لتضميد الجروح، وليس ذلك بالفضل القليل، ولا يعرف قيمة هذا الفضل إلا من يراجع ما دون التاريخ من فواجع ذلك الشقاق.
وفي هذا يقول الشريف من قصيدة نظمها في رمضان سنة ٣٨٧:
وفي سنة ٤٠٠ مات أبو أحمد الموسوي وسنه سبع وتسعون سنة، فرثاه ابنه بقصيدة بلغت تسعة وثمانين بيتًا، وهي من الطوال الجياد، نذكر منها قوله في وصفه بقوة الشجاعة ورصانة البيان:
أيها السادة
وفيها يقول في الثناء على الشريفين:
وفي ختامها يقول:
ويحسن أن نشير إلى أن شوقي عارض هذه القصيدة وهو يرثي إسماعيل صبري — عليهما رحمة الله، وقد بلغ شوقي غاية الحكمة إذ يقول:
والاستطراد على ما فيه من فوائد لا يسمح في هذا الموطن بأن نوازن بين حضرية شوقي وبدوية أبي العلاء، فلنقف عند هذا الحد من الشؤون المتصلة بولد الشريف، وفيما سلف غناء أي غناء.
هوامش
ويقول ابن الأثير: إن عضد الدولة كان له شعر حسن، وإنه قال حين أرسل إليه أبو تغلب بن حمدان يعتذر عن مساعدته بختيار ويطلب الأمان: