صلات الشريف الرضي بخلفاء بني العباس
أيها السادة
والحق أن الظروف التي عاش فيها الشريف كانت سيئة جدًّا، ويكفي أني لا أستطيع اليوم بعد مئات السنين أن أذكر بالتفصيل ما كانت تضطرب به بغداد في ذلك العهد؛ لأن تلك السنين العجاف تركت عقابيل حمل الناس أثقالها من جيل إلى جيل.
وأنتم تعرفون أن أشهر من شجعوا الشريف على طلب الخلافة هو أبو إسحاق الصابي، ومع ذلك كان الصابي يشكو الفقر وسوء الحال فلا يملك الشريف أن يعينه بشيء؛ لأن الشريف كان أفق من الصابي وإنما كان يتجمل ويستر فقره عن الناس.
والذي يعيش في مثل تلك الحال لا يفكر جديًّا في قلب النظام السياسي، بحيث يصبح وهو السيد الذي يسيطر على الأقطار العربية والفارسية.
على أنه لا بأس من تصوير حال الخلافة في ذلك العهد، لنعرف متى بدأ الشريف يداعب تلك الأمنية، ومتى انصرف عنها انصراف اليائسين.
عاش الشريف في عهود ثلاثة من الخلفاء، هم: المطيع والطائع والقادر، وما يمكن أن نلتفت لأيامه في عهد المطيع؛ لأنه كان طفلًا لا يحسب له حساب.
ننتقل إلى عهد الطائع الذي استمر من سنة ٣٦٣ إلى سنة ٣٨١ وهو عهد كانت فيه الخلافة قوة وهمية؛ لأن الديلم كانوا هم المسيطرين على العراق، وكان الخليفة صورة يجيزون بها الأحكام إذ كانت الجماهير في أعماق قلوبها تحترم الخلفاء، وكان البويهيون لا يرون بأسًا من استبقاء تلك الصورة تجنبًا لعواطف الأهواء.
ولما قلَّدك أمير المؤمنين النقابة على الطالبيين، فبان له فيها محمود سيرتك وظهر من أفعالك ما يدل على سلامة سريرتك، رأى أمير المؤمنين أن حق العادة التي عوَّده الله فيها الصلاح، وأجرى له فيها طائر النجاح، أن يزيدك فضلًا وإحسانًا، ولا يألوك إنعامًا وامتنانًا، فأنهى معز الدولة أبو الحسين — أحسن الله حياطته — أمر رفاق الحجيج الشاخصة من العراقين، وإيثار تقليد تسييرها إلى الحرمين، والاعتماد عليك في حمايتها، وتوليك الحرب والأحداث فيها، فوافق رأي معز الدولة أبي الحسين تولَّى الله كفايته الصواب، ووقع عند أمير المؤمنين موقع القبول والإيجاب.
فالخليفة في هذا المرسوم الديني ينص على اسم الأمير البويهي؛ لأنه لم يكن يملك غير ذلك.
وهناك عبارة أصرح من هذه العبارة، وهي منشور كتب على لسان الطائع، جاء فيه أن الإمامة لا تصح ولا تسلم إلا برعاية البويهيين.
وقد أخرجت من رسائل الصابي شواهد كثيرة تؤيد ما أقول، ولكن لا موجب لسرد تلك الشواهد، فهذا أمر مفروغ منه، ومسلم به، والذي اطلع منكم على كتاب «تجارب الأمم» يرى أن القرن الرابع لم يكن إلا مسرحًا للعراك بين الفرس والترك، ولم يكن الخلفاء يذكرون إلا من باب الاستطراد، فكأنهم كانوا يعيشون على هامش الحياة.
•••
ولنقل بصراحة: إن الشريف كان حريصًا على الظهور بمظهر الولاء للديلم والأتراك؛ لأنه كان يعرف أن الأمر إما أن يكون لأولئك أو هؤلاء وقد سافر مرة إلى الكوفة، فتحدث ناس أنه عزم على التوجه إلى مصر، فلما رجع إلى بغداد نفى الشبهة بقصيدة مدح فيها بني بويه وتودد إلى الأتراك، ولا يعلم إلا الله ما في تلك القصيدة من عناصر الصدق، ولكنها شاهد على ما كان يجب أن يصطنعه الرجل من السياسة وهو يعيش في بغداد في النصف الثاني من القرن الرابع، واسمعوا كيف يقول:
إلى أن يقول:
ومن الواضح أن سيطرة الفاطميين على مصر لم تكن إيذاءً مباشرًا للمطيع أو الطائع، وإن كانت طعنة موجهة إلى من يسيطرون على فارس والعراق؛ ولهذا نرى لغة المشرق في ذلك العهد لا تسمي الخليفة الفاطمي «صاحب مصر» وإنما تسميه «صاحب المغرب» وهو تعبير كله إيحاء!
ونعود فنقول: إن الشريف أنس كل الأنس بالطائع، فكان يمدحه بصدق وإخلاص، ومع أن الطائع كان خليفة يستضعفه البويهيون أشد الاستضعاف، فقد رأى فيه الشريف رجلًا عربيًّا هو البقية من مجد بني العباس.
وهنا أذكر أن الأستاذ عبد الحسين الحلي أراد أن يشكك في صدق عواطف الشريف وهو يمدح الطائع، وأنا أرى غير ذلك، أرى أن الشريف كان يفهم جيدًا أنه يخاطب خليفة بالرغم من فساد الأحوال، وأرى أن مطامع الشريف في ذلك العهد كانت تقف عند استرداد أملاك أبيه التي صادرها عضد الدولة منذ سنين، فمن الإسراف في حسن الظن بعزيمة الشريف أن يقال: إنه كان يطلب الخلافة في ذلك العهد.
فإن لم يكن بد من تمجيد الشريف، فيكفي النص على أن عواطفه نحو الطائع كانت خالصة من شوائب الرياء، بخلاف ما أراد الأستاذ عبد الحسين.
ومن الواجب أن ننص على أن مدائح الشريف للطائع لم تبدأ إلا بعد أن اطمأن على خلاص أبيه من الاعتقال، وقرب رجوعه إلى بغداد، أي: بعد سنة ٣٧٣، فأقدم قصيدة مدحه بها هي الحائية التي ذم فيها أعداءه ثم تخلص إلى المدح فقال:
وفي سنة ٣٧٦ مدح الطائع وشكره على تكرمه خصه بها وثياب وورق، فقال بعد أبيات:
وهي قصيدة طويلة أسلم فيها الشريف أمره للطائع فقال:
إلى آخر القصيدة، والحسين هنا هو أبوه، لا الحسين بن علي بن أبي طالب، وهذه القصيدة صريحة في أن الشريف كان يؤمن بأن الطائع أسدى إلى أبيه فنونًا من المعروف.
وكانت سنة ٣٧٧ من أعوام الخصب بين الرضي والطائع: فقد مدحه خمس مرات، منها مرتان في شهر رمضان، الأولى بقدوم الصوم، وهي قصيدة نفض الشريف بها همومه، وشكا بها دهره، إذ يقول:
وهو سيمدح الطائع بعد ذلك مدحًا طيبًا، ولكن ما رأيكم في هذه المقدمات؟ إنه يأنس بالطائع كل الأنس فيفضي إلي بذات نفسه ويشكو أمامه قسوة الفقر وخشونة الزمان.
وهو حين يصل إلى مدحه لن يقول: أعطني مالًا، وإنما سيقول: أعطني منصبًا:
إلى آخر القصيدة، وفي الشهر نفسه هنأه بالمهرجان فمدحه ومدح أصوله من بني العباس:
وفي هذه القصيدة يصرح بأنه ورث محبة الطائع عن أبيه إذ يقول:
وبعد أيام هنأه بعيد الفطر، تهنئة شاعر يعرف أنه يخاطب خليفة وهي تجمع بين العذوبة والجزالة، وقد عرض فيها بخصوم الطائع أعنف تعريض، والذي يهمنا هو الشاهد الآتي:
وبعد شهر عزاه في عمر بن إسحاق بن المقتدر وكان آخر ولد بقي من ظهر ذلك الخليفة، وهي قصيدة تكثر فيها الحكم والأمثال.
وهذا البيت يشهد بأن الشريف الرضي كان يرتاب فيما يعرف الأموات من أحوال الأحياء
وفي العام نفسه عاتبه بقصيدة قوية طاب فيها التشبيب وطاب فيها العتاب وأي تشبيب أعنف من هذه الأنفاس الحرار:
ولما وصل إلى عتاب الطائع مدحه أجزل المدح ثم قال:
وأنتم ترون أنه يمن على الخليفة بمدحه منًّا صريحًا، ويقول: إنه يترك في سبيله أقوامًا كرام الأكف، وسنرى فيما بعد من هم أولئك الأقوام، ولكن لا بأس من التصريح بأن الرضي كان يحب أن يستأثر بمودة الطائع، فلا يرى في حضرته أحدًا من خصومه الألداء، ومن شواهد ذلك أنه عرف أن بعض خصومه ظفر بمودة الطائع، فأرسل إليه يعاتبه عتاب الأنداد فيقول:
وأنتم ترون أن هذه جرأة لو صدرت في عهد خليفة مثل الرشيد لأطاح رأس الشاعر بلا تردد، ولكن الرضي كان يثق بأن الطائع يعطف عليه، وكان يثق بأن الطائع لا يملك الأمر كله في بغداد.
وفي سنة ٣٧٨ مدح الطائع بقصيدة تفيض بالوداد، إذ يقول:
وفي سنة ٣٧٩ مدحه وعاتبه على تأخير الإذن له في لقائه بمجلس خاص، وذلك في قصيدة طويلة نشير إليها بالمطلع:
وفي سنة ٣٨٠ مدحه بعدة قصائد، أهمها القصيدة النونية:
وإنما كانت أهم قصائده في تلك السنة بفضل ما نظمت من أجله، فقد كان الطائع تأثر من قصيدة قال فيها الشريف:
إلى أن يقول:
أقول: إن الطائع رق لهذه القصيدة فأمر بأن يسير الشريف إلى داره في يوم الخميس لعشر بقين من رمضان، وجلس له جلوسًا خاصًّا، وكانت خلع السواد قد أعدت له فجلببت عليه، وزاد الخليفة في إكرامه فلم يخرج إلا وهو مثقل بالهدايا الفاخرات، وقد ظهر أثر ذلك في النونية إذ يقول:
أيها السادة
إلى هنا رأيتم صلات الشريف بالطائع، رأيتم شاعرًا يمدح وخليفة يثيب، فهل يدوم هذا النعيم؟
أخشى أن تكون مدائح الرضي بابًا يدخل منه الشر إلى قصر الطائع؛ فقد أطال في وصفه بالشجاعة والجرأة والبطولة، وأطال في وصف جوائزه وعطاياه، وكان هناك قومٌ لا يرضيهم أن يكون للخلفاء جاه أو مال.
وكذلك تطوع بعض الدَّسَّاسين وأفهم بهاء الدولة أن قصر الخليفة مملوء بالذخائر العظيمة، وزين له القبض عليه، فانخدع بهاء الدولة وتوهَّم أنه سيظفر بكنوز الأرض حين يقبض على الطائع، فأرسل إليه يسأله الإذن بالحضور في خدمته ليجدد العهد، فأذن له في ذلك، وجلس له كما جرت العادة، فدخل بهاء الدولة ومعه جمع كثير، ولما دخل قبَّل الأرض بين يدي الخليفة وأُجلس على كرسي، ودخل بعض الديلم كأنه يريد أن يقبِّل يد الخليفة فجذب الطائع بحمائل سيفه وأنزله عن سريره والخليفة يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي لحظات معدودات أخذ ما في دار الخليفة من الذخائر، ونهب الناس بعضهم بعضًا، وكاد حبل الأمن ينقطع في بغداد.
وكان الشريف الرضي في مجلس الخليفة في تلك الساعة السوداء، فلم يدفع عنه بيد ولا لسان، وإنما لاذ بالفرار ليسلم من عدوان الباغين.
وقد كان موقفه في هذه الحادثة الشنعاء شبيهًا بموقف البحتري حين قُتِلَ المتوكل، ولكن البحتري كان أشجع وأوفى، فقد دافع عن المتوكل بيديه ثم رثاه بعد ذلك أشرف رثاء، أما الرضي فترك صاحبه لأيدي الغادرين، وكان يملك الدفاع عنه لو شاء، ثم سجل الحادث بقصيدة أطال فيها الغزل والتشبيب، كأن تلك الفاجعة لم تنسه ثورة الوجد ولوعة الحنين، ولما وصل إلى صميم الموضوع وصف نفسه بالحزم فقال:
«وهذا تعريض جارح برجال كان يعرفهم الشريف، رجال اضطهدهم عضد الدولة فلم يثبتوا على البأساء وقهرتهم الحوادث على التنصل من مذاهبهم السياسية. وقد حاولنا أن نتعرف إلى بعض كبار العلويين في ذلك العهد، ولكنا خشينا أن نظلم الأموات بلا سبب تسنده البراهين، وأول من فكرنا فيه أبو الحسن العلوي وكان شخصية هائلة تملك جماهير الناس في الكرخ وبغداد أقوى امتلاك، وقد اعتقل مع أبي أحمد الموسوي وصودرت أملاكه فكان في خزائنه من الذهب مليون دينار. وهذا الرجل سكت الشريف عنه حين توجع لأبيه وعمه، فهل يمكن الظن بأنه دخل في مكاتبات سرية مع عضد الدولة لينعم بالخلاص؟ ذلك ظن من الظنون لا يقوم عليه دليل، ويكفي أن نسجل أن من المحتمل أن يكون الشريف قصده بذلك التعريض».
وجاءني في أثناء ذلك الشريف أبو أحمد الموسوي، وكان يتهمني بالميل إلى الشريف أبي الحسن محمد بن عمر ويستوحش مني لأجله.
ولعلكم أيها السادة في غنى عمن يحدثكم أن بهاء الدولة أظهر أمر الخليفة القادر بالله ونادى بشعاره في أسواق بغداد، وكتب على الطائع كتابًا بالخلع وتسليم الأمر إلى القادر، شهد فيه الشهود عليه. والملك لله الواحد القهار.
ولكن ألا ترون من الظلم أن يقال: إن موقف الشريف شبيه بموقف البحتري، وإن الشريف كان يجب عليه أن يدافع عن الطائع كما دافع البحتري عن المتوكل؟
إن الشبه بين الحادثتين لا يتم إلا من الوجهة الشكلية، أما من حيث الجوهر فهو مفقود؛ لأن شخصية المتوكل غير شخصية الطائع، فقد استطاع بلباقته وبراعته أن يقنع العالم الإسلامي بأن الخلافة باقية، وأنها لا تزال تملك مصاير الأمور: فترفع من ترفع، وتخفض من تخفض، وكذلك كان الفتك به في مجلس شراب جريمة يثور عليها أضعف الجبناء.
أما الطائع فتولى الخلافة وهي كالقلب المنخوب لا تثبت أمام عاصفة ولا يحسب لها يوم الروع حساب، ومن المؤكد أن الشريف لم ير فيما صنع بهاء الدولة مع الطائع شيئًا جديدًا، فتلك الصورة المنكرة كانت لها سوابق في غاية من البشاعة والقبح، فقد صيغت على نموذج الحادث الفظيع الذي وقع للمستكفي بالله يوم دخل عز الدولة ومعه أتباعه، والمستكفي على سرير الخلافة، فقبلوا الأرض بين يديه، ثم تقدم اثنان كأنهما يريدان تقبيل يده فمدها إليهما وهو متلطف مترفق، فجذباه وطرحاه إلى الأرض ووضعا عمامته في عنقه ثم جراه مهينًا ذليلًا ليعتقل في دار عز الدولة.
ومن هذا التماثل التام بين ما وقع للمستكفي بالله وما وقع للطائع ترون أن الشريف الرضي كان يتوقع هذه الحوادث، وترون أنه كان يعرف ما يصنع في مثل هذه المواقف ولست أستبعد أن يكون الشريف وطن نفسه على إيثار السلامة إن وقع مثل هذا الحادث؛ لأن الظروف لم تكن تسمح أبدًا بتأليف جيش يحارب الديلم ويناصر بني العباس.
والقصيدة التي أشرنا إليها منذ لحظات تشهد بذلك، فهي قصيدة رجل يكرثه التضجر والتألم ولا يهتاج للقتال؛ لأنه كان يعرف أن القتال لا يطلب منه في مثل تلك الحال.
أضيفوا إلى ذلك أنه كان جرب الحوادث وجربته الحوادث، فكان يذكر بالتأكيد أن عضد الدولة اعتقل أباه وصادر أملاكه، ثم نفاه، ومع ذلك لم تسقط السماء على الأرض، ولم يمتشق في سبيله سيف، ولم يبذل في الدفاع غير قطرات من الدمع. وما أضيع من لا يحامي عنه أنصاره بغير الدمع!
لست من القائلين: بأن الشريف لم يكن يهمه أمر الطائع: فذهني لا يسبغ هذا النوع من الدفاع عن الشريف؛ لأني أعتقد أن الشريف كان صادقًا كل الصدق في مودة الطائع، ولعله أصدق علوي مدح العباسيين وأطال عليهم الثناء.
أن الأستاذ عبد الحسين الحلي نظر إلى الشريف من وجهة مذهبيه حين حكم بأنه كان يداري الطائع، أما أنا فأنظر إلى الشريف، من وجهة إنسانية، وأعتقد أن الشريف لم يكن مداجيًا ولا مرائيًا ولا وصوليًّا في مودته للطائع، وإنما كان يراه بقية من بقايا بني العباس الذين أذاعوا معاني العظمة في الأمم الإسلامية زمنًا غير قليل، وكان يتمنى لو يعتدل الميزان فتصبح الخلافة قوة فعلية ترتفع بها العروبة وتنهار أمهامها الشعوبية.
ولست بهذا القول أعطي الشريف ما لم يكن له أهل، لا، فليس من همي أن أمنح الشريف ما لا يملك، وإنما أقول هذا القول فرارًا من ظلم الشريف فإن شعره يشهد بأنه توجع لنكبة الطائع، ويشهد بأنه تألم لنكوله عن الدفاع عنه في ذلك اليوم المشئوم.
وشاهد ذلك أيها السادة أن الشريف لم يكتف بالقصيدة التي صور بها ما وقع في ذلك اليوم، وإنما آذاه وأرمضه أن يرى الطائع مخلوعًا يعيش على هامش الحياة بعد أن كان بالأمس خليفة يبرم وينقض، ويعطي ويمنع، وكذلك رأيناه يقول:
وإنما نقلنا هذه القصيدة على طولها لتروا كيف كان وفاء الشريف، فمثل هذه القصيدة لا ينظمها رجل متظرِّف ولا متكلف، وإنما ينظمها رجل محزون وقد عالجنا الشعر سنين، فرأيناه لا يسلم زمامه لغير الأوفياء، والشريف في هذه القصيدة وفيٌّ أمين.
وأرجو أن تتذكروا أن هذه القصيدة نظمت في شعبان من سنة ٣٨١ أي: في خلال الأيام العصيبة التي اقترف فيها بهاء الدولة ما اقترف، فهي من أظهر الشواهد على جسارة الشريف.
•••
وفي سنة ٣٩٣ مات الطائع بعد أن عاش مخلوعًا أكثر من عشر سنين وهو في رعاية القادر، وهي رعاية وقعت فيها أعاجيب أشارت إلى بعضها كتب التاريخ فهل تغافل عنه الشريف؟ هيهات، فقد رثاه بقصيدتين هما شاهد على ما كان يملك من الشرف والنبل. وفي الأولى يقول:
وهذه الأبيات تشهد بأن الشريف كان يتألم لنكوله عن نصرة الطائع يوم الدار، يوم هجم عليه بهاء الدولة وأنصاره المجرمون.
وتلك قصيدة طويلة يراها القارئ في الديوان، أما القصيدة الثانية فمطلعها:
والمهم أن نسجل أن الشريف ظل يتوجع لنكبة الطائع مدة طويلة، فرثاه بعد ذلك خفية بقصيدة نتخير منها هذه الآيات:
ومن كل ما سلف ترون أن الشريف لم يكن مرائيًا في حب الطائع، وأنه ندم على أن لم يدفع عنه بيمينه، وأنه ظل وفيًّا له بعد الخلع وبعد الممات. والظاهر أن الطائع كان أحسن إلى الشريف وإلى أبيه، والإحسان يحفظه كرام الرجال وكان الشريف من الأكرمين.
قد تسألون: وماذا صنع الشريف بعد خلع الطائع؟
ونجيب بأنه صنع ما يصنع السياسيون، وهل للسياسيين قلوب؟
لقد استقبل الخليفة الجديد بقصيدة شهد فيها أنه جدد شرف الخلافة العباسية، وجعله موطدًا للبناء الذي وضع قواعده أبو العباس السفاح، واستباح لنفسه أن يخاطب القادر فيقول:
ثم مدحه بقصيدة «لمن الحدوج تهزهن الأينق».
وهي القصيدة التي ختمها بقوله:
فقال له القادر: على رغم أنف الشريف!
وكانت هذه العبارة فيما يظهر أصل الفرقة بين الرجلين، فانصرف الشريف عن مدح القادر وأسقطه من حسابه، ثم مضى يمدح الوزراء والملوك؛ ولذلك حديث طويل يضيق عنه الوقت في هذا المساء.