مقدمة
نظرة جديدة على إرث ألبرت أينشتاين
ولهذه المكانة التاريخية، هناك أسباب كثيرة تدفعنا لإعادة اكتشاف قصة حياته. أول هذه الأسباب أن نظرياته من العمق والتبصر بمكان حتى إن التنبؤات التي تكهن بها منذ عقود لا تزال تتصدر عناوين الصحف، ولهذا فمن المهم أن نحاول فهم جذور هذه النظريات. ومع ظهور تقنيات وأجهزة لم تكن موجودة في عشرينيات القرن الماضي (كالأقمار الصناعية والليزر وأجهزة الكمبيوتر الفائقة وتكنولوجيا النانو وأجهزة رصد أمواج الجاذبية) قادرةً على سبر أغوار أقاصي الكون والغوص في أعماق الذرة، تحصد تنبؤات أينشتاين جوائز نوبل لمصلحة علماء آخرين؛ فحتى فتات مائدة أينشتاين صار اليوم يفتح آفاقًا جديدة للعلم. ومثال على هذا جائزة نوبل عام ١٩٩٣ التي ذهبت لاثنين من الفيزيائيين اللذين أثبتا بصورة غير مباشرة عن طريق تحليل حركة النجوم النيوترونية المزدوجة في السماء وجود أمواج الجاذبية التي تنبأ أينشتاين بوجودها عام ١٩١٦. وأيضًا جائزة نوبل لعام ٢٠٠١ التي فاز بها ثلاثة فيزيائيين بعدما أكدوا وجود ما يسمى بمُكَثَّفَاتِ بوس-أينشتاين، وهى حالة فيزيائية جديدة توجد قرب الصفر المطلق كان أينشتاين قد تنبأ بها عام ١٩٢٤.
وحتى «أخطاء» أينشتاين صارت تعد اليوم إسهامات كبيرة في معرفتنا بالكون. ففي عام ٢٠٠١، وجد الفلكيون دليلًا قويًّا يؤكد أن «الثابت الكوني»، الذي اعتقد أنه هفوة أينشتاين الكبرى، يحتوي في الحقيقة على أكبر تركيز للطاقة في الكون، وأنه سوف يحدد المصير النهائي للنظام الكوني نفسه. ولهذا فمن الناحية التجريبية، صار هناك «إحياء» لإرث أينشتاين، بعد أن تراكمت أدلة كثيرة على صدق توقعاته.
ثاني الأسباب التي تدفعنا لمراجعة قصة حياة هذا الرجل أن الفيزيائيين اليوم عاكفون على إعادة تقييم ما تركه لنا وخاصة طريقته في التفكير. وفي حين اهتمت المؤلفات الحديثة التي تناولت سيرته بالتفتيش في دقائق حياته الخاصة عن دلائل قد تشير إلى الأصول التي استقى منها نظرياته، يتزايد اقتناع الفيزيائيين اليوم بأن نظريات أينشتاين لم تقم على حسابات معقدة (ناهيك عن حياته العاطفية) بقدر ما قامت على صور فيزيائية بسيطة ومحكمة. وقد كان رأي أينشتاين دائمًا أن أي نظرية جديدة لا تقوم على صورة فيزيائية على قدر من البساطة بحيث يمكن لطفل صغير أن يفهمها، فهي على الأرجح غير ذات قيمة.
ولهذا فإننا في هذا الكتاب سوف نستخدم هذه الصور التي هي نتاج لخيال أينشتاين العلمي كمرجع أساسي نصف من خلاله أعظم إنجازاته العلمية ومنهجه في التفكير.
يتناول الجزء الأول من الكتاب الصورة التي تخيلها أينشتاين أول مرة عندما كان في السادسة عشرة من عمره: كيف يمكن أن يبدو شعاع الضوء إذا استطاع العَدْو بجواره. وهى الصورة التي كان قد استلهمها من أحد كتب الأطفال التي قرأها، وعن طريقها استطاع أن يحل لغز التناقض الجوهري بين اثنتين من أهم نظريات الزمن، وهما نظرية القوى لنيوتن، ونظرية المجالات والضوء لماكسويل. وخلال بحثه في هذا الأمر، كان يدرك أن واحدة من هاتين النظريتين العظيمتين لا بد أن تسقط، وهو ما حدث بعد ذلك لنظرية نيوتن. والواقع أننا بشكل أو بآخر نجد أن النسبية الخاصة بأكملها (وهى النظرية التي كشفت أسرار النجوم والطاقة النووية) مضمنة في هذه الصورة.
أما الجزء الثاني فيتعرض لصورة أخرى وفيها تخيل أينشتاين الكواكب كأحجار مرمرية تتدحرج فوق سطح منحنى متمركز في قلب الشمس، في محاولة منه لتفسير فكرة أن الجاذبية تنبع من انحناء المكان والزمان. وباستبداله لانحناء السطح الأملس بقوى نيوتن، استطاع أينشتاين أن يخرج بتصور مبدع وجديد تمامًا للجاذبية. وفي هذا التصور الجديد، اعتبر «قوى» نيوتن وهمًا سببه انحناء المكان نفسه. وهذه الصورة البسيطة سوف تمنحنا في النهاية الثقوب السوداء، ونظرية الانفجار العظيم، بل المصير النهائي للكون نفسه.
أما الجزء الثالث فلا يتناول أي صور، بل يركز بشكل أكبر على فشل أينشتاين في الخروج بتصور يؤدي ﻟ «نظرية المجال الموحد» الخاصة به، وهو التصور الذي كان سيمكن أينشتاين من تتويج الأبحاث المتعلقة بقوانين المادة والطاقة التي امتدت لألفي عام. وقتها بدأ حدس أينشتاين يتداعى، لأنه في تلك السنين كانت المعرفة بالقوى التي تحكم النواة والجزيئات دون الذرية شبه معدومة.
وآمل أن ألقي من خلال هذا الكتاب نظرة جديدة مختلفة على أعمال أينشتاين الرائدة، وربما أن أقدم وصفًا أكثر دقة للإرث الذي خلفه لنا من المنظور البعيد للصور الفيزيائية البسيطة. وهذه الأفكار والرؤى هي التي عززت الجيل الحالي من التجارب الجديدة المبتكرة التي تجرى في الفضاء الخارجي وفي معامل فيزيائية متقدمة، وهي التي تدفع البحث المحموم ليحقق أمله الأثير، وهو إيجاد «نظرية كل شيء». وإنني لأظن أن هذا هو المسلك الذي كان سيفضله لتناول حياته وأعماله.