الفيزياء قبل أينشتاين
سأله الصحفي عما يرمز إليه حرف ع.
فأجابه أينشتاين: «إلى إغلاق فمك.»
إن ما أحبه الناس في أينشتاين، سواءً كانوا فيزيائيين أو ملوكًا أو من العامة، ما كان يتحلى به من إنسانية وسخاء وسرعة بديهة، سواءً حين كان ينادي بالسلام العالمي أو يسبر أغوار خفايا الكون.
وحتى الأطفال كانوا يهرعون لرؤية ذلك الفيزيائي الهرم وهو يجوب طرقات برينستون، وكان يكافئهم على حفاوتهم تلك بأن يحرك لهم أذنيه. وكان أينشتاين يحب أن يتجاذب أطراف الحديث مع طفل في الخامسة اعتاد أن يرافق المفكر العظيم في سيره إلى معهد الدراسات المتقدمة، وذات مرة أثناء سيرهما المتأني، انفجر أينشتاين ضحكًا. وعندما سألت أم الصبي ابنها عما كانا يتحدثان فيه أجابها: «سألته هل ذهب إلى الحمام اليوم.» ولما رأى أينشتاين المرأة في قمة الحرج قال لها: «إنني سعيد بأن هناك من يسألني سؤالًا أستطيع الإجابة عليه.»
وبقدر ما كان أينشتاين دمث الخلق مع الناس بمختلف أطيافهم لا فرق إن كانوا ملوكًا أو أطفالًا أو حتى شحاذين، كان أيضًا شديد العرفان لأسلافه رواد العلم. فمع أن العلماء، مثلهم مثل كل المبدعين، قد تتملكهم الغيرة من منافسيهم التي غالبًا ما تدفعهم للانغماس في صراعات عقيمة، إلا أن أينشتاين لم يستنكف عن أن ينسب جذور أفكاره الرائدة إلى فيزيائيين عظماء مثل إسحق نيوتن وجيمس كليرك ماكسويل، اللذين وضع صورهما في أماكن بارزة على مكتبه وجدران غرفته. والواقع أن أبحاث نيوتن في الميكانيكا والجاذبية وأبحاث ماكسويل في الضوء شكلت الدعامات الرئيسية التي ارتكزت عليها العلوم في مطلع القرن العشرين، بل إن إنجازاتهما كانت تمثل جل المعرفة الفيزيائية في ذلك الوقت.
إن من السهل نسيان أنه قبل نيوتن، لم يكن هناك تفسير لحركة الأجسام على الأرض أو للأجرام في السماء، وأن الكثيرين كانوا يظنون أن مصائر البشر معلقة بأيدي الأرواح والشياطين. وقتها انتشر السحر والشعوذة والخرافات وكانت هي المواضيع المعتادة للنقاشات المحتدمة حتى في أعرق مراكز التعليم الأوروبية، ولم يكن للعلم الذي نعرفه اليوم أي وجود.
وقد جاء في كتابات الفلاسفة الإغريق وعلماء اللاهوت المسيحيين أن الأجسام تتحرك بدافع من مشاعر ورغبات تشبه مشاعر ورغبات البشر، وكان أتباع أرسطو يرون أن الأجسام المتحركة لا بد لها في النهاية أن تبطئ سرعتها ثم تتوقف لأن «الإرهاق» يتملكها، وأن الأجسام تهوي إلى الأسفل لأنها «تشتاق» للتوحد مع الأرض.
ولكن في ميدان العلم، كان نيوتن وأينشتاين أستاذين بحق، واشتركا في العديد من الصفات الأساسية؛ فكلاهما كان يستطيع الاستغراق في التفكير العميق لأسابيع وشهور لدرجة الانهيار الجسدي، وكلاهما امتلك القدرة على تخيل خفايا الكون في صورة بسيطة.
وفي عام ١٦٦٦، حين كان نيوتن في الثالثة والعشرين من عمره، نجح في أن يطرد الأرواح التي سكنت عالم أرسطو بأن قدم ميكانيكا جديدة تقوم على «القوى». ووضع نيوتن ثلاثة قوانين للحركة تنص على أن الأجسام تتحرك لأنها تُدْفَع أو تُسْحَب بواسطة قوى يمكن قياسها بدقة والتعبير عنها في معادلات بسيطة. فبدلًا من التفكير في رغبات الأجسام عند حركتها، استطاع نيوتن أن يحدد مسارات كل الأشياء بدءًا من أوراق الأشجار المتساقطة إلى الصواريخ التي تحلق في الجو إلى قذائف المدافع وحتى السحب، عن طريق حساب محصلة القوى التي تؤثر عليها. ولم تكن تلك مجرد مسألة أكاديمية فحسب؛ فهي قد ساعدت في وضع أساس الثورة الصناعية، حيث سَيَّرت قوة المحركات البخارية قاطرات وسفنًا عملاقة مما أسس إمبراطوريات جديدة. وغدا من السهل بناء الجسور والسدود وناطحات السحاب بكل ثقة، بعد أن صار بالإمكان حساب الضغط الواقع على كل قرميدة وكل دعامة. وكان انتصار نظرية القوى لنيوتن مدويًّا وجلب له التكريم والشرف في حياته، حتى إن الشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب نظم فيه هذين البيتين:
وقد طبق نيوتن نظرية القوى على الكون نفسه باقتراح نظرية جديدة للجاذبية. ولهذه النظرية قصة لم يكن نيوتن يملّ من سردها، فبعد أن عاد نيوتن إلى منزل عائلته في وولثروب بلنكولنشاير بعد ما أرغم الطاعون جامعة كامبردج على أن تغلق أبوابها، حدث ذات يوم أن رأى تفاحة تسقط من شجرة فسأل نفسه السؤال الحاسم: إذا كانت التفاحة تسقط من الشجرة، ألا يمكن أن يسقط القمر من السماء؟ وهل يمكن أن تكون قوة الجاذبية المؤثرة على التفاحة في الأرض هي ذاتها التي تتحكم في حركة الأجرام السماوية؟ كان هذا الكلام يعتبر من ضروب الهرطقة، لأنه وفقًا للفكر السائد وقتها، كان يفترض بالكواكب أن تتمركز في أماكن ثابتة تخضع للقوانين السماوية المحكمة خضوعًا تامًّا، على خلاف قوانين الخطأ ثم التوبة التي تحكم الإنس الآثمين.
وفي لحظة تجلٍّ، أدرك نيوتن أنه يستطيع الجمع بين الفيزياء الأرضية والفيزياء السماوية في صورة واحدة؛ فالقوة التي جذبت التفاحة إلى الأرض لا بد أن تكون هي ذاتها التي وصلت إلى القمر وحددت مساره. وقد أخذته الصدفة إلى رؤية جديدة للجاذبية. لقد تخيل نفسه جالسًا على قمة جبل يرمي بحجر، وفكر أنه كلما زادت السرعة التي يرمي بها الحجر، وصل الحجر إلى مكان أبعد. ولكنه عندئذ قفز القفزة الحاسمة: ماذا سيحدث إذا قذف الحجر بسرعة كبيرة جدًّا بحيث لا يسقط على الأرض؟ ثم أدرك أن ذاك الحجر، الذي يقع باستمرار في مجال الجاذبية الأرضية، لن يقع على الأرض، بل سيدور حولها، إلى أن يرجع في النهاية إلى صاحبه فيضربه في مؤخرة رأسه. ثم طبق نيوتن هذه الرؤية الجديدة على القمر بدلًا من الحجر، ورأى أنه في حالة سقوط مستمرة لكنه لا يسقط أبدًا على الأرض لأنه، تمامًا كالحجر، يدور حول الأرض في فلك دائري. أي أن القمر لا يستقر في موقع سماوي ثابت، كما كان رجال الكنيسة يظنون، بل هو كالتفاحة والحجر في حالة دائمة من السقوط الحر بفعل قوة الجاذبية الأرضية. وكان هذا أول تفسير لحركة المجموعة الشمسية.
كان نيوتن يرى أن تلك القوى لها تأثير فوري على الأجسام. مثلًا، اعتقد نيوتن أنه لو اختفت الشمس فجأة، فسوف تخرج الأرض على الفور من مدارها وتتجمد في غياهب الفضاء. وسوف يعلم كل من في الكون أن الشمس قد اختفت في نفس اللحظة تمامًا. وهكذا فإنه من الممكن أن يضبط كل سكان الأرض ساعاتهم بحيث تدق في نفس الوقت في أي مكان في الكون؛ فالثانية على الأرض بذات طول الثانية على المريخ أو المشتري. والمكان مطلق كالزمان؛ فالمتر على الأرض بذات طول المتر على المريخ أو المشتري أيضًا؛ فالأمتار لا تطول أو تقصر في أي مكان في الكون، إذن فالثواني والأمتار تتطابق أينما ارتحلنا في الفضاء.
ومما سبق نرى أن نيوتن بنى أفكاره على المفهوم المنطقي الذي ينص على «إطلاق الزمان والمكان». وقد اعتبر نيوتن أن الزمان والمكان يمثلان مرجعية مطلقة نستطيع أن نحكم عن طريقها على حركة كافة الأجسام. فمثلًا إذا كنا على متن قطار، فإننا نعتقد أن القطار يتحرك والأرض ثابتة. لكننا إذا نظرنا إلى مشهد الأشجار تمر أمام نوافذ القطار قد يهيأ لنا أن القطار ثابت والأشجار هي التي تتحرك. ولأن كل ما في القطار يبدو ثابتًا، فقد نحتار أيهما يتحرك بالفعل الأشجار أم القطار؟ رأى نيوتن أن تلك المرجعية المطلقة قادرة على الإجابة عن هذا السؤال.
ويمكن تصور هذه المجالات عن طريق نثر برادة الحديد على قطعة من الورق، ثم نضع مغناطيسًا تحت الورقة، وحينها سنجد برادة الحديد تتوزع فيما يشبه السحر في نمط يشبه شبكة عنكبوت ذات خطوط تمتد من القطب الشمالي للمغناطيس إلى قطبه الجنوبي. وهذا يعني أن هناك مجالًا مغناطيسيًّا يحيط بأي مغناطيس، وهو عبارة عن مجموعة غير مرئية من خطوط القوة تتخلل الفضاء برمته.
والكهرباء أيضًا تصنع مجالات. ففي المعارض العلمية، يضحك الأطفال حين تنتصب شعورهم عندما يلمسون مصدرًا للكهرباء الساكنة. والسبب وراء انتصاب شعورهم أنها تنتظم على شكل خطوط المجالات الكهربائية غير المرئية المنبعثة من ذلك المصدر.
تخيل شبكة عنكبوت تهتز في الريح. إذا هزت الريح جزءًا من أجزاء الشبكة فسوف تسبب تموجًا لا يلبث أن يسري في الشبكة بأسرها؛ فالمجالات وشباك العناكب، على خلاف القوى، تسمح بالذبذبات التي تنتقل بسرعة محددة. وبناءً على هذا شرع ماكسويل في حساب سرعة هذه التأثيرات المغناطيسية والكهربية. وفي واحدة من أعظم الإنجازات المبدعة في القرن التاسع عشر، استخدم هذه الفكرة لحل لغز الضوء.
وتجلت عبقرية ماكسويل في أنه جمع بين التأثيرين. فإذا كان المجال المغناطيسي المتغير قادرًا على خلق مجال كهربائي والعكس صحيح، فربما كانا معًا قادرين على تكوين حركة دورية، تتكون من مجالات كهربية ومجالات مغناطيسية يغذي أحدهما الآخر ويتحول أحدهما إلى الآخر. وسرعان ما أدرك ماكسويل أن هذا النمط الدوري سوف يخلق سلسلة من المجالات الكهربية والمغناطيسية، تتذبذب جميعها في انسجام وتناغم، ويتحول كل منهما إلى الآخر في موجة سرمدية، ثم حسب سرعة هذه الموجة.
جُمِّعت أبحاث ماكسويل في ثمان معادلات تفاضلية جزئية صعبة (تعرف باسم «معادلات ماكسويل»)، وهى المعادلات التي صار واجبًا على أي مهندس كهرباء وأي فيزيائي عاش في المائة وخمسين عامًا الماضية أن يحفظها عن ظهر قلب. (واليوم صارت هناك تي شيرتات تباع في الأسواق كتبت عليها المعادلات الثماني كلها، تسبقها عبارة: «في البداية قال الرب …» وتعقبها عبارة «… ثم انبلج الضياء».)
غير أن الأمر الذي كان مدعاة لكثير من الحيرة أن جميع الجهود التي حاولت دمج ميكانيكا نيوتن مع نظرية ماكسويل باءت بالفشل. إن نظرية ماكسويل أكدت على حقيقة أن الضوء موجة، لكنها فتحت الباب لسؤال آخر: ما الذي يتموج بالضبط؟ كان العلماء يدركون أن الضوء يمكن أن ينتقل في الفراغ (بل إن الضوء المنبعث من النجوم السحيقة قد يسافر ملايين السنين الضوئية في فراغ الفضاء الخارجي)، لكن إذا كان الفراغ يعرف بطبيعته بأنه «العدم»، فقد صارت النظرية متناقضة لأنه لا يوجد في العدم ما يتموج!
حاول أتباع نيوتن أن يجيبوا على هذا السؤال بافتراض أن الضوء يتكون من موجات تتذبذب في «أثير» غير مرئي عبارة عن غاز ساكن يملأ الكون. وهذا الأثير يُفْتَرَض فيه أن يكون المرجعية أو المعيار المطلق الذي تُقاس عليه جميع السرعات. وقد يقول متشكك إنه إذا كانت الأرض تدور حول الشمس، والشمس تدور حول المجرة، فإنه يكون من المستحيل أن نجزم بتحديد المتحرك والساكن. ولكن أتباع نيوتن ردوا على ذلك بأن المجموعة الشمسية هي المتحركة بالنسبة إلى الأثير الساكن، وبهذا تم التحديد.
ولكن شيئًا فشيئًا بدأت تظهر للأثير خصائص غريبة هي إلى السحر أقرب. فمثلًا علم الفيزيائيون أن الموجات تنتقل بشكل أسرع في الوسائط الأكثر كثافة. ولهذا فالذبذبات الصوتية تنتقل في الماء أسرع منها في الهواء. لكن إذا كان الضوء ينتقل بسرعة مذهلة (١٨٦٠٠٠ ميل في الثانية)، فهذا يعني أن الأثير لا بد أنه على درجة كبيرة من الكثافة حتى يستطيع الضوء أن ينتقل فيه. ولكن كيف يمكن هذا إذا كان من المفترض أن الأثير أخف من الهواء؟ وبمرور الوقت ازداد غموض هذه المادة أكثر وأكثر: فهي مادة ساكنة تمامًا، وعديمة الوزن، وغير مرئية، ومنعدمة اللزوجة، لكنها مع ذلك أقوى من الفولاذ وغير قابلة للرصد بأي آلة معروفة.
وبحلول عام ١٩٠٠، ازدادت صعوبة تفسير القصور في ميكانيكا نيوتن، وغدا العالم جاهزًا لثورة، ولكن من يقودها يا ترى؟ فمع أن هناك من العلماء من كانوا عالمين بما في نظرية الأثير من خلل، فإنهم حاولوا على استحياء أن يستروا هذا الخلل بالاستعانة بقوانين نيوتن. لكن أينشتاين الذي لم يكن لديه ما يخسره اجترأ على أن يجهر بأساس المشكلة وهي أن: قوى نيوتن ومجالات ماكسويل لا تتسقان، لذا فعلى إحدى دعامتي العلم أن تسقط. وعندما سقطت إحداهما في النهاية بالفعل، سقط معها أكثر من قرنين من عمر الفيزياء، ونتج عن هذا أن تغيرت نظرتنا للكون وللواقع نفسه. واستطاع أينشتاين أن يسقط فيزياء نيوتن بصورة في غاية البساطة لا يستعصي فهمها على طفل صغير.