الفصل الثاني
السنوات الأولى
ولد ذلك الرجل، الذي غير من رؤيتنا للكون بأسره، في ١٤ من شهر مارس/آذار عام ١٨٧٩،
في
بلدة ألمانية صغيرة تدعى أولم. ولدى مولده ارتاع والداه هيرمان وبولين كوخ أينشتاين
عندما رأيا رأس وليدهما غير مستوية، وابتهلا إلى الله ألا يكون لهذا تأثير على
عقله.
كان والدا أينشتاين يهوديين علمانيين ينتميان إلى الطبقة الوسطى ويكافحان لتوفير حياة
كريمة لأسرتهما الآخذة في النمو. كانت بولين ابنة لتاجر ثري نسبيًّا يدعى يوليوس
ديرزباخر (وهو الاسم الذي غيره فيما بعد إلى كوخ)، وكان قد جنى ثروته بعد أن غير حرفته
وتحول من خباز إلى تاجر حبوب. كانت بولين مثقفة العائلة، وأصرت على أن يتعلم أبناؤها
الموسيقى منذ صغرهم، وهو الأمر الذي نتج عنه عشق أينشتاين لآلة الكمان منذ طفولته. أما
عن هيرمان أينشتاين فقد كان، على عكس حماه، عاثر الحظ في عمله، فبعد أن بدأ كتاجر
لحشايا الأسرّة المحشوة بالريش، نصحه أخوه ياكوب بأن يتحول إلى صناعة الكهروكيماويات
الجديدة. كانت اختراعات فاراداي وماكسويل وتوماس إديسون التي تستخدم الكهرباء تضيء
مدنًا كثيرة في جميع أنحاء العالم، ورأى هيرمان أمامه مستقبلًا واعدًا في صناعة
المولدات والمصابيح الكهربية. لكن الحظ لم يحالفه وفشل المشروع وأدى به ذلك إلى أزمات
مالية متوالية أفلسته أكثر من مرة وأجبرت العائلة على الانتقال كثيرًا خلال طفولة
ألبرت، ومن الأماكن التي انتقلوا إليها مدينة ميونيخ التي أتوها بعد عام واحد من مولده.
تأخر أينشتاين الصغير في تعلم الكلام حتى إن والديه خشيا أن تكون لديه إعاقة ذهنية.
لكنه حين نطق أخيرًا، كان كلامه جملًا كاملة. لكن مع هذا ظل لا يتحدث جيدًا حتى التاسعة
من عمره. ولم يكن له إلا شقيقة واحدة اسمها مايا تصغره
بعامين. (وفي الأيام الأولى لمولدها أثار قدومها دهشة
ألبرت الصغير، وكانت من أولى العبارات التي تفوه بها سؤاله: «ولكن أين عجلاتها؟») غير
أن كونها الأخت الصغرى لألبرت لم يكن بالأمر الممتع؛ فقد كانت له عادة سيئة وهي إلقاء
الأشياء على رأسها. وكما قالت هي بعد ذلك: «لا بد لأخت المفكر أن تكون لها جمجمة
قوية.»
١
وعلى عكس الخرافة الشائعة، كان أينشتاين طالبًا نجيبًا في المدرسة، لكن فقط في المواد
التي كان يهتم بها كالرياضيات والعلوم. وكان نظام التعليم الألماني يحث التلاميذ على
الإجابة على الأسئلة بإجابات قصيرة قائمة على الحفظ والاستظهار وإلا عوقبوا بضرب مؤلم
على مفاصل أصابعهم. لكن ألبرت الصغير كان يتكلم ببطء وتردد منتقيًا كلماته بعناية. كان
يعاني تحت وطأة نظام تعليمي ديكتاتوري خانق يقمع الإبداع والقدرة على التخيل ويستبدل
بهما اختبارات عقيمة تساعد على تغييب العقل، ولهذا كان أبعد ما يكون عن تحقيق التفوق
في
المدرسة. وعندما سأل والده مدير المدرسة عن المهنة التي تصلح في المستقبل لألبرت أجابه
قائلًا: «لا تشغل بالك بهذا؛ فهو لن ينجح في أي شيء.»
٢
وسرعان ما بدأت طباع أينشتاين تفصح عن نفسها مبكرًا. كان حالمًا، كثير الاستغراق
في
التفكير أو القراءة. وكان زملاؤه في المدرسة يصفونه باستمرار بكلمة «معقّد». يروي أحد
زملائه عن ذلك قائلًا: «اعتبره بقية التلاميذ غريب الأطوار لأنه لم يكن يبدي أي اهتمام
بالرياضة، واعتبره المدرسون غبيًّا لعدم قدرته على الاستظهار ولغرابة طباعه
أيضًا.»
٣ وحين بلغ العاشرة من عمره التحق ألبرت بمدرسة لويتبولد في ميونيخ وفيها
عانى الأمرين في تعلم اللغة اليونانية الكلاسيكية، وكان يكتفي أثناء تلقي دروسها
بالجلوس على مقعده وعلى ثغره ابتسامة باهتة تخفي ملله. وحينما كان في الصف السابع حدث
أن قال له معلم اللغة اليونانية السيد جوزيف ديجنهارت أنه سيكون من الأفضل ألا يحضر هذه
الدروس. وعندما اعترض أينشتاين مبينًا أنه لم يرتكب خطئًا، رد عليه المدرس بغلظة
قائلًا: «نعم هذا صحيح، لكنك دائمًا تجلس في الصف الخلفي مبتسمًا، وهذا يتنافى مع
الاحترام المطلوب من التلاميذ لمعلمهم.»
٤
وقد ظل أينشتاين لسنين طويلة يعاني الآثار التي تركها ذلك النظام التعليمي المستبد
في
نفسه وهو ما يتضح من قوله: «إنه لأشبه بالمعجزة أن نظم التعليم الحديثة لم تقضِ تمامًا
على الفضول الحميد وحب الاستطلاع لدى الطلبة، فهما كالنبتة الصغيرة التي تحتاج إلى
التحفيز ولا تستغني عن الحرية.»
٥
بدأ اهتمام أينشتاين بالعلوم مبكرًا بتعرفه لأول مرة على المغناطيسية التي قال إنها
كانت «أول معجزة» يشهدها. وكان والده قد أهداه بوصلة ففتنه بشدة أن هناك قوى خفية قادرة
على تحريك الأجسام المادية. يتذكر أينشتاين هذه التجربة بحنين قائلًا: «تعرفت على تلك
العجيبة وأنا في الرابعة أو الخامسة من عمري عندما أراني أبى إبرة البوصلة … لا أزال
أذكر … أن هذه التجربة تركت أثرًا عميقًا ودائمًا في نفسي، وأدركت حينها أن هناك أمورًا
خفية تتوارى خلف الظواهر.»
٦
لكنه حين اقترب من الحادية عشرة من عمره، اتخذت حياته اتجاهًا غير متوقع إذ تحول
إلى
التدين الشديد. وكان هناك شخص تربطه به صلة قرابة بعيدة يزوره ليعلمه العقيدة اليهودية،
والغريب أن ألبرت أقبل عليها بمنتهى الحماس وبشكل اقترب من التطرف، فقد امتنع عن أكل
لحم الخنزير وألف مجموعة من الترانيم في مدح الله وكان ينشدها في طريقه إلى المدرسة.
لكن فترة الحماس الديني تلك لم تدم طويلًا لأنه كان كلما تعمق في الدين، أدرك تعارضه
مع
العلم، حيث تنافي الكثير من المعجزات المذكورة في النصوص الدينية قوانين العلم. وفي
النهاية وصل إلى نتيجة وصفها بقوله: «من خلال قراءتي وصلت سريعًا إلى قناعة بأن كثيرًا
مما جاء في قصص التوراة لا يمكن أن يكون حقيقيًّا.»
٧
وهكذا تخلى أينشتاين عن الدين بنفس السرعة التي اعتنقه بها، لكن مع هذا كان لتلك
المرحلة الدينية من حياته أثر كبير على آرائه في مراحل لاحقة. ومثّل ارتداده هذا الرفض
الأول للسلطة الرافضة للتفكير، وهو أحد العلامات المميزة لشخصيته طوال حياته. لم يعد
أينشتاين يقبل رموز السلطة على أنهم القول الفصل. ومع أنه وصل في النهاية إلى أنه من
غير الممكن التوفيق بين الدين والعلم، فإنه قد أقر أيضًا أن في الكون عوالم لا تدركها
حدود العلم بكل بساطة، وأن المرء لا بد له أن يدرك إدراكًا عميقًا محدودية العلم والفكر
الإنساني.
غير أن هذا الاهتمام المبكر بالبوصلات والعلم والدين كان سيذبل لو لم يجد ألبرت
الصغير راعيًا ومرشدًا محبًّا يشحذ أفكاره. وكان هذا الراعي طالبًا بولنديًّا فقيرًا
يدعى ماكس تلمود، كان يدرس الطب في ميونيخ عام ١٨٨٩، وكان معتادًا على تناول العشاء
أسبوعيًّا في بيت أينشتاين. وكان هو من عرف أينشتاين على عجائب العلم بعيدًا عن منهج
الاستظهار العقيم الذي انتهجته مدرسته. وبعد ذلك بسنوات، كتب تلمود بإعزاز قائلًا:
«خلال كل تلك السنين لم أره أبدًا يقرأ كتابًا بسيط الأسلوب، أو يخرج برفقة زملاء
دراسته أو ممن هم في مثل سنه. كانت الموسيقى شغفه الوحيد، وقد كان قادرًا على عزف
مقطوعات موتسارت وبيتهوفن بمصاحبة أمه.»
٨ أعطى تلمود أينشتاين كتابًا في الهندسة واظب أينشتاين على قراءته ليل نهار،
وسماه «المعجزة الثانية» بالنسبة له، وكتب يقول عنه: «عندما كنت في الثانية عشرة من
عمري، شاهدت عجيبة أخرى ذات طبيعة مغايرة تمامًا عن سابقتها تتمثل في كتاب صغير عن
الهندسة الإقليدية المستوية.»
٩ أطلق أينشتاين على هذا الكتاب اسم «كتاب الهندسة المقدس»، واعتبره توراته
الجديدة.
وأخيرًا كان اتصال أينشتاين الأول بعالم الفكر المجرد؛ الذي من خلاله استطاع أن
يستكشف حقائق الكوني دون معامل أو معدات باهظة التكاليف، عالم لا يحده إلا قدرة العقل
البشري. فقد لاحظت أخته مايا أنه صار يجد متعة دائمة في الرياضيات، وبالأخص في الألغاز
والأحاجي الرياضية الصعبة. بل إنه كان يتفاخر على أخته لأنه وجد دليلًا جديدًا على صحة
نظرية المثلث قائم الزاوية لفيثاغورث.
لكن قراءات أينشتاين في الرياضيات لم تتوقف عند هذا الحد؛ فقد استطاع بعد ذلك أن
يعلم
نفسه حساب التفاضل والتكامل مفاجئًا معلمه، وهو ما يؤكده تلمود بقوله: «سرعان ما اتضحت
عبقريته في الرياضيات حتى إنني لم أستطع أن أجاريه … ومنذ ذلك الحين، صارت الفلسفة أكثر
ما نتحدث فيه، ورشحت له أعمال الفيلسوف كانت.»
١٠ وكان لمعرفة أينشتاين الصغير بعالم إيمانويل كانت وكتابه «نقد العقل
المجرد»
Critique of Pure Reason أبرز الأثر في تغذية
حبه للفلسفة الذي لم ينقطع طوال حياته. بدأ يتفكر في الأسئلة الأزلية التي طالما شغلت
جميع الفلاسفة كأصول الأخلاق، ووجود الله، وطبيعة الحروب. كان كانت بالتحديد يشتهر
بآرائه الصادمة التي تشكك حتى في وجود الله. كان يهزأ بعالم الفلسفة الكلاسيكية المتبجح
التي وصفه بقوله: «في معظمها كثير من الهراء»، (أو كما قال الخطيب الروماني الشهير
شيشرون: «ليس هناك من السخافات ما لم يتفوه به الفلاسفة.» وكتب كانت أيضًا أن السبيل
إلى إنهاء الحروب هو إيجاد حكومة واحدة للعالم بأسره، وهو المعتقد الذي اعتنقه أينشتاين
بقية حياته. وفي فترة من فترات حياته، تأثر أينشتاين بأفكار كانت تأثرًا شديدًا حتى إنه
فكر في أن يصير فيلسوفًا، لكن والده الذي أراد لابنه مهنة أكثر واقعية رفض ذلك «الهراء
الفلسفي»
١١ على حد قوله.
وكان من حسن طالع أينشتاين أن والده يعمل في الصناعات الكهروكيميائية، ولهذا فقد كان
لديه مصنع يمتلئ بالمولدات الكهربية والمحركات والأجهزة، وهو ما ساهم في تغذية فضوله
وزاد اهتمامه بالعلوم. (كان هيرمان أينشتاين يسعى مع شقيقه ياكوب للحصول على عقد لمشروع
واعد لإمداد قلب مدينة ميونيخ بالكهرباء، وأخذ هرمان يحلم بالفوز بهذا المشروع التاريخي
الذي سيوفر له الأمان المالي وسيساعده على توسعة مصنعه.)
لا شك أن وجود الأجهزة الكهرومغناطيسية الكثيرة حول أينشتاين أيقظ فيه إدراكًا
حدسيًّا للكهرباء والمغناطيسية، وهو على الأرجح ما شحذ قدرته الفذة على خلق صور مادية
حية تصف قوانين الطبيعة بدقة شديدة. كان العلماء الآخرون يُغْرِقون أنفسهم في التعقيدات
الرياضية، أما أينشتاين فرأى قوانين الفيزياء واضحة أمامه في صور بسيطة. وربما كان مرد
هذه القدرة الحادة إلى تلك الأيام السعيدة حين كان قادرًا على التطلع إلى الأجهزة
الملقاة حول مصنع والده والتفكير في قوانين الكهربية والمغناطيسية. وقد مثلت قدرة
أينشتاين على رؤية أي شيء من خلال صور فيزيائية واحدة من سماته الرائعة كعالم
فيزياء.
وحين كان أينشتاين في الخامسة عشرة من عمره، اضطر إلى الانقطاع عن الدراسة أكثر من
مرة بسبب الأزمات المالية المتكررة التي كانت تمر بأسرته. كان أبوه سخي اليد وميالًا
لمساعدة كل من يمرون بأزمات مالية، ولم يكن جامد القلب كمعظم رجال الأعمال الناجحين.
(وقد ورث ألبرت عنه هذا السخاء وهذه الطيبة). وعندما لم تستطع شركته التعاقد على مشروع
إنارة ميونيخ، آلت إلى الإفلاس، ولهذا عرضت عليه عائلة بولين الثرية، التي كانت تعيش
في
ذلك الوقت في جنوا بإيطاليا، أن تساعده في إنشاء شركة جديدة، ولكن بشرط أن ينتقل
بعائلته إلى إيطاليا (حتى يكون بالقرب منهم ويتمكنوا من كبح جماح شطحاته وكرمه المبالغ
فيه). وبالفعل انتقلت العائلة إلى ميلان، قرب مصنع جديد في بافيا، ولأن هيرمان لم يرد
أن ينقطع ابنه عن الدراسة مجددًا، تركه مع ذوي قرابة بعيدة يعيشون في ميونيخ.
عاش ألبرت أيامًا تعسة وحيدًا في مدرسة داخلية كرهها، ينتظر دوره لتأدية الخدمة
العسكرية في الجيش البروسي الرهيب. كان المدرسون يكرهونه، وكان هذا الشعور متبادلًا،
حتى أوشك على أن يطرد من المدرسة. وفجأة، قرر أينشتاين أن يلتحق بعائلته من جديد؛ فاتفق
مع طبيب العائلة أن يكتب له توصية طبية تسمح له بالخروج من المدرسة على أساس أنه قد
يتعرض لانهيار عصبي إذا لم يجتمع مع عائلته من جديد. وعليه قطع ألبرت الرحلة إلى
إيطاليا وحيدًا، حتى انتهى به المطاف على باب بيت أسرته التي لم تكن تتوقع
قدومه.
احتار هيرمان وبولين فيما يفعلان بابنهما الهارب من تأدية الخدمة العسكرية، والذي
لم
يتم دراسته الثانوية، وليست لديه مهارات أو حرفة يمتهنها أو مستقبل ينتظره. دارت
مناقشات طويلة بين ألبرت ووالده الذي أراده أن يمتهن حرفة عملية كالهندسة الكهربائية،
في حين كان هو يتحدث عن رغبته في أن يصير فيلسوفًا. وفي النهاية وصلا إلى حل وسط ووافق
ألبرت على الالتحاق بمعهد البوليتكنيك الشهير في زيوريخ بسويسرا، مع أنه كان يصغر معظم
المتقدمين لامتحان القبول بعامين. كانت ميزة هذا المعهد أنه لم يكن يشترط شهادة إتمام
الدراسة الثانوية، بل كان يكتفي بتقدير معين يحصل عليه المتقدمون لامتحان القبول
الصعب.
لكن لسوء حظه، رسب أينشتاين في امتحان القبول، وتحديدًا في اللغة الفرنسية والكيمياء
والأحياء، لكنه أبلى بلاءً حسنًا في أسئلة الرياضيات والفيزياء حتى إنه أثار إعجاب مدير
المعهد ألبين هيرتزوج Albin Herzog الذي وعد بإلحاقه في
العام المقبل دون الخضوع لهذا الامتحان العويص مرة أخرى. ليس هذا فحسب، بل إن هاينريش
فيبر Heinrich Weber رئيس قسم الفيزياء بالمعهد عرض على
أينشتاين حضور محاضراته في الفيزياء وهو في زيوريخ، لكن هيرتزوج نصحه بأن يستغل هذا
العام ويلتحق بثانوية آراو التي تقع غرب زيوريخ بنصف ساعة فقط. وبالفعل عمل أينشتاين
بنصيحته، وهناك نزل ألبرت ضيفًا على يوست فينتلر Jost
Winteler مدير المدرسة، الأمر الذي تمخضت عنه صداقة عمر بين عائلتي
أينشتاين وفينتلر. (بل إنه في وقت لاحق تزوجت مايا من نجل فينتلر، وكان يدعى بول، وتزوج
ميكيلي بيسو Michele Besso صديق أينشتاين من آنا الابنة
الكبرى لفينتلر.)
تمتع أينشتاين بمناخ الحرية المريح في تلك المدرسة، وتخلص إلى حد ما من القوانين
القمعية الدكتاتورية للنظام التعليمي في ألمانيا، وأحب السويسريين الذين يقدسون معاني
التسامح وحرية الروح. قال أينشتاين عن هذا فيما بعد: «لكم أحب السويسريين، إنهم أكثر
الناس الذين عاشرتهم إنسانية.»
١٢ ولأن الذكريات السيئة لحياته في المدارس الألمانية كانت لا تفارق فكره، فقد
اتخذ خطوة مفاجئة وغير متوقعة من شاب مراهق وقرر أن يتخلى عن جنسيته الألمانية، وظل بلا
جنسية نحو خمسة أعوام إلى أن صار في النهاية مواطنًا سويسريًّا.
وكان من تبعات مناخ الحرية الذي تمتع به ألبرت أن بدأ يتخلى عن طباعه القديمة من
الخجل والعصبية والانطواء، وصار شخصًا اجتماعيًّا منفتحًا للحديث مع الآخرين وذا أصدقاء
حميمين. وبدأت مايا تحديدًا تلاحظ تغيرًا جديدًا طرأ على أخيها الأكبر فوجدته صار
مفكرًا ناضجًا حر التفكير. مرت شخصية أينشتاين بمراحل عديدة مختلفة، كانت أولاها مرحلة
العزلة والانزواء والاطلاع النهم. أما الثانية فكانت موزعة بين إيطاليا وسويسرا، وتملكه
فيها الطبع البوهيمي والغرور والميل إلى الصفاقة، وكان كثير الدعابات اللاذعة التي تجعل
الناس ينفجرون في الضحك في معظم الأحوال، وكان يجد في هذا متعة كبيرة.
وكان من نتائج ذلك أن أطلق عليه لقب «الألماني الوقح». يصف هانز بيلاند
Hans Byland وهو أحد زملائه شخصيته في تلك المرحلة
بقوله: «كان كل من يقترب منه لا يلبث أن تأسره قوة شخصيته، وكانت ابتسامته الساخرة التي
لا تفارق فمه المكتنز بشفته السفلية الناتئة تثني المعارضين عن التعرض له. ولم تكن
تقيده الأعراف والقواعد أو تثنيه عن مواجهة العالم بمنطق الفيلسوف الساخر؛ فلا يتورع
عن
أن يرمي كل زائف ومصطنع بسهام سخريته العقلانية.»
١٣
وكان هذا «الفيلسوف الساخر» ذا شعبية متزايدة لدى الجنس اللطيف، ولم يكن هذا لما
يتمتع به من قدرة ومهارة على الغزل الطريف فقط، بل كانت الفتيات أيضًا يجدنه حساسًا
وأمينًا على الأسرار ومتعاطفًا، حتى إن إحداهن استشارته في مسألة عاطفية تتعلق بحبيبها،
وطلبت منه أخرى أن يوقع لها على الأوتوجراف فكتب لها قصيدة سخيفة. وقربته إجادته العزف
على الكمان إلى الناس أكثر وصار يتلقى دعوات كثيرة إلى حفلات العشاء. وتظهر خطابات تعود
إلى تلك الفترة مدى شعبيته في أوساط السيدات اللاتي كن يحببن أن يصاحب عزف البيانو آلة
وترية. يقول كاتب السير ألبريخت فولسينج
Albrecht
Folsing: «لم تكن السيدات، سواء الشابات منهن أو المسنات، يفتتن
فقط بعزفه على الكمان، بل أيضًا بمظهره الذي كان أقرب إلى مظهر فنان لاتيني مشبوب
العاطفة منه إلى مظهر طالب علوم متبلد الحس.»
١٤
وأينشتاين الذي لم يكن قد جاوز السادسة عشرة من عمره لم تلفت نظره سوى فتاة واحدة
فقط، وهى ماري، إحدى بنات يوست فينتلر، وكانت تكبره بعامين. (والواقع أن جميع النساء
اللاتي لعبن دورًا مهمًّا في حياته كن أكبر منه سنًّا، وهو أمر ورثه عنه ابناه بعد
ذلك). كانت ماري فتاة حساسة وعطوفة وموهوبة، وترغب في أن تصبح مدرسة كأبيها. اعتاد
ألبرت وماري أن يتنزها معًا لمسافات طويلة، يراقبان الطيور في الغالب، وهى الهواية
المحببة لآل فينتلر. واعتاد أينشتاين أيضًا أن يصاحبها بعزف الكمان بينما تعزف هي على
البيانو.
اعترف لها ألبرت بحبه الصادق في خطاب كتب فيه: «حبيبتي … إنني يا ملاكي قد عرفت الآن
معنى الحنين ولوعة الاشتياق. ولكن ما يمنحنا الحب من سعادة يطغى على ما يسببه الاشتياق
لنا من ألم، وإنني الآن فقط قد أدركت أنني لا غنى لي عنك أيتها العزيزة
الحبيبة.»
١٥ واستجابت ماري لعواطفه، وبادلته حبًّا بحب، بل كتبت إلى أمه تطلب مباركتها،
فردت عليها ومنحتها ما أرادت. وقتها كانت العائلتان تتوقعان عرسًا وشيكًا لطائري الحب،
لكن ماري كانت تتملكها مشاعر دونية حين كانت تتكلم مع حبيبها عن العلم، ورأت أن هذه
النقطة قد تمثل مشكلة في علاقتها بأينشتاين خاصة بالنظر إلى طبعه الحاد. وأدركت أنه
سيتعين عليها أن تتنافس على قلب أينشتاين مع حبه الحقيقي الأول؛ الفيزياء.
ولم يكن كل ما يشغل بال أينشتاين هو حبه المتأجج لماري بل أيضًا افتتانه بخبايا الضوء
والكهرباء. ففي صيف عام ١٨٩٥، كتب مقالًا مستقلًّا عن الضوء والأثير عنوانه: «دراسة
لحالة الأثير في مجال مغناطيسي»، ثم أرسله إلى أقرب أخواله إليه سيزر كوخ
Caesar Koch الذي كان يعيش في بلجيكا. كان هذا هو
أول أبحاثه العلمية ولم يكن يتجاوز خمس صفحات، وذكر فيه أن القوة المغناطيسية الغامضة
التي طالما فتنته في صباه يمكن النظر إليها على أنها اضطراب من نوع ما في الأثير. وقبل
هذا بسنوات كان تلمود قد أطلعه على كتاب لآرون بيرنشتاين
Aaron
Bernstein بعنوان
Popular Books on Natural
Science، «تبسيط العلوم الطبيعية» كتب عنه أينشتاين فيما بعد
قائلًا: «كنت وأنا أقرأ هذا الكتاب أندمج فيه تمامًا، وكان يستحوذ على كل
انتباهي.»
١٦ وقد كان لهذا الكتاب تأثير كبير عليه، لأن المؤلف قد شرح فيه أسرار
الكهرباء، وطلب من القراء أن يتخيلوا أنفسهم في رحلة داخل سلك التلغراف، في سباق مع
إشارة كهربية بسرعة خارقة.
حين كان أينشتاين في السادسة عشرة من عمره، راوده حلم من أحلام اليقظة فقاده إلى فكرة
كان من شأنها أن تغير مجرى التاريخ الإنساني بعد ذلك، وربما كان تذكره للرحلة الخيالية
في كتاب بيرنشتاين هو ما دفعه لتخيل نفسه يعدو بجانب شعاع الضوء بنفس سرعته، وجعله يسأل
نفسه سؤالًا حاسمًا: كيف سيبدو شكل الشعاع حينها؟ وكما تخيل نيوتن إلقاء حجر من فوق قمة
جبل بسرعة فائقة تجعله يدور حول الأرض مثل القمر، وما كان لذلك من نتائج، أثمرت محاولة
أينشتاين لتخيل صورة هذا الشعاع عن نتائج مهمة ومدهشة.
في عالم نيوتن، يستطيع المرء أن يلحق بأي شيء متحرك إذا تحرك بالسرعة اللازمة. فمثلًا
تستطيع سيارة مسرعة أن تدرك القطار، وإذا اخترقنا بأبصارنا نوافذ القطار، سنرى الركاب
يقرءون الصحف ويحتسون القهوة كأنهم يجلسون في غرف معيشتهم. ومع أنهم يندفعون بسرعة
كبيرة، فإنهم يبدون لنا مستقرين وثابتين إذا نظرنا إليهم من سيارة تنطلق بنفس سرعة
قطارهم.
وبالمثل تخيل سيارة شرطة تطارد سيارة أخرى مسرعة. في الوقت الذي تنطلق فيه سيارة
الشرطة بسرعة كبيرة حتى تحاذي السيارة الأخرى، يمكن لضابط الشرطة أن ينظر داخل السيارة
التي يطاردها ويشير لسائقها بأن يوقف السيارة إلى جانب الطريق. في تلك اللحظة يبدو
السائق لرجل الشرطة ثابتًا، مع أن كليهما يتحرك بسرعة قد تصل إلى مائة ميل في
الساعة.
كان الفيزيائيون يعرفون أن الضوء يتكون من موجات، فرأى أينشتاين أن هذا يعني أنه إذا
استطاع أن يعدو بجانب شعاع ضوء بنفس سرعته، فسيبدو له الضوء في غاية السكون. أي أن
الضوء سيبدو، بالنسبة لمن يعدو بمحاذاته كموجة متجمدة أو صورة فوتوغرافية لموجة، وحينها
لن يتذبذب في الزمن. لكن أينشتاين الشاب لم يرَ في هذا أي منطق؛ فلم يسبق لأي أحد في
أي
مكان أن رأى موجة متجمدة، وليس هناك وصف لشيء مثل هذا في الكتب العلمية. لقد كان الضوء
في نظر أينشتاين ظاهرة من نوع فريد، لا أحد يستطيع اللحاق به، وليس هناك وجود للضوء
المتجمد.
صحيح أنه لم يفهم هذا حينها، لكنه بمحض الصدفة وضع يده على واحدة من أهم الملاحظات
العلمية في ذلك القرن، وهى الملاحظة التي تمخض عنها فيما بعد مبدأ النسبية الذي كتب عنه
بعد ذلك قائلًا: «كان هذا المبدأ نتيجة لتناقض لاحظته وأنا في السادسة عشرة، وهو أنني
إذا لاحقت شعاع الضوء بالسرعة ج (وهي سرعة الضوء في الفراغ)، فالمفترض أن أرى شعاع
الضوء هذا … ساكنًا. لكن ما من شيء يشير إلى صحة هذا، سواء في التجارب العملية أو في
معادلات ماكسويل.»
١٧
لقد كانت قدرة أينشتاين على فصل المبادئ الأساسية وراء أي ظاهرة والتركيز على الصورة
الجوهرية هي التي أهلته لإحداث ثورة علمية كبرى. وعلى خلاف علماء آخرين أقل أهمية، لم
يكن أينشتاين يغرق نفسه في تعقيدات الرياضيات، بل كان يفكر بأسلوب الصور الفيزيائية
البسيطة؛ كالقطارات المسرعة، والمصاعد الهابطة، والصواريخ، وحركة عقارب الساعة. وكانت
هذه الصور هي التي ساعدته للخروج بأعظم أفكار القرن العشرين، وعن هذا كتب: «إن جميع
النظريات الفيزيائية وتعبيراتها الرياضية يمكن أن تُشرح عن طريق صور وصفية بسيطة حتى
الطفل الصغير يستطيع أن يفهمها.»
١٨
وفي خريف عام ١٨٩٥، التحق أينشتاين أخيرًا بمعهد بوليتكنيك، وبدأ مرحلة مختلفة جديدة
تمامًا من حياته. لقد رأى أنه للمرة الأولى سوف يعرف أحدث ما وصل إليه علم الفيزياء
الذي صار حديث أوروبا كلها. كان يعرف أن رياح التغيير تهب على عالم الفيزياء، وأن هناك
تجارب كثيرة جديدة تشكك في قوانين نيوتن، بل في كلاسيكيات الفيزياء كلها.
وخلال دراسته في المعهد، أراد أينشتاين تعلم النظريات الجديدة في مجال الضوء، وخاصة
معادلات ماكسويل، التي كتب عنها فيما بعد قائلًا إنها كانت: «الموضوع الأكثر روعة وقت
أن كنت طالبًا.»
١٩ وعندما درسها أخيرًا، استطاع أن يجيب على السؤال الذي ظل عالقًا في ذهنه.
فكما كان يتوقع، لم يجد في معادلات ماكسويل ما يفترض أن الضوء يتجمد في الزمن، ثم اكتشف
ما هو أبعد من ذلك. لقد اندهش عندما وجد أنه وفقًا لنظرية ماكسويل يبتعد الضوء عنك بنفس
سرعته، مهما كنت سريعًا. وكان هذا هو الحل النهائي لهذا اللغز: لا يستطيع المرء أبدًا
أن يلحق بشعاع الضوء لأنه سوف يبتعد عنه دائمًا بنفس السرعة. لكن هذا بدوره كان يتعارض
مع كل استنتاجاته البديهية عن العالم، وسوف يتطلب الأمر منه بضع سنين أخرى لحل هذا
التناقض الناتج عن هذه الملاحظة المهمة؛ وهي أن الضوء دائمًا يتحرك بنفس السرعة.
تطلبت هذه الأوقات الثورية نظريات ثورية جديدة، وقادة جددًا يتسمون بالجراءة
والجسارة. لكن لسوء الحظ لم يجد أينشتاين مثل هؤلاء في المعهد. لقد فضل أساتذته
الاكتفاء بالنظريات الكلاسيكية، وهو ما اضطر أينشتاين إلى التغيب عن كثير من صفوفه
الدراسية، وقضاء معظم وقته في المعمل أو في التعرف على نظريات جديدة بنفسه. ولكن
أساتذته ظنوا أن تغيبه هذا بدافع من كسل متأصل فيه، ومرة أخرى يبخسه أساتذته
قدره.
وكان من بين أساتذته في المعهد هاينريش فيبر أستاذ الفيزياء، الذي سبق أن أبدى إعجابه
الشديد به، وعرض عليه حضور محاضراته بعد أن رسب في امتحان القبول، بل إنه عرض عليه
أيضًا أن يعمل مساعدًا له بعد تخرجه. لكن مع مرور الوقت بدأ فيبر يستاء من قلة صبر
أينشتاين وتمرده على سلطته، إلى أن تراجع في النهاية عن دعمه له وأخبره بقوله: «إنك فتى
ذكي للغاية، لكن عيبك الخطير أنك لا تقبل أن يوجهك أحد.»
٢٠ وبالمثل لم يكن أينشتاين يروق للأستاذ جين بيرنيت، وهو أحد أساتذة
الفيزياء، والذي كان قد شعر بالإهانة عندما رمى أينشتاين ذات مرة كتيب الإرشادات الخاص
بأحد صفوفه في سلة المهملات حتى دون أن يلقي نظرة عليه. لكن مساعد بيرنيت دافع عن
أينشتاين قائلًا إن حلول أينشتاين غير مألوفة، لكنها غالبًا تثبت صحتها. لكن مع هذا كان
بيرنيت صريحًا مع أينشتاين حين واجهه قائلًا: «إنك فتى نشيط، لكن لا مستقبل لك في
الفيزياء، ومن مصلحتك أن تتحول إلى تخصص آخر كالطب أو الأدب أو القانون.»
٢١ وذات مرة تسبب أينشتاين في انفجار داخل المعمل أدى إلى إصابة شديدة في يده
اليمنى حتى إنها احتاجت تقطيبًا لغلق الجرح، والسبب أنه قد مزق إرشادات استخدام المعمل.
وكان من أثر هذا أن ازدادت علاقته ببيرنيت سوءًا حتى إن الدرجة التي حصل عليها أينشتاين
في مادته كانت «١»، وهى أقل درجة ممكنة، هذا بخلاف أن هرمان منكوفسكي
Hermann Minkowski أستاذ الرياضيات أطلق عليه لقب
«الكلب الكسول».
وعلى النقيض من الأساتذة، كان أصدقاء أينشتاين في زيوريخ شديدي الإخلاص له ووقفوا
بجانبه طوال حياته. في تلك السنة لم يكن في صف الفيزياء الذي يحضره سوى خمسة طلاب، وكان
يعرفهم جميعًا. وكان أحد هؤلاء الطلبة مارسيل جروسمان
Marcel
Grossman طالب الرياضيات الذي كان معتادًا على تدوين ملاحظات دقيقة
ومفصلة خلال جميع المحاضرات. وكانت هذه الملاحظات من الجودة أن فضل أينشتاين استعارتها
منه على حضور المحاضرات نفسها، ومع هذا كان يحوز درجات في الامتحان أكثر من درجات
جروسمان. (لا تزال ملاحظات جروسمان محفوظة في الجامعة حتى يومنا هذا.) وذات مرة قال
جروسمان لوالدة أينشتاين يومًا ما سيقع «أمر عظيم»
٢٢ لأينشتاين.
لكن أكثر من حاز اهتمامه من الزملاء كانت امرأة صربية تدعى ميليفا ماريتش
Mileva Maric. في ذلك الوقت لم يكن من المألوف وجود
دارس للفيزياء ينتمي إلى بلاد البلقان، ناهيك عن أن يكون امرأة. كانت ميليفا امرأة
فريدة من نوعها، قررت بنفسها أن تذهب إلى سويسرا لأنها كانت البلد الوحيد الناطق
بالألمانية الذي يسمح للنساء بالالتحاق بالجامعة. وكانت خامس امرأة فقط يسمح لها
بالتخصص في الفيزياء بمعهد بوليتكنيك السويسري. وجد أينشتاين في هذه المرأة نصفه الآخر
لأنها كانت قادرة على التكلم بلغة الفيزياء، حبه الأول، مما جعله عاجزًا عن مقاومتها،
لذا سرعان ما قطع علاقته بماري فينتلر، وأخذ يتخيل نفسه وميليفا أستاذين كبيرين في
الفيزياء يخرجان باكتشافات عظيمة معًا. وسرعان ما أغرم كلاهما بالآخر، وحين كانا
يفترقان أثناء العطلات، كانا يتبادلان رسائل حب طويلة ملتهبة يخاطب فيها أحدهما الآخر
بألقاب تدليل محببة مثل جوني
Jhonny ودوللي
Dollie، وكتب أينشتاين لها قصائد حب وعبارات غزل
رقيقة على غرار: «مهما ارتحلت، فمكاني معك. إن الشوق يملؤني لذراعيك الرقيقتين وتقبيل
شفتيك اللطيفتين.»
٢٣ تبادل أينشتاين وميليفا ما يزيد عن أربعمائة وثلاثين خطابًا، وقد احتفظ بها
أحد أبنائهما. (المفارقة أنهما في ذلك الوقت كانا إلى الفقر أقرب، وبالكاد يسددان
فواتيرهما، ولم يكونا يعرفان أن واحدًا من خطاباتهما تلك سيباع بأربعمائة ألف دولار في
أحد المزادات بعد ذلك بسنين عديدة.)
لم يستطع أصدقاء أينشتاين أن يفهموا سر إعجابه بها، فقد كانت تكبره بأربعة أعوام،
وكانت شخصيتها تناقض انفتاح شخصيته وحسه الفكاهي، إذ تميزت بمزاجها المتقلب وميلها إلى
العزلة وانعدام ثقتها بالآخرين. وكانت تعاني عيبًا خلقيًّا منذ ولادتها جعل إحدى ساقيها
أقصر من الأخرى، مما أكسب مشيتها عرجًا ملحوظًا، وهو الأمر الذي زاد من تباعدها عن
الآخرين. وكان الأصدقاء يتهامسون من وراء ظهرها عن طباع أختها زوركا الغريبة التي انتهى
بها الحال إلى أن أودعت مصحة عقلية لعلة الفصام. لكن أكثر ما كان يعيبها في نظر الآخرين
هي مكانتها الاجتماعية؛ ففي حين كان أهل سويسرا ينظرون باستعلاء إلى اليهود، كان اليهود
بدورهم ينظرون باستعلاء إلى الأوروبيين الشرقيين، وبالأخص أهل البلقان.
ولم يكن لدى ميليفا أي شك في عبقرية أينشتاين التي كانت مع مقته للسلطة مضرب الأمثال.
كانت تعرف أنه تخلى عن جنسيته الألمانية، وأن له أفكارًا صادمة فيما يتعلق بالحرب
والسلام، وعن هذا كتبت قائلة: «إن لحبيبي لسانًا سليطًا، وهو أيضًا يهودي
بحق.»
٢٤
غير أن علاقة أينشتاين الآخذة في التوطد مع ميليفا أحدثت تصدعًا في علاقته بوالديه،
فلم تكن ميليفا تروق لأمه التي كانت متحمسة لماري، واعتبرت ميليفا من مرتبة دون مرتبة
ابنها، وأن علاقتها به ستلحق به الأذى، وستضر بسمعتهم، وكانت ببساطة تراها أكبر منه
سنًّا، ومريضة، وعديمة الأنوثة، وشديدة الكآبة، هذا بخلاف كونها صربية، حتى إنها أسرت
إلى إحدى الصديقات قائلة: «إن الآنسة ماريتش هذه قد جعلتني أعيش أحلك أيام حياتي، ولو
استطعت لأخرجتها من حياتنا. إنني أمقتها جدًّا، لكن لم تعد لي أي سلطة على
ألبرت.»
٢٥ لكنها مع هذا حذرته قائلة: «عندما تصير أنت في الثلاثين من عمرك، ستغدو هي
عجوزًا شمطاء.»
٢٦
لكن أينشتاين كان مصممًا على الاستمرار في علاقته مع ميليفا، حتى ولو سبب هذا شرخًا
عميقًا في عائلته المتماسكة. وحدث في إحدى المرات أن كانت أمه تزوره فسألته: «إلام ترمي
من علاقتك بها؟»
٢٧ فأجابها أينشتاين: «إلى أن تصير زوجتي»، وما إن سمعت الأم هذا الجواب حتى
ألقت بنفسها على الفراش منفجرة في بكاء هستيري، واتهمته بأنه يدمر مستقبله من أجل امرأة
«ليس لها مكان بين العائلات المحترمة»
٢٨ على حد قولها. وبسبب هذه المعارضة الشديدة التي لقيها من أفراد عائلته،
اضطر أينشتاين أن يؤجل موضوع الزواج من ميليفا حتى ينهي دراسته، ويحصل على عمل
مجز.
تخرج أينشتاين أخيرًا عام ١٩٠٠ من معهد بوليتكنيك بشهادة في الفيزياء والرياضيات،
لكن
حظه قد تعثر. كان من المفترض أن يعين مساعدًا بالمعهد، وكان هذا هو العرف المتبع، خاصة
أنه اجتاز جميع الاختبارات بتقديرات عالية. لكن لأن الأستاذ فيبر كان قد سحب العرض الذي
سبق أن عرضه عليه بأن يكون مساعده، فقد أصبح أينشتاين الطالب الوحيد في صفه الذي حُرم
أن يعمل مساعدًا لأستاذه، وهو الأمر الذي كان كصفعة على وجه أينشتاين. وفجأة وقع ذلك
الشاب الذي كان كثير الزهو بنفسه في الحيرة بشأن المستقبل الذي ينتظره، خاصة أن الدعم
المالي الذي كان يتلقاه من خالة موسرة له في جنوا قد انقطع بتخرجه.
في ذلك الوقت أقدم أينشتاين — الذي لم يكن عالمًا بمدى كراهية فيبر له — على حماقة
بأن وضع اسم فيبر في قائمة الأشخاص الذين يمكن للراغبين في توظيفه أن يتصلوا بهم لطلب
رأيهم فيه، دون أن يدري أن هذا سوف يؤذي مستقبله أشد الأذى. لكنه أدرك في النهاية أن
تلك الحماقة خربت مسيرته المهنية حتى قبل أن تبدأ، وكتب عن ذلك متحسرًا: «كان من الممكن
أن أجد وظيفة بسرعة لو لم يكن فيبر قد لعب معي تلك اللعبة الدنيئة. لكن هذا لم يثنني
عن
البحث أو ينزع عني حسي الفكاهي … فالله خلق الحمار ووهبه القدرة على التحمل.»
٢٩
في تلك الآونة، كان أينشتاين قد تقدم بطلب للحصول على الجنسية السويسرية، لكن هذا
لم
يكن ممكنًا ما دام عاطلًا عن العمل. كان عالمه ينهار سريعًا من حوله، حتى إنه فكر في
أن
يعزف الكمان في الشوارع مستجديًا المارة.
وحين رأى والده مقدار التعاسة التي يعيش فيها، كتب خطابًا إلى الأستاذ فيلهلم
أوستفالد
Wilhelm Ostwald الأستاذ بجامعة لايبتسيج،
متوسلًا إليه أن يلحق ابنه بالعمل كمساعد له (لم يرد أوستفالد على هذا الخطاب، لكن
المفارقة أنه بعد عشر سنين كان أول من رشح أينشتاين لجائزة نوبل في الفيزياء.) كتب
أينشتاين في ذلك الوقت عن ظلم العالم قائلًا في مرارة وأسى: «ليست هذه الدنيا إلا
سباقًا لعينًا كُتب علينا جميعًا نحن الأحياء أن نخوضه.»
٣٠ «وها أنا الآن قد صرت عالة على أقربائي … فيا ليتني لم أولد في هذه
الحياة.»
٣١
ومما زاد الأمر سوءًا أن والده أفلس مرة أخرى، بل إنه أنفق كل ميراث زوجته أيضًا وغرق
في ديونه لعائلتها. حينها لم يجد أينشتاين بدًّا من أن يبحث عن أي فرصة للتدريس مهما
كانت قليلة الشأن. وفي غمرة يأسه، بدأ يفتش في إعلانات الصحف عن أي وظيفة. ومع طول
بحثه، كاد عند نقطة معينة أن يفقد الأمل في أن يشتغل بالفيزياء، وفكر جديًّا في أن يعمل
بإحدى شركات التأمين.
وفي عام ١٩٠١ وجد وظيفة مدرس رياضيات في مدرسة فينترتور الفنية. وأثناء عمله فيها
استطاع أن يسترق ساعات محدودة وسط واجباته التدريسية المرهقة كي يعمل على أول بحث نشر
له «استنتاجات من ظاهرة الخاصية الشعرية» Deductions from Phenomena of
Capillarity، الذي لم يكن ذا أهمية كبيرة حتى في رأى أينشتاين
نفسه. وفي العام الذي تلا ذلك عمل بوظيفة مؤقتة كمعلم خاص في مدرسة شافهاوزن الداخلية.
وكما كان متوقعًا لم يستطع أن يتعايش مع مديرها الديكتاتور ياكوب نوش وسرعان ما فُصل
من
عمله. (كان المدير في قمة غيظه من أينشتاين حتى إنه اتهمه بالتحريض على ثورة.)
ظن أينشتاين عندها أنه سيظل حتى يموت لا يفعل شيئًا سوى العيش على الكفاف، والتدريس
لطلبة لا يلقون للعلم بالًا، ومطالعة إعلانات الصحف. يروي صديقه فريدريش أدلر
Friedrich Adler أنه كان في تلك الفترة على وشك
الموت جوعًا. ولكن مع ما كان يعانيه من إخفاق شديد، فقد رفض أن يسأل أقاربه أي مساعدة.
ولم يكن هذا منتهى مآسيه، بل إنه تلقى صدمتين أخريين أيضًا، أولاهما أن ميليفا رسبت
للمرة الثانية في الاختبارات النهائية للمعهد، وهو ما يعني نهاية مستقبلها كمشتغلة
بالفيزياء، حيث لن يقبلها أحد في برنامج للدراسات العليا بمثل هذا السجل السيئ، وكان
من
أثر هذا أن أصابها القنوط وفقدت اهتمامها بالفيزياء، وهكذا انتهى حلمهما الرومانسي
باستكشاف خبايا الكون معًا. ثم كان في نوفمبر/تشرين الثاني من عام ١٩٠١ أن تلقى
أينشتاين منها رسالة، وكانت قد رجعت إلى بلدها، تخبره فيها بأنها حامل.
ومع أن أينشتاين في ذلك الوقت لم ير أمامه أي مستقبل، فقد فرح لأنه سيصير أبًا. لكن
بعده عن ميليفا كان عذابًا مقيمًا له لم يخفف منه إلا ما كان يتبادله معها من رسائل
بشكل شبه يومي. وفي الرابع من فبراير/شباط عام ١٩٠٢، علم أخيرًا أنه صار أبًا لطفلة
صغيرة ولدت في منزل أهل ميليفا في نوفي ساد، وعُمّدت باسم ليسيريل. فرح أينشتاين
للغاية، وأراد أن يعرف كل شيء عنها، حتى إنه كتب إلى ميليفا يتوسل إليها أن ترسل له
صورة فوتوغرافية أو حتى رسمًا للطفلة. والغريب أنه لا أحد يعرف ماذا جرى للطفلة، فقد
كان آخر ذكر لها في رسالة تعود لشهر سبتمبر/أيلول عام ١٩٠٣، وجاء فيها أنها مصابة
بالحمى القرمزية. ويقول المؤرخون إنها إما أن تكون قد ماتت بالحمى، أو أنها قد وُهبت
لعائلة أخرى لتتبناها.
ولما ضاقت الدنيا بأينشتاين، جاءته رسالة من حيث لا يتوقع؛ فقد استطاع صديقه الوفي
مارسيل جروسمان أن يحصل له على وظيفة موظف عام في مكتب براءات الاختراع في بيرن. ومن
تلك الوظيفة المتواضعة، سيغير أينشتاين بعد ذلك العالم بأسره. (ومن أجل أن يبقي على
أحلامه التي بدأت تخبو بأن يصير أستاذًا للفيزياء أقنع ألفريد كلاينر
Alfred Kleiner الأستاذ بجامعة زيوريخ بأن يشرف على
أطروحته للدكتوراه خلال تلك الفترة.)
وفي الثالث والعشرين من يونيو/حزيران عام ١٩٠٢ بدأ أينشتاين عمله في مكتب براءات
الاختراع كخبير فني من الدرجة الثالثة براتب زهيد للغاية. ولكن اتضح فيما بعد أنه كانت
لتلك الوظيفة ثلاث مزايا خفية مهمة؛ أولًا: فرضت عليه إيجاد المبادئ الفيزيائية البسيطة
التي تشكل أساس كل اختراع يعرض عليه، وقد ساعده هذا على صقل موهبته الطبيعية في
الفيزياء بالتغاضي عن التفاصيل غير الضرورية، وفصل المكونات الأساسية لكل اختراع، ثم
كتابة تقرير عنه، وكانت تقاريره تلك طويلة مسهبة في التفصيل والتحليل حتى إنه كان يقول
لأصدقائه إنه يشعر كالذي يجني قوت يومه بأن «يبول حبرًا»
٣٢ على حد قوله. ثانيًا: كان كثير من تطبيقات الاختراعات التي تعرض عليه تتعلق
بالأجهزة الكهروميكانيكية، ولهذا فإن خبرته الكبيرة التي جناها من مراقبة الحركة
الداخلية للمولدات والمحركات الكهربية في مصنع والده أفادته كثيرًا في عمله. وأخيرًا:
ساعدته هذه الوظيفة على البعد عن التشتيت، ومنحته الوقت الذي يحتاجه كي يفكر في المسائل
العميقة الخاصة بالضوء والحركة. كان عادة ينهي عمله بسرعة، ثم يقضي الساعات الباقية في
أحلام اليقظة التي لم تفارقه منذ صباه. وهكذا فقد أعاده عمله في هذا المكتب إلى عالم
الفيزياء مرة أخرى، وخاصة حينما كان يختلي بنفسه ليلًا. وكان جوه الهادئ يناسبه للغاية،
حتى إنه أطلق عليه اسم «ديره الدنيوي».
٣٣
ولم يكد أينشتاين يستقر في عمله الجديد، حتى بلغه أن أباه يحتضر من مرض القلب، فلم
يكن منه إلا أن رجع على الفور إلى ميلان في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام. وعندما
كان هرمان على فراش الموت، وافق أخيرًا على أن يتزوج ألبرت من ميليفا. ولما فارق
الحياة، أثار موته في نفس ألبرت شعورًا طاغيًا بأنه قد خذل أباه وعائلته كلها، وهو
الشعور الذي لازمه بعد ذلك بقية حياته. كتبت سكرتيرته هيلين دوكاس
Helen
Dukas عن هذا قائلة: «حتى بعد مرور سنين طويلة، ظل يتذكر الألم
الذي سببته خسارته لأبيه، بل إنه كتب ذات مرة قائلًا إن موت أبيه كان أقسى صدمة تعرض
لها في حياته.»
٣٤ وكذلك كتبت أخته مايا قائلة بحسرة: «للأسف لم يمهله
القدر (تقصد والدها) كي يرى مقدمات نبوغ ابنه الذي
سيكون بعد ذلك مضرب الأمثال في العظمة والشهرة.»
٣٥
وفي يناير/كانون الثاني عام ١٩٠٣ استطاع أينشتاين أخيرًا أن يجمع شتات نفسه ويتزوج
من
ميليفا، وبعد عام واحد ولد ابنهما هانز. وهكذا وطن أينشتاين نفسه في حياته كموظف حكومي
بسيط في بيرن وزوج وأب. يروي صديقه ديفيد رايخنشتاين
David
Reichinstein ما رآه عندما زاره في بيته قائلًا: «كان باب الشقة
مفتوحًا كي يسمح للأرضية التي مسحت لتوها، وللثياب المغسولة المعلقة في الردهة، بأن
تجف. وحين دخلت غرفة أينشتاين، وجدته يهز بصبر مهد طفله بيد وباليد الأخرى يمسك كتابًا
مفتوحًا، وفي فمه سيجار من نوع في غاية الرداءة، ومن الموقد كان ينبعث دخان
كريه.»
٣٦
نشر أينشتاين إعلانًا في الصحيفة المحلية عارضًا «دروسًا خاصة في الرياضيات
والفيزياء»
٣٧ لمن يرغب، في محاولة لزيادة دخله. كانت هذه أول مرة يذكر فيها اسم أينشتاين
في الصحف، وكان أول من استجاب لإعلانه هذا طالب فلسفة يهودي روماني يدعى موريس سولوفين
Maurice Solovine، وكان أينشتاين في قمة سعادته
بهذا الطالب لأنه وجده يصلح لاختبار وقع أفكاره العديدة عن المكان والزمان والضوء على
الآخرين ومدى منطقيتها في نظرهم. ولكي يجنب نفسه الانعزال عن الاتجاهات العلمية السائدة
في الفيزياء، كوّن أينشتاين حلقة دراسية غير رسمية سماها متهكمًا «الأكاديمية
الأولمبية»، بهدف مناقشة القضايا البارزة على الساحة.
وكان أينشتاين كلما استرجع ذكريات الأيام التي قضاها مع هذه المجموعة رآها أسعد أيام
حياته، حتى إن عينيه، حتى بعد مرور عشرات السنين، كانتا تدمعان عندما يتذكر كيف كانوا
يخرجون بآراء جريئة وقوية في كل المسائل الفيزيائية التي يتناولونها والتي كانت تشغل
الفيزيائيين في ذلك الوقت. وكانوا يتنقلون بمناقشاتهم المحمومة بين جميع مقاهي زيوريخ
وحاناتها، وبدا لهم كل شيء ممكنًا. وكانوا يؤكدون بإعزاز قائلين إن «كلام الفيلسوف
أبيقور
Epicurus ينطبق على حالنا: «إن الفقر لشيء جميل
وممتع».»
٣٨
وكان أكثر ما يتناولونه أعمال إرنست ماخ Ernst Mach
المثيرة للجدل، وكان فيزيائيًّا وفيلسوفًا من فيينا، شديد الرفض والمعارضة لأي أفكار
فيزيائية لا تستطيع الحواس إدراكها. دوّن ماخ نظرياته في كتاب مهم سماه
The Science of Mechanics (بمعنى «علم
الميكانيكا»)، ورفض فيه فكرة وجود الذرة، معللًا هذا بعدم إمكانية قياسها. إلا أن أكثر
ما أثار انتباه أينشتاين في أعمال ماخ هو نقده اللاذع لمفهومي الأثير والحركة المطلقة؛
فقد اعتبر ماخ قوانين نيوتن الشهيرة غير قائمة على أساس حقيقي، لأن مفهومي الزمان
والمكان المطلقين لا يمكن قياسهما. وكان يعتقد أن الحركة النسبية تختلف عن الحركة
المطلقة، فالأولى قابلة للقياس، أما الثانية فلا. ولم يحدث أن اكتشف أحد المعيار المطلق
الغامض الذي يمكن أن يحدد حركة الكواكب والنجوم، وليس هناك دليل مادي تجريبي ولو كان
ضعيفًا على وجود الأثير.
في عام ١٨٨٧ كانت قد أجريت سلسلة من التجارب التي أظهرت قصورًا خطيرًا في نظرية نيوتن
على يد ألبرت مايكلسون Albert Michelson وإدوارد مورلي
Edward Morely بهدف محاولة وضع أفضل مقياس ممكن
لتحديد خصائص الأثير غير المرئي. ومن خلال هذه التجارب توصل هذان العالمان إلى أن الأرض
تسبح في بحر الأثير، محدثة «رياحًا أثيرية»، ومن ثم فإن سرعة الضوء يفترض أن تتغير،
وفقًا للاتجاه الذي تتخذه الأرض.
تخيل مثلًا أنك تعدو مع الريح. إذا كنت تجري في اتجاهها، فسوف تشعر أن هناك من يدفعك
أثناء عدوك، بل إن سرعة الرياح ستزيد من سرعتك. أما إذا كنت تجري في عكس اتجاهها،
فستكون سرعتك بطيئة؛ لأن سرعتها في هذه الحالة تحد من سرعتك. وبالمثل إذا جريت في اتجاه
عمودي على اتجاه الريح فسوف تجد نفسك مدفوعًا إلى الجنب ولكن بسرعة مختلفة. خلاصة القول
أن سرعتك تتغير وفقًا للاتجاه الذي تجري فيه بالنسبة إلى الريح.
صمم مايكلسون ومورلي تجربة بارعة نجحا من خلالها في أن يقسما شعاع الضوء إلى شعاعين
منفصلين، يذهب كل منهما في اتجاه مختلف مكونًا مع الآخر زاوية قائمة. وفي مقابل
الشعاعين وضعت مرآتان تعكسان الشعاعين مرة أخرى إلى المصدر، ثم يختلطان ويتداخلان. وهذا
الجهاز بأكمله كان موضوعًا بعناية على سطح من الزئبق السائل، مما يسمح له بالالتفاف
بحرية، وكان من الرقة بحيث استطاع بسهولة التقاط حركة العربات التي تجرها الخيول وتمر
بالقرب منه. وطبقًا لنظرية الأثير، من المفترض أن ينتقل الشعاعان بسرعتين مختلفتين. على
سبيل المثال، أحدهما سوف يتحرك في اتجاه حركة الأرض في الأثير، وسيتحرك الآخر بانحراف
قدره ٩٠ درجة عن اتجاه الرياح الأثيرية، ولهذا فالمتوقع ألا تكون عودتهما إلى المصدر
متزامنة.
اندهش مايكلسون ومورلي كثيرًا عندما وجدا أن سرعة الضوء كانت واحدة بالنسبة لكل
الأشعة الضوئية، بصرف النظر عن الاتجاه الذي كان يشير إليه الجهاز. كان هذا اكتشافًا
غريبًا لأنه يعني أنه لا يوجد ما يسمى بالرياح الأثيرية على الإطلاق، وأن سرعة الضوء
لا
تتغير أبدًا، حتى لو دُوِّرَ الجهاز في جميع الاتجاهات.
جعلت هذه النتيجة الفيزيائيين في حيرة بين خيارين صعبين؛ الأول افتراض أن الأرض قد
تكون ثابتة تمامًا بالنسبة للأثير، وهو خيار يتعارض مع جميع ثوابت علم الفلك منذ أعمال
كوبرنيكوس الأولى، والذي رأى موقع الأرض في الكون عاديًّا ولا شيء مميز به. أما الخيار
الثاني فهو إسقاط نظرية الأثير من الأساس ومعها كل قوانين نيوتن.
بذل العلماء جهودًا كبيرة لإنقاذ نظرية الأثير، وكان أقربهم إلى حل تلك المعضلة
الفيزيائي الهولندي هندريك لورنتز Hendrik Lorentz
والفيزيائي الأيرلندي جورج فيتزجيرالد George
FitzGerald، اللذين استنتجا أن الأرض، أثناء حركتها خلال الأثير،
تنضغط فيزيائيًّا تحت تأثير الرياح الأثيرية، وهو ما يعني أن الأمتار في تجربة مايكلسون
ومورلي كانت تنكمش. كان هذا يعني أن الأثير، الذي يمتلك في الأساس خصائص عجيبة لكونه
غير مرئي، وغير قابل للضغط، وشديد الكثافة، وما إلى ذلك، صارت له خاصية أخرى؛ وهى أنه
قادر من الناحية الميكانيكية على ضغط الذرات بالمرور بينها. كان هذا كفيلًا بتفسير
النتيجة السلبية في التجربة. إن سرعة الضوء تتغير بالفعل، لكن لا يمكننا قياس هذه
السرعة لأننا كلما حاولنا هذا باستخدام مقياس متري وجدنا سرعة الضوء تتغير والمقياس
المتري ينكمش في اتجاه رياح الأثير بذات القدر بالضبط.
حسب لورنتز وفيتزجيرالد، كل على حدة، مقدار الانكماش، وخرجا بما نسميه اليوم ﺑ
«انكماش لورنتز-فيتزجيرالد» Lorentz-FitzGerald
Contraction، لكن أيًّا منهما لم يكن راضيًا عن هذه النتيجة؛ فلم
تكن إلا حلًّا سريعًا؛ طريقة لرتق الفجوة في ميكانيكا نيوتن، لكن كان هذا أفضل ما
استطاعا عمله. ولم ترضِ هذه النتائج فيزيائيين آخرين كثيرين؛ لأنها بدت كما لو كانت
مصممة لتستر عَوار نظرية الأثير. أما عن أينشتاين، فقد بدت له فكرة الأثير، بخصائصه
السحرية الرائعة، فكرة مصطنعة وملفقة. لقد هدم كوبرنيكوس منذ عهد بعيد فكرة أن الأرض
هي
مركز النظام الشمسي، وهي الفكرة التي وضعها بطليموس
Ptolemy، والتي افترضت أن الكواكب تسير في حركات
دائرية غاية في التعقيد سميت «أفلاك التدوير»
epicycles. باستخدام نظرية شفرة أوكام
Occam’s Razor، استنتج كوبرنيكوس أنه لو كانت أفلاك
بطليموس حقيقية، لمرت على الأرض عواصف ثلجية شديدة، ولأن هذا ليس صحيحًا، فالحقيقة أن
الشمس هي مركز النظام الشمسي.
ومثل كوبرنيكوس، سيستخدم أينشتاين نظرية شفرة أوكام لاستئصال جميع الادعاءات الفارغة
من نظرية الأثير، وسيفعل هذا باستخدام صورة لأطفال.