الفصل الثالث
النسبية الخاصة و«عام المعجزات»
أثارت انتقادات ماخ لنظرية نيوتن بالغ اهتمام أينشتاين ودفعته لأن يعود لتخيل نفسه
يعدو بجانب شعاع الضوء، وهي الصورة التي لم تفارق خياله منذ كان في السادسة عشرة، وتذكر
الاستنتاج الذي خرج به من نظرية ماكسويل — وقت أن كان في معهد بوليتكنيك — وهو أن سرعة
الضوء ثابتة مهما كانت طريقة قياسك لها، وظل أينشتاين لسنين يفكر في كيفية حدوث هذا،
وهو ما يتعارض مع نظرية نيوتن التي تنص على القدرة المطلقة على اللحاق بالأجسام
المسرعة.
لنعد مرة أخرى لمثال الشرطي الذي يلاحق سيارة مسرعة؛ إذا قاد الشرطي سيارته بالسرعة
الكافية فسوف يلحق بالسيارة الأخرى، وهو أمر يعرفه كل من نال مخالفة مرورية بسبب
السرعة، لكن إذا استبدلنا شعاع الضوء بالسيارة المسرعة فسوف يلاحظ الرائي أن سيارة
الشرطي تنطلق خلف شعاع الضوء مباشرة وتكاد تساويه في السرعة، وهو ما نتوقع أن يلاحظه
الشرطي أيضًا، لكن الواقع أننا لو سألنا الشرطي بعدها لقال إن شعاع الضوء فاقه في
السرعة، وإنه كلما زاد من سرعته زادت سرعة شعاع الضوء بنفس المقدار بالضبط، بل إنه
سيقسم أنه لم يستطع الاقتراب ولو خطوة واحدة إضافية من الشعاع كما لو كان جالسًا في
مكان ثابت لا في سيارة شرطة مسرعة.
وإذا أصررت أنك رأيته على بعد خطوة من شعاع الضوء حتى كاد أن يلحق به لاتهمك بالجنون
وأصر أنه لم يستطع الاقتراب منه، كان هذا هو اللغز المحير الذي أرق أينشتاين طويلًا؛
«فكيف يمكن أن يرى» شخصان نفس الحدث بصورتين مختلفتين؟ وإذا كانت سرعة الضوء ثابتة
طبيعيًّا فكيف يمكن أن تتباين في أعين شخصين مختلفين؟
أدرك أينشتاين أن نظرية نيوتن (التي بها يمكن جمع السرعات وطرحها)، ونظرية ماكسويل
(التي بها تكون سرعة الضوء ثابتة لا تتغير) متعارضتان أشد ما يكون التعارض، وأن نظرية
نيوتن ما هي إلا نظام قائم على عدة فرضيات؛ فإذا تغيرت واحدة من تلك الفرضيات انسلت
وراءها النظرية بأسرها كما تَنسل كنزة صوفية كاملة بانسلال خيط واحد، وكان ذلك الخيط
هو
تخيل أينشتاين لنفسه يتسابق مع شعاع الضوء.
وفي أحد أيام شهر مايو/أيار من عام ١٩٠٥ زار أينشتاين صديقه العزيز ميكيلي بيسو،
الذي
كان هو الآخر يعمل في مكتب براءات الاختراع، وعرض عليه أبعاد ذلك اللغز الذي حيره لنحو
عشر سنين؛ فقوانين نيوتن للحركة ومعادلات ماكسويل اللتان تشكلان معًا أساس الفيزياء لا
تتسقان، ولا بد أن إحداهما صحيحة والأخرى خاطئة، وتحديد هذا سيترتب عليه إعادة النظر
في
علم الفيزياء ككل، ثم أخذ يستفيض في شرح التناقض الكامن في مسألة التسابق مع شعاع
الضوء، وقد قال أينشتاين بعدها: «إن بذرة النظرية النسبية الخاصة كانت مغروسة في هذا
التناقض.»
١ أخذ الاثنان يتناقشان لساعات طويلة في جميع أبعاد المسألة وبالأخص مفهوم
نيوتن للزمان والمكان المطلقين الذي كان يتضارب مع مبدأ ماكسويل لثبات سرعة الضوء، إلى
أن استسلم أينشتاين في النهاية بعد أن نال منه الإرهاق وأعلن هزيمته وطرح هذه المسألة
من ذهنه.
ومع ما اعتراه من إحباط فقد ظل عقله في تلك الليلة يضطرب بما فيه من أفكار أثناء
عودته إلى المنزل، وتذكر حين كان يركب الترام في بيرن وينظر إلى برج الساعة الشهير الذي
يشرف على المدينة كلها، ثم فجأة دارت بخلده فكرة؛ حاول تخيل ما سيحدث إذا انطلق الترام
مبتعدًا عن البرج بسرعة الضوء، وأدرك أن عقارب ساعة البرج ستظهر له متوقفة لأن الضوء
لن
يلحق بالترام، في حين ستظل ساعته الشخصية داخل الترام على حركتها المنتظمة.
ثم كان أن ظهر أمامه فجأة حل المسألة كلها، وهو ما نُقِلَ عنه بعد ذلك: «كان الأمر
كعاصفة اجتاحت عقلي.»
٢ لقد كان الحل في منتهى البساطة والروعة ويتمثل في أن الزمن يجري بمعدلات
مختلفة في أماكن مختلفة من الكون وفقًا للسرعة التي نتحرك بها، ولفهم هذا قد نتخيل
عددًا من الساعات في أماكن متفرقة من الفضاء، كل منها تشير إلى وقت مختلف وكل منها تدق
بمعدل مختلف؛ إذن فالثانية على الأرض ليست بطول الثانية على القمر أو على كوكب المشتري،
بل الواقع أننا كلما تحركنا بسرعة قلت سرعة الزمن. (ذات مرة قال أينشتاين مازحًا إنه
في
النظرية النسبية استطاع أن يضع ساعة في كل نقطة في الكون كل منها تدق بمعدل مختلف، لكنه
في الحياة الواقعية لم يكن يملك المال لشراء ساعة واحدة.) معنى هذا الاستنتاج أن
الأحداث التي تتزامن في إطار ما قد لا تتزامن بالضرورة في إطار آخر كما ظن نيوتن. روى
أينشتاين بعد ذلك أنه شعر بالمعضلة تنحل أمامه بكل بساطة وقال عن هذا: «لقد تراءت لي
فجأة فكرة تقول إن المفاهيم والقوانين التي نعتقد أنها تحكم الزمان والمكان لا تكون
حقيقية إلا بقدر ارتباطها بخبراتنا … ولقد استطعت عن طريق النظر إلى مفهوم التزامن
بنظرة أكثر مرونة أن أصل إلى النظرية النسبية.»
٣
ولتوضيح هذا دعنا نتذكر التناقض في مثال السيارة المسرعة حيث يكاد الشرطي يحاذي
بسيارته شعاع الضوء المسرع، لكنه يرى الشعاع يتباعد عنه بنفس مقدار سرعة سيارته مهما
زادت. الطريقة الوحيدة للتوفيق بين هاتين الصورتين تكون بإبطاء مخ الشرطي، وهو ما يعني
أن الزمن يبطئ لدى الشرطي، وإذا تسنى لنا النظر إلى ساعة الشرطي من جانب الطريق
لوجدناها متوقفة تقريبًا ولوجدنا تعبيرات وجهه متجمدة في الزمن، أي أننا من مكاننا
رأيناه يكاد يحاذي شعاع الضوء لكن ساعته ومخه كانا شبه متوقفين، والسبب في أن الشرطي
اعتقد أن شعاع الضوء يسبقه هو أن ساعته ومخه كانا يتحركان بسرعة أقل بكثير من سرعة
الشعاع.
ولإكمال هذه النظرية دمج أينشتاين فيها مبدأ لورنتز-فيتزجيرالد للانكماش، عدا أنه
ذكر
أن المكان هو ما ينكمش لا الذرات كما اعتقد لورنتز وفيتزجيرالد (اليوم يعرف التأثير
المجمع لانكماش المكان وتمدد الزمان ﺑ «تحول لورنتز»
Lorentz
transformation) وكان اكتشافه هذا كفيلًا بإسقاط نظرية الأثير من
الأساس، فيما بعد قال أينشتاين موضحًا السبب وراء اهتدائه إلى طريق النظرية النسبية:
«إنني أدين لماكسويل بهذا أكثر من أي أحد آخر.»
٤ والواضح أنه مع معرفته القليلة بتجربة مايكلسون-مورلي فإن الإلهام بالنسبية
جاءه من معادلات ماكسويل.
وفي اليوم التالي لهذا الاكتشاف رجع إلى منزل بيسو ودون أن يلقي عليه السلام بادره
قائلًا: «أشكرك، لقد حللت المعضلة كلها.»
٥ وكان أينشتاين دائمًا يتذكر ذلك الاكتشاف بفخر ويقول عنه: «كان الحل يكمن
في تحليل مفهوم الزمن، فالواقع أن الزمن لا يمكن تعريفه تعريفًا مطلقًا، وأن هناك علاقة
تلازم بين الزمن وسرعة الحمل.» ثم كان منه أن عكف طوال الأسابيع الستة التي تلت هذا على
العمل بحماس شديد على التفصيلات الرياضية الخاصة بهذا الاكتشاف الفذ، إلى أن خرج ببحث
يعتبره البعض أهم بحث علمي في التاريخ، ويذكر ابنه أنه بعد أن انتهى من هذا أوى إلى
فراشه وظل راقدًا فيه لأسبوعين بعد أن أعطى البحث لميليفا لمراجعته والبحث عن
أي أخطاء رياضية به، وخرجت الصورة النهائية للبحث
بعنوان «إلكتروديناميكيات الأجسام المتحركة»
On the Electrodynamics of
Moving Bodies ومع أنه كُتِب بخط غير متناسق في إحدى وثلاثين صفحة
فإنه كان مسئولًا عن تغيير تاريخ العالم.
في هذا البحث لم يشر أينشتاين إلى أي فيزيائيين سابقين، بل أشار فقط إلى ميكيلي بيسو
ونسب إليه الفضل في الاكتشاف (كان أينشتاين على معرفة بأعمال لورنتز الأولى في هذا
الموضوع، لكنه لم يعلم شيئًا عن نظرية لورنتز للانكماش وهي النظرية التي اكتشفها وحده.)
وأخيرًا نشر البحث في العدد السابع عشر من الحولية الفيزيائية
Annalen
der Physik في سبتمبر/أيلول من عام ١٩٠٥، والجدير بالذكر أن
أينشتاين نشر ثلاثة من أبحاثه الرائدة في ذات العدد الشهير. كتب زميله ماكس بورن
Max Born عن العدد السابع عشر من الحولية
الفيزيائية يقول: «إنه واحد من أبرز الإصدارات في تاريخ المؤلفات العلمية؛ فقد كان
يحتوي على ثلاثة أبحاث لأينشتاين كل منها يتناول موضوعًا مختلفًا، وعُدَّ كل منها عملًا
فذًا.»
٦ (بيعت نسخ من هذا العدد الشهير في أحد مزادات نيويورك عام ١٩٩٤ بخمسة عشر
ألف دولار.)
استهل أينشتاين بحثه بعرض حقائق مذهلة وذكر أن نظرياته لا تنطبق على الضوء فقط بل
على
الكون بأكمله، ووضح أنه استقى هذه النظريات من حقيقتين بسيطتين تنطبقان على أطر ثابتة
(وهي العلاقات بين الأجسام التي تتحرك بسرعة ثابتة) وهاتان الحقيقتان هما:
ولقد صار هذان المبدآن اللذان يظن فيهما البساطة هما المحددان الرئيسيان لكل النظريات
المتعلقة بطبيعة الكون منذ أعمال نيوتن، ومن خلالهما يستطيع المرء تكوين صورة جديدة عن
الزمان والمكان.
في البداية أثبت أينشتاين بعبقرية أنه إذا كانت سرعة الضوء هي بالفعل ثابت طبيعي فإن
نظرية تحول لورنتز هي النظرية الأكثر قبولًا، ثم بين بعد ذلك أن معادلات ماكسويل تتوافق
مع هذه النظرية، وأخيرًا أظهر أن السرعات تتزايد في نمط فريد، فعلى خلاف نيوتن الذي
استنتج من حركة السفن المسرعة أنه لا حدود للسرعة، استنتج أينشتاين أن سرعة الضوء هي
أقصى سرعة في الكون، وللتوضيح تخيل نفسك في قلب صاروخ ينطلق من الأرض بسرعة تبلغ ٩٠٪
من
سرعة الضوء، ثم تخيل أنك أطلقت رصاصة في داخل الصاروخ أيضًا بسرعة تبلغ ٩٠٪ من سرعة
الضوء، طبقًا لنظرية نيوتن سوف تبلغ نسبة سرعة الرصاصة ١٨٠٪ من سرعة الضوء أي أنها
ستتجاوزها، لكن أينشتاين وضح أن المقاييس سوف تقصر في هذه الحالة وسيبطؤ الزمن مما يجعل
نسبة مجموع السرعتين نحو ٩٩٪ من سرعة الضوء، وأكد أنه مهما حاول المرء فلن يستطيع أبدًا
أن يخرق حد سرعة الضوء لأنها السرعة المطلقة في الكون.
إننا لا نلاحظ هذه الحقائق الغريبة في حياتنا اليومية لأننا لا نتحرك بسرعة الضوء
أو
حتى بسرعة قريبة منها، ولهذا فإن قوانين نيوتن تنطبق على السرعات التي نتحرك بها كل
يوم، ولأجل هذا لم يستطع أحد لمائتي عام كاملة أن يصحح قوانين نيوتن. لكن إذا تخيلنا
أن
سرعة الضوء تبلغ ٢٠ ميلًا في الساعة، فإننا سنجد السيارة المندفعة في الطريق تنضغط في
اتجاه الحركة، إذا حاولت اجتياز تلك السرعة، إلى أن يصل طولها لبوصة واحدة، في حين سيظل
ارتفاعها كما هو دون تغير، قد يظن البعض حينها أن عظام ركاب السيارة سوف تتحطم ويأخذون
في الصراخ مع انكماشها كآلة الأوكورديون، لكنهم في الواقع لن يشعروا بشيء لأن كل ما في
السيارة بما في هذا ذرات أجسامهم سينضغط كذلك.
ومع تباطؤ سرعة السيارة إلى أن تتوقف، سوف تأخذ في التمدد مجددًا من بوصة واحدة إلى
نحو ١٠ أقدام دون أن يشعر ركابها بشيء. السؤال هنا ما الذي انضغط بالضبط الركاب أم
السيارة؟ وفقًا للنظرية النسبية لا توجد إجابة عن هذا السؤال لأن مفهوم الطول ليس له
معنى مطلق.
وبمراجعة الأبحاث السابقة لأينشتاين يرى المرء أن هناك آخرين اقتربوا كثيرًا من
اكتشاف النسبية لكنهم لم يوفقوا، فمثلًا اكتشف لورنتز وفيتزجيرالد مفهوم الانكماش نفسه
لكنهما فهما النتائج التي خرجا بها فهمًا خاطئًا للغاية؛ فقد ظنا أن هذا الانكماش ما
هو
إلا تحول إلكتروميكانيكي شاذ للذرات لا تحول في الزمان والمكان. وكان من بين الذين
اقتربوا من هذا الكشف هنري بوانكاريه Henri Poincaré
الذي يعد أعظم رياضيي عصره، فقد أدرك أن سرعة الضوء لا تتغير في جميع الأطر الثابتة،
بل
ذكر أيضًا أن معادلات ماكسويل تتوافق مع تحول لورنتز، لكنه مع هذا رفض هو الآخر أن يهجر
نظرية الأثير التي وضعها نيوتن وظن أن الظواهر الغريبة المتعلقة به ليست إلا ظواهر
كهربية ومغناطيسية.
لم يتوقف أينشتاين عند هذا بل قفز قفزة مهمة بأن كتب في أواخر عام ١٩٠٥ بحثًا قصيرًا،
هو إلى أقرب في طوله إلى الحاشية، لكنه كان أيضًا سببًا في تغيير تاريخ العالم؛ جاء في
هذا البحث أنه إذا كانت عقارب الساعة ومقاييس الأطوال تضطرب كلما زادت السرعة، فهذا
يعني كذلك أن كل شيء يقاس بمقاييس الأطوال وبحركة عقارب الساعة يتغير بما في ذلك الطاقة
والمادة، بل إن كلًّا منهما قد يتحول إلى صورة الآخر، ومثال على هذا أظهر أينشتاين أن
كتلة الجسم تزيد كلما زادت سرعته (الواقع أن كتلة الجسم ستصير، نظريًّا، غير محدودة إذا
ما وصلت سرعته إلى سرعة الضوء، ولأنه من المعروف استحالة هذا من الناحية العملية فهذا
يثبت أنه لا يمكن لأي جسم أن يتحرك بسرعة الضوء.) وهذا يعني أن طاقة الحركة تُحَوّل
بطريقة ما إلى زيادة في كتلة الجسم، أي أن الطاقة والمادة قابلان لأن يتحول أحدهما إلى
الآخر، وإذا حسبنا كمية الطاقة التي تتحول إلى كتلة حسابًا دقيقًا فسنصل إلى المعادلة
الأشهر في التاريخ وهي أن الطاقة تساوي حاصل ضرب الكتلة في سرعة الضوء، ط = ك
س٢ E =
mc2. وإذا كانت سرعة
الضوء فائقة وتربيعها بالتالي ضخم فهذا يعني أن مقدارًا قليلًا من المادة كاف لإطلاق
طاقة هائلة؛ فمثلًا مقدار ملاعق صغيرة من المادة قد يتحول إلى عدد من القنابل
الهيدروجينية، ومقدار من المادة بحجم بيت قادر على شطر كوكب الأرض إلى نصفين.
لم تكن نظرية أينشتاين بحثًا أكاديميًّا فقط؛ حيث أيقن هو أنها قد تفسر الحقيقة
العجيبة التي اكتشفتها ماري كوري من أن أوقية واحدة من الراديوم قادرة على أن تشع نحو
٤٠٠٠ سعر حراري في الساعة، وهو ما يبدو مناقضًا لأول قوانين الديناميكا الحرارية الذي
ينص على أن الكمية الكلية للطاقة ثابتة ولا تفنى. واستنتج أينشتاين أنه لا بد أن تقل
كتلة الراديوم بمقدار طفيف وهي تشع تلك الطاقة (وهذا المقدار من الصغر بحيث لم تكن
الأدوات المستخدمة عام ١٩٠٥ قادرة على اكتشافه.) كتب أينشتاين يقول: «كانت تلك الفكرة
ممتعة وجذابة، لكنني لم أكن أعرف هل هي بالفعل صحيحة أم أن الرب يضحك منها ويدفعني لأن
أتوغل في طريق الضلال.»
٧ لأنه كان يعلم أنه لا سبيل متاح في زمنه للتحقق من افتراضاته تلك أو كما
قال: «إن التثبت من هذه النظرية هو على الأرجح يتجاوز حدود العلم المعاصر.»
٨
وصار أينشتاين يسأل لماذا لم يلحظ أحد هذه الطاقة غير المستغلة من قبل؟ ويقارن هذا
بموقف رجل شديد الثراء يكتم ثراءه بألا ينفق قرشًا من أمواله.
كتب بانيش هوفمان
Banesh Hoffman أحد تلاميذ أينشتاين
يقول: «تخيلوا الجراءة التي تحلى بها ليقدم على مثل هذه الخطوة … لقد كان يقول إن كل
حفنة تراب، وكل ريشة، وكل ذرة غبار هي مصدر هائل لطاقة غير مستغلة، ولم يكن هناك في ذلك
الوقت سبيل لإثبات هذا، لكن أينشتاين عام ١٩٠٧ أعلن أن هذه النتيجة هي أهم النتائج التي
خرجت بها النظرية النسبية. لقد تجلت موهبته الفريدة في بعد الرؤية في أنه لم يتم التحقق
من معادلته … إلا بعد نحو ربع قرن.»
٩
ومرة أخرى كان مبدأ النسبية سببًا في حدوث مراجعات مهمة للنظريات الفيزيائية القديمة،
ففي السابق كان الفيزيائيون يؤمنون بمبدأ بقاء الطاقة الذي ينص على أن الكمية الكلية
للطاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، والآن صاروا يرون أن الكمية الكلية المجمعة من
المادة والطاقة هي التي تبقى.
غير أن عقل أينشتاين الذي لا يهدأ اصطدم بمسألة أخرى في ذات العام وهي التأثير
الكهروضوئي Photoelectric Effect؛ كان هاينريش هرتز
Heinrich Hertz قد لاحظ عام ١٨٨٧ أنه إذا ارتطم
شعاع ضوئي بمعدن فهو قادر على أن يخلق تيارًا كهربيًّا صغيرًا تحت ظروف معينة، وهذا
المبدأ هو الذي تعمل وفقه معظم الأجهزة الإلكترونية في العصر الحديث؛ فالخلايا الشمسية
في الآلات الحاسبة تحوّل أشعة الشمس العادية إلى طاقة كهربية تشغلها، وكاميرات التلفاز
تمتص أشعة الضوء من الجسم الذي يُصَوَّر وتحولها إلى تيارات كهربية تصل في النهاية إلى
شاشات أجهزة التلفاز في بيوتنا.
لكن حتى مطلع القرن العشرين ظل هذا الأمر لغزًا محيرًا؛ فبطريقة ما يُزيح شعاع الضوء
إلكترونات المعدن، لكن أحدًا لم يعرف كيف يحدث هذا؟ اعتقد نيوتن أن الضوء يتكون من
عناصر صغيرة أسماها «الجسيمات» Corpuscles، لكن بقية
الفيزيائيين كانوا يعتقدون أن الضوء موجة طاقتها مستقلة عن ترددها طبقًا للنظرية
الموجية التقليدية؛ فمثلًا مع أنه للضوءين الأحمر والأخضر ترددان مختلفان فإنه من
المفترض أن تكون طاقتهما واحدة، وهذا يعني أنه حين يصطدم كل منهما بقطعة من المعدن لا
بد أن تكون طاقة الإلكترونات المزاحة واحدة كذلك. وبالمثل، كما قالت النظرية الموجية
التقليدية، إذا زدنا من كثافة شعاع الضوء بزيادة عدد المصابيح فسوف تزيد طاقة
الإلكترونات المزاحة، إلا أن تجارب فيليب لينارد Philipp
Lenard أظهرت أن طاقة الإلكترونات المزاحة تتوقف على التردد أو على
لون شعاع الضوء لا على الكثافة وهو ما يناقض النظرية الموجية.
حاول أينشتاين أن يفسر التأثير الكهروضوئي عن طريق «نظرية الكم»، التي كانت قد اكتشفت
لتوها عام ١٩٠٠ على يد ماكس بلانك، كان بلانك قد قام بواحدة من أكبر الثورات على
الفيزياء التقليدية بافتراضه أن الطاقة ليست كمًّا سلسًا كالسوائل، بل توجد في حزم
محددة منفصلة يسمى كل منها «كوانتم» Quantum، وأن طاقة
كل كوانتم تتناسب مع تردده. مثل هذا الثابت النسبي ثابتًا طبيعيًّا جديدًا وسُمِّي
«ثابت بلانك» Planck’s Constant. والواقع أن مفهوم
الذرة والكوانتم هو مفهوم على قدر من الغرابة، وهذا لعدة أسباب، أحدها أن ثابت بلانك
عدد صغير جدًّا. استنتج أينشتاين أنه إذا كانت الطاقة تتوزع على حزم منفصلة فلا بد أن
الضوء كذلك يتوزع. (فيما بعد أطلق على وحدات أو جسيمات الضوء الكمية
Light Quanta اسم «الفوتون»، وكان من اصطك لها هذا
الاسم العالم الكيميائي جيلبرت لويس Gilbert Lewis عام
١٩٢٦.) واستنتج أينشتاين أنه إذا كانت طاقة الفوتون تتناسب مع تردده فإن طاقة
الإلكترونات المزاحة لا بد أن تتناسب مع ترددها كذلك على خلاف ما تقول به النظريات
الفيزيائية الكلاسيكية. (من الملاحظات الطريفة أنه في حلقات المسلسل التليفزيوني الشهير
«ستار تريك» Star Trek نرى طاقم السفينة الفضائية
الإنتربرايز يطلقون «طوربيدات فوتونية» على الأعداء، أما في الواقع فإننا نعرف أن أبسط
أنواع الطوربيدات الفوتونية هي المصابيح اليدوية.)
خرجت فكرة أينشتاين الجديدة التي هي نظرية كم خاصة بالضوء بافتراض مباشر يمكن التحقق
منه بالتجربة؛ فعن طريق زيادة تردد شعاع الضوء نستطيع قياس الارتفاع السلس الذي يحدث
في
شدة التيار الكهربي في المعدن، نشر هذا البحث التاريخي (الذي سيفوز عنه بجائزة نوبل في
الفيزياء بعد ذلك) في التاسع من يونيو/حزيران عام ١٩٠٥ بعنوان «نظرة استكشافية على
إنتاج وتحول الضوء» On a Heuristic Point of View Concerning the
Production and Transformation of Light، في هذا البحث ولد الفوتون
وولدت معه نظرية الكم الخاصة بالضوء.
وفي مقال آخر ألفه في ذات «عام المعجزات» ١٩٠٥ تعرض أينشتاين لمسألة أخرى وهي مسألة
الذرة؛ فمع أن النظرية الذرية نجحت لحد بعيد في تحديد خصائص الغازات والتفاعلات
الكيميائية فإنه لم يكن هناك أي دليل مباشر على وجود الذرة كما ظل ماخ ومعه كثيرون
يرددون على الدوام. أدرك أينشتاين أننا قد نستطيع إثبات وجود الذرة بملاحظة أثرها على
جسيمات صغيرة في سائل كما في «الحركة البراونية» Brownian
motion التي سميت باسم عالم النبات روبرت براون
Robert Brown والتي يقصد بها الحركات المحدودة
والعشوائية للجسيمات الصغيرة الموجودة في سائل ما، وكان براون قد اكتشف هذه الحركة من
ملاحظة حبوب لقاح دقيقة تحت مجهر فرآها تقوم بحركات غريبة وعشوائية، في البداية ظن
براون أن هذه الحركات المتعرجة تتماثل مع حركات الخلايا النطفية، لكنه وجد جسيمات
الزجاج والجرانيت تسلك ذات المسلك.
خمن البعض أن الحركة البراونية مردها إلى التصادم العشوائي للجزيئات، لكن لم يستطع
أحد أن يصوغ نظرية منطقية لهذه الفكرة. أما أينشتاين فقد اتخذ خطوة حاسمة واستنتج أنه
مع كون الذرات أصغر من أن تلاحظ فإننا نستطيع تقدير حجمها والتعرف على سلوكها عن طريق
حساب تصادمها الجماعي مع الأجسام الكبيرة. وإذا صحت النظرية الذرية فلا بد أن تكون
قادرة على حساب الأبعاد الفيزيائية للذرة عن طريق تحليل الحركة البراونية. وبافتراض أن
الاصطدام العشوائي لتريليونات تريليونات جزيئات الماء يسبب حركة عشوائية لجسيمات التراب
استطاع أينشتاين أن يحسب حجم الذرة ووزنها، وبذلك قدّم دليلًا دامغًا على
وجودها.
كان أقل ما يمكن أن يقال عن هذا الكشف إنه مذهل؛ فقد استطاع أينشتاين بمجرد النظر
خلال مجهر بسيط أن يقدر احتواء جرام واحد من الهيدروجين على ٣٫٠٣ ×
١٠٢٣ من الذرات وهذا رقم قريب للقيمة الحقيقية، نشر
البحث بعنوان «حركة الجسيمات الصغيرة في السوائل الساكنة من خلال النظرية الحرارية
لحركة الجزيئات» On the Movement of Small Particles Suspended in
Stationary Liquids Required by the Molecular-Kinetic Theory of
Heat في ١٨ يوليو/تموز، وقدمت هذه الدراسة الموجزة أول دليل تجريبي
على وجود الذرة. (ومن المفارقات أنه في العام الذي تلا حساب أينشتاين لوزن الذرة انتحر
الفيزيائي لودفيج بولتزمان Ludwig Boltzmann الذي مهد
الطريق للنظرية الذرية وكان من أسباب انتحاره ما لقيه من سخرية عندما حاول تطوير
نظريته.) وبعد أن نشر أينشتاين أبحاثه الأربعة التاريخية قدم نسخة أولية من أطروحته
للدكتوراه لألفريد كلاينر الأستاذ المشرف عليه تتناول موضوع حجم الجزيء، وفي تلك الليلة
ظل هو وميليفا يشربان ويسكران طوال الليل.
رُفِضت أطروحته في البداية، لكن في ١٥ يناير/كانون الثاني مُنح درجة الدكتوراه من
جامعة زيوريخ وصار قادرًا على أن يسمي نفسه د. أينشتاين. لقد كان مولد علم الفيزياء
الحديث في بيت أينشتاين رقم ٤٩ بشارع كرامجاسى في بيرن (اليوم يسمى هذا المكان «بيت
أينشتاين» والناظر من خلال نافذته بديعة التصميم التي تقابل الشارع يرى لافتة تقول: خلف
هذه النافذة ولدت النظرية النسبية، وعلى الجدار الآخر يرى صورة للقنبلة الذرية.)
لكل هذه الوقائع التي حدثت به كان عام ١٩٠٥ بحق عام المعجزات في تاريخ العلم، ولا
يقارن به إلا عام ١٦٦٦ الذي اكتشف فيه إسحق نيوتن، وهو ابن ثلاثة وعشرين عامًا، القانون
الكوني للجاذبية، وحسابات التفاضل والتكامل، ووضع نظريته للون.
اختتم أينشتاين عام ١٩٠٥ بوضع نظرية الفوتون، وتقديم الدليل على وجود الذرة، وإسقاط
الأطر العامة لنظريات نيوتن، وهي إنجازات يستأهل كل منها احتفاءً عالميًّا، لكنه أصيب
بالإحباط للتجاهل والصمت اللذين قوبلت بهما أعماله، فما كان منه بعد أن فترت عزيمته إلا
أن أولى اهتمامه لحياته الشخصية بتربية ابنه والكد في عمله بمكتب براءات الاختراع،
معتقدًا أنه كان واهمًا حين ظن في نفسه القدرة على أن يصير رائدًا للفيزياء في العصر
الحديث.
لكنه في مطلع عام ١٩٠٦ تلقى أول تجاوب مع إنجازاته في شكل رسالة من العالم الذي قد
يعتبر أهم فيزيائيي عصره وهو ماكس بلانك، والذي أدرك على الفور النتائج المتطرفة التي
تنطوي عليها دراسات أينشتاين، وكان ما جذب انتباه بلانك للنظرية النسبية هو أنها قدمت
الكم — وهو في هذه النظرية سرعة الضوء — على أنه ثابت أساسي في الطبيعة، كان ثابت بلانك
قد رسم الحدود بين العالم الذي نعرفه وعالم الكوانتم الذي هو دون الذرة، ولأن هذا
الثابت على قدر كبير من الصغر فإننا بمنأى عن الخصائص الغريبة للذرة. ثم جاءت دراسات
أينشتاين وأحس بلانك عند اطلاعه عليها أنها بالمثل تعامل سرعة الضوء على أنها ثابت
طبيعي، مع أننا بمنأى أيضًا عن عالم الفيزياء الكونية الغريب بسبب سرعة الضوء
الهائلة.
فكر بلانك أن هذين الثابتين — ثابته وثابت سرعة الضوء — قد هدما الحدود السابقة
للمعقول وهدما معها نظريات نيوتن. إننا غير قادرين على أن نشهد الطبيعة الغريبة للحقائق
الفيزيائية بسبب صغر ثابت بلانك وكبر سرعة الضوء، وإذا كانت النسبية تتجاوز حدود
المعقول فهذا لأننا نعيش في ركن ضيق معزول من أركان الكون حيث السرعات بطيئة بالمقارنة
بسرعة الضوء، والأجسام كبيرة إلى درجة لا تمكننا من رؤية ثابت بلانك، غير أن الطبيعة
لا
تتوقف عند حدود المعقول بل تتجاوزه إلى خلق عالم يقوم على الجزيئات دون الذرية التي
تتحرك بسرعة تقترب من سرعة الضوء وتتوافق مع نظرية بلانك.
وفي صيف عام ١٩٠٦ بعث بلانك بمساعده ماكس فون لاوي Max von
Laue لمقابلة ذلك الموظف الحكومي الغامض الذي برز من العدم ليناقض
قوانين نيوتن، كان لقاؤهما محددًا في حجرة الانتظار بمكتب براءات الاختراع، لكن
المفارقة أن كلًّا منهما مر أمام الآخر دون أن يعرفه، ففون لاوي توقع شخصًا مهيبًا يطل
الحزم من قسمات وجهه، لكنه اندهش حينما قدم له أينشتاين نفسه، فلم يجد إلا موظفًا
حكوميًّا شابًّا يرتدي ملابس العامة، لكنهما صارا بعد هذا اللقاء صديقين عزيزين (حدث
أثناء هذا اللقاء أن قدم أينشتاين لفون لاوي سيجارًا لكن الأخير كان يعرف السيجار
الرديء حين يراه فما كان منه إلا أن غافل أينشتاين وألقاه في نهر آر وهما يعبران الجسر
الممتد فوقه.)
وبعد أن نالت أعمال أينشتاين مباركة ماكس بلانك بدأت شيئًا فشيئًا تجذب انتباه
فيزيائيين آخرين، وكان من بينهم أحد أساتذة أينشتاين القدامى في معهد بوليتكنيك وهو
العالم الرياضي هرمان مينكوفسكي، وهو نفسه الذي لقبه قبل ذلك ﺑ «الكلب الكسول» حينما
كان يتغيب عن محاضراته. اهتم أستاذ الرياضيات بأعمال تلميذه السابق بل طوّّر معادلات
النظرية النسبية محاولًا إعادة صياغة ما قاله أينشتاين من أن الزمان والمكان يمكن أن
يتحول كل منهما إلى الآخر بزيادة السرعة، صاغ مينكوفسكي هذا الكلام بلغة رياضية وخلص
إلى أن الزمان والمكان يشكلان معًا وحدة رباعية البعد، وكان من نتائج هذا الاستنتاج أن
أصبح الجميع يتحدث عن البعد الرابع.
لتوضيح هذا دعنا نتأمل أي خريطة وسنجد بها إحداثيين، هما الطول والعرض، مسئولين عن
تحديد أي نقطة عليها، إذا أضفنا إحداثيًا ثالثًا وهو الارتفاع فسنستطيع تحديد مكان أي
جسم في الفضاء يقع بين أرنبة أنفنا ونهاية الكون، وهذا يعني أن العالم الذي نراه حولنا
هو عالم ثلاثي الأبعاد، لكن بعض كتاب الخيال العلمي مثل إتش جي ويلز H.
G. Wells قالوا إنه يمكن اعتبار الزمن بعدًا رابعًا، وهو ما يعني
أنه يمكن تحديد مكان أي حدث يقع عن طريق تعيين إحداثياته ثلاثية البعد وزمن وقوعه،
ولهذا فإذا أردت أن تقابل شخصًا ما في نيويورك مثلًا فقد تقول له «قابلني في تقاطع
الشارع الثاني والأربعين مع الجادة الخامسة في الطابق العشرين وقت الظهر»، وهكذا فقد
حُدّد الموقع من خلال أربعة أرقام، لكن بعد ويلز الرابع لم يكن إلا فكرة فارغة من أي
مضمون رياضي أو فيزيائي.
لكن مينكوفسكي أعاد صياغة معادلات أينشتاين ليكشف عن ذلك الهيكل الجميل رباعي الأبعاد
الذي يجعل من الزمان والمكان نسيجًا واحدًا، وكتب يقول: «لقد آن لنا اليوم أن ننظر إلى
الزمان والمكان على أنهما وحدة واحدة لا كيانين منفصلين.»
١٠
لم يقتنع أينشتاين في البداية بهذا الكلام بل كتب ساخرًا منه: «إن المهم هو المحتوى
لا المعادلات الرياضية؛ فبالرياضيات يستطيع المرء أن يثبت أي شيء يريده.»
١١ كان أينشتاين يؤمن بأنه في جوهر النسبية توجد مبادئ الفيزياء الأساسية، لا
تلك الفكرة الرياضية رباعية البعد والتي هي، مع ما تحمله من جمال، غير ذات معنى، حتى
إنه كان يقول عن تلك الفكرة إنها «معرفة لا نفع منها»،
١٢ وكان يؤمن أن الأهم من هذا هو الوصول إلى صور بسيطة وواضحة، مثل تسارع
القطارات وهبوط المصاعد، وانطلاق الصواريخ، ثم تأتي الرياضيات في المرتبة الثانية من
حيث الأهمية، ولم يكتف بهذا بل قال كذلك إن الأمر لا يتطلب إلا حسابات بسيطة أشبه
بالحسابات التجارية لفهم الصور الفيزيائية.
واستمر أينشتاين في سخريته فكتب: «منذ أن بدأ الرياضيون يتناولون النظرية النسبية
لم
أعد أنا نفسي أفهمها.»
١٣ غير أنه بمرور الوقت بدأ يدرك أهمية أعمال مينكوفسكي ودلالاتها الفلسفية
العميقة، وكان ما أتى به مينكوفسكي هو توضيح إمكانية توحيد مفهومين يبدوان مختلفين
باستغلال قوة التماثل؛ فالزمان والمكان صارا الآن يصوران كحالتين مختلفتين لكيان واحد،
وبالمثل يمكن الربط بين المادة والطاقة، وبين الكهرباء والمغناطيسية عن طريق البعد
الرابع، وصار «التوحيد بالتماثل» من المبادئ المرشدة لأينشتاين لما بقي من
حياته.
لنفترض أن لدينا كتلة من الثلج، إذا أدرنا هذه الكتلة بمقدار ٦٠ درجة فسوف تظل كما
هي، ومن وجهة النظر الرياضية يسمى الكيان الذي يظل على صورته الأولى بعد أن يدار
«متغيرًا مشاركًا Covariant». وضح مينكوفسكي أن معادلات
أينشتاين ككتل الثلج تظل متغيرات مشاركة بينما يدار الزمان والمكان بصفتهما رباعيي
الأبعاد.
كان هذا إيذانًا بمولد مبدأ فيزيائي جديد ينص على أن «المعادلات الفيزيائية لا بد
أن
تكون متغيرات مشاركة لتحويلات لورنتز» أي أن تظل على صورتها الأولى بعد أي تحول، وهو
المبدأ الذي ساهم في تنقيح نظرية أينشتاين، ولقد أقر أينشتاين في وقت لاحق بأنه لولا
حسابات مينكوفسكي الرياضية لظلت النسبية «طفلة في مهدها».
١٤ أهم ما في الموضوع أن النظرية رباعية البعد أتاحت للفيزيائيين أن يختصروا
معادلات النسبية في صيغة مركزة، فمثلًا استطاعوا اختصار معادلات ماكسويل التفاضلية
الجزئية، التي يجد فيها كل مهندس كهربائي وكل طالب فيزياء مشقة عظيمة، من ثمان معادلات
إلى معادلتين فقط (الواقع أن المرء ليستطيع أن يبرهن، باستخدام النظرية رباعية البعد،
على أن معادلات ماكسويل هي الأبسط في وصف الضوء.) وللمرة الأولى صار الفيزيائيون ينظرون
باهتمام لقوة التماثل ويحسبون حسابها في معادلاتهم. وحينما يتحدث الفيزيائيون عن
«الجمال والأناقة» في الفيزياء فإنهم يعنون بذلك أن التماثل يسمح لهم بتوحيد عدد كبير
من الظواهر والمفاهيم المتنوعة في صيغة مركزة ومختصرة، «وكلما كانت المعادلة جميلة
انطوت على قدر أكبر من التماثل ومن الإيجاز في شرح أكبر عدد ممكن من الظواهر.»
أي أن قوة التماثل تتيح لنا توحيد أجزاء متفرقة وجمعها في كل متناغم ومتكامل،
وبالعودة إلى مثال تدوير كتلة الثلج الذي يسمح لنا برؤية الوحدة القائمة بين كل نقطة
من
نقاطها، نجد أن تدويرها في فضاء رباعي البعد يوحد مفهومي الزمان والمكان محولًا كلًا
منهما إلى الآخر بزيادة سرعة التدوير، وقد كان هذا المفهوم الجميل الأنيق هو ما ظل
المرشد لأينشتاين لخمسين سنة لاحقة.
لكن ما إن انتهى أينشتاين من النظرية النسبية الخاصة حتى بدأ يفقد اهتمامه بها مفضلًا
التأمل في مسألة أكثر عمقًا تتعلق بالجاذبية والتسارع، وهي المسألة التي لم تكن تقع ضمن
نطاق نظريته، كان أينشتاين كالأب العطوف الذي أنجب طفلًا ففرح به لكنه سرعان ما أدرك
ما
به من عيوب وحاول تصحيحها (والحديث سيطول عن هذا الموضوع فيما بعد).
وفي تلك الأثناء بدأت تظهر أدلة تجريبية تؤكد بعض أفكاره وترفع من مكانته بين مجتمع
المشتغلين بالفيزياء؛ فقد أعيد إجراء تجربة مايكلسون-مورلي أكثر من مرة، وفي كل مرة
كانت تخرج بذات النتيجة السلبية ملقية بظلال الشك على نظرية الأثير من أساسها، وفي
الوقت نفسه أكدت التجارب التي أجريت على التأثير الكهروضوئي صحة معادلات أينشتاين، ليس
هذا فحسب بل إن التجارب التي أجريت على الإلكترونات فائقة السرعة أثبتت أن ما قاله من
أن كتلة الإلكترون تزيد كلما زادت سرعته صحيح، وبزيادة الأدلة التي تعزز صحة نظريته وجد
أينشتاين في نفسه الجراءة كي يتقدم بطلب للعمل كمحاضر في جامعة بيرن القريبة من محل
إقامته، كانت هذه الوظيفة أقل مكانة من وظيفة أستاذ لكنها تسمح له بمواصلة عمله في مكتب
براءات الاختراع بجانبها، ومن بين الأبحاث المنشورة التي قدمها للجامعة لدى تقدمه لها
أطروحة النظرية النسبية، في بادئ الأمر رفض طلبه رئيس قسم الفيزياء آيم فوستر
Aime Foster الذي قال إن النظرية النسبية نظرية
تستعصي على الفهم، غير أنه تقدم مرة ثانية فقبل.
وعام ١٩٠٨، ومع تنامي اليقين لدى العلماء بأن أينشتاين قام بإنجازات مهمة وغير مسبوقة
في الفيزياء، بدأ القائمون على جامعة زيوريخ يفكرون جديًّا في منحه وظيفة أرفع مكانة،
لكنه كان في منافسة على هذه الوظيفة مع أحد معارفه القدامى وهو فريدريش أدلر؛ كان
كلاهما يهوديًّا وهو ما كان يعتبر وقتها من المعايب، لكن أدلر ملك نقطة تفوق وهو أنه
ابن مؤسس الحزب الاشتراكي النمساوي الذي يتعاطف معه كثير من أساتذة جامعة زيوريخ، ولهذا
فقد توقع الكثيرون أن يتم تخطي أينشتاين، لكن المفاجأة أن أدلر نفسه هو من دافع عن
أحقية أينشتاين في تقلد الوظيفة؛ فقد كان رجلًا حصيفًا واستطاع أن يقدر شخصية أينشتاين
حق قدرها كما كتب يقول عن قدراته المذهلة كفيزيائي: «لقد لقي أسوأ معاملة من أساتذته
…
ولم يكن يجيد التعامل مع ذوي الأهمية.»
١٥ وبسبب التضحية النادرة التي بذلها أدلر تقلد أينشتاين الوظيفة وما لبث أن
بدأ رحلة ارتقائه السلم الأكاديمي بسرعة خارقة. وهكذا عاد إلى زيوريخ لكنه عاد هذه
المرة أستاذًا جامعيًّا، لا فيزيائيًّا عاثر الحظ عاطلًا عن العمل، وسرعان ما وجد
مسكنًا في زيوريخ وفرح أشد الفرح حين وجد أدلر يسكن في الطابق الأسفل منه مباشرة ومن
وقتها صارا من أعز الأصدقاء.
وعام ١٩٠٩ ألقى أينشتاين محاضرته الأولى في أول مؤتمر فيزيائي كبير يحضره، وقد عُقد
في سالزبرج، كان من بين الحضور عدد كبير من العلماء المرموقين ومن ضمنهم ماكس بلانك.
وخلال المحاضرة التي كان عنوانها «تطوير رؤانا المتعلقة بطبيعة الإشعاع وقوانينه»
The Development of Our Views on the Nature and Constitution of
Radiation قدم إلى العالم معادلته الشهيرة ط = ك
س
٢ وأظهر شديد حماسه لها. صعق أينشتاين الذي اعتاد
الاقتصاد في طعامه من فخامة المؤتمر وبذخه حتى إنه بعدها بسنوات تذكره وقال عنه: «خُتم
المؤتمر في الفندق الوطني بوليمة عامرة لم أشهد مثلها في حياتي. وشجعني هذا على أن
أتحدث لواحد من نبلاء جنيف كان يجلس بجواري فقلت له: أتعرف ماذا كان كالفن
Calvin سيصنع لو كان معنا؟… كان سيقيم خازوقًا
عظيمًا ويحرقنا عليه جميعًا عقابًا لنا على هذا الترف الآثم. بعدها لم يخاطبني النبيل
بكلمة طوال الجلسة.»
١٦
كانت محاضرة أينشتاين هي المرة الأولى في التاريخ التي يشرح فيها أحد ما مبدأ
«الازدواجية» في الفيزياء، الذي ينص على أن الضوء قد يكون مزدوج الخصائص بصفته موجة كما
قال ماكسويل في القرن الماضي أو بصفته جزيئًا كما اقترح نيوتن. والطريقة التي يرى بها
الضوء تعتمد على طبيعة التجربة المجراة؛ ففي التجارب منخفضة الطاقة التي يكون فيها
الطول الموجي لشعاع الضوء كبيرًا تكون الصورة الموجية هي الأكثر فائدة، أما في التجارب
عالية الطاقة التي يكون فيها الطول الموجي لشعاع الضوء صغيرًا جدًّا تكون الصورة
الجزيئية هي الأنسب، ولقد ثبت أن هذا المفهوم (الذي سينسب بعد ذلك للفيزيائي الدنماركي
نيلز بور Niels Bohr) من أهم المفاهيم المتعلقة بطبيعة
المادة والطاقة، علاوة على أنه واحد من أثرى مصادر البحث في نظرية الكم.
ظل أينشتاين على سلوكه البوهيمي بل إنه ازداد فيه غلوًّا، مع أنه صار الآن أستاذًا،
ويصف أحد تلاميذه مظهره في أولى محاضراته بالجامعة قائلًا: «أتانا في قاعة الدرس يرتدي
حلة مهلهلة وبنطالًا قصيرًا للغاية وفي يده ورقة بحجم بطاقة دعوة كتب فيها أهم نقاط
المحاضرة.»
١٧
وعام ١٩١٠ ولد ابنه الثاني إدوارد Eduard. وكان
أينشتاين — ذلك الرحالة الذي لا يستقر في مكان — يبحث وقتها عن وظيفة جديدة لأن بعض
الأساتذة الآخرين يحاولون استبعاده من الجامعة على ما يبدو، وفي العام التالي عرضت عليه
الجامعة الألمانية وظيفة في معهد براغ للفيزياء النظرية براتب أعلى من راتبه الحالي
فقبلها، وكان مكتبه الجديد يجاور مصحة عقلية، فكان أثناء تفكيره في غوامض الفيزياء
كثيرًا ما يسرح بخياله ويسأل نفسه إذا ما كان نزلاء تلك المصحة هم العقلاء وغيرهم هم
المجانين.
وفي ذات عام ١٩١١ حضر أينشتاين مؤتمر سولفاي الأول الذي أقيم في مدينة براسلس بتمويل
من رجل صناعة بلجيكي ثري يدعى إرنست سولفاي Ernest
Solvay، وفي هذا المؤتمر أُلْقِيَ الضوء على أعمال رواد الفيزياء
في العالم. لقد كان أهم المؤتمرات العلمية في ذلك العصر وفيه سنحت لأينشتاين الفرصة
ليقابل عمالقة الفيزياء ويتبادل معهم الآراء العلمية؛ فقد التقى بماري كوري الفائزة
بجائزة نوبل مرتين ونمت بينهما صداقة استمرت مدى الحياة. جذبت نظريتا النسبية والفوتون
محور الاهتمام في ذلك المؤتمر الذي كان عنوانه «نظرية الإشعاع والوحدات الكمية»
The Theory of Radiation and the Quanta.
من المسائل التي نوقشت في المؤتمر مسألة «تناقض التوأم» twin
paradox الشهيرة، كان أينشتاين قد تعرض للتناقضات الغريبة التي
تتعلق بإبطاء الزمن، وكان الفيزيائي بول لانجفين Paul
Langevin هو أول من أشار لتناقض التوأم هذا وعرض لتجربة بسيطة تكشف
تناقضًا في النظرية النسبية (وكانت الصحف في ذلك الوقت تمتلئ بقصص مثيرة عن لانجفين
الذي يعيش حياة زوجية تعيسة ومتورط في علاقة مشينة مع الأرملة ماري كوري.) افترض
لانجفين أن هناك توأمين يعيشان على كوكب الأرض، سافر أحدهما بسرعة تقترب من سرعة الضوء
ثم عاد إلى الأرض بعد مرور خمسين سنة على الكوكب، لكن لأن الزمن يبطؤ في الصاروخ فإن
التوأم الراكب فيه لم يكبر سوى عشر سنين، لذا فحين يلتقيان سيكون أصغر من أخيه بأربعين
سنة كاملة.
والآن لنتأمل وضع الأخ الراكب في الصاروخ، فهو شعر بأنه في حالة سكون والأرض هي التي
انطلقت مبتعدة، ومعنى هذا أن ساعة أخيه الذي بقي على الأرض هي التي ستبطؤ، وعندما
يلتقيان مرة أخرى يجب أن يكون الأخ الذي بقي على الأرض هو الأصغر لا الذي سافر في
الصاروخ، لكن إذا كان يفترض بالحركات أن تكون نسبية فالسؤال هنا هو أي الأخوين هو
الأصغر بالفعل؟ ولأن الموقفين متماثلان فلا يزال هذا السؤال حتى اليوم يؤرق أي طالب علم
حاول أن يدرس النظرية النسبية.
أجاب أينشتاين عن هذا السؤال بأن الأخ الذي في الصاروخ هو من تزايدت سرعته لا الأخ
الآخر، هذا بخلاف أن الصاروخ يجب عليه أن يبطئ سرعته ثم يتوقف ثم يرجع في عكس الاتجاه
الأول، وهو الأمر الذي يسبب ضغطًا شديدًا على راكب الصاروخ مما ينزع سمة التماثل عن
الموقف؛ حيث يحدث التسارع الذي لم تتناوله فرضيات النسبية الخاصة لراكب الصاروخ فقط
الذي هو بالفعل الأصغر.
(غير أن الموقف سيزداد تعقيدًا إذا لم يرجع راكب الصاروخ؛ ففي تلك الحالة سوف يرى
كل
من الأخوين توأمه من خلال تليسكوب يبطئ الزمن، ولأن الموقفين في هذه الحالة سيكونان
متماثلين تمامًا، فحينها سيرى كل منهما أخاه أصغر منه، وبالمثل سيرى كل منهما أخاه
منكمشًا، إذن فأيهما في الحقيقة هو الأصغر والأنحف؟ ومع ما يبدو في الكلام من تناقض
شديد فالنظرية النسبية تسمح بأن يكون الأخوان التوأم كلاهما أصغر وأنحف من الآخر،
والسبيل الأبسط لتحديد أيهما بالفعل الأصغر والأنحف في هذه التناقضات هو الإتيان
بالأخوين معًا، وهذا يتطلب جر أحدهما بسلسلة، الأمر الذي سيحدد بدوره أيهما يتحرك
«بالفعل».
وقد أوجد أينشتاين حلولًا لهذه التناقضات العجيبة بطريقة غير مباشرة من خلال دراساته
المتعلقة بالإشعاعات الكونية ومفتتات الذرة. لكن تأثير هذه التناقضات كان ضئيلًا جدًّا
حتى إنه لم يُرَ بشكل مباشر وتجريبي إلا عام ١٩٧١ عندما أجريت تجربة بأن حملت طائرات
بساعات ذرية وانطلقت بسرعات هائلة في الفضاء، ولأن هذه الساعات قادرة على قياس الوقت
بدقة فلكية فقد استطاع العلماء بمقارنة اثنتين من هذه الساعات أن يتوصلوا إلى أن الوقت
يمضي ببطء كلما زادت سرعة الحركة، بالضبط كما توقع أينشتاين).
لنتناول مثالًا آخر عن التناقض يتضمن جسمين كل منهما أقصر من الآخر،
١٨ إذا تخيلنا صيادًا يحاول أن يسجن نمرًا طوله ١٠ أقدام في قفص عرضه قدم واحد
فقط، في الحالات العادية يكون هذا مستحيلًا، لكن تخيل أن هذا النمر تحرك بسرعة شديدة
حتى إن طوله انكمش إلى قدم واحد فقط وصار من الممكن أن يقع القفص عليه فيسجنه، وما إن
يتوقف النمر عن الحركة حتى يعود للتمدد مرة أخرى، وإذا كان القفص مصنوعًا من حبال
مجدولة فسيمزقها جسد النمر، أما إذا كان مصنوعًا من الخرسانة فسوف ينسحق جسد النمر
المسكين بين جنباته.
ولنتأمل الموقف من منظور النمر؛ إذا كان النمر في سكون فإن القفص هو الذي تحرك وانكمش
إلى جزء من عشرة أجزاء من القدم، إذن كيف يمكن لقفص بهذا الحجم الصغير أن يطبق على نمر
طوله عشرة أقدام؟ الإجابة هي أن القفص أثناء سقوطه يتقلص في اتجاه الحركة فيصير متوازي
أضلاع أو مربعًا مائل الأضلاع، ومعنى هذا أن نهايتي القفص لا تسقطان على النمر في ذات
الوقت. وإذا كان القفص مصنوعًا من حبال مجدولة فسوف يرتطم حده الأمامي بأنف النمر أولًا
قبل أن يتمزق، وباستمرار سقوط القفص يستمر في التمزق حول جسد النمر حتى يرتطم حده
الخلفي بذيله. أما إذا كان مصنوعًا من الخرسانة فسوف يكون أنف النمر هو أول ما ينسحق،
ثم تنسحق المزيد من أجزء جسمه مع سقوط القفص، حتى يقع حده الأخير على ذيل النمر.
ولم تشغل هذه التناقضات بال العلماء فقط بل أيضًا جذبت انتباه العامة، حتى إن إحدى
المجلات الفكاهية نشرت قصيدة طريفة من عدة أبيات جاء فيها:
ذات مرة كان هناك سيدة تدعى برايت
١٩
تستطيع هذه السيدة أن تسبق الضوء
سافرت يومًا بطريقة نسبية
وعادت في الليلة الماضية.
في تلك الأثناء كان صديقه القديم مارسيل جروسمان يشغل وظيفة أستاذ في
معهد بوليتكنيك وسأل أينشتاين هل يريد وظيفة في معهده القديم، كأستاذ هذه المرة، وكان
ما في جعبة أينشتاين من خطابات تزكية يضمن له أي وظيفة يريدها، ومنها خطاب كتبته ماري
كوري قالت فيه: «إن علماء الفيزياء الرياضية قد أجمعوا على قيمة وأهمية
إنجازاته.»
٢٠
وهكذا رجع إلى زيوريخ بعد ستة عشر شهرًا فقط قضاها في براغ، وكانت عودته مرة أخرى
إلى
معهد بوليتكنيك (ابتداءً من عام ١٩١١ تغير اسمه إلى المعهد السويسري الفيدرالي
للتكنولوجيا ETH) كأستاذ مرموق تمثل نصرًا شخصيًّا
لأينشتاين؛ فقد تركه مجللًا بالخزي بعد أن أفسد بعض الأساتذة أمثال فيبر مستقبله
المهني، لكنه عاد إليه رائدًا لثورة جديدة في عالم الفيزياء. وفي ذات السنة رُشِّح لأول
مرة لجائزة نوبل، لكن أفكاره كانت لا تزال تبدو على قدر كبير من الراديكالية في عيون
أعضاء الأكاديمية السويدية، وهناك بعض الأصوات المعارضة بين حائزي الجائزة السابقين
الذين كانوا يريدون إقصاءه عن سباق الترشح للجائزة، ولهذا لم تذهب جائزة نوبل لعام ١٩١٢
إلى أينشتاين بل إلى نيلز جوستاف دالين Nils Gustaf
Dalén لمجهوداته في تطوير المنارات. (المفارقة أن المنارات اليوم
صارت شيئًا من الماضي بعد أن استبدل بها نظام تحديد الموقع بالأقمار الصناعية الذي يقوم
في الأساس على نسبية أينشتاين.)
وخلال السنة التالية ازدادت شهرة أينشتاين زيادة كبيرة حتى إنه بدأ يتلقى عروضًا من
برلين؛ بدا ماكس بلانك حريصًا على أن يضم ذلك النجم الصاعد في سماء الفيزياء إلى فريقه،
وألمانيا وقتها صاحبة الريادة في بحوث الفيزياء بلا منازع، وبرلين هي مقر معظم هذه
البحوث. تردد أينشتاين في أول الأمر لأنه كان قد تخلى عن جنسيته الألمانية ولا يزال
يحمل بعضًا من ذكريات الطفولة القاسية في ذلك البلد، لكن العرض كان مغريًا جدًا.
وعام ١٩١٣ انتخب أينشتاين عضوًا في الأكاديمية البروسية للعلوم ثم عرض عليه أن يشغل
وظيفة في جامعة برلين مديرًا لمعهد القيصر فيلهلم للفيزياء. وبخلاف هذه الألقاب
التشريفية — التي لم يكن أينشتاين يعبأ بها كثيرًا — كان لهذه الوظيفة ميزة مهمة وهي
أنها لا تلزمه بالتدريس (هذا مع أنه كان محاضرًا محبوبًا بين تلاميذه حيث كان يعاملهم
بعطف واحترام، لكن مع هذا كان التدريس يلهيه عن همه الأساسي وهو النظرية النسبية
العامة.)
وبالفعل انتقل إلى برلين عام ١٩١٤ وقابل أساتذة المعهد، وشعر وقتها بشيء من العصبية
عندما شاهد نظرتهم إليه وهو ما أشار إليه حين كتب: «كان سادة برلين يقامرون عليّ كما
لو
كنت دجاجة تبيض ذهبًا، أما أنا فلم أكن أعرف هل سأبيض بيضة أخرى.»
٢١ لكن ذلك الشاب الثائر ذا الخمسة وثلاثين ربيعًا كان عليه أن يتكيف بسرعة مع
طباع أعضاء الأكاديمية البروسية الصارمة فأحدهم ينادي الآخر ﺑ «حضرة المستشار» أو
«معاليك»، بل إن أينشتاين قال ذات مرة: «بدا لي أن معظم هؤلاء يحرصون على أن تكون
كتاباتهم على قدر كبير من الترفع الذي هو أشبه بترفع الطواويس، وإلا صاروا كالبشر
الطبيعيين.»
٢٢
لكن مسيرة النجاح التي قطعها أينشتاين من مكتب براءات الاختراع في بيرن إلى أعلى
المناصب العلمية في ألمانيا لم تأت دون ثمن، ففي تلك السنوات التي علا فيها اسمه بدأت
عرى حياته الأسرية في التفسخ، لقد شهدت تلك السنوات أهم إنجازاته وأغزرها التي كان من
شأنها بعد ذلك أن تغير وجه العالم، ولهذا فليس من شك أنها تطلبت منه جهودًا شبه مستحيلة
وأبعدته عن زوجته وأولاده.
كتب أينشتاين يقول إن العيش مع ميليفا صار كالعيش في مقبرة، حتى إنه كان إذا وجد
نفسه
معها بمفردهما في المنزل يحاول أن يتجنب البقاء معها في غرفة واحدة، واختلف أصدقاؤهما
حول أيهما السبب في هذا الجفاء، فكثير منهم لام ميليفا لأنها صارت أكثر انعزالًا وأكثر
نقمة على زوجها المشهور، وحتى أصدقاؤها صاروا مستاءين لأن الشيب ظهر عليها واضحًا خلال
تلك السنوات القليلة وصارت عديمة الاهتمام بمظهرها، وصارت ميالة للصياح وباردة الطبع
غيورة من كل شيء حتى من الوقت الذي يقضيه زوجها مع زملائه، حتى إنها ذات مرة وجدت خطاب
تهنئة أرسلته لزوجها امرأة تدعى آنا شميد Anna Schmid
(وكان أينشتاين قد عرفها لفترة قصيرة حين كان في أراو إلى أن تزوجت) فلم تستطع أن
تتمالك أعصابها وثارت ثورة عارمة ربما كانت الأكبر في تاريخ زواجهما المتزعزع.
لكن من ناحية أخرى رأى البعض أن أينشتاين بدوره ليس بالزوج المثالي فهو كثير الترحال
ودائمًا ما يترك ميليفا تربي أطفاله بمفردها، وفي ذلك الوقت كان السفر صعبًا وبطيئًا
ويبعده عنها لأيام وأسابيع، لذا فقد كان كالضيف يأتي فقط في الليل فلا يرى أحدهما الآخر
إلا على العشاء أو عندما يذهبان للمسرح، ولقد كان شديد الانغماس في العالم الرياضي
المجرد ولم تكن لديه أي طاقة عاطفية يتواصل بها مع زوجته، بل الأسوأ من هذا أنه كلما
أبدت ميليفا تذمرها من غيابه المستمر زاد انسحابه من حياتها إلى عالمه
الفيزيائي.
ومن الإنصاف أن نقول إن في كلا الرأيين شيئًا من الحقيقة، ومن الخطأ إلقاء اللوم على
أحد الطرفين دون الآخر، والمتابع لحياتهما يدرك أن هذا التوتر الذي شهده زواجهما كان
محتومًا، وربما كان أصدقاؤهما القدامى على حق عندما قالوا قبل سنين كثيرة إنهما شخصيتان
متنافرتان.
غير أن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت قبوله لوظيفة برلين، لم تكن ميليفا راغبة
على
الإطلاق في الذهاب إلى برلين، حيث كانت فكرة أن تعيش، وهي امرأة سلافية، في مركز
الثقافة التيوتونية فكرة مخيفة لها، والأهم من هذا أن العديد من أقارب أينشتاين كانوا
يعيشون في تلك المدينة، وخشيت أن تكون عرضة لنظراتهم الساخطة، فلم يكن يخفى عليها عدم
رضا عائلة زوجها عنها، لكن مع ذلك ذهبت هي وأولادها إلى برلين مع أينشتاين، غير أنها
فجأة عادت مرة أخرى إلى زيوريخ وأخذت أولادها معها، ولم يجتمعوا معًا بعد ذلك أبدًا.
سبب هذا صدمة لأينشتاين الذي لم يحب شيئًا في الدنيا قدر حبه لأولاده، وبعد هذه الحادثة
أُجْبِرَ على أن تكون علاقته بأولاده عن بعد، فيقطع رحلة شاقة تستغرق عشر ساعات من
برلين إلى زيوريخ كلما أراد أن يزور ابنيه. (تروي مساعدته هيلين دوكاس أنه عندما نالت
ميليفا حق حضانة الأولاد ظل يبكي طوال الطريق إلى منزله.)
لكن هناك سببًا آخر ساهم على الأرجح في تعميق الصدع بين الزوجين، تمثل ذلك السبب
في
إحدى قريبات أينشتاين التي كانت ذات حضور زائد ملحوظ في حياة أينشتاين ببرلين، وهو
الأمر الذي اعترف به قائلًا: «لقد عشت حياة منعزلة جدًّا، لكني مع ذلك لم أكن وحيدًا
لما لقيته من رعاية كريمة من إحدى قريباتي وهي التي زينت لي السفر إلي برلين منذ
البداية.»
٢٣
كانت إلسا لوينثال Elsa Lowenthal ذات قرابة مزدوجة
بأينشتاين؛ فهي ابنة خالته، وجده شقيق لجدها، وهي مطلقة تعيش مع ابنتيها مارجوت
Margot وإلسي Ilse
في الطابق الأعلى من بيت والديها (خالة أينشتاين وزوجها)، التقت بأينشتاين لقاء قصيرًا
حين زار برلين عام ١٩١٢، وفي ذلك الوقت قرر أن زواجه بميليفا انتهى ولم يعد هناك بد من
الطلاق، لكنه يخشى من تبعاته على ولديه الصغيرين.
ومذ كانا صغيرين كانت إلسا معجبة بأينشتاين بل إنها اعترفت أنها وقعت في حبه عندما
سمعته يعزف ألحان موتسارت حين كان طفلًا، لكن أكثر ما جذبها إليه على الأرجح هو نجمه
الصاعد في سماء الوسط الأكاديمي والمكانة العالية التي يتمتع بها بين فيزيائيي العالم،
ولم تُخْفِ هي أنها تود لو نالت قسطًا من شهرته. كانت إلسا مثل ميليفا تكبر أينشتاين
بأربع سنوات، لكنها لم تشترك معها في أي صفة أخرى على الإطلاق، بل هي على النقيض منها
تمامًا؛ كانت ميليفا لا تهتم عادة بمظهرها وتبدو دائمًا منهكة، أما إلسا فسيدة برجوازية
بمعنى الكلمة وتعرف جيدًا متطلبات الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها، وهي على الدوام
حريصة على أن تكوّن معارف لها في المجتمعات العلمية ببرلين وتتفاخر أمامهم بأينشتاين،
وعلى خلاف ميليفا التي كانت صموتًا عكرة المزاج، كانت إلسا كائنًا اجتماعيًّا تتنقل
كالفراشة بين الحفلات والعروض المسرحية دون كلل، ولم تيأس من إصلاح عادات أينشتاين كما
يئست ميليفا، بل كانت أقرب إلى أمه فنجحت في تعديل سلوكياته وسخرت كل طاقاتها لمعاونته
في إكمال رسالته، ولخص صحفي روسي العلاقة التي جمعت أينشتاين بإلسا في سطور قليلة فكتب:
«كانت لا تحمل لزوجها العظيم سوى الحب، ودائمًا تحميه من متاعب الحياة وتؤمن له راحة
البال اللازمة لنمو أفكاره العبقرية، وأدركت جيدًا ما يحتاجه كمفكر ولذلك فقد كانت
تحوطه بحنانها الأمومي ورقتها وتعامله كطفل كبير.»
٢٤
وبعد أن غادرت ميليفا برلين غاضبة عام ١٩١٥ ومعها الأولاد ازداد أينشتاين قربًا من
إلسا، لكن ما شغله في تلك الفترة المهمة لم يكن الحب وإنما الكون.