الفصل السادس
الانفجار العظيم والثقوب السوداء
هل كانت للكون بداية؟ أهو كون محدود أم غير محدود؟ هل ستكون له نهاية؟ تلك هي الأسئلة
التي واجهها أينشتاين، ومن قبله نيوتن، عندما بدأ يتساءل عما ستكشفه نظريته عن النظام
الكوني؛ أسئلة أثارت حيرة علماء الفيزياء قرونًا عديدة.
عام ١٦٩٢، بعد خمس سنوات من انتهاء نيوتن من تحفته العلمية «المبادئ الرياضية للفلسفة
الطبيعية»، تلقى رسالة من القس ريتشارد بنتلي Richard
Bentley أربكته، أشار بنتلي في هذه الرسالة إلى أنه لو كانت قوة
الجاذبية تجذب فقط ولا ترد فمعنى هذا أن أي مجموعة نجمية ثابتة سوف تتداعى بالضرورة على
نفسها. كانت هذه الملحوظة خطيرة جدًّا على الرغم من بساطتها، فهي تعني أن الكون ليس
بالثبات الذي يبدو عليه وأن قوى الجاذبية الكونية بعد فترة زمنية معينة سوف تسبب انهيار
الكون بأكمله. وضع بنتلي يده على المشكلة الأساسية التي واجهت جميع النظريات الكونية،
وهي أنه إن كانت هناك قوة تجذب الكون فإن الكون بلا شك متحرك وغير مستقر.
بعد أن تفكر نيوتن في هذا السؤال المؤرق كتب خطابًا إلى بنتلي يقول فيه إن الحائل
بين
الكون وانهياره لا بد أن يكون تكونه من مجموعة متماثلة ولا نهائية من النجوم. وإذا كان
الكون بالفعل غير محدود فمعنى هذا أن كل نجم من النجوم ينجذب بنفس القدر من القوة إلى
جميع الاتجاهات، مما يعني أن الكون ثابت حتى لو كانت قوى الجاذبية تشده، وجاء في خطاب
نيوتن أيضًا: «إذا كانت المادة تنتشر بانتظام في فضاء غير محدود فلن تستطيع أن تتجمع
في
كتلة واحدة … وهذا هو ما يجعل الشمس والنجوم ثابتة في مواقعها.»
١
لكن هذا الافتراض يثير مشكلة أكبر تعرف باسم «تناقض أولبر» Olbers’
Paradox، وهي تطرح سؤالًا بسيطًا: لماذا تكون السماء سوداء في
الليل؟ إذا كان الكون بالفعل غير محدود وثابت ومتسق فلا بد إذن أن نرى السماء ملأى بعدد
لانهائي من النجوم تضرب أضواؤها أعيننا من جميع الاتجاهات، وتكون السماء في الليل بيضاء
لا سوداء. أي أنه إذا كان الكون متسقًا ومحدودًا فسوف ينهار، أما إذا كان غير محدود
فسوف تغدو السماوات كأتون مشتعل.
وبعدما يربو من قرنين من الزمان واجه أينشتاين ذات المسألة وإن كانت في صورة أخرى؛
فحتى عام ١٩١٥ كان الناس يظنون الكون مكانًا بسيطًا يتكون من مجرة ثابتة وحيدة تدعى
مجرة الطريق اللبني Milky Way، أما تلك الأضواء التي
تبدو مبعثرة في السماء ليلًا فما هي إلا بلايين من النجوم. غير أن أينشتاين بعدما خرج
بمعادلاته وجد شيئًا غريبًا وغير متوقع؛ فقد رأى أن الكون مملوء بغاز متسق يقارب بين
النجوم وسحب الغبار. وكان ما أثار رعبه أن الكون وفقًا لافتراضه متحرك يتمدد وينكمش ولا
يستقر أبدًا على حال، ولم يمر وقت طويل حتى وجد نفسه غارقًا في ذات الأسئلة الكونية
التي طالما حيرت الفلاسفة والمشتغلين بالفيزياء من أمثال نيوتن لعصور مديدة، لكنه أدرك
جيدًا أنه لا يمكن لكون محدود أن يظل مستقرًّا في نطاق الجاذبية.
لكن أينشتاين لم يكن مستعدًّا بعد للتخلي عن صورة الكون السرمدي الثابت، وبرغم نزعته
الثورية المعهودة لم يجد في نفسه الجراءة ليتقبل حقيقة أن الكون آخذ في التمدد أو أنه
كانت له بداية. ولكي يخرج من هذا المأزق أتى بحل هزيل نوعًا ما، فعام ١٩١٧ أضاف إلى
معادلاته عاملًا يمكننا أن نسميه «العامل المخادع» Fudge
Factor وكان هذا العامل هو «الثابت الكوني»
Cosmological Constant، افترض هذا العامل وجود قوة
طاردة مضادة للجاذبية تخلق نوعًا من أنواع التوازن، وهو ما يعني أن ثبات الكون هذا
مصطنع وليس طبيعيًّا.
كان وراء هذا الحل الملتوي ملاحظة أينشتاين أن المتغير المشارك، الذي هو المبدأ
الرياضي الأساسي الذي يحكم النسبية العامة، يسمح بفكرتين محتملتين تتوافقان معه وهما:
انحراف ريتشي (الذي يشكل أساس النسبية العامة)، والزمكان، وهو ما مكنه من إضافة عامل
آخر إلى معادلاته يتسق مع المتغير المشارك العام ويتناسب مع وحدة الكون، بعبارة أخرى
نقول إن الثابت الكوني يؤكد أن الفراغ يحوي طاقة، وصار هذا العامل المضاد للجاذبية يسمى
اليوم «الطاقة السوداء» وهي الطاقة الموجودة في العدم والقادرة على دفع المجرات بعيدًا
بعضها عن بعض أو المقاربة بينها. حدد أينشتاين قيمة الثابت الكوني بدقة بحيث يعادل
الانكماش الناتج عن الجاذبية بالضبط مما يجعل الكون ساكنًا، غير أنه لم يكن سعيدًا بهذا
الحل الذي بدا كحيلة رياضية، ولم يكن لديه خيار آخر لكي يبقي الكون ساكنًا. (لكن
الفلكيين بعد ثمانين عامًا وجدوا دليلًا على وجود الثابت الكوني، الذي يرى فيه العلماء
اليوم المصدر الرئيسي للطاقة في الكون.)
غير أن المسألة ازدادت تعقيدًا خلال السنوات القليلة التي تلت ذلك بظهور حلول جديدة
لمعادلات أينشتاين؛ فعام ١٩١٧ صرح الفيزيائي الهولندي ويليام دي سيتر
Willem de Sitter بأن هناك حلًّا ممكنًا لمعادلات
أينشتاين على الرغم من غرابته، وهو أنه حتى إذا خلا الكون من المادة فسوف يظل يتمدد وكل
ما يحتاجه هو الثابت الكوني لكي يحكمه، لكن هذا الحل لم يرق لأينشتاين الذي كان لا
يزال، كما كان ماخ من قبله، يؤمن بأن طبيعة الزمكان تتحدد من خلال ما يحتوي عليه الكون
من مادة، أما ما يقوله دى سيتر فهو أن الكون يتمدد بصرف النظر عن المادة ولا يحتاج إلا
إلى الطاقة السوداء كي تدفعه إلى الأمام.
أما الخطوات النهائية التي غيرت الفكر السائد عن هذه المسألة تغييرًا جذريًّا فقد
اتخذها كل من ألكزاندر فريدمان Alexander Friedmann عام
١٩٢٢ والقس البلجيكي جورج لوميتر Georges Lemaître عام
١٩٢٧ اللذين أكدا أن معادلات أينشتاين تقود بشكل طبيعي إلى مبدأ تمدد الكون، وجد
فريدمان حل معادلات أينشتاين يكمن في أنها تقوم على حقيقة أن الكون متجانس ومتسق بحيث
تتمدد فيه أشعة الضوء وتنكمش. (لسوء الحظ توفي فريدمان عام ١٩٢٥ في ليننجراد بفعل حمى
تيفودية قبل أن يجد الفرصة لتوضيح فكرته تلك.) من خلال تصور فريدمان-لوميتر تتبدى لنا
ثلاثة حلول ممكنة لمعادلات أينشتاين تقوم على كثافة الكون؛ (١) إذا زادت كثافة الكون
عن
قيمة حرجة معينة حينها سوف يحدث ارتداد لهذا التمدد بفعل الجاذبية ويبدأ الكون في
الانكماش. (تقدر قيمة الكثافة الحرجة تقريبًا بعشر ذرات هيدروجين لكل ياردة مكعبة)،
وهذا سوف يجعل انحناء الكون إيجابيًّا (وهو ما يعني بالتالي أن انحناء كلا نصفيه سيكون
إيجابيًّا أيضًا). (٢) أما إذا كانت كثافة الكون أقل من القيمة الحرجة فلن تكون قوة
الجاذبية كافية لعكس هذا التمدد لذا سوف يتمدد الكون إلى ما لا نهاية. (في النهاية سوف
تقترب درجة حرارة الكون من الصفر المطلق بينما يتمدد حتى يصل إلى منطقة «التجمد الأعظم»
Big Freeze.) وفي تلك الحالة سوف يكون الانحناء
الكلي للكون سلبيًّا (وبالتماثل سنجد انحناء سرج الحصان أو بوق آلة الترومبيت سلبيًّا)
(٣) الحل الأخير هو أن يكون الكون متوازنًا تمامًا على القيمة الحرجة (وفي هذه الحالة
أيضًا سوف يظل يتمدد بلا حدود)، في هذا الكون سوف يساوي الانحناء صفرًا ويكون الكون
مسطحًا، مما سبق نستنتج أن مصير الكون يمكن أن يتحدد بكل بساطة عن طريق قياس متوسط
كثافته.
عند هذه المرحلة صارت تلك المسألة غاية في التعقيد بعد أن وجدت ثلاث نماذج كونية
توضح
المنهج الذي سوف يتطور الكون من خلاله (نموذج أينشتاين، ونموذج دى سيتر، ونموذج
فريدمان-لوميتر). ولم يحدث جديد في هذه المسألة حتى عام ١٩٢٩ حينما حسمها الفلكي إدوين
هابل عن طريق النظريات التي خرج بها وكان من شأنها أن تغير أسس علم الفلك القديم؛ كان
أول ما فعله هو أن هدم نظرية المجرة الوحيدة بالتأكيد على وجود مجرات أخرى تبتعد كثيرًا
عن مجرة الدرب اللبني. (في عام واحد تحول الكون من مكان بسيط يتألف من مجموعة قوامها
مئات البلايين من النجوم تضمها مجرة وحيدة، إلى مكان يتألف من بلايين المجرات التي
تحتوي على بلايين النجوم.) رأى هابل أنه من المحتمل وجود بلايين المجرات الأخرى أقربها
إلى الأرض مجرة أندروميدا Andromeda التي تبعد عنها نحو
مليوني سنة ضوئية. (تعود كلمة «مجرة Galaxy» إلى الكلمة
اليونانية التي تعني «لبن» لأن الإغريق ظنوا أن مجرة الدرب اللبني نشأت لأن الآلهة سكبت
لبنًا على سماء الليل المظلمة.)
كان هذا الكشف الصادم وحده كفيلًا بوضع هابل في مكانة عالية مع الفلكيين العظام، لكنه
لم يتوقف عند هذا الحد، فعام ١٩٢٨ قام برحلة مهمة إلى هولندا والتقى بدى سيتر الذي قال
إن نسبية أينشتاين العامة تؤدي إلى فكرة تمدد الكون من خلال علاقة بسيطة بين الانزياح
الأحمر والمسافة، فكلما بعدت المجرة عن الأرض زادت سرعة ابتعادها (هذا الانزياح الأحمر
يختلف شيئًا ما عن الانزياح الأحمر الذي افترضه أينشتاين عام ١٩١٥، فهذا الانزياح
الحديث تسببه المجرات التي تتقهقر عن الأرض والتي يحتويها كون متمدد، فمثلًا إذا تحرك
نجم أصفر مبتعد عنا فإن سرعة شعاع الضوء ستظل ثابتة بينما «سيستطيل» طوله الموجي ولهذا
سيكتسب النجم الأصفر بعض الحمرة. وبالمثل إذا اقترب نجم أصفر من الأرض فسوف ينكمش طوله
الموجي وينضغط كما الأكورديون ويزرق لونه نوعًا.)
وعندما رجع هابل إلى مرصده بجبل ويلسون شرع في عملية منظمة لدراسة الانزياح الأحمر
لتلك المجرات ليتأكد من الرأي السابق، كان يعلم أنه عام ١٩١٢ ذكر فيستو ملفن سليفر
Vesto Melvin Slipher أن هناك سُّدُمًا كونية توجد
على مسافات بعيدة وتتحرك متقهقرة عن الأرض هي المسئولة عن الانزياح الأحمر، ويومها توصل
هابل إلى أن الانزياح الأحمر يأتي من هذه المجرات المتقهقرة، ومعنى هذا أن الكون آخذ
في
التمدد بسرعة خارقة، ومن ثم اكتشف أن بياناته التي خرج بها توافق نظرية دي سيتر، واليوم
صار هناك قانون يعرف ﺑ «قانون هابل Hubble’s Law» يقول
إنه كلما زادت سرعة المجرة في تقهقرها عن الأرض كانت أبعد عن الأرض (والعكس
صحيح).
وكما هي النتائج التي خرجت بها النسبية العامة وجد هابل خطًّا شبه مستقيم على المنحنى
يقابل بين المسافة والسرعة وأطلق على انحنائه «ثابت هابل»
Hubble’s
Constant، وكان هابل نفسه يتوق لمعرفة كيفية انطباق النتائج التي
خرج بها على نظرية أينشتاين. (للأسف كان نموذج أينشتاين يحتوي على المادة لكن دون
الحركة، في حين كان نموذج دى سيتر يحتوي على الحركة دون المادة، ولهذا فقد توافقت
نتائجه أكثر مع نموذج فريدمان-لوميتر الذي جمع بين المادة والحركة.) وعام ١٩٣٠ ذهب
أينشتاين إلى مرصد جبل ويلسون حيث التقى هابل للمرة الأولى. (حينما تفاخر الفلكيون أمام
إلسا بتلسكوبهم الضخم الذي يبلغ طوله مائة بوصة ويعد أضخم تلسكوب في العالم في ذاك
الوقت والقادر على وصف بنية الكون، ردّت بعدم اكتراث قائلة: «إن زوجي يفعل هذا على ظهر
مظروف خطابات قديم.»)
٢ وعندما شرح هابل لأينشتاين النتائج التي حصل عليها بعد عناء شديد من خلال
تحليل سرعات المجرات التي تبتعد عن الدرب اللبني كل على حدة، أقر أينشتاين بأن الثابت
الكوني هو أكبر الأخطاء التي ارتكبها في حياته وبأن الكون يتمدد بالفعل تمامًا كما
اكتشف هو قبل عشر سنين.
علاوة على هذا كانت معادلات أينشتاين تقدم أبسط السبل لفهم قانون هابل؛ فإذا تخيلنا
أن الكون بالون آخذ في التمدد، والمجرات هي نقاط مرسومة عليه، وأتت نملة واستقرت على
إحدى هذه النقاط، حينها ستجد النملة النقاط الأخرى تتباعد عنها، وبالمثل كلما كانت تلك
النقاط بعيدة عن النملة زادت سرعتها في الابتعاد كما هو منصوص عليه في قانون هابل،
وهكذا تمكنت معادلات أينشتاين من تقديم أجوبة على أسئلة قديمة على غرار: هل للكون حد؟
وإذا كان حد الكون جدارًا فماذا يوجد خلف هذا الجدار؟ وقد يكون كولومبوس
Columbus أجاب عن هذا السؤال عندما حدد شكل الأرض.
إذا نظرنا للأرض على أنها ثلاثية الأبعاد فهي محدودة (فما هي في هذه الحالة إلا كرة
تسبح في الفضاء)، لكن إذا اعتبرناها ثنائية البعد ستغدو غير محدودة (لأن المرء يستطيع
الطواف حول محيطها إلى ما لا نهاية) فأي إنسان يمشي على سطحها لن يدرك نهايتها أبدًا،
ومعنى هذا أن الأرض قد تكون محدودة وقد تكون غير محدودة وفقًا لعدد الأبعاد التي نراها
من خلالها، لكننا إذا طبقنا هذه النظرية على الكون فسنجده يصير غير محدود إذا اعتبرناه
ثلاثي الأبعاد؛ فليس هناك في الفضاء جدار يمثل نهاية الكون، وإذا أطلقنا صاروخًا في
الفضاء فلن يصطدم بجدار كوني، لكن هناك احتمالًا بأن يكون الكون محدودًا إذا اعتبرناه
رباعي الأبعاد. (فإذا كان الكون أشبه بكرة رباعية الأبعاد أو فضاء متعدد الأبعاد فقد
يستطيع المرء الذي يعيش فيه أن يدور دورة كاملة حول الكون ويعود حيث كان، وفي كون كهذا
يصير أبعد شيء يمكن أن يراه المرء من خلال تلسكوب هو ظهر يده.)
وإذا كان الكون يتمدد بمعدل ثابت فمن الممكن النظر إليه بشكل عكسي وإجراء حساب تقريبي
للزمن الذي بدأ فيه هذا التمدد، بعبارة أخرى نقول إن الكون كانت له بداية ويمكن لنا أن
نحدد تلك البداية (عام ٢٠٠٣ أظهرت بيانات الأقمار الصناعية أن عمر الكون يبلغ ١٣٫٧
مليار عام). وعام ١٩١٣ وضع لوميتر نظرية معينة عن مولد الكون تفترض أنه حدث تحت حرارة
فائقة، وإذا نظرنا إلى معادلات أينشتاين متتبعين نتائجها المنطقية فسوف نخلص إلى أن
بداية الكون كانت كارثة كبرى.
وعام ١٩٤٩ كان عالم الكونيات فريد هويل Fred Hoyle هو
أول من اصطك لهذه النظرية اسم الانفجار العظيم، وجرى هذا خلال حوار له عبر إذاعة البي
بي سي BBC. لكنه لم يكن يروج لهذه النظرية بل على العكس
كان يعارضها ويروج لنظرية أخرى، وكما يروى عن هذا الموقف نطق هويل بهذا الاسم على سبيل
الإهانة (برغم أنه أنكر هذا فيما بعد). لكن هناك حقيقة لا بد من توضيحها هنا وهي أن هذه
التسمية مغلوطة ولا تدل على جوهر النظرية على الإطلاق، فلا بدأ الكون كبيرًا ولا هو
انفجر، بل إنه بدأ متناهيًا في الصغر ولم ينفجر أبدًا بل كان تمدده هو ما دفع النجوم
لأن تتباعد.
لم تكتف نسبية أينشتاين العامة بما خلصت إليه من نتائج وما قدمته من مفاهيم مثل تمدد
الكون والانفجار العظيم، ولكنها قدمت أيضًا مفهومًا آخر أثار اهتمام الفلكيين للغاية
وهو الثقوب السوداء؛ عام ١٩١٦ وبعد عام واحد من نشر أينشتاين لنظرية النسبية العامة
تلقى خبرًا أثار دهشته مفاده أن الفيزيائي كارل شوارتزشايلد Karl
Schwarzschild طبّق معادلاته على نجم واحد يراه الرائي كالنقطة.
كان أينشتاين أثناء وضع النظرية لا يستخدم إلا الحسابات التقريبية في المعادلات لأن
حسابات النظرية غاية في التعقيد، لكن شوارتزشايلد أطرب قلبه حين قدم له تطبيقًا محكمًا
ليس به أي حساب تقريبي. كان شوارتزشايلد مدير مرصد الفيزياء الفضائية في بوتسدام، لكنه
مع هذا تطوع لمحاربة الروس ضمن صفوف الجيش الألماني. المدهش أنه نجا من أتون الحرب
المستعر واستطاع مواصلة عمله كعالم فيزيائي وهو في صفوف الجيش؛ فهو لم يكتف بحساب مسار
قذائف المدافع لمصلحة الجيش الألماني بل حل كذلك معادلات أينشتاين حلًّا دقيقًا، وإلى
اليوم لا يزال هذا الحل يعرف ﺑ «حل شوارتزشايلد». (لكنه للأسف لم يعش ليجني ثمار ما قدم
من إسهام للعلم؛ فقد مات هذا العالم الواعد وهو في الثانية والأربعين من عمره بعد أشهر
قليلة من نشر بحثه، بسبب مرض جلدي نادر أصابه أثناء قتاله على الجبهة الروسية، وكان
موته خسارة كبيرة للعلم، وقد رثاه أينشتاين بخطبة مؤثرة ظهر فيها أن موت هذا العالم عزز
من كراهيته للحروب التي لا ترحم.)
غير أن حل شوارتزشايلد الذي أحدث ضجة في الأوساط العلمية كانت له تبعات غريبة، فقد
وجد شوارتزشايلد أن الجاذبية تكون في منتهى الشدة في المنطقة التي تقترب جدًّا من النجم
الذي طبق عليه النظرية حتى إن الضوء نفسه لا يستطيع الهروب من مجالها مما يجعل النجم
غير مرئي، ولم يكن هذا يتعارض فقط مع نظرية الجاذبية التي وضعها أينشتاين بل يتعارض
أيضًا مع نظرية نيوتن. عام ١٧٨٣ طرح جون ميتشل John
Michell رئيس جامعة ثورنهيل بإنجلترا سؤالًا عما إذا كان ممكنًا أن
يصير نجم ما من الضخامة بحيث لا يستطيع الضوء أن يهرب منه، لم تكن حساباته القائمة على
قوانين نيوتن جديرة بالثقة لأنه لم يكن أحد يعرف بدقة مقدار سرعة الضوء، لكن استنتاجاته
كانت أهم من أن ترفض؛ فمن الناحية النظرية يمكن أن يكون نجم ما ضخمًا للغاية بحيث يدور
الضوء حوله ولا يغادره. عقب هذا بثلاثة عشر عامًا أصدر العالم الرياضي بيير سيمون
لابلاس Pierre-Simon Laplace كتابه الشهير «توضيح نظام
العالم» Exposition du système du monde وطرح فيه
سؤالًا عما إذا كان وجود هذه «النجوم السوداء» ممكنًا بالفعل (لكن الأرجح أنه وجد
الإجابة غريبة جدًّا لأنه حذفها من الطبعة الثالثة من الكتاب). وبعد مئات السنين عاد
هذا السؤال يطرح مجددًا بفضل شوارتزشايلد الذي وجد أن هناك «دائرة سحرية» تحيط بالنجم
تسمى اليوم «أفق الحدث» Event Horizon تطرأ فيها
تغييرات معقدة على الزمكان، وبين شوارتزشايلد أن أي إنسان تعس الحظ يتجاوز أفق الحدث
هذا لن يتمكن من العودة أبدًا (فهو يحتاج لأن ينطلق بسرعة أكبر من سرعة الضوء كي يستطيع
الهرب منها وهو الأمر المستحيل بالطبع.) ولا يستطيع أي شيء داخل أفق الحدث مهما كان أن
يفلت من قبضته وحتى الضوء نفسه لا يغادره بل يظل يدور حول النجم إلى الأبد، ولهذا يبدو
النجم من بعيد غارقًا في الظلام.
اليوم يستطيع المرء استخدام حل شوارتزشايلد لحساب كم المادة الاعتيادية اللازمة
للوصول بعد انضغاطها إلى الدائرة السحرية التي تسمى اليوم «دائرة شوارتزشايلد»
Schwarzschild Radius وكذلك لتحديد النقطة التي
عندها ينهار النجم تمامًا، تم حساب دائرة شوارتزشايلد بالنسبة للشمس فقدرت بثلاثة
كيلومترات وهو ما يعادل أقل من ميلين، أما بالنسبة للأرض فقد قدرت بأقل من سنتيمتر واحد
(ولأن تقدير عامل الانضغاط كان يفوق قدرات الفيزيائيين في العقد الأول من القرن العشرين
فقد افترضوا أنه لن يتمكن أحد من تحقيق هذه المهمة الخارقة.) لكن أينشتاين كان كلما
تعمق في دراسة خصائص تلك النجوم التي أطلق عليها الفيزيائي جون ويلر
John Wheeler فيما بعد اسم «الثقوب السوداء» وجدها
تزداد غرابة. فمثلًا إذا سقط أحدهم في ثقب أسود فلن يستغرق أكثر من جزء من الثانية كي
يهوي من خلال أفق الحدث، وبينما هو يسبح وراءه سيرى الضوء يدور في الثقب الأسود وقد
يكون هذا الضوء قد دخل إليه قبل بلايين السنين أو منذ بدء الكون ذاته. وحينما يصل إلى
المللي ثانية الأخيرة لن يكون الأمر سارًّا أبدًا ففيها تتعاظم قوة الجاذبية للدرجة
التي تنسحق معها ذرات جسده، فيموت ميتة شنيعة، لكن إذا استطاع أحد أن يراقبه من بعيد
وهو يموت فسيرى صورة مختلفة تمامًا؛ فالضوء المنبعث من جسده سيستطيل بفعل الجاذبية
فيبدو جسده كأنما هو متجمد في الزمن ويظل يدور حول الثقب الأسود إلى الأبد.
إن هذه النجوم من العجب بمكان أن معظم الفيزيائيين لم يصدقوا في إمكانية وجودها في
الكون، وكما قال إدنجتون: «لا بد أن هناك قانونًا للطبيعة يمنع النجوم من أن تسلك ذلك
المسلك العبثي.»
٣ وحاول أينشتاين عام ١٩٣٩ أن يبرهن رياضيًّا على أن وجود هذه الثقوب السوداء
مستحيل فبدأ بدراسة تشكيلات النجوم حيث هي مجموعة من الجسيمات تسبح في الفضاء في مسارات
دائرية وتتجاذب تدريجيًّا بفعل قوى الجاذبية المنبعثة منها، أظهرت حسابات أينشتاين أن
هذه الجسيمات الدوارة هي بالفعل آخذة في الانكماش بشكل تدريجي لكن حجمها النهائي سوف
يزيد عن دائرة شوارتزشايلد بمقدار مرة ونصف وهو ما يعني انعدام إمكانية تكون الثقوب
السوداء.
ومع أن حسابات أينشتاين بدت محكمة فإنه على ما يبدو أغفل احتمالية انفجار المادة
نفسها الذي سينتج عن التأثير الساحق لقوى الجاذبية والذي سيطبق على جميع القوى النووية
للمادة. وفي العام نفسه نشر كل من جيه روبرت أوبنهايمر J. Robert
Oppenheimer وتلميذه هارتلاند شنيدر Hartland
Snyder بحثًا أجريا فيه هذه الحسابات الأكثر تفصيلًا، وبدلًا من أن
يفترضا وجود مجموعة من الجسيمات تدور بالفضاء، افترضا وجود نجم ساكن وعلى قدر من
الضخامة بحيث تسيطر قوة جاذبيته على جميع القوى الكمية التي بداخله، وللتمثيل نضرب
مثلًا بنجم نيوتروني يتألف من كرة كبيرة من النيوترونات تماثل في حجمها حجم حي مانهاتن
(عرضها ٢٠ ميلًا) وتقوم بدور نواة ضخمة. الشيء الذي يحول دون انهيار كرة النيوترونات
تلك هو قوة فيرمي Fermi Force التي تمنع بقاء أكثر من
جسيم واحد ذي عدد كمي معين (كما هو الحال في المغزل مثلًا) في حالة واحدة. إذا كانت قوة
الجاذبية بالكبر الكافي حينها فسيتأتى التغلب على قوة فيرمي وتقليص حجم النجم حتى يصل
إلى حجم دائرة شوارتزشايلد، وهو ما يعني أنه لا يوجد مانع علمي من انهيار النجوم، لكن
كل هذه كانت افتراضات حيث لم تكتشف النجوم النيوترونية والثقوب السوداء إلا بعد هذا
بثلاثة عقود كاملة.
وبرغم تشكك أينشتاين في الثقوب السوداء، فإنه كان على ثقة تامة من أحد اكتشافاته
الأخرى وكان يؤمن بأن الأيام ستثبت صحته وهذا الاكتشاف هو موجات الجاذبية. كما ذكرنا
في
السابق كان أهم إنجازات معادلات ماكسويل هو النظرية التي تقول إن المجالات الكهربية
والمغناطيسية المتذبذبة قادرة على خلق موجات متحركة يمكن ملاحظتها. وبالمثل حاول
أينشتاين أن يخرج من معادلاته بنظرية عن موجات الجاذبية، هذه الموجات تتعارض مع قوانين
نيوتن لأن تلك القوانين تنص على أن قوة الجاذبية ذات تأثير فوري ينتقل إلى جميع أرجاء
الكون ويؤثر على جميع الأجسام في ذات اللحظة، لكن النسبية العامة تؤكد بشكل أو بآخر على
وجود موجات الجاذبية لأنها تقضي بأن سرعة تذبذب مجال الجاذبية لا يمكن أن تتعدى سرعة
الضوء، وهذا يعني أنه لو وقع حدث جائح كاصطدام بين ثقبين أسودين مثلًا فسينتج عنه موجة
جاذبية صادمة تتحرك بسرعة الضوء.
عام ١٩١٦ كان أينشتاين قادرًا على توضيح أنه بحسابات تقريبية بسيطة يمكن لمعادلاته
إثبات وجود حركة موجية لقوى الجاذبية، تنتشر في جميع أرجاء الزمكان بسرعة الضوء. وعام
١٩٧٣ تمكن ناثان روزن Nathan Rosen بالاشتراك مع تلميذه
من التوصل إلى حل دقيق لمعادلاته التي ترسم موجات الجاذبية دون اللجوء للتقريب مطلقًا.
ومنذ تلك اللحظة صارت موجات الجاذبية من أهم الأفكار التي تطرحها النسبية العامة
وأكثرها ثباتًا، لكن إثباتها العملي كان صعبًا حتى إن أينشتاين لم يتوقع حدوثه في
حياته، خاصة وأنه ظهر من خلال تلك الحسابات أن هذا الإثبات يفوق القدرات المعملية
المتوفرة في ذلك العصر. (بعد اكتشاف أينشتاين هذا بنحو ثمانين عامًا مُنحت جائزة نوبل
لعلماء فيزياء وجدوا أول دليل غير مباشر على موجات الجاذبية. أما الاكتشاف الفعلي
لموجات الجاذبية فقد جرى بعد تسعين عامًا من اكتشاف أينشتاين الأول، وقد تكون هذه
الموجات هي السبيل الوحيد لاستكشاف نظرية الانفجار العظيم نفسها والتوصل إلى نظرية
المجالات الموحدة.)
لكن عام ١٩٣٦ عرض المهندس التشيكي رودي ماندل
Rudi
Mandl على أينشتاين فكرة أخرى تقوم على الخصائص الفريدة للزمان
والمكان، وتطرح سؤالًا عما إذا كان يمكن استخدام جاذبية أحد النجوم القريبة كعدسة مكبرة
تعظم الضوء القادم من النجوم البعيدة. كان أينشتاين قد فكر في هذا الاحتمال سابقًا عام
١٩١٢ ثم تخلى عنه، لكن ماندل أعاده مرة أخرى إليه فتوصل إلى أن العدسة سوف تجعل المشاهد
من الأرض يرى الضوء يدور في شكل حلقي؛ للتوضيح تخيل ضوءًا قادمًا من مجرة بعيدة يمر
بمجرة قريبة، يمكن لجاذبية المجرة القريبة أن تشطر ذلك الضوء إلى نصفين كل نصف منهما
سيدور حول المجرة في اتجاه معاكس للآخر، إلى أن يتجاوزا المجرة تمامًا فحينها سيعودان
للاندماج مرة أخرى. الناظر من الأرض سيرى أشعة الضوء هذه تبدو كحلقة من الضوء وهو خداع
بصري ينتج بسبب انحناء الضوء حول المجرة القريبة، لكن أينشتاين استنتج أنه «ليس من
الراجح إمكانية مشاهدة هذه الظاهرة مباشرة»،
٤ بل إنه كتب: «إن البحث في هذا الأمر ليس بهذه الأهمية لكنه سيجعل ذلك الرجل
المسكين [يقصد ماندل] سعيدًا.»
٥ ومرة أخرى يثبت أينشتاين أنه سابق لعصره فبعد ستين سنة كاملة سوف تُكْتشف
تلك الحلقات والعدسات التي أشار إليها وستصير أدوات لا غنى عنها للفلكيين الراغبين في
استكشاف الكون.
في منتصف العشرينيات من القرن العشرين كان جل اهتمام أينشتاين منصبًّا على محاولة
الخروج بنظرية مجالات موحدة تجمع تحتها جميع القوانين الفيزيائية، لكنه كان في الوقت
نفسه يخوض معركة مع الكابوس الذي يؤرقه ليل نهار وهو نظرية الكم، وبرغم النجاح الساحق
للنسبية العامة في ذلك الوقت فإنها لم تضمن له الفوز بهذه الحرب.