الفصل الثاني
الذكاء الفائق والوحوش ونهاية العالم بالذكاء الاصطناعي
الذكاء الفائق وتجاوز الإنسانية
أدَّت الضجة المُحيطة بالذكاء الاصطناعي إلى ظهور جميع أنواع التكهُّنات حول مستقبل
الذكاء الاصطناعي ومستقبل ما سيكون عليه الإنسان. إن إحدى الأفكار الشائعة، والتي
تتكرَّر كثيرًا في وسائل الإعلام وفي النقاشات العامة حول الذكاء الاصطناعي، بل ينشرها
أيضًا خبراء التكنولوجيا المؤثِّرون الذين يُطوِّرون تقنية الذكاء الاصطناعي مثل إيلون
ماسك وراي كورزوايل، هي فكرة الذكاء الفائق، وبشكلٍ أكثر عمومية، فكرة أن الآلات
ستُسيطر علينا، وتستعبِدنا وليس العكس. بالنسبة إلى البعض، هذا حلم؛ وبالنسبة إلى
الكثيرين، هذا كابوس. وهناك مَن يرَون أنه حلم وكابوس في الوقت نفسه.
فكرة الذكاء الفائق هي أن الآلات ستتفوَّق على الذكاء البشري. وهي غالبًا ما ترتبط
بفكرة انفجار الذكاء الاصطناعي والتفرُّد التكنولوجي. ووفقًا لنيك بوستروم (٢٠١٤)، سنقع
في مأزقٍ يُماثل ذلك الذي وقعت فيه الغوريلا، التي يعتمد مصيرها اليوم علينا بشكلٍ
كامل. إنه يرى طريقَين على الأقل لبلوغ الذكاء الفائق وما يُسمَّى أحيانًا بانفجار
الذكاء الاصطناعي. أحدهما أن الذكاء الاصطناعي سوف يُطوِّر تحسينًا ذاتيًّا تكراريًّا؛
إذ يستطيع الذكاء الاصطناعي تصميم نسخةٍ مُحسَّنة من نفسه، والتي بدورها تُصمِّم نسخةً
أكثر ذكاءً من نفسها، وهكذا دواليك. أما الطريق الآخَر فهو محاكاة الدماغ بالكامل أو
تحميله: دماغ بيولوجي يُمكِن مسحه ضوئيًّا وصُنع نموذج له، ثم إعادة إنتاجِه في مكوناتٍ
برمجية ذكيَّة ومِن خلالها. يتم بعد ذلك توصيل هذه المُحاكاة
للدماغ البيولوجي بجسم إنسان آلي. وستؤدي مثل هذه
التطوُّرات إلى انفجارٍ في الذكاء غير البشري. حتى إن ماكس تجمارك (٢٠١٧) يتخيل أن
فريقًا ما يُمكِنه إنشاء ذكاء اصطناعي يُصبح في منتهى القوة بحيث يستطيع إدارة الكوكب.
ويكتب يوفال هراري عن عالَمٍ لم يعُد فيه البشر يسيطرون، ولكنهم يعبدون البيانات ويثقون
في قدرة الخوارزميات على اتخاذ قراراتهم. وبعد انهيار كلِّ أوهام الإنسانيين والمؤسسات
الليبرالية، لن يبقى للبشر إلا أن يحلموا بالاندماج في تدفُّق البيانات. يسير الذكاء
الاصطناعي في مساره الخاص، «الذهاب إلى حيث لم يذهب أي إنسانٍ من قبل؛ وإلى حيث لا يمكن
لأي إنسانٍ أن يتبعه» (Harari 2015, 393).
ترتبط فكرة انفجار الذكاء الاصطناعي ارتباطًا وثيقًا بفكرة «التفرُّد التكنولوجي»:
لحظة في تاريخ البشرية سيُحدِث فيها التقدُّم التكنولوجي الهائل تغييرًا دراماتيكيًّا
بحيث لا نعود نستوعِب ما يحدث و«تنتهي الشئون الإنسانية كما نفهمها اليوم»
(Shanahan 2015, xv). في عام ١٩٦٥، تكهَّنَ عالم
الرياضيات البريطاني إيرفينج جون جود بآلة فائقة الذكاء تُصمِّم آلاتٍ أفضل؛ وفي
التسعينيات، رأى مؤلف الخيال العلمي وعالم الكمبيوتر فيرنور فينج أن هذا سيعني نهاية
عصر الإنسان. وقد اقترح رائد علم الكمبيوتر جون فون نيومان بالفعل الفكرة في خمسينيات
القرن العشرين. وتبنَّى راي كورزوايل (٢٠٠٥) مصطلح «التفرُّد» وتوقَّع أن الذكاء
الاصطناعي، جنبًا إلى جنبٍ مع أجهزة الكمبيوتر وعلم الوراثة وتكنولوجيا النانو وعلم
الروبوتات، سيؤدي إلى نقطةٍ يكون فيها ذكاءُ الآلة أقوى من كلِّ الذكاء البشري
مُجتمعًا، ويندمج عندها الذكاء البشري وذكاء الآلة في النهاية. وسوف يتجاوز البشر حدود
أجسامهم البيولوجية. وكما جاء في عنوان كتابه: «التفرُّد قريب». وهو يعتقد أن هذا سيحدث
حوالي عام ٢٠٤٥.
ليس لهذه القصة بالضرورة نهاية سعيدة: ففي رأي بوستروم وتجمارك وآخرين، ثمَّة «مخاطر
وجودية» مُرتبطة بالذكاء الفائق. وقد تكون نتيجة هذه التطوُّرات أن الذكاء الاصطناعي
الفائق سوف يُسيطر ويتولَّى زمام الأمور ويُهدِّد حياة الإنسان الذكية. وسواء أكان هذا
الكيان واعيًا أم لا، وبصورة أعم مهما كانت حالته أو كيفية نشوئه، فإن القلق هنا
يتعلَّق بما سيفعله هذا الكيان (أو ما لا يفعله). قد لا يهتمُّ الذكاء الاصطناعي
بأهدافنا البشرية. ونظرًا لعدم امتلاكِه جسدًا بيولوجيًّا، فإنه لن يفهم حتى المعاناة
البشرية. ويُقدم بوستروم تجربةً فكرية لذكاءٍ اصطناعي يُحدَّد له هدف مُعيَّن وهو تصنيع
مشابك الورق بأكبر كمٍّ مُمكِن، فما كان منه إلا أن حوَّل كوكب الأرض والبشر الذين
يعيشون عليه إلى موارد لإنتاج مشابك الورق. إذَن التحدِّي الذي يُواجهنا اليوم هو
التأكُّد من أننا نبني ذكاءً اصطناعيًّا لا يُثير بطريقةٍ ما مشكلة السيطرة هذه؛ بمعنى
أنه يفعل ما نريد ويأخذ حقوقنا في الاعتبار. على سبيل المثال، هل يجب أن نحدَّ بطريقةٍ
ما من قدرات الذكاء الاصطناعي؟ وكيف يُمكننا احتواء الذكاء الاصطناعي؟
1
ثمَّة أفكار أخرى مترابطة وذات صلة؛ ألا وهي الأفكار المتعلِّقة بتجاوز الإنسانية.
في
ضوء الذكاء الفائق والإحباط من الضعف البشري و«الأخطاء»، يجادل أنصار تجاوز الإنسانية
مثل بوستروم بأننا بحاجةٍ إلى تعزيز الإنسان: جعله أكثر ذكاءً، وأقل عُرضةً للمرض،
وأطوَل عمرًا، وربما حتى خالدًا، مما يؤدي إلى ما يُسمِّيه هاراري «الإنسان الإله»:
ترقية البشر إلى آلهة. وكما قال فرانسيس بيكون في «دحض الفلسفات»: البشر «آلهة فانية»
(Bacon 1964, 106). لماذا لا نُحاول تحقيق الخلود؟
ولكن حتى لو لم نستطع تحقيق ذلك، فإن الآلة البشرية، وفقًا لمُناصري تجاوُز الإنسانية،
بحاجةٍ إلى ترقية. فنحن إذا لم نفعل ذلك، فسيُخاطر البشر بأن يظلوا «الجزء المُتخلف غير
الكفء بشكل متزايد» من الذكاء الاصطناعي (Armstrong 2014,
23). إن البيولوجيا البشرية بحاجةٍ إلى إعادة تصميم، ولذا يتساءل
بعض مؤيدي تجاوز الإنسانية، لماذا لا نتخلَّص تمامًا من الأجزاء البيولوجية ونُصمِّم
كائناتٍ ذكية غير عضوية؟
على الرغم من أن معظم الفلاسفة والعلماء الذين يُروِّجون لهذه الأفكار يحرصون على
تمييز آرائهم عن الخيال العلمي والدين، فإن العديد من الباحثين يُفسِّرون أفكارهم بهذه
المصطلحات بالضبط. بادئ ذي بدء، ليس من الواضح مدى ارتباط أفكارهم بالتطوُّرات
التكنولوجية الحالية وعلوم الذكاء الاصطناعي، وما إذا كان هناك فرصة حقيقية للوصول إلى
الذكاء الفائق في المُستقبل القريب، هذا إن أمكن الوصول إليه من الأساس. إذ يرفض البعض
تمامًا إمكانية الوصول إليه (انظر الفصل التالي)، وحتى هؤلاء الذين على استعدادٍ لقبول
إمكانية الوصول إليه من حيث المبدأ، مثل العالِمة مارجريت بودن، فإنهم لا يعتقدون أنه
من المُرجَّح الوصول إليه عمليًّا. إن فكرة الذكاء الفائق تفترِض أننا سنُطوِّر «الذكاء
الاصطناعي العام»، أو الذكاء الذي يكافئ الذكاء البشري أو يتفوَّق عليه، وهناك العديد
من العقبات التي يجب التغلُّب عليها قبل تحقيق ذلك. وترى بودن (٢٠١٦) أن الذكاء
الاصطناعي ليس واعدًا كما يتوقَّع الكثيرون. وفي تقريرٍ صادر عن البيت الأبيض عام ٢٠١٦،
تم التأكيد على اتفاق خبراء القطاع الخاص على أن الذكاء الاصطناعي العام لن يتحقَّق على
الأقل قبل عقود. كما يرفض العديد من الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي الرؤى المُظلمة
المتشائمة التي يُروِّج لها بوستروم وآخرون، ويحضُّون على استخدام الذكاء الاصطناعي
بشكلٍ إيجابي، كمساعدٍ أو زميل. ولكن المسألة لا تتعلق بما سيحدث فعليًّا في المستقبل.
بل يوجَد شيء آخَر يُثير القلق وهو أن هذه المناقشة حول تأثيرات الذكاء الاصطناعي في
المستقبل (البعيد) تُشتِّت الانتباه عن المخاطر الحقيقية والموجودة حاليًّا للأنظمة
التي تم نشرها فعليًّا (Crawford and Calo 2016). يبدو
أن هناك خطرًا حقيقيًّا أنه في المستقبل القريب، لن تكون الأنظمة ذكيةً بما فيه الكفاية
وأننا سنفهم آثارها الأخلاقية والاجتماعية بشكلٍ غير كافٍ، ومع ذلك سنستخدِمها على
نطاقٍ واسع. كما أن التركيز المُفرِط على الذكاء، بوصفه سِمةً رئيسية للإنسانية، وهدفًا
نهائيًّا وحيدًا، هو أيضًا أمر مشكوك فيه (Boddington
2017).
مع ذلك، تستمر الأفكار مثل الذكاء الفائق في التأثير على المناقشة العامة. ومن
المُحتمل أن تؤثِّر أيضًا على تطوُّر التكنولوجيا. على سبيل المثال، لا يُعتبر راي
كورزوايل من دُعاة المستقبلية فحسب. بل إنه يشغل منصب مدير الهندسة في شركة جوجل منذ
عام ٢٠١٢. كما يبدو أن إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة تيسلا وشركة سبيس إكس، وهو
شخصية عامة معروفة جدًّا، يؤيد سيناريوهات الذكاء الفائق والمخاطر الوجودية (سيناريوهات
الهلاك؟) التي وضعها بوستروم وكورزوايل. وقد حذَّر مرارًا من خطورة الذكاء الاصطناعي،
واعتبَرَه تهديدًا وجوديًّا وزعم أننا لا يُمكننا التحكُّم في الشيطان
(Dowd 2017). ويعتقد ماسك أن البشر سينقرضون على
الأرجح، ما لم يُدمَج الذكاء البشري والذكاء الآلي أو نتمكَّن من الهروب إلى
المريخ.
ربما تكون هذه الأفكار مؤثرة للغاية لأنها تمسُّ مخاوف وآمالًا عميقةً تتعلَّق بالبشر
والآلات داخل وعيِنا الجمعي. وسواء قَبِلنا هذه الأفكار المُحدَّدة أو رفَضْناها، فإن
هناك صِلاتٍ واضحة بالسرديات الخيالية في الثقافة البشرية والتاريخ التي تُحاول أن تفهم
الإنسان وعلاقته بالآلات. ويجدُر بنا أن نُوضِّح هذه السرديات لكي نفهم بعض هذه الأفكار
على نحوٍ أفضل ونضعها في سياقها الصحيح. وبشكلٍ عام، فإنه من المُهم أن ندمج بحث
السرديات في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، لكي نفهم الأسباب التي تجعل
بعض السرديات مُنتشرة، ومَن أنشأها، ومَن الذي يستفيد منها (Royal
Society 2018). كما يمكن أن يُساعدنا في إنشاء سرديَّات جديدة حول
مستقبل الذكاء الاصطناعي.
وحش فرانكنشتاين الجديد
مِن السبل التي يُمكننا اتخاذها لتجاوُز الضجة المثارة أن نفكِّر في بعض السرديات
ذات
الصلة من تاريخ الثقافة البشرية التي تُشكل المناقشة العامة الحالية حول الذكاء
الاصطناعي. فليست هذه هي المرة الأولى التي يتساءل فيها الناس عن مُستقبل البشرية
ومُستقبل التكنولوجيا. ومهما كانت بعض الأفكار المتعلقة بالذكاء الاصطناعي تبدو غريبة،
فإننا يُمكننا استكشاف صِلتها بأفكار وسرديات أكثر شهرة توجَد في وعينا الجمعي، أو
بشكلٍ أدق، في الوعي الجماعي للغرب.
أولًا، هناك تاريخ طويل للتفكير في البشر والآلات أو المخلوقات الاصطناعية في
الثقافات الغربية وغير الغربية على حدٍّ سواء. يُمكن العثور على فكرة إنشاء كائنات حية
من مادة غير حية في قصص الخلق في الثقافات السومرية والصينية واليهودية والمسيحية
والإسلامية. فقد كانت لدى الإغريق فكرة إنشاء بشَر اصطناعيين، وخاصة النساء
الاصطناعيات. على سبيل المثال، في الإلياذة، يُقال إن هيفايستوس يقوم على خدمته خَدَم
مصنوعون من الذهب يُشبهون النساء. وفي أسطورة بيجماليون الشهيرة، يقع النحَّات في حُب
تمثال امرأة صنَعَه من العاج. ويتمنَّى أن تدبَّ فيه الروح ويُصبح امرأة حقيقية،
فتُحقِّق له الإلهة أفروديت أُمنيته: فتصبح شفتاها دافئتَين وجسدُها ناعمًا. ويُمكننا
بسهولة هنا ملاحظة الصِّلة بين ذلك وبين الروبوتات الجنسية المعاصرة.
هذه السرديَّات لا تأتي فقط من الأساطير: ففي كتابه «الأوتوماتا»، قدَّم عالِم
الرياضيات والمهندس الإغريقي هيرون السكندري (ولد عام ١٠) أداة اكتشفَت في البحر، وهي
آلية «أنتيكيثيرا»، التي تُحدد أنها كمبيوتر تناظُري إغريقي يعتمد على آلية مُعقَّدة
من
التروس والمُسنَّنات. ولكن القصص الخيالية التي تجعل الآلات تُشبِه البشر تسلُب ألبابنا
بشكلٍ خاص. فلنأخذ، على سبيل المثال، أسطورة الجوليم: وحش مصنوع من الطين صنَعَه حاخام
في القرن السادس عشر، ثم فقَدَ السيطرة عليه. هنا نواجِهُ نسخة مُبكِّرة من مشكلة
التحكُّم. ويمكن تفسير أسطورة بروميثيوس بهذه الطريقة أيضًا؛ إذ يسرق النار من الآلهة
ويُعطيها إلى البشر، لكنه يُعاقَب بعد ذلك. وعقوبته الأبدية هي أن يُربط بصخرةٍ بينما
يأكل النسر كبِدَه كلَّ يوم. وقد كان الدرس القديم من هذه الأسطورة هو التحذير من
الغطرسة: فهذه القدرات ليست مُقدَّرة للبشر.
ومع ذلك، في رواية ماري شيلي «فرانكنشتاين» — التي تحمل العنوان الفرعي الدال
«بروميثيوس الحديث» — يُصبح إنشاء حياة ذكية من مادة غير حيَّة مشروعًا علميًّا حديثًا.
حيث ينشئ العالم فيكتور فرانكنشتاين كائنًا شبيهًا بالإنسان من أجزاء الجثث، لكنه يفقد
السيطرة عليه. ومع أن الحاخام استطاع أن يُسيطر على الجوليم في النهاية، فإن الأمر ليس
كذلك في هذه الحالة. ويمكن اعتبار فرانكنشتاين رواية رومانسية تُحذِّر من التكنولوجيا
الحديثة، ولكنها تستند إلى العلم في زمنِها. على سبيل المثال، يلعب استخدام الكهرباء
—
وهي تقنية جديدة جدًّا في ذلك الوقت — دورًا مهمًّا؛ إذ تُستخدَم لإحياء الجثة. كما
أنها تُشير إلى المغناطيسية وعِلم التشريح. في ذلك الوقت، كان المفكِّرون والكتَّاب
يناقشون طبيعة الحياة وأصلها. ما قوة الحياة؟ لقد تأثرت ماري شيلي بعلوم
عصرها.
2 وتُظهر القصة كيف كان الرومانسيون في القرن التاسع عشر مفتونين في كثيرٍ من
الأحيان بالعلم، فضلًا عن أملهم في أن يُحرِّرنا الشِّعر والأدب من الجوانب الأكثر
ظُلمةً في الحداثة (
Coeckelbergh 2017). يجب ألَّا
نعتبر هذه الرواية بالضرورة ضد العلم والتكنولوجيا؛ إذ يبدو أن الرسالة الرئيسية التي
تحرص على توصيلها هي أن العلماء ينبغي أن يتحملوا مسئولية اختراعاتهم. يهرب الوحش،
ولكنه يفعل ذلك لأن صانعه يرفضه. يجب أن نتذكَّر هذا الدرس فيما يتعلَّق بأخلاقيات
الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، تؤكِّد الرواية بوضوح خطر التكنولوجيا التي تخرج عن
السيطرة، وعلى وجه الخصوص خطر البشر الاصطناعيين الذين يُصيبهم الجنون. تعود هذه
المخاوف للظهور على السطح في القلق المُعاصر من أن يخرج الذكاء الاصطناعي عن
السيطرة.
في رواية ماري شيلي «فرانكنشتاين» — التي تحمل العنوان الفرعي الدال «بروميثيوس
الحديث» — يُصبح إنشاء حياة ذكية من مادة غير حية مشروعًا علميًّا حديثًا.
وعلاوةً على ذلك، كما هو الحال في رواية «فرانكنشتاين» وأسطورة «الجوليم»، تظهر سردية
المنافسة: فالمخلوقات الاصطناعية تتنافس مع الإنسان. وتستمرُّ هذه السردية في تشكيل
خيالنا العلمي حول الذكاء الاصطناعي، ولكنها أيضًا تؤثِّر على تفكيرنا المُعاصر في
التكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات. فلنأخُذ مسرحية «روبوتات روسوم العالمية»
التي كتبت عام ١٩٢٠ مثالًا، وهي تتناول قصة الروبوتات العبيد التي تتمرَّد على سيدها
وتثور عليه، أو فيلم «٢٠٠١: سبيس أوديسي» (٢٠٠١: أوديسة الفضاء) الذي أنتج عام ١٩٦٨
والذي ذكرناه من قبلُ، ويتحدَّث عن ذكاء اصطناعي يبدأ في قتل طاقم المركبة الفضائية
لتحقيق مهمَّته، أو فيلم «إكس ماكينا» الذي أنتج عام ٢٠١٥ ويروي قصة روبوت الذكاء
الاصطناعي «أفا» التي تنقلب على صانعها. كما يندرج تحت سردية الآلات التي تتمرَّد علينا
مجموعة أفلام «المُدمِّر» (ترمينيتور). وقد وصف كاتب الخيال العلمي أيزاك أسيموف هذا
الخوف ﺑ «عقدة فرانكنشتاين»: الخوف من الروبوتات. ويرتبط هذا أيضًا بالذكاء الاصطناعي
اليوم. وهو أمر يتعيَّن على العلماء والمُستثمرين التعامُل معه. فبعضهم يُحاربون هذا
الخوف؛ وبعضهم يساعد في خلقه والحفاظ عليه. وقد أشرتُ بالفعل إلى مثال «ماسك». وثمَّة
مثال آخَر على شخصية مؤثرة ساهمت في نشر الخوف من الذكاء الاصطناعي وهو عالم الفيزياء
ستيفن هوكينج، الذي صرَّح في عام ٢٠١٧ بأن خلق الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أسوأ
حدَثٍ في تاريخ حضارتنا (Kharpal 2017). إن «عقدة
فرانكنشتاين» منتشرة وعميقة الجذور في الثقافة
والحضارة الغربية.
التسامي ونهاية العالم بسبب الذكاء الاصطناعي
ثمة مقدمات لأفكار مثل «تجاوز الإنسانية» و«التفرُّد التكنولوجي» في تاريخ التفكير
الديني والفلسفي الغربي أو على الأقل توجَد أفكار مشابهة لها، ولا سيما في التقاليد
اليهودية المسيحية وفي الفكر الأفلاطوني. وعلى عكس ما يعتقده الكثيرون، فإن الدين
والتكنولوجيا كانا دائمًا مُترابطَين في تاريخ الثقافة الغربية. ودعوني أحصر نقاشي هنا
في التسامي ونهاية العالم.
في الدين اللاهوتي، يقصد بالتَّسامي أن الإله «فوق» العالم المادي والجسدي ومُستقل
عنه، وهي فكرة مُناقضة لفكرة أنه موجود في العالَم وأنه جزء منه (الحلولية). في التقليد
اليهودي المسيحي الأحادي اللاهوتي، يُرى الله على أنه يتسامى فوق خلقه. ويُمكن في الوقت
نفسه أيضًا أن يُرى على أنه مُتغلغل في كل مخلوقاتِه وفي كل الكائنات (أي إنه يحلُّ
فيها)، وعلى سبيل المثال، في اللاهوت الكاثوليكي، يُفهم الله كما يتجلَّى من خلال ابنه
(المسيح) والروح القدس. ويبدو أن سرديات الذكاء الاصطناعي التي تتجلى فيها «عقدة
فرانكنشتاين» تؤكد فكرة التسامي بمعنى أن هناك انفصالًا أو فجوة بين الخالق والمخلوق
(بين الإنسان الإله والذكاء الاصطناعي)، دون إعطاء الكثير من الأمل في إمكانية تجاوز
هذه الفجوة.
على عكس ما يعتقده الكثيرون، فإن الدين والتكنولوجيا كانا دائمًا مُترابطَين في
تاريخ الثقافة الغربية.
التسامي يمكن أيضًا أن يُشير إلى تجاوز الحدود، أو تخطِّي شيءٍ ما. في التاريخ الديني
والفلسفي الغربي، اتخذت هذه الفكرة في كثيرٍ من الأحيان شكلَ السمو فوق العالم المادي
والجسدي وتجاوُز حدوده. على سبيل المثال، في منطقة البحر المتوسِّط في القرن الثاني
الميلادي، كانت الغنوصية تنظر إلى المادَّة جميعها باعتبارها شرًّا، وتهدف إلى تحرير
الشعلة الإلهية من الجسد البشري. وفي وقتٍ أسبَق، رأى أفلاطون الجسد سجنًا للروح. وعلى
عكس الجسد، كان ينظر إلى الروح على أنها خالدة. وفي الميتافيزيقا الخاصة به، ميَّز
أفلاطون بين الأشكال، التي هي أبدية، والأشياء الموجودة في العالم، التي تتغير؛ فالأولى
تتسامى فوق الأخيرة وتتجاوزها. وهناك أفكار في مبدأ تجاوز الإنسانية تُذكِّرنا بهذا.
فهي تُحافظ على هدف التسامي بمعنى تجاوز القيود البشرية، وليس هذا فحسب، بل إن الطرق
الخاصة التي يُفترض أن يحدث بها هذا التسامي تستحضر أفلاطون والغنوصية: لتحقيق الخلود،
يجب التسامي فوق الجسد البيولوجي عن طريق تحميل أدواتٍ اصطناعية وتطويرها. بشكلٍ أكثر
عمومية، عندما يَستخدِم الذكاء الاصطناعي والعلوم والتكنولوجيا ذات الصلة الرياضيات
لاستخلاص أشكالٍ أكثر نقاءً من العالَم المادي الفوضوي، يمكن تفسير ذلك على أنه برنامج
أفلاطوني يتحقَّق بواسطة وسائل تكنولوجية. ومن هنا يتبيَّن أن خوارزمية الذكاء
الاصطناعي هي آلة أفلاطونية تستخلِص شكلًا (أو نموذجًا) من عالَم الظواهر
(البيانات).
التسامي يمكن أيضًا أن يعني تجاوز الحالة الإنسانية. في التقليد المسيحي، يمكن أن
يأخذ هذا شكل محاولة رأب الفجوة بين الله والبشر من خلال تحويل البشر إلى آلهة، ربما
عن
طريق استعادة تشابُههم مع الآلهة وكمالهم الأصلي (Noble
1997). ولكن سَعْي مؤيدي تجاوز الإنسانية للخلود ليس جديدًا، بل
يمكن تتبُّعه إلى العصور القديمة. إذ يُمكننا أن نجده في الميثولوجيا الميزوبوتامية
(الأساطير التي تأتي من منطقة ما بين النهرَين): تحكي لنا قصة «ملحمة جلجامش»، وهي
واحدة من أقدم القصص المكتوبة عن البشرية، عن ملك أوروك (جلجامش)، الذي يبحث عن الخلود
بعد وفاة صديقه إنكيدو. ولكنه يفشل في العثور عليه: ومع ذلك، ينجح في الحصول على نبتةٍ
يُقال إنها تُعيد الشباب، ولكن تسرقها أفعى، وفي النهاية، يتعيَّن عليه أن يتعلَّم
الدرس بأن عليه مواجهة حقيقة موتِه هو شخصيًّا؛ إذ إن سعيه إلى الخلود بلا جدوى. على
مرِّ التاريخ، كان الناس يبحثون عن إكسير الحياة. واليوم، تبحث العلوم عن علاجاتٍ
مضادَّة للشيخوخة. ومِن هذا المنطلق، فإن سعي مؤيدي مبدأ تجاوز الإنسانية إلى الخلود
أو
إلى إطالة العمر ليس جديدًا أو غريبًا؛ بل هو واحد من أقدم أحلام البشرية وأهداف العلم
المُعاصر. وفي أيدي مؤيدي تجاوز الإنسانية، يُصبح الذكاء الاصطناعي هو أداة التجاوز
التي تَعِدنا بالخلود.
من المفاهيم القديمة الأخرى التي تساعدنا على وضع أفكار تجاوز الإنسانية في سياقها،
ولا سيما فكرة التفرُّد التكنولوجي، مفهوم نهاية العالم (أبوكاليبس) والأخروية. ومصطلح
«أبوكاليبس» عند الإغريق القدماء، الذي يلعب أيضًا دورًا في الفكر اليهودي والمسيحي،
يُشير إلى كشف الحجاب. وفي الوقت الحاضر، يُشير هذا المصطلح غالبًا إلى نوع معيَّن من
الكشف: وهو كشف سيناريو نهاية الزمان أو نهاية العالم. وفي السياقات الدينية، نجد مصطلح
«الأخروية»: وهو جزء من علم اللاهوت يتعلَّق بالأحداث النهائية للتاريخ والمصير النهائي
للبشرية. وتنطوي معظم الأفكار الأخروية وتلك التي تتعلَّق بنهاية العالم على تخريب أو
تدمير جِذري وغالبًا عنيف للعالم، والاتجاه نحو مستوى أعلى من الواقع والكينونة والوعي.
ويُذكرنا ذلك أيضًا بالطوائف والجماعات المتطرفة المتشائمة التي كانت وما تزال تتنبَّأ
بالكوارث ونهاية العالم. ورغم أن مؤيدي تجاوز الإنسانية في العادة ليس لهم علاقة بمثل
هذه الطوائف والممارسات الدينية، فإن فكرة التفرد التكنولوجي تُشبه إلى حدٍّ ما سرديات
نهاية العالَم والأخروية والتنبؤ بالكوارث، وهذا أمر واضح.
بالتالي، بينما يستند تطوير الذكاء الاصطناعي إلى علمٍ من المُفترَض أنه لا خيالي
ولا
ديني، وبينما ينأى مؤيدو تجاوز الإنسانية بأنفسهم عادةً عن الدين ويرفضون أيَّ اقتراحٍ
بأن أعمالهم تستنِد إلى الخيال، إلا أن الخيال العلمي والأفكار الدينية والفلسفية
القديمة تلعب بالضرورة دورًا مُهمًّا عندما نناقش مُستقبل الذكاء الاصطناعي من هذا
المنطلق.
كيفية تجاوز سرديات المنافسة وتجاوز الضجَّة المُثارة حول الذكاء الاصطناعي
يمكن للمرء أن يتساءل الآن: هل هناك سبُل للنجاة؟ هل يُمكننا تجاوز سرديات المنافسة
وإيجاد طرقٍ أكثر رسوخًا لفهم مستقبل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المُماثلة؟ أم إن
التفكير الغربي حول الذكاء الاصطناعي محكوم عليه بالبقاء في سجن هذه المخاوف العصرية
وجذورها القديمة؟ هل يُمكننا تجاوز الضجة المثارة حول الذكاء الاصطناعي؟ أم ستظلُّ
المناقشة مُنصَبَّة على الذكاء الفائق؟ أعتقد أن لدَينا سبلًا للنجاة.
رغم أن مؤيدي تجاوز الإنسانية في العادة ليس لهم علاقة بمثل هذه الطوائف
والمُمارسات الدينية، فإن فكرة التفرُّد التكنولوجي تُشبه إلى حدٍّ ما سرديات نهاية
العالم والأخروية والتنبؤ بالكوارث.
أولًا، يمكننا تجاوز الثقافة الغربية للعثور على أنواع مختلفة من السرديَّات غير
المَبنية على «عقدة فرانكنشتاين» فيما يخص التكنولوجيا وطرق التفكير غير الأفلاطونية.
على سبيل المثال، في اليابان حيث تتأثر ثقافة التكنولوجيا بديانات الطبيعة أكثر من
الغرب، وتحديدًا بديانة الشنتو، وحيث صوَّرت الثقافة الشعبية الآلات كمُساعدين، نجد
موقفًا أكثر ودًّا تجاه الروبوتات والذكاء الاصطناعي. هنا، لا نجد عقدة فرانكنشتاين.
وتنطوي طريقة التفكير التي يُطلق عليها أحيانًا «الأرواحية» على أن الذكاء الاصطناعي
يمكن أيضًا من حيث المبدأ أن يمتلك روحًا أو نفسًا، ويمكن أن يُعتبَر مقدسًا. وهذا يعني
عدم وجود سردية تنافُسية؛ وعدم وجود رغبة أفلاطونية في تجاوز المادية والدفاع المُستمر
عن الإنسان بوصفه كائنًا يسمو فوق الآلة ويتجاوزها، أو يختلف عنها اختلافًا جوهريًّا.
في حدود معرفتي، لا تشتمِل الثقافة الشرقية على أفكار حول نهاية الزمان. وعلى عكس
الديانات التوحيدية، تحمل ديانات الطبيعة فهمًا دوريًّا للزمن. وبالتالي، يمكن أن يساعد
النظر إلى ما هو أبعد من الثقافة الغربية (أو في واقع الأمر إلى الماضي القديم للغرب،
حيث نجد أيضًا ديانات طبيعة) في التقييم النقدي للسرديات السائدة حول مستقبل الذكاء
الاصطناعي.
ثانيًا: لتجاوز الضجة المُثارة حول الذكاء الاصطناعي وتجنُّب حصر مناقشة أخلاقيات
الذكاء الاصطناعي في أحلام المستقبل البعيد وكوابيسه، يُمكننا (١) استخدام الفلسفة
والعلم لفحص ومناقشة الافتراضات المتعلِّقة بالذكاء الاصطناعي والإنسان الذي يلعب دورًا
في هذه السيناريوهات والمناقشات (مثل: هل الذكاء العام مُمكن؟ ما الفارق بين الإنسان
والآلة؟ ما العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا؟ ما الوضع الأخلاقي للذكاء الاصطناعي؟)؛
و(٢) النظر بتفصيلٍ أكثر إلى ماهية الذكاء الاصطناعي الموجود وما يفعله اليوم في
التطبيقات المختلفة؛ و(٣) مناقشة المشكلات الأخلاقية والاجتماعية الأكثر واقعيةً
وإلحاحًا التي يُثيرها الذكاء الاصطناعي كما يُطبق اليوم؛ و(٤) التفكير في سياسة الذكاء
الاصطناعي للمستقبل القريب؛ و(٥) طرح تساؤل عما إذا كان التركيز على الذكاء الاصطناعي
في الخطاب الجماهيري الحالي مُفيدًا في ضوء المشكلات الأخرى التي تُواجهنا، وما إذا كان
تركيزنا ينبغي أن ينصبَّ على الذكاء الاصطناعي وحدَه. وسوف نتبع هذه المسارات في الفصول
القادمة من الكتاب.