الفصل الثالث

كل ما له علاقة بالبشر

هل الذكاء الاصطناعي العام مُمكن؟ هل هناك فروق جوهرية بين الإنسان والآلة؟

تفترض رؤية أنصار تجاوز الإنسانية للمُستقبل التكنولوجي أن الذكاء الاصطناعي العام (أو الذكاء الاصطناعي القوي) ممكن، ولكن هل هو كذلك؟ بعبارةٍ أخرى، هل يُمكننا إنشاء آلات تتمتَّع بقدرات معرفية تُشبه تلك الخاصة بالبشر؟ إذا كانت الإجابة لا، فإن رؤية الذكاء الفائق بالكامل تُصبح غير ذات صِلة بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي. فإذا كان مِن المُستحيل أن تتمتَّع الآلات بالذكاء البشري العام، فإننا غير مُضطرين إلى أن نقلق بشأن الذكاء الفائق. بشكلٍ عام، يبدو أن تقييمنا للذكاء الاصطناعي يعتمِد على فهمنا لماهية الذكاء الاصطناعي في الوقت الحالي وما يُمكن أن يصبح عليه في المستقبل، كما يعتمد على رؤيتنا للفروق بين الإنسان والآلة. على الأقل منذ منتصف القرن العشرين، ناقش الفلاسفة والعلماء ما تستطيع أجهزة الكمبيوتر أن تقوم به وما يُمكن أن تُصبح عليه، والفروق بين الإنسان والآلة الذكية. دعونا نُلقي نظرةً على بعض هذه النقاشات، التي تتناول ماهية الإنسان وما يجب أن يكون عليه، بقدْر ما تتناول ماهية الذكاء الاصطناعي وما يجب أن يكون عليه.

هل يمكن لأجهزة الكمبيوتر أن تتمتَّع بالذكاء والوعي والإبداع؟ هل يُمكنها فهم الأشياء وإدراك المعاني؟ هناك تاريخ من النقد والشك في إمكانية وجود ذكاء اصطناعي مُشابِهٍ لذكاء الإنسان. في عام ١٩٧٢، نشر هيوبرت دريفوس، فيلسوف ذو خلفية في علم الظواهر، كتابًا بعنوان «ما لا تستطيع أجهزة الكمبيوتر فعله».1 منذ الستينيَّات، كان دريفوس يُظهر انتقادًا شديدًا للأساس الفلسفي للذكاء الاصطناعي وشكَّك في وعوده: وقال إن برنامج الذكاء الاصطناعي البحثي محكوم عليه بالفشل. وقبل أن ينتقل إلى بيركلي، كان يعمل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو مكان مُهم لتطوير الذكاء الاصطناعي، والذي كان يعتمد أساسًا في ذلك الوقت على المُعالجة الرمزية. رأى دريفوس أن الدماغ ليس جهاز كمبيوتر وأن العقل لا يعمل عن طريق المُعالجة الرمزية. إن لدَينا خلفية لا واعية من المعرفة المشتركة القائمة على الخبرة وما يمكن أن يُطلِق عليه هايدجر «كينونتنا في العالم»، وهذه المعرفة ضِمنية ولا يمكن تشكيلها. وتعتمد خبرة الإنسان، حسب رأي دريفوس، على المُمارسة بدلًا من المعرفة. ولا يستطيع الذكاء الاصطناعي الْتِقاط هذا المعنى والمعرفة الضمنية؛ وإذا كان هذا هو هدف الذكاء الاصطناعي، فهذا محضُ أساطير. فالبشر وحدَهم قادرون على رؤية ما هو ذو صلة لأنهم، بوصفِهم كائنات مُتجسِّدة ووجودية، يشاركون في العالم وقادرون على الاستجابة لمتطلبات الوضع.

هناك تاريخ من النقد والشك في إمكانية وجود ذكاء اصطناعي مُشابِهٍ لذكاء الإنسان.

في ذلك الوقت، واجهَ دريفوس الكثير من المعارضة، ولكن في وقتٍ لاحق، لم يعُد الكثيرون من باحثي الذكاء الاصطناعي يعِدُون بتحقيق الذكاء الاصطناعي العام أو يتوقَّعون تحقيقه. وانتقلت أبحاث الذكاء الاصطناعي من الاعتماد على مُعالجة الرموز إلى نماذج جديدة، ومنها تعلُّم الآلة القائم على الإحصاء. وفي حين كانت هناك فجوة هائلة في وقت دريفوس بين عِلم الظواهر والذكاء الاصطناعي، فإن العديد من باحثي الذكاء الاصطناعي اليوم يعتنِقون مناهج العلوم المعرفية المتجسِّدة والموجودة، التي تدَّعي أنها أقرب إلى علم الظواهر.

ومع ذلك، فإن اعتراضات دريفوس لا تزال صائبةً وتُظهر كيف يمكن أن تتعارَض وجهات نظر الإنسان غالبًا مع الآراء العلمية، خاصة — ولكن ليس حصريًّا — فيما يُسمَّى بالفلسفة القارية. يُشدِّد الفلاسفة القاريون عادةً على أن البشر والعقول البشرية مختلفة اختلافًا جوهريًّا عن الآلات، ويُركِّزون على التجربة الإنسانية الواعية والوجود الإنساني، الذي لا يمكن ولا ينبغي اختزاله في أوصاف شكلية أو تفسيرات علمية. من جهة أخرى، يؤيد بعض الفلاسفة — غالبًا من منطلق التقليد التحليلي للفلسفة — رؤية للإنسان تدعم الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي الذين يعتقدون أن الدماغ والعقل البشري يُشبهان ويعملان حقًّا مثل نماذج الكمبيوتر الخاصة بهم. ومن أمثلة هؤلاء الفلاسفة بول تشيرشلاند ودانييل دنيت. يعتقد تشيرشلاند أن العلم، وخاصة عِلم الأحياء التطوُّري وعلم الأعصاب، والذكاء الاصطناعي يُمكنهما تفسير الوعي البشري تفسيرًا كاملًا. ويعتقد أن الدماغ عبارة عن شبكةٍ عصبية مُتكرِّرة. وينكر وجود أفكار أو تجارب غير مادِّية فيما يُطلَق عليه المادية الإقصائية. فما نُسمِّيه أفكارًا وتجارب ما هو إلا حالات للدماغ. وينكر دنيت أيضًا وجود أي شيءٍ بخلاف ما يحدُث في الجسم: ويرى أننا «نحن أنفسنا نوع من الروبوتات» (Dennett 1997). وإذا كان الإنسان في الأساس آلة واعية، فإن مثل هذه الآلات مُمكنة، وليس فقط من حيث المبدأ ولكن في الواقع. يُمكننا أن نحاول صنعها. ومن الأهمية بمكانٍ أن كلًّا من الفلاسفة القاريين والتحليليين يُعارضان الثنائية الديكارتية التي تفصل بين العقل والجسم، ولكن لأسبابٍ مختلفة: فالفلاسفة القاريون يعتقدون أن وجود الإنسان يتعلَّق بكونه في العالَم الذي لا يُفصل فيه العقل عن الجسم، أما الفلاسفة القاريون فيعتقدون لأسبابٍ مادية أن العقل ليس شيئًا مُستقلًّا عن الجسم.
ولكن ليس جميع الفلاسفة التحليليِّين يرَون أن الذكاء الاصطناعي العام أو القوي مُمكن. من وجهة نظر الفيلسوف فيتجنشتاين (في وقتٍ لاحق)، يمكن للشخص أن يُجادل بأنه في حين يمكن لمجموعةٍ من القواعد أن تصف ظاهرةً معرفية، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن لدَينا فعليًّا قواعد في رءوسنا (Arkoudas and Bringsjord 2014). كما هو الحال مع انتقاد دريفوس، يُثير هذا مشكلة لنوعٍ واحد من أنواع الذكاء الاصطناعي، وهو الذكاء الاصطناعي الرمزي، إذا افترض أن هذه هي الطريقة التي يُفكِّر بها البشر. ثمَّة انتقاد فلسفي آخَر للذكاء الاصطناعي يأتي من جون سيرل، الذي يُعارض فكرة أن برامج الكمبيوتر يمكن أن تكون لديها حالات معرفية حقيقية أو فهم للمعنى (Searle 1980). وفيما يلي التجربة الفكرية التي يُقدِّمها، والتي تُعرَف باسم حجَّة الغرفة الصينية: يُحبَس سيرل في غرفة ويُعطى كتابات صينية ولكنه لا يعرف الصينية. ومع ذلك، يستطيع الرد على الأسئلة التي يطرحها أشخاصٌ خارج الغرفة يتحدثون بالصينية لأنه يستخدم كُتيِّب القواعد الذي يُمكِّنه من إنتاج الإجابات الصحيحة (مُخرجات) استنادًا إلى المستندات (المدخلات) التي يتلقَّاها. وهو يستطيع القيام بذلك بنجاحٍ دون فهم اللغة الصينية. وبالمثل، يُجادل سيرل، يُمكن لبرامج الكمبيوتر إنتاج مُخرجَات استنادًا إلى مدخلات بالاستعانة بالقواعد التي تُزوَّد بها، ولكنها لا تفهم شيئًا. بمصطلحات فلسفية أكثر تخصُّصًا: لا تمتلك برامج الكمبيوتر قصدية، ولا يمكن خلق فهم حقيقي بواسطة الحوسبة الشكلية. أو كما يقول بودن (٢٠١٦)، الفكرة هي أن المعنى يأتي من البشر.

على الرغم من أن برامج الكمبيوتر الحالية للذكاء الاصطناعي غالبًا ما تختلف عن تلك التي انتقدها دريفوس وسيرل، فإن النقاش لا يزال مُستمرًّا. يعتقد العديد من الفلاسفة أن هناك فروقًا حاسمة بين طريقة تفكير البشر وأجهزة الكمبيوتر. على سبيل المثال، يمكن للمرء اليوم أن يُجادل بأننا كائنات قادرة على خَلْق المعنى، وواعية ومُتجسِّدة وحية، ولا يمكن تفسير طبيعتنا وعقولنا ومعرفتنا بالمقارنة بالآلات. ومع ذلك، عليك أن تلاحظ أنه حتى العلماء والفلاسفة الذين يعتقدون أن هناك الكثير من التشابُه بين البشر والآلات من حيث المبدأ، وأن الذكاء الاصطناعي العام مُمكن نظريًّا، يرفضون في كثيرٍ من الأحيان رؤية بوستروم للذكاء الفائق وأفكار مُماثلة تَعتبِر أن الذكاء الاصطناعي المُشابه لذكاء الإنسان قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقُّق. فبودن ودنيت كلاهما يعتقدان أن الذكاء الاصطناعي العام صعب جدًّا تحقيقه عمليًّا، وبالتالي ليس شيئًا يجب القلق بشأنه في الوقت الحالي.

نحن كائنات قادرة على خَلْق المعنى، وواعية ومتجسدة وحية، ولا يمكن تفسير طبيعتنا وعقولنا ومعرفتنا بالمقارنة بالآلات.

وبناءً عليه يمكننا القول إن هناك، في خلفية النقاش حول الذكاء الاصطناعي، تبايُن عميق في الآراء حول طبيعة الإنسان والذكاء البشري والعقل والفهم والوعي والإبداع والمعنى والمعرفة البشرية والعلوم، وهكذا. فإذا كان ثمة «معركة» من الأساس، فهي معركة تتعلَّق بالإنسان بقدْر ما تتعلَّق بالذكاء الاصطناعي.

الحداثة و(ما بعد) الإنسانية وما بعد الظاهرية

من وجهة نظرٍ أوسَع في العلوم الإنسانية، من المهم أن نضع هذه النقاشات حول الذكاء الاصطناعي والإنسان في سياقٍ أوسَع للوقوف على ماهيتها وما تنطوي عليه. فهذه النقاشات لا تتعلَّق بالتكنولوجيا والإنسان فحسب، ولكنها تعكس انقساماتٍ عميقة في الحداثة. دعوني أمرُّ مرور الكرام على ثلاثة انقسامات تُساهم بشكلٍ غير مباشر في تشكيل المناقشات الأخلاقية حول الذكاء الاصطناعي. الانقسام الأول هو انقسام ظهَرَ في مُستهَلِّ عصر الحداثة بين حركتَي التنوير والرومانسية. أما الآخَران فهما تطوُّرات حديثة نسبيًّا: الأول بين الإنسانية وتجاوز الإنسانية، ويبقى حبيس توترات الحداثة، والثاني بين الإنسانية وما بعد الإنسانية، والذي يُحاول تخطِّي الحداثة.

إحدى وسائل فهم النقاش حول الذكاء الاصطناعي والإنسان هي أن نضع في الاعتبار التوتُّر القائم بين التنوير والرومانسية في الحداثة. في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، تحدى العلماء والمُفكرون التنويريون الآراء الدينية التقليدية وزعموا أن العقل والشك والعلم تُظهِر لنا ماهية الإنسان والعالم الحقيقية، على عكس المُعتقدات المُسلَّم بها غير المُبررة بالحجج أو غير المدعومة بالأدلة. وكانوا متفائلين حيال ما يمكن أن يقدِّمه العلم لصالح الإنسانية. ردًّا على ذلك، قال الرومانسيون إن العقل المجرَّد والعلم الحديث قد أفقدا العالَم سِحره وأننا في حاجة إلى إعادة الغموض والسحر اللذَين يُريد العلم القضاء عليهما. عند النظر إلى النقاش حول الذكاء الاصطناعي، يبدو لنا أننا لم نبتعِد كثيرًا عن ذلك. على سبيل المثال، يستهدف عمل دنييت حول الوعي وعمل بودين حول الإبداع تقديم تفسيراتٍ لكل شيء، أو كما يقول دنييت «فك السحر». فهذان الفيلسوفان مُتفائلان بأن العلم يُمكنه كشف غموض الوعي والإبداع وغيرهما. إنهما يُعارضان كلَّ مَن يقاوم جهود فك سحر الإنسان، مثل الفلاسفة القاريين الذين يسيرون في ركب ما بعد الحداثة ويُشدِّدون على غموض معنى أن تكون إنسانًا؛ بعبارة أخرى: الرومانسيين الجُدد. يبدو أن سؤال «هل نفكُّ السحر أم نحتفظ بغموض الإنسان؟» هو السؤال الرئيسي في المناقشات التي تتناول الذكاء الاصطناعي العام ومُستقبله.

أما التوتر الثاني فهو بين مؤيدي الإنسانية ومؤيدي تجاوز الإنسانية. ما هو «الإنسان»، وماذا يجب أن يكون؟ هل من المُهم الدفاع عن الإنسان كما هو، أم يتعيَّن علينا تعديل تصوُّرنا له؟ يحتفي دُعاة الإنسانية بالإنسان كما هو. ومن الناحية الأخلاقية، يُشدِّدون على القيمة الجوهرية والمتفوِّقة للبشر. ويُمكننا العثور على أفكار دعاة الإنسانية في النقاش الدائر عن الذكاء الاصطناعي في الحجج التي تُدافع عن حقوق الإنسان وكرامته كأساسٍ لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، أو في الحجة المؤيدة لأن يكون البشر وقِيَمُهم في قلب وفي مركز مسألة تطوير الذكاء الاصطناعي ومُستقبله. هنا غالبًا ما تتَّفق الإنسانية مع التفكير التنويري. ولكن يُمكن أن تأخذ أيضًا أشكالًا أكثر تحفظًا أو رومانسية. كذلك يُمكننا أن نعثر على الإنسانية في مقاومة مشروع دُعاة تجاوز الإنسانية. فبينما يعتقد دُعاة تجاوز الإنسانية أنَّ علينا المُضُي قدمًا نحو نوع جديدٍ من الإنسان يتم تحسينُه بواسطة العلم والتكنولوجيا، يدافع الإنسانيون عن الإنسان كما هو، ويشددون على قيمته وكرامته، التي يُقال إنها مهدَّدة من قِبل علوم دعاة تجاوز الإنسانية وفلسفتهم.

ردود الفعل الدفاعية تجاه التكنولوجيا الجديدة لها تاريخها الخاص. ففي العلوم الاجتماعية والإنسانية، كثيرًا ما تُنتقَد التكنولوجيا باعتبارها تهديدًا للإنسانية والمجتمع. على سبيل المثال، كان كثيرٌ من فلاسفة القرن العشرين شديدي التشاؤم حيال العلم، وحذروا من سيطرة التكنولوجيا على المجتمع. ولكن الصراع الآن لا يتعلَّق فقط بحياة الإنسان والمجتمع، بل يتعلَّق بالإنسان نفسه: هل نحن بصدد تحسينه وتطويره أم لا؟ هذا هو السؤال. فمن جهة، يُصبح الإنسان نفسه مشروعًا علميًّا تكنولوجيًّا، قابلًا للتحسين والتطوير. وبمجرَّد أن يُفَك سحر الإنسان — من خلال داروين وعلم الأعصاب والذكاء الاصطناعي — يُمكننا أن نبدأ في تحسينه. ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يُساعدنا في تحسين الإنسان. ومن جهة أخرى، يجب علينا أن نحتضِن الإنسان كما هو. وربما يقول البعض: دائمًا ما يفوتنا أن نُدرك ماهية الإنسان. فنحن لا نستطيع أن نفهمه فهمًا تامًّا بواسطة العلم.

تستمر هذه التوتُّرات في تقسيم العقول والقلوب في هذا النقاش. فهل يُمكننا تخطِّيها؟ عمليًّا، يمكن للمرء أن يتخلَّى عن هدف إنشاء ذكاءٍ اصطناعي شبيه بالإنسان. ولكن حتى في هذه الحالة، تظلُّ هناك خلافات بشأن وضع «آلات الذكاء الاصطناعي كنماذج للبشر» المُستخدَم في علم الذكاء الاصطناعي. هل تُعلِّمنا حقًّا شيئًا عن كيفية تفكير البشر؟ أم إنها تُعلِّمنا فقط شيئًا عن نوعٍ معيَّن من التفكير، على سبيل المثال تفكير يمكن صياغته بواسطة الرياضيات، أو تفكير يهدف إلى السيطرة والتلاعُب؟ إلى أي مدًى يُمكننا حقًّا التعلُّم من هذه التقنيات عن الإنسان؟ هل البشرية أكبر مما يستطيع العلم أن يُدرك؟ حتى في المناقشات الأكثر اعتدالًا، تظهر الصراعات بشأن الحداثة.

للخروج من هذا المأزق، يُمكن للمرء اتباع نهجِ دارسي العلوم الاجتماعية والإنسانية الذين استكشفوا طرقًا «غير حديثة» للتفكير خلال الخمسين عامًا الماضية. أوضح كتَّابٌ أمثال برونو لاتور وتيم إنجولد أنه يمكننا العثور على طرق أقل ميلًا للمُقارنة بين ثنائيات وأكثر ميلًا للُّجوء إلى اللاحداثة عند التعامُل مع العالَم من أجل تجاوز الخلاف ما بين التنوير والرومانسية. يُمكننا عندئذٍ أن نُحاول اجتياز الفجوة الحديثة بين البشر وغير البشر ليس من خلال العِلم الحديث أو من خلال تجاوز الإنسانية، التي ترى من وجهة نظرها أن البشر والآلات ليسا في صراعٍ أساسي، ولكن من خلال الفكر ما بعد الإنساني من وجهة النظر (ما بعد) الإنسانية. وهذا يؤدي إلى التوتر الثالث: بين الإنسانية وما بعد الإنسانية. يُشكِّك مؤيدو ما بعدَ الإنسانية، الذين يُعارضون الإنسانيين المُتهمين بالعُنف مع غير البشر، مثل الحيوانات، تحت مُسمَّى القيمة الفائقة للإنسان، يُشكِّكون في مركزية الإنسان في الأنظمة الأنطولوجية والأخلاقية الحديثة. فهم يرَون أن غير البشر مُهمُّون أيضًا، وأننا يجب ألا نخاف من عبور الحدود بين البشر وغير البشر. وهذا اتجاه مُثير للاستكشاف لأنه يأخُذنا خارج سردية المنافسة بين البشر والآلات.

يُقدم مناصرو ما بعد الإنسانية، من أمثال دونا هاراواي، رؤيةً تصوِّر أن العيش مع الآلات، بل ربما الاندماج معها، لم يعُد يُرى كتهديدٍ أو ككابوس، كما كان يرى من قبل دعاة الإنسانية، أو كحلمٍ يتحقَّق لمناصري تجاوز الإنسانية، ولكنه وسيلة يُمكن من خلالها عبور الحدود الأنطولوجية والسياسية بين البشر وغير البشر. ومن ثَم يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي جزءًا ليس من مشروع دُعاة تجاوز الإنسانية، ولكن من مشروع دُعاة ما بعد الإنسانية المُهم، الذي يدخل من جانب العلوم الإنسانية والفنون بدلًا من العلم. يتم عبور الحدود ليس باسم العلم والتقدُّم العالمي، كما قد يرغب بعض مناصري تجاوز الإنسانية التنويريين في القول، ولكن باسم سياسة مناصري ما بعد الإنسانية وأيديولوجية عبور الحدود. ويمكن لما بعد الإنسانية أيضًا أن تُقدِّم شيئًا آخَر يتعلَّق بالذكاء الاصطناعي: يمكنها أن تحُثَّنا على الاعتراف بأنه «ليس ثمة حاجة لأن يكون غير البشر مُماثِلين لنا ويجب عدم جعلهم مُماثِلين لنا». يبدو أن الذكاء الاصطناعي يمكنه، بالاستناد إلى آراء ما بعد الإنسانية، أن يُحرِّر نفسه من عبء تقليد الإنسان أو إعادة بنائه ويمكنه استكشاف أشكالٍ مختلفة من الوجود والذكاء والإبداع، وما إلى ذلك. ليس هناك حاجة لأن يُصنَّع الذكاء الاصطناعي على صورتنا. فالتقدُّم هنا يعني تجاوز الإنسان وقبول غير البشر لكي نتعلَّم منهم. وعلاوةً على ذلك، يمكن أن يتفق كلٌّ من دعاة تجاوز الإنسانية وما بعد الإنسانية على أنه بدلًا من التنافُس مع الذكاء الاصطناعي لأداء مهمة معيَّنة، يُمكننا أيضًا تحديد هدفٍ مشترك، يتم التوصُّل إليه من خلال التعاون وحشد أفضل ما يمكن أن يقدِّمه البشر والذكاء الاصطناعي من أجل التوجُّه نحو تحقيق ذلك الهدف المشترك.

وسيلة أخرى لتجاوز سردية المنافسة — وهي وسيلة تقترب في بعض الأحيان من مفاهيم ما بعد الإنسانية — هي نهج في فلسفة التكنولوجيا يُسمَّى ما بعد الظاهرية. يستنِد دريفوس إلى علم الظواهر أو الظاهرية، ولا سيما أعمال هايدجر. ولكن الأفكار ما بعد الظاهرية، التي بدأها الفيلسوف دون إيده، تتجاوز فلسفة التكنولوجيا الظاهرية التي ابتكرها هايدجر بالتركيز على كيفية تفاعل البشر مع تقنيات بِعَينها ولا سيما المصنوعات المادية. يُركِّز هذا النهج، الذي يتعاون في كثيرٍ من الأحيان مع دراسات العلوم والتكنولوجيا، على البُعد المادي للذكاء الاصطناعي. قد يُنظَر إلى الذكاء الاصطناعي في بعض الأحيان على أنه ذو طابعٍ مُجرَّد أو شكلي، غير مُتصل بمصنوعاتٍ مادية وبِنيات أساسية مُحدَّدة. ولكن جميع الشكليات والتجريدات والعمليات الرمزية المذكورة سابقًا تعتمِد على أدواتٍ مادية وبِنيات أساسية مادية. على سبيل المثال، كما سنرى في الفصل التالي، يعتمِد الذكاء الاصطناعي الحالي بشكلٍ كبير على الشبكات وإنتاج كميَّات ضخمة من البيانات باستخدام الأجهزة الإلكترونية. تلك الشبكات والأجهزة ليست مجرد أشياء «افتراضية» ولكن يتعيَّن إنتاجها وصيانتها بشكلٍ مادي. وعلاوةً على ذلك، يتحدَّث ما بعد الظاهِريِّين، مثل بيتر بول فيربيك، عكس التقسيم الحديث بين الموضوع والمحمول، عن التشكيل المُتبادل بين البشر والتكنولوجيا، أو على الأحرى التشكيل المُتبادل بين الموضوع والمحمول. وبدلًا من رؤية التكنولوجيا كتهديد، يؤكِّدون أن البشر مَيَّالون إلى التكنولوجيا (بمعنى أنهم كانوا دائمًا يستخدمون التكنولوجيا؛ أي إنها جزء من وجودنا وليست شيئًا خارجيًّا يُهدِّد هذا الوجود)، وأن التكنولوجيا تُساعد البشر على التعامُل مع العالم. بالنسبة إلى الذكاء الاصطناعي، يبدو أن هذه الرؤية تَعني أن المعركة الإنسانية للدفاع عن الإنسان ضد التكنولوجيا هي معركة مُضللَة. وبدلًا من ذلك، وفقًا لهذا النهج، كان الإنسان دائمًا ميَّالًا إلى التكنولوجيا، ولهذا علينا أن نسأل كيف يُساعد الذكاء الاصطناعي البشر في التعامُل مع العالم ونحاول تشكيل هذه المُساعدات بشكلٍ تفاعُلي بينما لا يزال بإمكاننا: إننا نستطيع مناقشة الأخلاقيات في مرحلة تطوير الذكاء الاصطناعي، بل يتعيَّن علينا ذلك، بدلًا من أن نشكو فيما بعدُ من المشكلات التي يُسبِّبها.

يبدو أن الذكاء الاصطناعي يُمكنه، بالاستناد إلى آراء ما بعد الإنسانية، أن يُحرِّر نفسه من عبء تقليد الإنسان أو إعادة بنائه ويُمكنه استكشاف أشكالٍ مختلفة من الوجود والذكاء والإبداع، وما إلى ذلك.

ومع ذلك، ربما يشعُر المرء بالقلق من أنَّ رُؤى مُناصري ما بعد الإنسانية وما بعد الظاهرية ليست ناقدةً بما فيه الكفاية؛ لأنها شديدة التفاؤل وشديدة البُعد عن الممارسة العلمية والهيكلية، وبالتالي فهي ليست حسَّاسة بما فيه الكفاية تجاه الأخطار الحقيقية والعواقب الأخلاقية والمُجتمعية للذكاء الاصطناعي. إن عبور الحدود التي لم يسبق عبورها لا يكون بالضرورة من دون مشكلات، وفي الممارسة العملية قد لا تفيد أفكار ما بعد الإنسانية وما بعد الظاهرية في حمايتنا من التسلُّط والاستغلال الذي قد نُعاني منه جرَّاء استخدام تقنيات كالذكاء الاصطناعي. يُمكن للمرء أيضًا أن يُدافع عن رؤية أكثر تقليدية للإنسان أو يُطالب بنوعٍ جديد من الإنسانية، بدلًا من أن يدعم ما بعدَ الإنسانية. وهكذا يستمر النقاش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤