أما قبل …
عند مشرق الشمس من يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر يوليو سنة ١٨٨٢ أخذ الأسطول البريطاني في إطلاق قذائفه على الإسكندرية، فجاوبته إحدى قلاعها بعد الطلقة العاشرة، وجاوبته القلاع الأخرى بعد الطلقة الخامسة عشرة، واستمر إطلاق النيران من الأسطول على المدينة إلى الساعة الخامسة، ولم ينقطع تمامًا إلا عند الغروب.
وكان قائد الأسطول قد أجاب وكلاء الدول في الإسكندرية مطمئنًا لهم حين سألوه عن خطر البقاء في الإسكندرية بعد إنذارها بالضرب، فأكد لهم أنه سيعمد إلى القلاع دون غيرها بقذائفه فلا خوف على أحد من سكان المدينة. ولكن القذائف قد أصابت المساكن الأوروبية والمصرية خبط عشواء، وقالت صحيفة الطان الباريسية يومئذٍ: «إن قذائف السفن أصابت مساكن الأوروبيين التي تبعد كثيرًا عن خط القتال وسقطت إحداها في المستشفى الأوروبي، وقد أوت إليه الراهبات واليتامى وعليه رايات الصليب الأحمر، فلم تنفجر القذيفة لحسن الحظ، وأكد الإنجليز أنهم لم يروا على المستشفى أية راية …»
وقالت صحيفة التيمس: «إن بعض القذائف قد سقط في الأحياء الأوروبية إلى جوار القنصلية الإنجليزية على مسافة ألفي متر من حصن قايتباي.»
وقالت صحيفة الفاردي ألكسندري: «إن قذائف الإنجليز التي كانوا يرمون بها حصن كوم الدكة، سقط منها اثنتان في حديقة دير الفرنسيسكان، وقذيفة في ساحة رهبان المدارس المسيحية، واثنتان بالقرب من دير الأيتام، واثنتان في الحدائق التي تكتنف أبنية المدرسة الإيطالية الجديدة.»
هذه رواية الصحف الأجنبية عن المواقع الأوروبية التي استهدفت لقذائف الأسطول، ومن السهل أن يتخيل القارئ مدى الخراب الذي أصاب المدينة كلها في مساكن الوطنيين وغير الوطنيين.
لقد كان عابر الطريق في الإسكندرية بعد ذلك اليوم المشئوم يعبر الأحياء العامرة، فلا يمر بغير الأطلال والأنقاض ولا تقع عينه على بيت قائم بين عشرات البيوت المنهارة أو المتداعية، وقد صدق أديب إسحاق حين قال في رثاء المدينة، وقد شهد الخرائب بعينيه:
فيم كانت هذه الفاجعة الدامية؟ فيم استبيحت هذه المدينة لمن أنذروها وأصروا على ضربها فضربوها؟
•••
أتشرف بإخبار سعادتكم أنه نظرًا لحدوث استعدادات حربية آخذة في الازدياد منذ يوم أمس في حصون السلسلة وفاروس — قايتباي — وصالح، وهي موجهة بالطبع إلى الأسطول الذي تحت قيادتي، فقد عقدتُ العزم على أن أنفذ غدًا عند شروق الشمس العمل الذي أعربت لكم عنه في خطابي المؤرخ في السادس من الشهر الجاري، إن لم تسلموا لي حالًا قبل هذه الساعة البطاريات المنصوبة على رأس التين وعلى الشط الجنوبي لمنع التسلح بها.
ويفهم من هذا أن قائد الأسطول قد استباح ضرب المدينة العامرة بسكانها من جميع الأجناس؛ لأن حصونها تستعد لدفع الهجوم عنها، ففيم كان هذا الهجوم عليها؟
إن النائب الإنجليزي «ريتشارد» قد أغنانا عن تسخيف هذا العذر حين قال في مجلس النواب: «أرى رجلًا يحوم حول داري وعلامات العدوان بادية على وجهه، فأعمد إلى الأقفال لأغلق أبوابي ونوافذي فيثور غضبًا ويزعم أنني أهينه وأهدده وأنه يقتحم عليَّ بيتي ليذودني عن نفسه ولا يزيد عن حق الدفاع.»
وهذه علة بالغة في السخافة لو صح أن الأسطول البريطاني كان معرضًا لشيء من الخطر بعد استعداد الحصون المصرية لدفع هجومه عليها، ولكنه مع هذا لم يكن عرضة للخطر على الإطلاق، ولم يكن أيسر عليه من تحويل موقعه فلا تصيبه قذيفة حصن من الحصون، وكانت مدافعها كما هو معلوم أقصر مدى من أضعف مدافع الأسطول. وفي ذلك يقول إنجليزي آخر هو مستر «رويل» الذي كان محاميًا أمام محكمة الإسكندرية المختلطة، ثم عُين مستشارًا بمحكمة الاستئناف الوطنية، وألَّف كتابًا عن الحملات المصرية، قال فيه: «إن الخطر الذي كانت تستهدف له مدرعات الأسطول من جراء الاستعدادات المصرية لم يكن إلا خطرًا وهميًّا في ذلك الحين، وعلى فرض الخطر الحقيقي كان في الإمكان اتقاؤه إذا انحرف القائد بأسطوله بعض الانحراف.»
والقائد نفسه كان يدرك ما في معاذيره من الوهن والتجني المفضوح، فترك الوقائع ولجأ إلى الأحلام والنيات يعلل بها استباحته للمدينة العزلاء، وكان فيما كتبه إلى مجلس البحرية: «إن أحمد عرابي يشيع أن النبي يزوره كل ليلة ويرجو أن يوقع الأساطيل المتحدة في الفخ بمراكب محملة بالحجارة يغرقها في مدخل الميناء.»
وقد أطلقت دعاية الاستعمار في ذلك الحين كل قذائفها على مصر والمصريين، لعلها تحجب هذه الفعلة النكراء في جو من الأباطيل والأراجيف. ولكن الحقيقة كانت أوضح من أن تحتجب بهذه الدعاية كل الاحتجاب حتى في مجلس الوزراء الإنجليزي؛ فاستقال من وزارة «غلادستون» أقوى أعضائها وأخطب خطباء ذلك العصر في عالم السياسة الأوروبية، استقال «جون برايت» من الوزارة؛ احتجاجًا على تلك الجريمة التي لا يسوغها شرع ولا عُرف ولا أدب من آداب الحضارة. وأقام جماعة من ذوي الأخلاق احتفالًا لتكريمه، خطب فيه الدكتور «دال»، فقال: «إن الإجلال والحب اللذين يوحيهما مستر برايت لا يكفي في تفسيرهما بيانه البليغ وخدمته العظيمة لبلاده. إن الرجل أعظم من فصاحته، إنه أنبل من خدمته، فقد كان في جميع الأحوال وفيًّا لضميره، لم تكن جميع الأباطيل والوشايات وأقاويل السخرية والبغضاء لتحيد به قيد شعرة عما اعتقد أنه جادة الحق والصواب.»
ثم تعاقبت الحوادث دراكًا بما يثبت الواقع الغني بنفسه عن الإثبات.
إن ضرب الإسكندرية لم تكن له علة واحدة يبحث عنها الباحثون في أنباء ذلك اليوم ولا أنباء ذلك الشهر ولا أنباء تلك السنة أو تلك السنوات.
إن المدينة العامرة بسكانها قد استبيحت بالدم البارد والروية الطويلة لأسباب كثيرة ترجع قبل ذلك إلى مئات السنين.
«أما قبل»، فهذا ما سنجمله فيما يلي من الفصول.