من حملة إلى حملة
قبيل الحملة الفرنسية كانت مصر مستقلة وظلت على استقلالها عن الدولة العثمانية بضع سنوات، نادى باستقلالها عن الدولة «علي بك بلاط»، الذي اشتهر باسم «علي بك الكبير»، ولكنه أخفق في محاولته؛ لأن أعوانه وغير أعوانه اعتبروا هذا الاستقلال مطمعًا شخصيًّا ليس له سند مشروع باسم الخلافة أو باسم الشعب المحكوم. وكان معظم أهل الصعيد منكرين لولايته، وتنكر له كثيرون من أتباعه بعد استعانته بالأسطول الروسي على حرب الدولة العثمانية، فلم يدم استقلاله أكثر من ثلاث سنوات — من سنة ١٧٦٩ إلى سنة ١٧٧٢.
وقدم «نابليون» إلى مصر معتبرًا بهذا الدرس من ناحيتيه … فأرسل سفيرًا له إلى الآستانة يسترضي السلطان عن حملته، ثم جمع العلماء والأعيان في مصر وعول على تأييدهم في غارته على المماليك المفسدين في الأرض، المارقين من طاعة السلطان، معلنًا في منشوره الأول: «من الآن فصاعدًا لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيديرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها.»
ولكن أهل القاهرة ثاروا عليه قبل انقضاء شهرين على احتلاله. وليس بصحيح أن هزيمة الأسطول الفرنسي في معركة أبي قير التي دارت بينه وبين أسطول نلسون هي التي دفعت الشعب المصري إلى الثورة؛ فإن جيش نابليون بقي على قوته في مصر بعد الهزيمة، ولم يحدث من أثر الهزيمة البحرية ما يضعفه في نظر المصريين. وإنما ثار الشعب لأنه كان يتحفز للثورة بعد تسليم المماليك، وبعد أن أخلف نابليون وعوده في ذلك المنشور.
على أن «نابليون» فهم بعد الثورة على الخصوص أن القوة العسكرية وحدها لا تغنيه في سياسة الأمة المصرية، فأنشأ في مصر مجلسًا شوريًّا يسمى بالديوان الوطني قوامه تسعة من العلماء والوجهاء.
وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر في «٢١ يونيو سنة ١٧٩٨» وخرجت منها في «١٨ سبتمبر سنة ١٨٠١»، ومن أثار هذه الحملة في السياسة المصرية المقبلة أن خروجها كان على يد قوة تركية وقوة إنجليزية، وأن القوة الإنجليزية فارقت مصر بعد جلاء الجيش الفرنسي، فاعتقد بعض الساسة المصريين أن دخول الجيش الإنجليزي إلى مصر مأمون العاقبة في أمثال هذه الظروف؛ لأنه يدخل إليها وهو على نية الخروج!
وأهم الحوادث التي ارتبطت بمركز مصر السياسي بعد الحملة الفرنسية ولاية «محمد علي الكبير» على مصر باختيار الأمة المصرية وبناءً على مشورة علمائها ووجهائها. وكانت عبرة «علي بك بلاط» أو «علي بك الكبير» ماثلة في الأذهان، فاجتنب «محمد علي الكبير» غلطاته ولم يقبل الحكم إلا بعد الاطمئنان إلى الشعب والزعماء في مصر السفلى ومصر العليا، وحاذر جهده أن يعتمد على معونة علنية من دولة أجنبية. ولما كتبت الدولة العثمانية إلى واليها «خورشيد باشا» تأمره أن يعيد «محمد علي» وجنوده إلى بلاده أظهر «محمد علي» الطاعة واستعد للرحيل ولم يعدل عن السفر إلا برجاء من طائفة من كبار العلماء والرؤساء أحلوه من هذه المخالفة في انتظار الموافقة من السلطان.
وقد جاءت الموافقة السلطانية إلى مصر — في شهر يوليو سنة ١٨٠٥ — ولمس «محمد علي» أثر المعونة الشعبية في مقاومة الحملة التي أنفذتها الحكومة الإنجليزية إلى مصر بعد توليته عليها بأقل من سنتين؛ فإن مزاحمه «الألفي بك» لم يتعلم ما تعلمه «محمد علي» من درس «علي بك الكبير»، فأرسل إلى إنجلترا يستنجدها على الدولة العثمانية وعلى المماليك، فجاءت حملتها بعد وفاته، وكان وصولها إلى رشيد و«محمد علي» مشغول بقتال المماليك في أسيوط، فتصدى لها الفلاحون والعرب وحامية المدينة الصغيرة وأبادوها على آخرها. وأمر شيخ الأزهر طلابه بترك الدروس والانتظام في الجيش، وجمع السيد «عمر مكرم» أكثر من ألف كيس لنفقات الدفاع. وقد تخوف «محمد علي» من العاقبة، فأعد العدة للمقاومة وللمفاوضة، وساعده الجَدُّ الناهض، فانهزمت النجدة الإنجليزية بعد مناوشة يسيرة، وقفلت إلى بلادها وكل ما ألحقته بالإسكندرية وضواحيها من الضرر أنها أعادت إطلاق الماء الملح على بحيرة مريوط، ولو وجدت في مصر عونًا من المماليك أو من الشعب لما ارتدت بهذه السهولة بعد طول التربص والانتظار في الإسكندرية.
ومن الراجح جدًّا أن إنجلترا كانت تعاود الكرة لو حلت بها هزيمة كتلك الهزيمة في ظروف غير ظروفها الداخلية والخارجية في تلك الآونة، ولكنها كانت مشغولة يومئذٍ بما هو أهم لديها وأخطر عليها من المسألة المصرية: كانت مشغولة بتأليب الدول الأوروبية على نابليون، وكانت سياسة «التأليب» تضطرها إلى مصانعة روسيا وتأجيل كل عمل من شأنه أن يفتح باب المسألة الشرقية على مصراعيه. وعرضت لها في الوقت نفسه مشكلة المستعمرات الإسبانية في أمريكا الجنوبية، ووافق الزمن ثورة الصناعة الكبرى وتنبه الأفكار إلى إصلاح الحياة النيابية وتوسيع حقوق الانتخاب للطبقة العاملة، وقد مضت المدة بين ١٨٠٧ وسنة ١٨٣٢ في شواغل كبرى تملأ فراغ السياسة البريطانية؛ منها: أزمة الحصار البحري التي اشتركت فيها الولايات المتحدة بأمر «حظر التصدير» إلى كل من بريطانيا وفرنسا — سنة ١٨٠٧ — وحروب نابليون التي انتهت في سنة ١٨١٥، ومذهب منرو الذي أُعلن في سنة ١٨٢٢، وتعديل نظام الانتخاب الذي تقرر في سنة ١٨٣٢، فانقضت هذه الفترة — وهي ربع قرن — وإنجلترا عاجزة كل العجز عن الاستقلال بعمل قوي في المسألة المصرية، وقصرت سياستها في هذه المسألة على اغتنام الفرصة الدولية كلما جرت في مجراها وطابقت أغراضها. وفي هذه الفترة نشبت الثورة اليونانية، واستعانت الدولة العثمانية بجيش مصر وأسطولها لقمعها في مقرها، وسنحت للسياسة البريطانية فرصتها الأولى، فدعت الدول إلى عقد مؤتمر لندن — ١٨٢٧ — الذي اتفقت فيه إنجلترا وفرنسا وروسيا على فصل اليونان من تركيا مع بقاء السيادة التركية، وكانت هذه المعاهدة حجة صالحة لتحطيم الأسطول المصري في ميناء نوارين والتخلص من هذه القوة البحرية الجديدة في البحر الأبيض المتوسط، وزادت فرنسا، فأرسلت جيشها إلى بلاد المورة لإكراه الجيوش المصرية على إخلائها.
إذا صح أن المصادفة لها «دور مهم» في التاريخ، فهذه الفترة من الفترات التي أطلت فيها طوالع المصادفة كلها على المسألة المصرية، فلو تم استعداد «محمد علي» في مصر أيام حروب نابليون لما وجدت دول أوربة فراغًا من الوقت للتألب عليه في حربه مع الدولة العثمانية، ولكنه أقدم على هذه الحرب في أوائل سنة ١٨٣٢ — بعد أن كانت الدول قد فرغت أو كادت من مشكلات نابليون وعقابيلها المتشعبة — فأسرعت روسيا إلى عرض مساعدتها على السلطان «محمود» وخافت إنجلترا وفرنسا من عواقب هذه المساعدة وحيل بين «إبراهيم باشا» وبين التقدم، فقنع بما عرضه عليه السلطان من ولاية سورية وضم إليه بموافقة الدول إقليم أطنة في آسيا الصغرى.
وكان هذا النذير كافيًا لوقف الحروب مع تركيا، ولكن فرنسا وعدت «محمد علي» بعد الحرب الأولى بالمساعدة، وعززت وعدها برفض الاشتراك مع إنجلترا لانتزاع الأسطول التركي الذي أوى باختياره إلى الموانئ المصرية. ونشبت الحرب الثانية و«محمد علي» يرجو خيرًا من التفرقة بين السياستين الفرنسية والإنجليزية في المسألة الشرقية، ولكن فرنسا لم تصنع شيئًا وإنجلترا لم تيأس من مساعيها عند الدول الأخرى، فجددت الدعوة إلى مؤتمر آخر في عاصمتها، وأسفر المؤتمر — باتفاق إنجلترا وروسيا وبروسيا والنمسا — عن المعاهدة التي عرفت باسم «معاهدة لندن سنة ١٨٤٠» وتقرر فيها حرمان «محمد علي» من ثمرات انتصاره وإعطاؤه جزءًا من سورية الجنوبية على شريطة الموافقة من جانبه على هذا الصلح في خلال عشرة أيام.
وقد اعتقد «محمد علي» أن انفصال فرنسا عن الدول — وهي دولة البحر الأبيض المتوسط — يمكِّنه من رفض معاهدة لندن لصعوبة الاتفاق بين الدول «القارية» على تسيير الجيوش إلى ميدان القتال في سورية وآسيا الصغرى، ولكن إنجلترا وتركيا والنمسا اتفقت على تلفيق حملة بحرية برية لاقتحام سورية، وساعدها على النجاح في هذه الحملة ثورة السوريين وسوء الأحوال في داخل البلاد المصرية، فأسفرت هذه الحروب والمناورات جميعًا عن حرمان «محمد علي» ما استولى عليه خارج البلاد الأفريقية. وصدرت فرمانات سنة ١٨٤١ بإقرار «محمد علي» في ولاية مصر وجعلها وراثية للأكبر فالأكبر من أمراء الأسرة العلوية وإلزامه بخراج سنوي للدولة أربعمائة ألف جنيه، وتخويله منح الرتب العسكرية إلى رتبة أميرالاي، وضرب العملة الذهبية والفضية والنحاسية باسم السلطان، وألا يزيد عدد الجيش على ثمانية عشر ألفًا في أيام السلم، يرسل من مقترعيهم كل سنة أربعمائة إلى دار الخلافة، وأن تشتمل حدود المملكة المصرية على مقاطعات النوبة ودارفور وكردفان وملحقاتها.
كذلك كان مركز مصر السياسي في أيام «محمد علي» الأخيرة، ومن مزاياه أنه مضمون بموافقة الدول، ومن عيوبه أن هذا الضمان قد فتح الباب للتدخل في المسألة المصرية بحجة المحافظة على «المركز المضمون».
أما نظام الحكم الداخلي على عهد «محمد علي»، فقد كان وسطًا بين الحكومة المطلقة والحكومة الدستورية، فكان للوالي مجلسان، أحدهما يشبه مجلس الوزراء ويسمى المجلس المخصوص، والآخر يشبه الجمعية التشريعية ويسمى مجلس المشاورة، ويختار الوالي أعضاءه من وجوه الأقاليم وكبار الموظفين.
وقد اعتزل «محمد علي» الحكم قبل وفاته، ولم يطرأ على مركز مصر ولا على نظام حكومتها تغيير يُذكر في عهد خلفه «إبراهيم»، وتولى «عباس الأول» بعد «إبراهيم»، فنقض كثيرًا مما بناه جده الكبير، وتم في عهده مد السكة الحديدية من الإسكندرية إلى القاهرة، وأريد بمدها قطع السبيل على «مشروع قناة السويس» الذي توجس منه «محمد علي الكبير» كما تقدم.
وقُتل «عباس» فخلفه «محمد سعيد»، وأهم المحدثات التي طرأت في عهده إصدار قانون الأراضي الذي نقل الأرض الزراعية من حكر الحكومة إلى أيدي الفلاحين. وعقد أول قرض أجنبي والترخيص في فتح قناة السويس. وكان يطمح إلى الاستقلال، فاعتقد أن فتح هذا المجاز العالمي في مصر يضمن لها مدافعة الدول عن حوزتها. واتخذ له سياسة وطنية تتجه دائمًا إلى تقريب المصريين وترقيتهم إلى المناصب الكبيرة، وصك على سبيل التجربة نقودًا من العملة الصغيرة باسمه، ثم أخفاها حذرًا من غضب الدولة العثمانية، وقد كان يتطلع إلى موافقتها على مشروع القناة.
أما الغير الكبرى كلها فقد تمت في عهد «إسماعيل خلف سعيد»، ففي عهده امتازت مصر بمركز خاص بين الولايات العثمانية، وأطلق لقب الخديو على واليها، وانتقلت الوراثة من الأكبر في الأسرة إلى الأكبر في الأبناء، واتسعت الدولة المصرية في أعالي النيل وأوشكت أن تشمل بلاد الحبشة لولا خيانة القادة من الأجانب على الخصوص، وأنشئت المحاكم المختلطة التي وحدت فروع القضاء الأجنبي وجمعته في نظام واحد، وساهمت مصر في تحريم تجارة الرقيق وتضييق المسالك على النخاسين، وتضاعفت الديون الأجنبية على عجل وفرغ العمل في قناة السويس، فبيعت حصة مصر فيها سدادًا لبعض الديون. وكان لهذه الديون مع فتح القناة في إبان اقتراضها وسداد أقساطها، شأن كبير في توجيه مركز مصر السياسي وجهته التي سلكها من منتصف القرن التاسع عشر إلى هذه الأيام في منتصف القرن العشرين.
أصبح من «الأسرار» الشائعة في دوائر الدول العليا أن بريطانيا العظمى تريد أن تتسلل إلى القطر المصري منذ أيام «محمد علي الكبير».
واستراب «محمد سعيد باشا» — على قلة احتياطه — في نيات «السائحين» الإنجليز الذين يلتمسون الإذن بزيارة القلاع على الشواطئ، فزجر المشرفين على تلك القلاع لأنهم يرجعون إليه قبل رفض التماسهم، وأمرهم بأن يجعلوا هذا الرفض قاطعًا غير قابل للمراجعة والاستثناء.
ولما اقترضت الحكومة المصرية من البيوت الإنجليزية انفردت هذه البيوت بطلب الضمان لقروضها من موارد الضرائب والرسوم في الجمارك والسكك الحديدية وضرائب الأقاليم الغنية، وليس لذلك إلا غرض واحد وهو تسويغ السيطرة على دواوين الحكومة في يوم من الأيام.
وقد شغلتهم الخطوب الدولية من عهد محمد علي إلى عهد سعيد عن اختلاق أسباب «التسلل» المترقب منذ زمن بعيد، ولكنهم «أفاقوا» لاختلاقها بعد تراكم الديون على مصر وعجز الحكومة المصرية عن سدادها.
وفي السنة نفسها أُنشئ صندوق الدين، وأضيف إلى «اختصاصه» الإشراف على أخصب المديريات، وهي: الغربية والمنوفية والبحيرة في الوجه البحري وأسيوط في الوجه القبلي، مع الإشراف على منافذ القطر جميعًا، وهي: جمارك الإسكندرية والسويس وبورسعيد ورشيد ودمياط والعريش، وغير ذلك من المصالح ذات الإيراد كالسكك الحديدية والقناطر واحتكار الملح والدخان، وتضاف إليها موارد الدائرة السنية التي يملكها الخديو «إسماعيل»، وقد نصت المادة الثامنة من الأمر الصادر بإنشاء «الصندوق» على أن الحكومة المصرية لا يحق لها تعديل الضرائب والرسوم بما ينقص إيراد الدولة.
وفي سنة ١٨٧٨ تألفت لجنة التحقيق واشترك فيها السير «ريفرز ويلسون» وكيلًا لها ومسيو «دلسبس» رئيسًا والكابتن بارنج — اللورد كرومر فيما بعد — عضوًا. ثم سافر «دلسبس» فجأة، فحل محله في الرئاسة المندوب الإنجليزي، وأصبحت اللجنة في حقيقتها لجنة إنجليزية بحتًا، فأشارت في تقريرها بالحد من سلطة الخديو وتأليف مجلس وزراء مسئول يشتمل على وزيرين، أحدهما إنجليزي للمالية والآخر فرنسي للأشغال. واقترحت عقد قرض جديد — قدره ثمانية ملايين ونصف مليون — تضمنه أملاك الأسرة الخديوية، وهي تزيد على أربعمائة ألف فدان.
وفي هذه السنة حدثت مظاهرة الضباط حول وزارة المالية، وأسقط الخديو وزارة نوبار وأقام في مكانها وزارة برئاسة الخديو توفيق.
ومن حسنات نكبة الديون — إن كان للنكبات حسنات — أنها وحدت كلمة الأمة والأمير في طلب الحياة النيابية؛ لأن السلطة الأجنبية أبطلت حقوق الراعي والرعية على السواء.
وقد كان في مصر على أول عهد «إسماعيل» مجلس كالمجلس الذي كان معروفًا باسم مجلس المشورة في عهد جده الكبير، اُفتتح في سنة ١٨٦٦ وسمي بمجلس شورى النواب وتقرر ألا يزيد عدد أعضائه على خمسة وسبعين، وقد استمر هذا المجلس ينعقد فترة في كل سنة إلى سنة ١٨٧٨، ثم اُستبدل به مجلس نيابي واسع الاختصاص بموافقة الخديو إسماعيل.
ومن المخجل أن مدارس الحكومة المصرية ظلت تلقن أبناء المصريين في عهد الاحتلال أنباء وأساطير تزري بالحياة النيابية بين المصريين، ومنها أسطورة رواها مسيو «ماك كون» في كتابه «مصر كما هي» زعم فيها أن النواب جميعًا هرعوا إلى مقاعد اليمين حين طلب منهم «شريف باشا» أن يقسموا أنفسهم إلى فريقين: فريق يناصر الحكومة ويجلس إلى اليمين، وفريق يعارضها ويجلس إلى اليسار، وهي قصة لم تحدث قط بل حدث نقيضها من محاسبة الحكومة ودعوة وزرائها إلى حضور جلساته. وشهد المتتبعون لأعمال المجلس أن أعضاءه كانوا يدًا واحدة في رعاية المصالح القومية؛ لأنهم كانوا يفهمون من وظيفة النيابة أنها أمانات وأعباء، ومنهم من كان يساق إليها سوقًا؛ لأنه في غنى عن استغلال مركزه، وكل ما يتوقعه من النيابة أن تضطره إلى الاصطدام بولاة الأمور، ولو كانوا يقصرون واجبهم على التسليم، لتهافتوا على النيابة تهافت «المنتفعين المستغلين».
ثم انعقد مجلس شورى النواب في الثاني من شهر يناير سنة ١٨٧٩، فبدأ جلساته باستدعاء الوزارة إليه، ومنهم وزير المالية الإنجليزي، وقبل أن يذهب بعض النواب إلى ديوان المالية للاجتماع بالوزير، على أن يكون هذا الاجتماع مقدمة لحضور الوزير في جلسة من الجلسات، ولكن الوزارة أصرت على تجاهل المجلس وفضته في شهر مارس ولما ينظر في الميزانية، فثار المجلس ثورته القوية وجبه «رياض باشا» وزير الداخلية بما لا يرضاه وهو يتلو عليه الأمر بفض الدورة، وبقي الأعضاء في أماكنهم معلنين أنهم لا ينفضون قبل أن يفرغوا من أعمالهم. وتسامعت القاهرة ثم الأقاليم بأخبار تلك الجلسة التاريخية، فاجتمع مئات من العلماء والرؤساء والأعيان والضباط في منزل «إسماعيل راغب باشا» ورفعوا إلى الخديو عريضة يحتجون فيها على الوزارة ويطلبون تمكين مجلس النواب من حقوقه الدستورية في مراقبة المالية، وهي العريضة التي اعتمد عليها الخديو في إقالة الوزارة وتكليف «شريف باشا» بتأليف وزارة تخلف الوزارة الأوروبية التي «كانت سببًا لتغيير قلوب الأمة ونفورها من هيئة النظارة كل النفور.» وقد شهدت التيمس يومئذٍ — ١٦ أبريل سنة ١٨٧٩ — أن مجلس النواب لم يكن عاملًا في هذا الموقف بإيعاز الخديو، فقالت: «مهما تكن طريقة الانتخاب للمجالس النيابية، فهذه المجالس تشعر بشيء من الاستقلال لا محالة عند اجتماعها، ولعل مجلس نواب مصر غير مستثنًى من هذه القاعدة …»
على أن التيمس وغيرها عادت بعد ذلك تذكر «تعنت المجلس» ولا تذكر غطرسة الوزير الإنجليزي الذي لا يجوز عندها أن ينزل إلى حضور الجلسات، ولو من قبيل المجاملة ومجرد الاطلاع!
فلما أقيلت الوزارة النوبارية وخلفتها وزارة «شريف باشا» قامت قيامة الدائنين والحكومة الإنجليزية على الخصوص، ولم تنم لحظة من الشهرين اللذين انقضيا بعد تأليف الوزارة الجديدة عن السعي الحثيث لإحباط هذه الحركة المباركة. ففي الأسبوع الأول من شهر أبريل تألفت الوزارة، وفي أواخر يونيو صدر الفرمان بعزل الخديو إسماعيل وتولية ولي عهده «محمد توفيق» — ٢٥ يونيو سنة ١٨٧٩ — وأبلغ مجلس النواب أن التطور الجديد سوف يشغل الحكومة عن تقديم أعمال إليه، فانفض ولم يدع للاجتماع في خلال تلك السنة ولا في خلال السنة التالية.
ولكن الأمر كان قد خرج من قبضة الحكومة والمجلس، وصار إلى أيدي الأمة كلها ممثلة في الحزب الوطني الذي جعل شعاره «مصر للمصريين»، وجاهر بالانتماء إليه كل ذي خطر في البلاد.