أما بعد …
نقترب الآن من اليوم الحادي عشر من شهر يوليو سنة ١٨٨٢، نقترب من النهاية التي تلتقي فيها كل هذه المقدمات.
فإذا كان اليوم الحادي عشر من شهر يوليو نقطة في الغيب، فهذه السوابق خطوط تنحدر إليها من محيط الزمن وتنحو نحوها من بعيد: تنحدر إليها من جهات شتى تتفرق في مناشئها وتلتقي في غايتها، وتترك العلامة مرسومة بينها وبين تلك الغاية، تنتظر «التسويد» بمداد الأيام.
كانت النهضة الوطنية كلها في ختام عهد «إسماعيل» صفًّا واحدًا في المطالبة بحقوق الدستور أو حقوق الأمة في بلادها. وابتدأ عهد «توفيق» والأمل قوي في ثبات هذه النهضة على وجهتها، ولكن الخديو عرف موقف الدول من مجلس النواب، فأراد أن يغفله ويغفل معه مجلس الوزراء، فلما اعتزل «شريف باشا» الوزارة لتأخير دعوة المجلس النيابي، تولى الخديو رئاسة الوزارة بنفسه، ثم تنحى عن رئاستها غير مستريح في الواقع إلى هذا التنحي، وأسندها إلى «مصطفى رياض باشا»، وهو كذلك لا يستريح إليه.
وأعلنت اللجنة التي شُكلت لتصفية الديون تقريرها في مستهل عهد الخديو «توفيق»، فإذا هو يلغي دين المقابلة الوطني ويعوض الدائنين عنه في آجال بعيدة تمتد إلى خمسين سنة.
وبينما الدائنون المصريون يألمون لهذه الضربة إذا بضربة أخرى تلحقها على الأثر وتصيب الضباط المصريين دون غيرهم، وخلاصتها الوجيزة جدًّا — مع التجاوز عن المكائد والدسائس والمناورات — أن وزير الجهادية أحال على الاستيداع ألف ضابط ليس فيهم ضابط واحد من غير المصريين. ولما اجتمع بعضهم في أوائل الحركة عند — رئيس المترجمين بإدارة الخزانة — محمد أفندي فني — صدر الأمر باقتحام الدار والقبض على من فيها، وحوكم صاحب الدار بالسجن سنتين، وعلى زواره بالسجن شهورًا أو بالإقصاء إلى مساقط رءوسهم في القرى والمدن الريفية.
وتلا ذلك رفع الظلامة من كبار الضباط إلى الحضرة الخديوية، فقرر مجلس الوزراء أن يكل الأمر إلى وزير الجهادية لينكل بأولئك الضباط مع الأناة والحذر من العواقب، فكان كل ما اهتدى إليه من الحيطة أنه دعا الضباط — وهم أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي — إلى ثكنات قصر النيل «للتشاور في ترتيب زفاف الأميرة جميلة هانم شقيقة صاحب السمو الخديو.» فلما لبُّوا الدعوة قُبض عليهم وعقد مجلسه العسكري وأمر بخلع سيوفهم واعتقالهم إلى أن يفصل في أمرهم، وكان زملاؤهم أصدق في حذرهم من وزير الجهادية فخفوا إلى الثكنة بجنودهم وحملوهم على الأعناق وساروا في موكب يحف به ألوف من السابلة إلى قصر عابدين يطلبون عزل الوزير.
وقد نمى إلى الوزارة أن قنصل فرنسا ينافس قنصل إنجلترا ويؤيد حركة الضباط، فطلبت نقله من مصر، واجتمع كبار الفرنسيين بفندق «أبات» في الإسكندرية يؤيدونه ويحملون على الوزارة ويوقعون العرائض إلى دولتهم بطلب استبقائه، فجاء الرد من باريس باستدعاء القنصل الفرنسي في الحال، وكان ذلك إيذانًا من الدولة الفرنسية بنفض يدها من السياسة المصرية وإطلاق اليد للقنصل الإنجليزي، يفعل ما يشاء غير معترض عليه من حكومة لندن أو حكومة القاهرة.
وفي الوقت نفسه سمع «مصطفى رياض باشا» أنه متهم بممالأة الضباط ليصعد على أكتافهم إلى مسند الخديوية، فنفى التهمة عنه بالتشدد في معاقبتهم وخرج من سواء الرأي إلى اصطناع المداراة ودفع الشبهات، فأخطأه التوفيق فيما رآه.
ذاع بين الناس في تلك الظروف أنه لا وفاق بين الضباط والوزارة ولا بين الوزارة والخديو، وتحدث الناس بالشقاق بين الضباط الشراكسة والضباط المصريين، وأن الحكومة ترى في هذا الشقاق منفذًا لحفظ سلطانها بين الفريقين.
وجاء «محمود سامي» بعد «عثمان رفقي» المعزول من وزارة الجهادية، ثم جاء «داود يكن» بعد «محمود سامي» صديق العرابيين، فاستراب الضباط المصريون واشتدت ريبتهم حين أبلغ بعضهم أمر النقل من القاهرة إلى الأقاليم. فسارت الحوادث بعد ذلك على عجل وحدثت مظاهرة الجيش المشهورة أمام قصر عابدين، ونفخ فيها المراقب الإنجليزي — وكان قنصل فرنسا يومئذٍ في طنطا — فراح يحرض الخديو على قتل عرابي ويستفز عرابيًّا إلى المجازفة والاستيئاس في المقاومة، ثم فتقت الحيلة للمستر كوكس قنصل إنجلترا في الإسكندرية أن يقنع عرابيًّا بإحالة «الطلبات» القومية إلى سدة الخلافة لينظر فيها «أمير المؤمنين» بما يستحسنه، وهو — بطبيعة الحال — لم يكن يستحسن في ذلك الحين إنشاء مجلس نواب في القاهرة يتبعه مجلس نواب في الآستانة، فأسرع عرابي إلى الموافقة على إحالة الأمر إلى سدة الخلافة، ولكنه أصر على عزل الوزارة؛ لأنه شأن من الشئون المصرية. ثم استجاب الخديو آخر الأمر إلى عريضة الضباط وعريضة الأعيان التي رفعت بعدها بيوم واحد، فاستدعى «محمد شريف باشا» لتأليف وزارة دستورية، فاعتذر كثيرًا واشترط لقبول تأليفها إقصاء زعماء الضباط إلى الأقاليم ولم ينزل عن هذا الشرط، فتوسط علية القوم بينه وبين الضباط ووعد عرابي وأصحابه بالسفر من القاهرة إلى حيث تنقلهم الوزارة بعد إعلان الدعوة إلى انتخاب مجلس النواب.
في العاشر من أكتوبر — ١٨٨١ — قدم إلى مصر وفد من الباب العالي مؤلف من «علي نظامي باشا» رئيسًا و«علي فؤاد بك» وكيلًا واثنين من رجال التشريفات في المابين الهمايوني، مهمته التحقيق في المذكرات التي وصلت إلى السلطان من جانب الخديو وجانب العرابيين. وقد كانت إحالة المسألة إلى الباب العالي اقتراحًا من مندوب إنجلترا كما تقدم، ولكن تاريخ الاستعمار البريطاني أو تاريخه في مصر على الخصوص، قد أثبت على الدوام أن الحكومة البريطانية تلجأ إلى «الحجة الشرعية» لكي تغتصب من ورائها غنيمة من الغنائم ولا تستند إليها إلا بالقدر الضروري لاغتصاب تلك الغنيمة. فما هو إلا أن وصل الوفد العثماني إلى مصر حتى ثارت إنجلترا واستثارت فرنسا واتفقتا على إرسال أسطوليهما إلى الموانئ المصرية على سبيل التهديد والتربص. ولما احتج الباب العالي على هذا التدخل السافر لغير علة، وطلب سحب السفن من المواني المصرية اشترط اللورد «فرين» أن يبرح الوفد العثماني مصر أولًا ثم يتلوه الأسطولان في اليوم نفسه!
وقد يسر «شريف باشا» المهمة على الوفد العثماني بإعلان طاعة الجيش، وصدع قادة الجيش بالأوامر التي صدرت إليهم فبرحوا العاصمة إلى الأقاليم التي نُقلوا إليها، وزالت هذه الحجة من حجج التدخل والتهديد.
وكما ظهرت قيمة «الحقوق الشرعية» عند الإنجليز في حادث الوفد العثماني، ظهرت كذلك في موقفهم من مجلس النواب المصري بعد انتخابه، فلم يكن حق الدستور هو الذي أوحى إليهم تقييد سلطان الخديو بمجلس وزرائه، وإنما قيدوه بهذا المجلس لتنطلق فيه يد وزير المالية الإنجليزي ويصبح من حقه أن يرفض كل قانون لا يرتضيه، ولهذا غضبوا من مجلس النواب الجديد؛ لأنه يحرص على حقه في الرقابة على الميزانية، فأبرق مستر ماليت إلى حكومته يقول: إن التدخل العسكري ضرورة لا محيص عنها إذا أصر مجلس النواب على رأيه. وقد كانت هذه هي الخطة المرسومة قبل ترميم القلاع المزعوم وقبل المذبحة المدبرة في الإسكندرية بنحو ستة شهور — ٢ يناير سنة ١٨٨٢.
وفي الثامن من شهر يناير — أي بعد ستة أيام من إرسال تلك البرقية — تلقت مصر مذكرة مشتركة بين الدولتين، قالتا فيها: «والحكومتان تفهمان أن الخديو سيستمد من هذا التصريح ما يلزمه من الثقة والقوة لإدارة شئون البلاد.»
وردت هذه المذكرة قبل أن يفرغ «شريف باشا» من بحثه مع مجلس النواب في اختيار الخطة التي توفق بين جميع المطالب. وقبل الخديو المذكرة والمجلس يتشاور مع الوزارة في موضوع الخلاف وكله دائر على نظر الميزانية، فقنع المجلس بمناقشة أبواب الميزانية ما عدا الأبواب التي ترتبط بالالتزامات الدولية، وقنع بعد ذلك بتأليف لجنة من النواب يشترك معهم عدد مثلهم من الوزراء، ويؤخذ بالقرار الذي يرجحه صوت الرئيس، فرفضت الدولتان كل هذه المقترحات، وبرز الوزير الفرنسي «جمبتا» في هذه المسألة؛ لأنه كان من ألد أعداء الأسرة المالكة في فرنسا، وكان يتهم مصر بممالأة تلك الأسرة ومساعدتها في الخفاء على استرداد عرش فرنسا، ولم يسلك مثل هذا المسلك مع اليونان وإسبانيا وهما غارقتان في الديون، والأمل في وفائهما أضعف جدًّا من الأمل في وفاء الحكومة المصرية!
استقال «شريف باشا» وخلفه «محمود سامي البارودي باشا» — ٥ فبراير سنة ١٨٨٢ — واختار «أحمد عرابي باشا» وزيرًا للحربية. وأهم ما حدث بعد ذلك في عهد هذه الوزارة حادث القبض على الضباط الشراكسة بتهمة التآمر على اغتيال رئيس الوزارة ووزير الحربية ومعاونيه من كبار الضباط المصريين. وقد حوكموا في مجلس عسكري برئاسة الفريق «راشد حسني باشا» وصدر الحكم بتجريدهم من رتبهم ونفيهم إلى السودان، فرفع «عرابي» الحكم إلى الخديو وسأل سموه تخفيف الحكم إذا شاء، فآثر الخديو أن يحيل هذه المسألة أيضًا إلى الباب العالي، ولكنه لم ينتظر جواب الباب العالي وأمر بتخفيف الحكم والاكتفاء بالإقصاء من الديار المصرية. ووقع هذا التخفيف على غير ما ينتظر الوزراء الذين كانوا مهددين بالاغتيال، فاحتكموا إلى مجلس النواب واجتمع المجلس بصفة غير رسمية في بيت رئيسه «سلطان باشا»، ومشى كبار أعضائه بالصلح بين الأمير ووزرائه، ورأى الأمير إخراج رئيس الوزارة وإبقاء الوزراء الآخرين. وإذا بالأسطولين يظهران مرة أخرى في ميناء الإسكندرية، ولما تنته المشاورات في اختيار الرئيس الجديد، فرأى «محمود سامي باشا» و«عرابي باشا» طي مسألة الضباط الشراكسة … ولكن وصول الأسطولين، أعقبه «في الخامس والعشرين من شهر مايو» تقديم إنذار بإقالة الوزارة ونفي عرابي، فقبل الخديو المذكرة واستقالة الوزارة في اليوم التالي. وفزع النواب لما رأوه من بوادر الخطر ولمسوه من هياج الأفكار، فالتمس «سلطان باشا» رئيس المجلس ومعه النواب وطائفة من الأعيان أن يعاد «عرابي» إلى وزارة الحربية لحسم الشر واتقاء الهياج، فرفض الخديو. وجدد النواب الرجاء وفاتح الأجانب عرابيًّا في كفالة الأرواح والأموال وأضافوا رجاءهم إلى رجاء أعيان البلاد، فتكفل عرابي بحفظ الأمن وأمر الخديو بإعادته إلى وزارة الحربية وأبرق إلى الباب العالي يلتمس فيه إيفاد مندوبين للتحقيق وعرض الأمر على السلطان.
في السابع من شهر يونيو وصل المندوب العثماني «رءوف باشا» وفي صحبته السيد «أحمد أسعد» وكيل السلطان في الفراشة النبوية: هذا لاستطلاع طلع العرابيين، وذلك لاستطلاع طلع الخديو، فتركا كلًّا من الفريقين يفهم أن السلطان معه، وأنه يوصيه بمسالمة الفريق الآخر من باب التقية ودفع الشرور. ولكن الشرور كانت تعدو عدوًا إلى غايتهما المرسومة من قديم الزمن، وكانت هناك حاجة إلى علة عاجلة فوجدت العلة العاجلة في حينها، وحدثت مذبحة اليوم الحادي عشر في الإسكندرية، وليس أدل على تدبيرها من وقوعها في الوقت المطلوب. وقد سبق في تاريخ تلك الفترة أن خلت مصر من الوزارة وأن اختلف الأمير والوزارة وأن اختلف الضباط والساسة، فلم تحدث مذبحة ولا معركة في بقعة من بقاع القطر، كما حدثت تلك المذبحة التي جاءت في أوانها المطلوب!
تتلخص قصة المذبحة في مشاجرة بين مكارٍ ورجل مالطي من أتباع الحكومة البريطانية، ركب معه ثم أعطاه أجره قرشًا واحدًا بعد ساعات من الطواف في جوانب المدينة في أشد أيام القيظ الذي بلغ أشده صيف تلك السنة. فلما استزاده وألح عليه طعنه المالطي بمدية فقتله، وتجمع السابلة من هنا وهنا بعضهم من الأجانب وبعضهم من المصريين، وأكثر الأجانب مسلحون ولا سلاح في أيدي المصريين. وراح بعض الأجانب يطلق الرصاص من النوافذ ويهجمون على من وجدوه من الوطنيين. وتنادى الوطنيون يطلبون الغوث فقُتل من قتل وجُرح من جرح في هذه الجلبة. واختلف الرواة في إحصاء القتلى والجرحى، ولكنهم على اختلاف الروايات قد اتفقوا على أن قتلى المصريين وجرحاهم أضعاف من قتلوا وجرحوا من الأجانب على تعدد الأجناس.
يطول الشرح في سرد التهم والدفوع التي تبادلها جميع الأطراف حول هذه المذبحة، ولكن الثابت أن مندوبي الدول — ولا سيما مندوبي إنجلترا وفرنسا واليونان — رفضوا الاستمرار في التحقيق بعد أن طلبه وكيل القنصلية الفرنسية، وأن المالطي الذي قتل المكاري كان له أخ يعمل في القنصلية الإنجليزية، وأن «عمر لطفي باشا» اعترف بإحجامه عن قمع الفتنة إلى المساء، ووقع عليه الاختيار بعد ذلك لوزارة الحربية، وأن المذبحة اُستخدمت على الأثر للطعن على عرابي والسخرية من كفالته للأمن من قبل ذلك بأيام، وربما كان أهم من هذا كله أن المذبحة اُستخدمت للطعن في بعوث السلطان والبحث في وسيلة أخرى لتهدئة الحالة «والأسطولان الإنجليزي والفرنسي مرسيان في ميناء الإسكندرية!» فانعقد المؤتمر الدولي في الآستانة في الثالث والعشرين من شهر يونيو، وأحس الباب العالي ما وراءه فلم يعترف به ولم يشترك فيه، وروى صاحب تاريخ «الكافي»، وهو ممن شهد وقائع الثورة واطلع على كثير من أسرارها، أن اللورد دفرين واصل السعي عند الباب العالي للإنعام على عرابي بلقب أو وسام فأنعم عليه بالنوط المجيدي الثاني، فقامت قيامة الصحف الإنجليزية بعد ذلك تتهم السلطان بتحريض العرابيين وتوقع بين الآستانة والقاهرة وتشكك في الفائدة التي ترجى من تسيير الجيش العثماني إلى مصر لقمع الثورة العرابية، وهو المقصود!
وكان الخديو قد انتقل إلى الإسكندرية بعد المذبحة بيوم، وأقام وزارة جديدة برئاسة «إسماعيل راغب باشا» — في ١٨ يونيو — فلما تلقت هذه الوزارة إنذار أمير الأسطول بذلت جهدها في تحويله عن عزمه فلم يقبل، وأضاف إلى إنذاره التشديد في المطالبة بتسليم القلاع إليه.
وقد طال الأخذ والرد وحان الموعد المقرر لضرب الإسكندرية، فضربت كما تقدم في الفصل الأول، ونزل الجند الإنجليز بالمدينة، فاستدعى الخديو إليه «أحمد عرابي»، وقال في أمر الاستدعاء: «اعلموا أن ما حصل من ضرب المدافع من الدونتمة الإنجليزية على طوابي الإسكندرية وتخريبها، إنما كان السبب فيه استمرار الأعمال التي كانت جارية بالطوابي وتركيب المدافع التي كلما كان يصير الاستفهام عنها كان يصير إخفاؤها وإنكارها. والآن قد حصلت المكالمة مع الأميرال فأفاد بأنه ليس للدولة الإنجليزية مع الحكومة الخديوية أدنى خصومه ولا عداوة، وأنه تقرر من جميع الدول العظمى في المؤتمر بأنه لا ينتقص من امتيازات الحكومة ولا حريتها ولا مس حقوق الدولة العلية، بل هي تبقى ثابتة لها كما كانت. وأن يصير إرسال عساكر شاهانية لأجل استتباب الراحة بمصر، فلذلك يلزم أن تصرفوا النظر عن جميع العساكر وعن كافة التجهيزات الحربية التي تجرونها بوصول أمرنا هذا وتحضروا حالًا إلى سراي رأس التين لأجل إعطاء التنبيهات المقتضبة الشفاهية على حسب أمرنا هذا وما استقر عليه رأي مجلس النظار.»
وقد أجاب «عرابي» على هذه الدعوة بكتاب قال فيه: «… في شريف علم مولاي المعظم أن المحاربة التي وقعت بيننا وبين الإنجليز وبلغت مسامع عظمتكم وعرضت على مجلس نظاركم المنعقد تحت رئاسة سموكم بحضور كثير من ذوات البلاد المنتخبين ودولتلو درويش باشا نائب الحضرة السلطانية، ولما تحقق عند جميعهم أن هذه الطلبات مضرة بالحكومة الخديوية ومخلة بشأن البلاد قرر المجلس المذكور لزوم زيادة خمسة وعشرين ألف عسكري وصدرت الأوامر إلى المديريات بطلبهم وقرر المجلس أيضًا أنه لا تطلق المدافع من جهتنا إلا بعد إطلاق خمسة مدافع من السفن الإنجليزية. ولما ابتدأت السفن بضرب النيران على مدينة الإسكندرية لم نقابلها إلا بعد عشرين طلقة، ولم يكن عندنا قبل وقت الضرب أدنى استعداد لاستمرار الأوامر بعدم الاستعداد.»
إلى أن قال: «إنني كنت أتمنى أن أتمثل بين يدي عظمتكم لإبداء هذه الملحوظات، لكن من الأسف أنه تحقق عندي من الاكتشافات الحقيقية أن مدينة الإسكندرية مشغولة الآن بعساكر الإنجليز، فمن المعلوم عند مولاي أنه لا يمكنني الحضور لتلك المدينة لهذا السبب، فإذا حسن لدى مولاي فليصدر أمره السامي بحضور حضرات النظار أو سعادة رئيس مجلس النظار إلى مركز الجيش للمداولة في هذا الأمر لنكون على بينة من الحقيقة.»
وقرر «عرابي» دعوة الرؤساء وذوي الرأي في البلاد إلى مؤتمر عام، فاجتمع في القاهرة في — ١٧ يوليو — أكثر من أربعمائة رئيس وعالم ووجيه، وتداولوا في الموقف مليًّا ثم أعلنوا وقف العمل بأوامر الخديو؛ لأنه مغلوب على أمره في يد الأعداء، ووكلوا إلى عرابي مهمة الاستمرار في الدفاع.
وممن وقَّع على هذا القرار شيخ الأزهر وكبار علمائه ورؤساء الطوائف الدينية ووكلاء الوزارات ومعظم من في القاهرة من سروات البلاد، وعلى رأسهم ثلاثة أمراء، هم: الأمير إبراهيم أحمد باشا والأمير كامل فاضل باشا والأمير أحمد كمال باشا، وكل من بقي في القاهرة من النواب.
وقد استمر القتال بين الإنجليز والجيش المصري، فصمد هذا الجيش على قلة استعداده أكثر من شهر في كفر الدوار، وجاء المدد إلى الجيش الإنجليزي غير مرة من قبرس ومالطة وجبل طارق، وعلم الإنجليز أن «النزهة» التي تخيلوها، حرب عوان لا يأمنون عقباها، فاستعانوا بالرشوة والخيانة وأشاعوا في مصر منشورًا من الباب العالي يرمي العرابيين بالعصيان والمروق من طاعة السلطان!
قال «أحمد شفيق باشا» الذي عمل بالمعية الخديوية من قبل الثورة إلى أيام الخديو عباس الثاني: «في وقت إعلان عصيان عرابي أرسل السلطان ستة آلاف جندي إلى فرضة صوداء بكريد لإرسالها لمصر عند اتفاقها مع إنجلترا على مشاركة هذه الجنود للقوة الإنجليزية … ومما ساعد أيضًا على نجاح الإنجليز أن الجناب الخديو عين «محمد سلطان باشا» رئيس مجلس النواب مندوبًا خديويًّا وبمعيته بعض ياوران سموه لدى الجنرال ولسلي وناط به نشر الدعوة — وخصوصًا بين العرب — لمساعدة الجيش الإنجليزي الذي يحارب العرابيين باسم الخديو، أضف إلى ذلك الهبات المالية التي كان الإنجليز يغدقونها على العربان، وخصوصًا الذين قيدوا منهم بقلم الاستعلامات الإنجليزي.»
وجاء في مذكرات «شفيق باشا» أيضًا: «وفي ٢٢ أغسطس أصدر الخديو إلى الدوائر الملكية والعسكرية في القطر المصري إرادة أخرى، قال فيها: إنه لما كان الغرض الوحيد من الأعمال العسكرية التي يقوم بها السير جارنت ولسلي هو استتباب الأمن في مصر، فنحن قد صرحنا له باتخاذ التدابير العسكرية التي يرى لزومًا لاتخاذها، فيجب عليكم حال وصول أمرنا هذا إليكم أن تبذلوا له المساعدات اللازمة وتطيعوا أوامره كما لو كانت صادرة منا، فمن يخضع له كأنه خضع لنا شخصيًّا ومن خالفه يعد عاصيًّا لنا، ويعامل معاملة العاصي، وقد أصدرنا أمرنا هذا إليكم للعمل بمقتضاه.»
ولا حاجة إلى الإسهاب في سرد أسباب الهزيمة التي منيت بها الجيوش المصرية في التل الكبير، فليس من العسير أن نفهم كيف ينهزم جيش يحيط به الجواسيس وينقلون أخباره إلى الأعداء وينساق إلى خذلانه أقرب الناس إليه.
إلا أن المؤرخين علقوا بعض أسباب الهزيمة على موقف الجيش من قناة السويس، وحسب كثير منهم أن ردم القناة كان خليقًا أن تعطل حركات الإنجليز في الجهة الشرقية، وهو كلام يلقى على عواهنه. لأن عرابيًّا لم يكتفِ بما أخذه دلسبس على نفسه من العهود المؤكدة، وأمر بإرسال قوة إلى القناة لمواجهة الحال بما تقتضيه.قال الأستاذ الإمام في تعليقاته على الثورة العرابية: «وقبل أن يتحرك عسكري إلى ناحية القنال كان الجيش الإنجليزي قد احتله؛ وذلك لتأخر الجيش ١٥ ساعة في مخابرة دلسبس، ويظهر أنه كان في الحاضرين خونة حملوا الأخبار وأبطئوا في المخابرة.»
أما وجهة نظر عرابي في هذا التأخر، فهي تقديره أن الإنجليز يعملون منفردين بين الدول، وأن ردم القناة يجنح بالدول إلى تأييدهم. وقد أبلغ السلطان خطته في رسالة برقية، قال فيها بعد أن أشار إلى قطع الإنجليز للمواصلات البرقية بين الإسماعيلية والسويس: «أما نحن فبالنظر إلى احترامنا لعهود الترعة، بأن تكون على الحياد وإلى عدم تفويتنا لتلك النقطة وعدم وجود قوة عسكرية تقوم بشأن المحافظة على النقط فيما عدا نقط العساكر المستحفظة وموالاة التحريض الشديد على عدم مس حقوق الترعة، كل ذلك جعلنا في مأمن تام من تحمل أي تبعة كانت.»
•••
هذه كلمة مجملة في خطة الجيش المصري حيال القناة، وليست هذه الخطة على كل حال هي سبب الهزيمة؛ لأن الهزيمة كانت ضربة لازب بين عوامل الخذلان التي أحاطت بالجيش المصري في حالته تلك؛ وهي حالة النقص في العدد والعدة، على الرغم من تكرار المطالبة بزيادته وتسليحه، ولو كان في مصر عدد كافٍ من الجنود المدربين لأمكن رصد «المخافر» اللازمة منهم لحماية قناة السويس من غير حاجة إلى ردمها وتسليم المحتلين بذلك حجة يسوغون بها هجومهم ويمثلونه للدول في صورة «المهمة الدولية»، ويأتون بالشهود من مصر وغيرها على سبق المصريين إلى العمل الذي أوجب الهجوم لحماية القناة في حينها، واليوم — في سنة ١٩٥٢ — كانت حجة المحتلين أمام الدول بدعوى حماية القناة تسبق حجة المصريين إلى الإقناع، مع تضارب الأهواء.
ويبقى أن تقال هنا كلمة أخرى عن المذابح التي وقعت داخل البلاد بعد خروج الجيش المصري من الإسكندرية، فإن أخبار المهاجرين من الإسكندرية عن قتلاها وحرائقها وخرائبها كانت قد ملأت بلاد الوجه البحري، وذاع معها أن الذي حدث في الإسكندرية سيحدث في المدن الأخرى عند وصول الجنود الإنجليز إليها، فثارت ثائرة الغوغاء واشتبكت بينهم وبين الأجانب والمسيحيين مشاجرات قتل فيها أناس من هؤلاء، كما قتل فيها أناس من المسلمين. والذي ينبغي أن يلفت النظر أن أعيان المسلمين خفوا إلى نجدة الأجانب والمسيحيين المعتدى عليهم، وأن كبير هؤلاء الأعيان في إقليمه «أحمد المنشاوي بك» تلقى من مؤتمر الأجانب الذي انعقد بفندق «أبات» في الإسكندرية خطاب تقدير باللغتين العربية والإيطالية، قالوا فيه: «إننا نحن الواضعين إمضاءاتنا بذيله المستوطنين في القطر المصري والتابعين لدول مختلفة بناءً على ما اشتهر لدينا، مما أتيتم به من الإعانة والغيرة نحو ساكني طنطا على اختلاف أجناسهم وأديانهم، قد رأينا من الواجب علينا أن نقدم لسعادتكم هذه العريضة برهانًا على إقرارنا الأبدي بحميتكم وشكرنا الدائم لسعادتكم. وإنه ليسرنا ويعزينا كثيرًا أن نرى في القطر المصري مع ما أصيب به من النوائب رجالًا دافعوا عن حقوق الإنسانية وراعوا زمام التمدن بحمايتهم أولئك الأبرياء.»
أما الجزاء الذي قابل به الاحتلال ذلك الشكر الأبدي فهو النظر بعين السخط إلى أولئك الحماة، وقد تمحل الممثلون العلل لسجن الرجل الذي تلقى ذلك الاعتراف بالجميل، فاتهموه بالعنف في إكراه بعض اللصوص على الاعتراف بجريمتهم، وساقوه إلى المحاكمة «تكفيرًا» عن حقوق الإنسانية. ومغزى هذه المعاملة وأمثالها أوضح من أن تحتاج إلى توضيح، فهي — إلى مكافأة عمر لطفي وشركائه — برهان يغني عن كل بيان …
يضيق الصدر بعد هذا بما جرى في أثر الهزيمة المصرية من عودة الخديو إلى القاهرة محفوفًا بالجيوش الإنجليزية، وبما جرى من الفضائح والمخزيات في محاكمة الزعماء العرابيين، ولكننا نلخصها موجزين، فنقول: إن الإنجليز لم يضعوا أقدامهم في القاهرة حتى بدءوا بتهديد الخديو في مركزه كما تقدم، وبادر الشاعر الأيرلندي «بلنت» الثائر على الدولة البريطانية إلى نجدة أصدقائه العرابيين، فندب للدفاع عنهم محاميًا إنجليزيًّا خبيرًا بالشئون الشرقية هو مستر «برودلي» صاحب كتاب «تونس في ماضيها وحاضرها» وكتاب «كيف دافعنا عن عرابي؟» فعلم هذا المحامي بمشاوراته مع المراجع الإنجليزية العليا أن إنجلترا لا تستطيع الحكم بالإعدام على عرابي؛ لأنها تتذرع بفساد الحكم لتسويغ الاحتلال، فلا يلائم هذه الدعوى أن تعاقب بالإعدام من يثور على الفساد، ولكنها كذلك قد تذرعت بعصيان عرابي وتثبيت مركز الخديو لتسويغ حملتها على البلاد المصرية، فلا مناص إذن من الاعتراف بالعصيان.
وفي المحكمة تولى المحامي الدفاع على هذا الأساس، فكانت المحاكمة كلها فصلًا من فصول التمثيل، ولما يسدل الستار بعد على الفصل الأخير.
إلا أن المقادير توالي سياسة الاستعمار بالسخرية التي لا تنقطع في مرحلة من مراحله، فالاحتلال البريطاني يبقى اليوم باسم القناة التي بدءوا أعمالهم في غزو مصر باقتحام حرمتها ونقض عهودها، ونحن اليوم نحتج عليهم بمقاومتنا لاحتلالهم، وقد كانت هذه المقاومة نكبة القائمين بها أمس، فهي شفاعتهم اليوم في التقدير والإنصاف.