الصهيونية
من العوامل التي مهدت للاحتلال البريطاني عامل هام لا يجوز إهماله عند تقدير الواقع في كل مسألة خطيرة، ولا سيما المسألة المصرية، وهو عامل «الصهيونية» التي تسمى أحيانًا باليهودية الدولية.
وقد رأينا طائفة من المؤرخين يتكلمون عن هذا العامل الهام في سياسة العالم؛ كأنه «هيئة منظمة» تتألف من شيوخ محنكين يجتمعون في عواصم مختلفة ويصدرون في كل اجتماع قرارًا يتبع إلى موعد الاجتماع التالي، ويوشك أن تنطبق الحوادث في هذه الفترة حرفًا حرفًا على ما رسموه ورتبوه.
ونحن لم نعرف فيما اطلعنا عليه دليلًا قاطعًا يثبت وجود هذه الهيئة من الشيوخ المحنكين والرؤساء المطاعين الذين لا يعلم أحد كيف يقع عليهم الاختيار، وكيف تنعقد لهم طاعة الملايين في أقطار العالم المعمور. ولكننا نحسب أن الحوادث التي يذكرها أولئك المؤرخون لا تستلزم تفسيرها بوجود تلك الهيئة المختارة، وأن التدبير المقصود يمكن أن يتم بما بين أقطاب الصهيونيين من وحدة الغرض والقدرة على اغتنام الفرص والانتشار في جهات العالم التي تفتح لهم منافذ الفرصة في أمكنة متعددة، مع اشتغالهم جميعًا بأسواق المال والتجارة التي تتصل سرًّا وجهرًا بمسائل السياسة.
وسنرى فيما يلي مثالًا «للتدبير» الذي يتم في حينه خطوة بعد خطوة على غير تفاهم سابق، فيظهر بعد حين كأنه خطة مرسومة وضعها أناس متفاهمون، وأملوها على أتباع يدينون لهم بصدق الطاعة وإخلاص النية، ولا تفاهم هناك في الحقيقة والإملاء.
اتفق في سنة ١٧٩٨، سنة الحملة الفرنسية على مصر، أن يهوديًّا فرنسيًّا أذاع في باريس خطابًا إلى قومه يدعوهم فيه إلى تأليف مجلس عام يضم إليه مندوبين من اليهود المنتشرين في أنحاء العالم، ويكون اجتماعه الأول في باريس لتقديم طلب إلى الحكومة الفرنسية يسألونها أن تساعدهم على رد وطنهم القديم، ويشفعون هذا الطلب بالسعي في الآستانة لإقناع السلطان العثماني بقبوله. وقد جاء في ذلك الخطاب أن البلاد التي يريدونها تشمل الوجه البحري في مصر إلى عكا والبحر الميت وشواطئ البحر الأحمر، وهي رقعة من الأرض تجعلهم سادة التجارة الهندية والعربية والفارسية، ويقول صاحب الخطاب: إن فرنسا يمكن أن تستمال إلى هذه المهمة بما نخصها به من الربح والعوض والمقايضة على النفوذ.
وقد فشلت حملة نابليون كما هو معلوم، وحبطت معها مشروعات كثيرة، ومنها هذا المشروع. لكن الفكرة لم تزل تساور أذهان الصهيونيين، ولم يزل لها دعاة في القارة الأوروبية، يعالجون تحريكها حيث سنحت لهم سانحة في الرجاء، وقد جاءت الحركة التالية من يهودي متجنس بالجنسية الإنجليزية يسمى السير «موسى حاييم مونتفيور»، ويشتغل بالتجارة في الشرق، وله معرفة بوالي مصر في ذلك العصر «محمد علي الكبير»، وقد كتب في مذكرته بتاريخ الرابع والعشرين في شهر مايو سنة ١٨٣٩ «أنه سيطلب من محمد علي أن يؤجر له إقليمًا يزرعه من أرض فلسطين ويؤلف لاستغلاله شركة إنجليزية تؤدي أجرته مدة خمسين سنة …» ثم تغيرت الأحوال بعد معاهدة سنة ١٨٤٠ وإخراج فلسطين من حوزة محمد علي، فقنع الرجل بوعد من بالمرستون بحماية اليهود في البلاد التركية، واستأجر في سنة ١٨٥٤ أرضًا في صغد؛ لإقامة نحو خمسين أسرة إسرائيلية.
وكما اتفق في سنة الحملة الفرنسية توجيه تلك الدعوة التي أشرنا إليها، اتفق كذلك في سنة الاحتلال البريطاني — ١٨٨٢ — أن جماعة باسم «بيت يعقوب تعالوا نذهب» تألفت في الآستانة لاستئناف المساعي، حيث انتهى بها «موسى حاييم مونتفيور»، وكان اثنان من الإنجليز المسيحيين، هما: اللورد «شافتسبري» والمستر «لورنس أوليفانت» يبذلان المال لتوسيع الأرض التي يزرعها اليهود في فلسطين.
الآن تمت، وهي في يديك سيدتي … أربعة ملايين من الجنيهات … وتكاد تؤدى فورًا، ولم يوجد غير بيت واحد يعقدها، هو بيت روتشيلد … لقد سلكوا مسلكًا عجبًا، بذلوا المال بفائدة قليلة، وباتت حصة الخديو كلها اليوم ملك يديك سيدتي …!
وقد مر بنا في هذه العجالة أن دزرائيلي — أي اللورد بيكنسفيلد — قد اشترى الصفقة في غيبة البرلمان وبغير إذنه، وهي مجازفة نادرة في تاريخ السياسة البريطانية.
إن الثورة العتية التي تتأهب هذه الآونة في ألمانيا … ولا يعرف في إنجلترا حتى الساعة إلا القليل عنها، تجري بأعين اليهود الذين كادوا أن يستأثروا بكراسي التعليم في بلاد الألمان … فأنت ترى يا عزيزي كوننجزبي أن الدنيا يتولى حكمها أناس آخرون غير هؤلاء الذين يتخيلهم من لا ينظرون فيما يجري وراء الستار.
أما روتشيلد فهو القائل: «لا يهمني إذا صرفت مال أمة من يضع لها قوانينها!» وبيت روتشيلد هو صاحب الدين المضمون في مصر، وهو الذي وفق بفروعه المتشعبة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، بين دزرائيلي وبسمارك. وأصحاب الديون من الألمان اليهود هم الذين جعلوا وزير ألمانيا يتوسط للتوفيق بين الإنجليز والفرنسيين في المسألة الشرقية، على طريقة المقايضة.
وقد تتراءى لنا أهمية العمل الذي أقدم عليه دزرائيلي بتشجيعه بيت روتشيلد على إقراض الخديو، إذا عرفنا أن حملة الاحتلال قد حدثت في عهد وزير الأحرار غلادستون، وأن غلادستون كان معارضًا في الاحتلال، وقد استقال أحد وزرائه استنكارًا لضرب الإسكندرية. ولكن قروض روتشيلد وغيره قد صورت المسألة بصورة الحيطة لحماية حق الدائنين، وأضيفت إليها حماية أرواح المسيحيين المهددين، فحدث على يد وزير الأحرار «القديس» ما كان خليقًا أن يحدث على يد الوزير المحافظ بيكنسفيلد، أول من سمى الملكة فكتوريا بإمبراطورة الهند، وأوشك أن يجعل من ألقابها الرسمية «حامية الملة» ليصبح من حقها يومًا ما أن تشرف على طريق الهند باسم المال واسم الدين.
والشائع على الألسنة أن دزرائيلي عرضت له فرصة شراء الأسهم المصرية، فأسرع إلى اغتنامها على غير تدبير سابق في هذه الصفقة ولا في غيرها من صفقات أسهم القناة، غير أن الواقع أن شراء الأسهم كلها أو معظمها أو بعضها كان من الخواطر الملازمة لتفكير دزرائيلي من قبل سنوح هذه الفرصة. وكان هذا السياسي على الدوام من وراء المضاربات المالية التي كان يراد بها استدراج حمَلة الأسهم إلى بيعها بالسعر البخس في أزمات العملة التي كانت تلعب بالنقد وأسهم الشركات في أيام الحروب والفتن، وقد سعى جهده عند دلسبس لبيع الأسهم الفرنسية للحكومة الإنجليزية مغريًا له بالمعونة الدولية التي تضمنها شركة القناة إذا تعددت الحكومات التي تنتفع بها. وكان دلسبس يميل إلى عقد الصفقة معه ويتردد في طرق أبواب لندن بعد إغلاقها في وجهه مرات في أيام وزارة غلادستون، وبعد أن تبين له أن وزراء الإنجليز — ومنهم اللورد دربي — لا يرحبون بصفقة من هذا القبيل. ولما حصل دزرائيلي أخيرًا على الأسهم المصرية لم يكتم محاولته السابقة ولا مقاصده التالية في تصريحه أمام مجلس النواب بجلسة الحادي والعشرين من شهر فبراير سنة ١٨٧٦، فقال: «إنني لم أزل من زمن أوصي بالحصول على أسهم القناة، وقد عقدتها صفقة مالية وسياسية واعتبرتها صفقة لازمة لتمكين الإمبراطورية، وهذا الذي أعنيه اليوم وقد ارتاحت إليه البلاد التي تفهمني جيدًا وتقبلته بالغبطة والسرور، أما الذين انتقدوني من أجل هذه الصفقة فهم كما يخيل إليَّ لا يفهمون المسألة على هذا الوجه.»
•••
من هذا القبيل أثر النفوذ الصهيوني في السياسة الدولية، وفي المسألة المصرية على الخصوص: اتفاق في الغرض واغتنام للفرصة، وتوزيع للعمل بين دوائر السياسة والمال في مختلف الجهات.