جوائز الفضيلة
يظهر أنه لم يزل للفضيلة أنصار مع كثرة اعوجاج الناس واندفاعهم في طريق الغواية، أو هو انتشار الغواية يهيب بالمتشائمين ويدفعهم إلى خلق أساليب التشويق للدفاع عن الفضيلة وتعميمها بين الشبيبة.
ومن جميل هذا التشويق هو وضع جريدة «الإيكوده باري» جائزة كبرى «للفتاة الأكثر فضلًا من فتيات الوطن»، فجاء هذا الاقتراح جديدًا في بابه؛ لأن الناس يهتمون على الغالب بجوائز الجمال، تفنَّنوا بها ما شاءوا، فوضعوها للجمال المطلق أولًا، ثم لجمال الرأس والعين، والشعر والرجل، حتى والساق … وربما يذكر البعض منا شيئًا من جوائز الرءوس الجميلة والأقدام النحيفة.
وبعدُ، فقد نشر مقال «الإيكوده باري» وبدأت رسائل أنصار الفضيلة تنهال من رجال الدين والحكام ورؤساء المدارس، وكل منهم يقدم اسم الفتاة التي يظنها أكثر فضلًا من سواها. والغرابة هي أن الكل أجمعوا على تقديم أسماء فتيات حملن على أكتافهن الضعيفة واجبات كبيرة، وهي العمل المتواصل للقيام بأود العجزة والمحرومين والمرضى من والدين وأقارب وإخوة وأيتام.
وبدأت الجريدة بالتحقيق، فأخذت ترسل مندوبيها إلى بيوت المرشحات ليدرسوا أحوالهن عن قرب، فكان هؤلاء يحققون ثم ينشرون مقالاتهم مع رسوم الفتيات.
هل للجمال ولغضاضة الشباب تأثير هذا مقداره، حتى إنني عمدت إلى نشر حديث أجمل المرشَّحات؟ أو هي تعاسة هذه الفتاة البادية في عينيها وخطوط وجهها وقفت تشفع إلى جانب جمالها؟ لا أدري.
الآنسة لاردي في العشرين من عمرها، مستكتبة مختزلة «داكتيلو ستينو»، تربح ٦٠٠ فرنك في الشهر، تعول أباها الكسيح، وأمها العمياء، وأختًا أرملة مسلولة مع طفلها، وأختًا مصابة بأمعائها.
صعدت على الدرج الخشبيِّ إلى الطابق الخامس وقرعت الباب، ولما فُتح إذا بي أمام الآنسة لاردي في غرفة ضيقة، رطبة، مظلمة، جلست فيها العائلة إلى مائدة لم تزل عليها بقايا عشاء حقير.
وقدمتني الآنسة إلى ذويها: الأب المقعد، ثم الأم العمياء وقد اشرأبَّت بعنقها وعينيها المفتوحتين وعليهما غشاء أبيض، والأخت الأرملة — هذه كانت متزوجة بعامل نشيط، كريم الخلق، ولكن رطوبة الخنادق أثَّرت فيه مدة الحرب فأصيب بالسل الرئويِّ ورُدَّ إلى عياله، ولما مات كانت العدوى قد سرَتْ إلى زوجه. أما الطفلة الصغيرة، كذا قالت الآنسة لاردي، فقد حنَّ عليها قلب إحدى المحسنات فحفظتها من العدوى بأن أبعدت أمها إلى السناتوريوم. والآن بعد أن رجعت الأم وضعنا سريرها قرب النافذة لتستنشق الهواء النقيَّ. بقيت الأخت المصابة بأمعائها، وهذه أُرسلت بدورها إلى المستشفى بعناية قلب كريم.
كانت الآنسة لاردي مرتدية ثوبًا بسيطًا جدًّا ونظيفًا — ولعله الثوب الوحيد الذي تملكه — وقد وضعت على حضنها مئزرًا لبقًا. كم كان منظرها مختلفًا عن شهيرات الداكتيلو، المالئات المكاتب العصرية بحفيف أثوابهنَّ الحريرية، وروائح عطورهن الذكية …!
هي في العشرين من عمرها، وتُحسب من الجميلات، بقوام طويل، وشعر كستنائي، وعينين كبيرتين زرقاوين لمعت فيهما طلائع الحمى، وبشرة صفراء ذابلة تنمُّ عن التعب والحرمان، وهي حيية الطبع فطرةً، على أن العمل أكسبها سهولة في التكلم، فحديثها حديث أدب ورزانة وثقة.
قالت: إنها تشكر حاكم المقاطعة الذي افتكر بها ورشَّحها «لجائزة الفضيلة»، وسألتها فأجابتني أنها تربح ٦٠٠ فرنك في الشهر، فتدفع أجرة المنزل، والباقي لا يكاد يكفي … «في الصباح نشرب كلنا القهوة مع الخبز، والقهوة تقوي أعصابنا، والظهر نأكل الخضر المسلوقة، ومساء الشورباء مع الخبز.» ثم أشارت إلى الصحن الشورباء وكان لم يزل على المائدة، وإلى جانبه في صحفة قشرة بيضة فارغة. هنا ابتسمت وقالت: هذه البيضة من حقي في كل مساء؛ لأنني أتعب وأحتاج إلى غذاء، وإلا فإنني أهبط … قالت: «أهبط». وأشارت إلى العائلة، وكأني بها تقول: «ويصبح هؤلاء تحت رحمة السماء.»
وبينما كانت تتكلم كانت الدموع تجول في مآقيَّ، والتأثر يضغط على حنجرتي، فأتمتم كلمة أصرف بها فكر الفتاة عن موضوع شقائها.
وودعت متمنيًا لها ربح الجائزة، ولما صرت في أسفل الدرج التفتُّ وإذا بالفتاة في أعلاه تنير سبيلي، وحول وجهها هالة نور ذهبية … بقي أن أقول: إن شهادة الحاكم تنص على أن الآنسة لاردي هي مثال الفتيات بالتأدب والرزانة والصبر والشجاعة.