من أساطير الأقدمين١
جرت الحادثة الآتية في قصر من مدينة مرسين المبتدئة من شاطئ بحر الروم، والممتدة بضواحيها وما يحيط بها من المزارع والقرى إلى تحت أقدام جبال طوروس، حيث قامت منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة مدينة رومانية قديمة.
كان ذلك حوالي الغروب وقد أخذ ظلام الليل ينشر ستائره السود، ثم تبدد ذلك الظلام بغتة وأنارت الكهربائية البيضاء كلَّ القصور الواقعة على جانبي الشارع، وهي كأنها سلسلة نجوم معلقة بخيوط فضية فوق رءوس الناس.
وهناك على الرصيف الواسع مشى مئات من العمال إلى بيوتهم وهم يتنزهون ويتغنون بعد تعب النهار ومشاقه.
قلنا: إن الحادثة جرت في قصر من هذه القصور.
في ذلك الزمان؛ أي في سنة ١٩١٨، كانت بلادنا بلاد بؤس وشقاء، فشوارعنا كانت ضيقة مظلمة، وكان السائر فيها ليلًا يتلمس طريقه تلمسًا بين الحفر والأخاديد … وكان أجدادنا المساكين يتحاشون الخروج ليلًا؛ لأن عصابات اللصوص كانت تختبئ في كل زاوية وفي كل بستان.
ولم تكن هذه العصابات في البساتين والزوايا فقط، بل كان القسم الأكبر منها على العروش وفي دسوت الأحكام.
ولما لم يكن لهؤلاء الأشقياء شيء من القوة كانوا يسودون على الناس بالتخويف والإرهاب، فكانت البلاد كلها عبارة عن لصوص صغار يأتمرون بأمر لصوص كبار، وكانت الحياة معركة دائمة يقتل فيها المسلم نصرانيًّا في اليوم الأول، فيقوم النصراني في اليوم الثاني ويثأر لصليبه بقتل أحد أبرياء المسلمين.
كأن صليب السلام تحول إلى راية شعارها الدم والنار!
هل تخاصم مسلم مع جار له وقتله؟ فكانت التهمة تقع على رءوس المسلمين أعداء الصليب …
هل افترس ذئب أحد الرعاة المسلمين؟ فكانت التهمة تقع على رءوس النصارى أعداء الإسلام …
وفي أحد الأيام، رأى أجدادنا حورية جميلة رشيقة القوام خارجة من الأمواج، وكان لها شعر ذهبي طويل، وعينان ذهبيتان صافيتان، وعنق جميل كالبلور قائم على أكتاف كأنها الرخام المصقول، وكانت مرتدية وشاحًا شفافًا له أردان كخيوط الذهب، وقد لفته على جسمها الجميل بهيئة تماثيل اليونان، وكان ناعمًا ناعمًا يحاكي الهواء أو بخار الماء … ولما رأت هذه الحورية الناس وشقاء الناس أرسلت من عينيها الذهبيتين دموعًا كانت كحبات اللؤلؤ.
وبعد أن استنزفت كل الدموع التي كانت في عينيها نظرت إلى الحراس حولها — وهم طوال القامات، بيض الوجوه، ذوو شعور ذهبية — وقالت لهم: إنني حزينة يا إخواني، حزينة على حالة هذا الشعب، هلموا نتعاون ونخفف شيئًا من آلامه.
فقالوا لها: أيتها الحورية الجميلة، إنما نحن إخوانك ومساعدوك، نحن جيوش متحدة انتدبتنا السماء ووضعتنا بين يديك، ونحن من زمان نكافح الحرب بالحرب، وقد تعبنا من مكافحة الحرب بالحرب، وماذا تفعل حرابنا وبنادقنا أمام أشعة الحب المنبعثة من عينيك.
فطافت إذ ذاك الحورية في الشوارع والأسواق، وكانت تبشر بالحب والإحسان، فلم يسمع صوتها الناس؛ لأن عويل النادبين وحشرجة المائتين أصمَّت آذانهم، ومنظر الدم أعمى عيونهم، صمٌّ بكمٌ عميٌ لا يسمعون ولا ينظرون!
فلم تيأس الحورية، بل ظلت تسير بين الجبال والأودية واعظة مبشرة، وفي أحد الأيام رأت في بيت بعيد على رأس جبل كأنه عشٌّ للنسور ولدًا صغيرًا يبكي فوق جثث أبويه وإخوته، وكان اسم الولد أحمد، فأخذته ووضعته في هدب ثوبها، وسارت به على جوادها تنهب الأرض نهبًا.
وفي فجر اليوم الثاني استيقظت مع الطيور، ورأت على عتبة بيتها ولدًا صغيرًا مطروحًا بين حيٍّ وميت وقد قُتل أهلوه في المنفى، فأتى به أبناء السبيل ورموه على باب الحب والإحسان.
وكان اسم الولد سركيس.
فحملته بين ذراعيها، وكان يرتجف بردًا، وقالت له: لا تبك يا حبيبي؛ سأضعك في كنف حبي وحناني فلا يصل إليك الأشقياء.
ثم ذهبت به إلى السرير حيث كان نائمًا يتيم الأمس بين الستائر الحريرية الناعمة، فوضعته إلى جانبه وقالت لهما: ناما كأخوين.
ولم تمضِ ساعة حتى سمعت صراخًا غريبًا، فهرولت ورأت الطفلين يختصمان كأنهما شبلان صغيران.
فتنهدت وغسلت الدماء وضمدت الجروح، وأخذت الولدين بيديها إلى جنة قريبة فيها أزهار عطرية وفاكهة ذهبية، فقطفت الورد وضفرت منه إكليلين كللت بهما رأسيهما، وقطعت أغصان الفاكهة وقالت لهما: «العبا كأخوين.»
ولم تغب دقيقة حتى اشتبك الولدان، فداسا الزهور، ورميا الفاكهة إلى الغدير، ونزلا برقاب بعضهما نهشًا وعضًّا.
فرجعت وغسلت الدموع وضمدت الجراح، وحبست الولدين في غرفة، وقالت في نفسها: سأُلهيهما بالعمل، ثم وضعت بين يديهما الأقلام والدفاتر، ولم تتجاسر أن توصيهما بالحب والأُخوَّة، بل قالت لهما: «اعملا».
وذهبت فلم يعملا بالوصية، بل كسرا الأقلام، ومزقا الأوراق، واشتبكا من جديد.
فيئست الحورية وقالت: لا شيء يؤثر بهذين الشبلين، لا وعد ولا وعيد، ولا غنى ولا دلال، ولا أزهار ولا أثمار.
ثم وضعتهما على ركبتيها، وسكبت من عينيها الذهبيتين لؤلؤتين سقطتا؛ الواحدة على عنق سركيس الأبيض، والثانية على جبين أحمد الأسمر.
وفي تلك الدقيقة لامس الحنان قلبيهما، فتعانقا وبكيا، واختلطت دموعهما بدموع الحورية التي تبسمت وحلَّت وشاحها وألقته على الولدين وقالت بصوت كأنه آتٍ من عالم بعيد: اتحدا كأخوين؛ الاتحاد سر القوة، والأخوة سر الهناء.
وغابت الحورية بين الأمواج ولم يرها سركيس، ولم ينظرها أحمد إلا في الأحلام، على أنهما حفظا لها الحب والجميل، وحافظا على وشاحها كما يحتفظ المسيحي عود الصليب، فكان لهما بياض الوشاح رمزًا لحسن النية، وزرقته رمزًا للأمانة، واحمراره رمزًا للحب الخالص الكامل.
توقفت العجوز البيضاء عن الكلام، وسكت صوتها المتهدج، فاقترب منها صغير الأولاد وقال لها بلهجة الولد غير المصدق: وهل هذه الحكاية صحيحة يا جدتي؟
فتبسمت العجوز وقالت: يا ولدي، إن جدة أبي عاشت مائة سنة، وهي روت لي هذه الحكاية عن جدتها، وجدتها عن جدتها عن جدودها عن أساطير الأقدمين. والله أعلم.