موجة السرور الكبرى
لا خير يُرتجى من الأمم الشاكية، الأمم الغارقة في سويدائها، الموسومة — على جبين شبابها — بطابع الخيبة والهرم الباكر.
لا شك أن الحياة هي للشباب الزاهر، وأنَّ أمة لا تغسل أحزانها أمواج السرور الكبرى لهي أمه تمشي إلى الفناء، فأول ميزات الحياة وآخرها هي «الحياة»، والحياة شيء غير الانكسار، فالخيبة، فالذل، فالبكاء.
أجل إننا في حاجة وجيعة إلى السرور والطرب، ولكن كيف نطرب وكل من حولنا يبكي. لقد تعالى بكاؤنا فغطَّى بنعيبه كل أصوات الطبيعة الضاحكة حولنا دوامًا، فهذه السماء الزرقاء، الزرقاء كعيون الأطفال المذهبة الشعور، وهذه الشمس اللامعة، والأشجار المخضلة إلى مديد من الأيام عديد، وهذه الزرارير المُصفِّرة في أعالي الصنوبر، والطيور المنشدة فوق دوالي العنب وأغصان التين، والغدير المهمهم بين الأعشاب، والشلال الصارخ فوق الصخور، وأمواج الهواء المهينمة في الغابات، كل هذه تنشد أنشودة الحياة زاهيةً طربة ونحن وحدنا نبكي.
ولآدابنا العربية، بما يتبعها من شعر وموسيقى وإنشاد، اليدُ القاهرة في تكييف نفوسنا على الحزن والأنين، ولا عجب فآداب الأمم هي صورة حية رُسمت فيها مشاهد حياتنا على توالي العصور. وهل في حياتنا — منذ عدة مئات السنين — سوى مشاهد الأسر والذل والفقر والحرمان؟
واليوم، وقد نفخت في الشرق روح نهضة جديدة، وأصبح الشيخ والكهل والطفل يشعر بحاجة إلى «كرامة قومية»، اليوم تدخل آداب لغتنا في طور جديد، فشعراؤنا ينشدون القصائد الحماسية، وأطفالنا في المدارس يغنُّون القدود الوطنية، ولكن طابع الحزن القديم لا يزال في مكانه، فهو من هذا القبيل لازم الوجود، كختم «المندوبين السامين» على كل قرار يتعلق رأسًا بمرافقنا الحيوية في سوريا ولبنان وفلسطين.
خذوا مثلًا هذه الأنشودة:
قرار
أنشودة حماس مع ما فيها من الدموع السخينة … ولكن اللحن! أشهد أنني لا أسمعه مرة إلا وتغلغل في نفسي حاسات القهر والأسى ممزوجة … فيمر في خيالي مشهد أم تحتضر باكية على أطفالها، أو مشهد جنازة صغيرة تسير الهوينا حول عربة صغيرة تحمل نعشًا صغيرًا أُضجِع فيه طفل صغير.
•••
وفي قرية الدوَّار الصغيرة، المختبئة بوداعة خلف أكمة ظهور الشوير، ذلك المصيف الفخور بجلال باسقاته، وجمال بناته ذوات العيون الذبَّاحة، في القرية الدوَّار بيت صغير ساكن مختبئ — مثل الدوار نفسها — بين الأشجار الكثيفة الخضراء.
لا عيال في هذا البيت، إنما من حين إلى حين تجتمع فيه طائفة من الشباب، فيلهون ويطربون ويسكرون، وعندما يبلغ رنين الأقداح حدَّه الأقصى تخفت أصوات الشاربين، ويرتفع وسط سكون الغاب أنين الأوتار الشرقية يرافقها صوت شجيٌّ أظنه يغني على الحب.
إنني أدري لماذا نبكي حينما تهزنا عاطفة القومية، ولكنني لا أدرى لماذا تبكي الأوتار تحت أنامل شبَّان يلهون ويطربون وينشدون أنشودة الحياة الكبرى.
ولعل الحق في هذا على شعرائنا وأدبائنا ومنشدينا الذين لا يؤدون رسالتهم في حياة الأمة كما يجب أن تؤدى.
إن حياتنا الشرقية في حاجة إلى أنواع جديدة من الأدبيات، ولعل ألزمها هو الإنشاء الزاهر المطرب، الذي إذا قرأناه فاضت علينا موجة من روح الكاتب الطربة فبردت نار الحزن الكثيف اللاهبة دوامًا في حنايا ضلوعنا.
إنه ابتكر لنفسه طريقة في الإنشاء لم يأتها قبله كاتب سوريٌّ أو لبنانيٌّ، وتوفَّق إلى بدائعها، وقراؤه مدينون له بساعات طويلة تنفلت فيها أعصابهم من سلطة الطوق الحديدي، وتغتسل في موجة زهوٍّ يطلقها عليهم «سركيس الضاحك».
وبعد أن يشبعهم طربًا وسرورًا وضحكًا ينفخ فيهم نسمة من نسمات التجدد مؤدِّيًا رسالته دون أن يدري.