حياتنا الاقتصادية
١
يحكم عالمنا الاجتماعيُّ على المرأة بعدم التعرُّض لما لا يعنيها، والاقتصار على ما يعنيها، وهو يحكم حكمه هذا بداهة دون تروٍّ ولا إمعان، فإذا سألنا بعضهم أن يحدد لنا هذا «الذي يعني والذي لا يعني» لما قدروا أن يحصروا نظريتهم ضمن نظام شامل عام. والحقيقة هي أن مداخلة المرأة في أمور المجتمع أمر لا يمكن تحديده، فهو نسبيٌّ على الإطلاق.
حتم المجتمع على نساء المزارع أن يفلحن الأرض ويزرعنها ويحصدنها، وأن يقطعن الخشب وينشرنه ويحملنه من الجبال البعيدة إلى المدن والقرى، وأن يسقن قطعان الماشية إلى مسافة بعيدة لورود الماء والمرعى، ولم يقل العالم الاجتماعيُّ في هذه الأحوال: إن بشرة النساء الطريئة لا تحتمل أشعة الشمس، وأن أيديهن الناعمة لا تقوى على رفع الفأس.
كذلك تبعت نساء الغزاة رجالهنَّ إلى ساحات القتال لطبخ الطعام، وجلب الماء، وشحذ السلاح، وتاريخ الغزوات القديمة ملآن بأخبار النساء اللواتي ما قيل لهنَّ مرة: ابقين في الحيِّ فبِنْيَتُكُنَّ النحيفة لا قِبَل لها بالأسفار المضنكة.
وهكذا نرى النساء في المجتمع كله خاصعات — ككل الكائنات الحية — لأحكام الظروف، فامرأة الجندي تشحذ سلاحه، وامرأة الفلاح تغرس كرمه، وابنة الراعي تجوب البراري أمامها سائقة مئات الأنعام.
رأيت مرة في صحراء خاوية مقفرة؛ فتاة في الخامسة عشرة من العمر تسوق مئات من النوق، فكانت على ظهر ناقتها كأحد كبار الفرسان بقوام منتصب كالرمح، ووجه عزيز فخور.
أما ثوبها فكان شبه قميص مفتوح من العنق إلى أسفل الصدر ينمُّ عن تكوين لم تر العين أبدع منه، فعجبت من وجود الفتاة منفردة في قلب تلك البادية، واقتربت منها أطارحها السلام وأسألها عن حالها، فكانت تجيبني بحرية ولطف ورقة وكياسة لم أرها في امرأة غربية أو شرقية.
وما يقال عن نساء البداوة يقال عن نساء الحضارة، فنساء الطبقة الفقيرة في بلادنا قد زاولن منذ زمان المهن الأولية — ولا أقول: المهن الحقيرة؛ فليس من عمل حقير على الأرض — كالخياطة والكوي والرضاعة والخدمة في البيوت، ثم نزلت نساء الطبقة المتوسطة إلى ميدان العمل، فكان منهن المعلمات، ثم الممرضات والصحافيات وبعض الطبيبات، ولا تزال دائرة العمل تتسع أمام من تضيق بوجههنَّ اقتصاديات الحياة، فلا يمر علينا عشر من السنين إلا ونرى النساء الوطنيات مهتمات بمسائل الاقتصاد، مقتنعات أن الحرية الاقتصادية هي أم كل حرية بشرية.
نرى مما تقدم أن حكم العالم الاجتماعي على المرأة وحصره إياها ضمن دوائر ضيقة ليس من الشرائع التي لا تزول قبل أن تزول الأرض والسماء، فحالة المرأة خاضعة دائمًا وأبدًا لحالة الإقليم، ولحالة المحيط، ولحالة الظروف؛ أي أنها نسبية في كل زمان ومكان، تابعة لناموس التطوُّر ككل التقاليد وكل الشرائع التي اتَّبعها الإنسان منذ وجد إلى اليوم، وليس لكائن أن يقول: «هذا يعني المرأة وذاك لا يعنيها»؛ إذ كل ما يهم الأُمَّة يهم المرأة.
فكل الأبحاث التي يطرقها الرجل معتقدًا أن الوقوف عليها يفيده ويفيد الأمة يمكن للمرأة أن تطلع عليها، وتدرس جزئياتها، وتُلقِّنها لأولادها، وتباحث بها صديقاتها.
إن العراك الناشب اليوم في العالم هو عراك اقتصادي، والأمم تدافع عن اقتصادياتها — رجالًا ونساء — بشدة تشابه الكَلَب، فلا ندري لماذا تبقى المرأة عندنا بمعزل عما يجري حولها، ولماذا ينفرد نصف الأمة في هذا العراك، بينما يقف النصف الآخر متفرجًا وهو قادر أن يؤدي مساعدة كبرى لذلك النصف الذي يناضل وحده في أزمة تقصم الظهور، وتقضي على الأنفاس.
أقول هذا ناظرة إلى الوجهة المادية من هذه المسألة التي لها وجهة أدبية لا يجب إغفالها؛ إن باطلاع الرجل وحده على معلومات نافعة، واحتفاظه بها لنفسه ظلمًا للولد عميمًا.
أقول: إن الرجل الذي يحتكر المعلومات لنفسه — إن كانت هذه المعلومات نظرية أو عملية — يمنعها عن ولده شاء أو لم يشأ، إن حاضنة الولد ومهذبته ومرشدته ورفيقته هي المرأة أولًا، والمرأة آخرًا. فلو سألنا كل رجل من رجال عصرنا، عالمًا كان أو تاجرًا أو لغويًّا: كيف تعلمت ما تعلمته؟ لأجاب فورًا: «لقد تعلمت على حسابي.»
إن لرجالنا الذين يتعلمون على حساب نفوسهم فضلًا كبيرًا لو ندري؛ لأنهم يبدءون حياتهم كما بدأها جدنا الأول، وعندما يصلون إلى زمن العمل يرون المسافة التي قطعها الغربي فينشطون للحاق به. وكم من زلة! بل كم من كبوة وهفوة يلاقون إلى أن يصلوا — وغالبًا لا يصلون قبل الخمسين — إلى حيث وصل أبناء الغرب، فهم يختبرون، في مدة ثلاثين سنة، ما اختبره الغربيون في أجيال، على أنهم ينسون جهادهم الطويل، ويتركون أولادهم يتخبطون في مثل ما تخبطوا هم به، وبكلمة أخرى يتركونهم «يتعلمون على حسابهم».
وإنها لهفوة كبيرة يعرف مقدار ضررها كل من تعلم على حساب نفسه، علينا أن نسلم لأولادنا اختباراتنا ومعلوماتنا، أعني على أولادنا أن يأخذوا عنا خلاصة أبحاثنا طول العمر، فيبدءون حيث انتهينا، لا حيث بدأ رعمسيس، ويكون جهادهم في الحياة خفيفًا لذيذًا منظمًا، لا مضنكًا قاتلًا، وليس من يعدُّ الولد للعراك في الحياة مثل أمه، فكيف تعده هذه الأم للحاق بأبيه إذا كان بين رقيها ورقيِّ زوجها بون هو نتيجة اختباره ثلاثين سنة، ونتيجة حصرها في دائرة صغيرة من التافهات تعرفها الأنعام بالسليقة.
ولقد بدأنا نشعر بحاجة إلى الأمور الجدية، كما أصبحنا نملُّ من الأبحاث النسائية الضاربة دائمًا وأبدًا على أنغام الخيال، ووصف الطبيعة، وواجبات المرأة التي سمعناها ألوفًا من المرَّات، وكدنا نكره من أجلها الخيال والطبيعة، حتى والمرأة.
٢
هل رأيتم مرة حديثَ نعمةٍ يُقلِّد الأغنياء والأمراء؟ هل نظرتموه مرتجفًا مرتبكًا غريبًا في قصره وبين ضيوفه، حتى وفي ثيابه؟ فكما يلقَّب من ينام فقيرًا ويصبح غنيًّا «حديث النعمة» يُلقَّب من يدفع بغتة من ظلمة القرون الوسطى إلى نور العلم العصريِّ «حديث العلم»، و«حديث التمدن»، و«حديث الرقيِّ».
إن كل ما نأتيه يجيء ناقصًا متقلقلًا مرتجفًا؛ ذلك لأننا حديثو العهد في المدنية الغربية التي طمى سيلها علينا فاضطررنا إلى قبولها دون استعداد، نحن حديثو العهد في هذه المدينة وحداثة عهدنا تظهر في كل مظهر من مظاهر حياتنا؛ في حياتنا السياسية، وحياتنا العلمية، وحياتنا الفنية، وقبل كل شيء نحن حديثو العهد في حياتنا الاقتصادية، والبلاء العميم هو أن مجموعنا يجهل ذلك، فهو إذا تألَّم من الانحطاط المُلمِّ بنا يحول وجهه شطر الحياة السياسية والحرية السياسية، ناسيًا أن الحرية الاقتصادية هي الأصل، وما بقي فهو الفرع.
لو كان لنا حياة اقتصادية لوقفنا بنفوذنا أمام العالم المتمدن وقلنا: نريد أو لا نريد، لو كان لنا كيان اقتصاديٌّ لكان لنا كيان سياسيٌّ، ولو كان لنا كيان سياسيٌّ لما قضينا كل هذه القرون ونحن جسر يمر عليه الفاتحون ذهابًا وإيابًا.
قلت: جسرًا! لا وربي! الجسر شيءٌ قويٌّ يتعهده من يمر عليه بالعناية حتى لا ينكسر بعد مروره فينقطع عليه خط الرجوع! نحن طنفسة — والتعبير مؤلم — على باب هذا الشرق داستنا منذ القدم أقدام الغزاة والفاتحين والمتاجرين.
نحن لم نفهم مرةً معنى الحياة ومعنى الكيان، فعشنا حياة شخصية فردية لا يهم الفرد منا إذا عاشت الأمة أو ماتت. نعم، إننا عشنا كتجار مستقلين تنحصر حياتنا في صندوقهم، فكانت هذه العلامة من أدلة انحطاطنا، وأي انحطاط أكبر من فقد التضامن والتكافل بين أبناء البلد الواحد.
إن لهذا الانحطاط أسبابًا لن أتوسع في البحث فيها كي لا أتعدى دائرة بحثي، على أن أكبرها هو كوننا عشنا في بلادنا غرباء لا نشعر بالوطنية ولا بالقومية، فكيف يُسأل من لا عقار له عن تعهد عقاره؟ أما نتائج انحطاطنا فواضحة عمَّ بلاؤها سوريا ولبنان في الحرب، وبعد الحرب، فرأى العالم مبلغ فهمنا للحياة، ومبلغ تقديرنا للقومية وللحياة القومية.
انحطاطنا أساسيٌّ لا يزيله جلاء «الأتراك» ولا الاحتلال الإنكليزي ولا الفرنسي، حتى ولا احتلال الملائكة! إن حريتنا الاقتصادية هي الأساس الذي تبنى عليه بناية الوطن، فأين المشتغلون في هذه البناء! أين الدوائر الاقتصادية تأتينا بالإحصاءات عن حركة الصادر والوارد؟ أين هذه الدوائر تظهر لمجموعنا بالأرقام أن البلاد التي تصدر إلى الخارج ١ وتستورد ٦ مصيرها الخراب؟ لقد أوجدت لنا المفوضية العليا «دائرة اقتصادية»، ولكن هذه الدائرة مهما قيل فيها فقد أُنشئِت بجهاد الفرنسيين واجتهادهم. هذه الدوائر هي ككل المشاريع في بلادنا أجنبيةً، هي كشركة الترام والماء والمرفأ والخطوط الحديدية وكل شيء … هذه الدائرة أنشئت لأن الفرنسيين شعروا بالحاجة إليها. الذي يحس بالحاجة إلى أي أمر من الأمور ربما يكون قد تعود على استعماله، وبما أننا ما شعرنا إلى اليوم بضرورة دخول التجارة من أبوابها، فنحن لم نزل أطفالًا فيها.
سيقول بعضهم: ما هذا الادعاء؟ ألا يوجد عندنا تجار؟ وفلان وفلان وفلان؟ من أين جمعوا هذه الثروة؟
جوابي على هذا: إن التاجر الذي يشتغل لنفسه ليس بتاجر. التاجر الحقيقي هو الذي يشتغل لنفسه وللأمة، التاجر الحقيقي يحسب أن الذي لا ينبع يفرغ، وأن الأمة التي تدفع لأوروبا — مثلًا — ستة ملايين، وتقبض منها مليونًا واحدًا ستفلس بعد سنين معدودة. وما ربح التجار المعدودين المشتغلين ببيع البضائع الأوروبية إلا كربح القرد الذي كان يلحس المبرد متوهمًا أن فيه الحياة، وهو بالحقيقة لم يكن يلحس إلا دماء قلبه!
استوردت فرنسا في الشهر الماضي كذا وكذا من المواد الأولية الفلانية؛ أي بنقص كذا عن الشهر الذي مثله من العام الماضي.
ولقد قامت إنكلترا وقعدت يوم اعتصب المُعدِّنون، واضطرت الحكومة إلى شراء الفحم من الخارج، فكان العالم يتتبع أخبار ذلك الاعتصاب الأسود بنفس الأهمية التي كان يتتبع بها أخبار الحرب.
•••
لقد مات منا في الحرب جوعًا مائة وثمانون ألفًا، فلو كنا نفهم ماهية الاقتصاديات في حياة الأمم لفكرنا يومًا أن قوام الاقتصاديات هو الإنتاج، وأن الإنتاج يرتكز على اليد العاملة، وأن موت اليد العاملة هو نذير الموت لمن لم يمت!
لو كنا نفهم معنى القوة الاقتصادية لحولنا اهتمامنا بعد الهدنة إلى وضع الأسس المالية لحياتنا المقبلة، ولانصرفنا عن الاهتمام بالسياسيات — هذه السياسيات التي لا أفتكر بها إلا وأُغرب في الضحك، وهو ضحك كالبكاء — وأسسنا الأحزاب الاقتصادية بدل الأحزاب السياسية.
نعم لو أننا نعرف ماهية الحياة لدخلناها من أبوابها، وبدلًا من تأليفنا الوفود للاحتجاج على تعيين هذا الحاكم، وعلى تأليف تلك الإدارة، وذلك النظام؛ كنا نرسل الوفود إلى أوروبا للتوسل إليها بإنهاء المسألة الشرقية التي بانتهائها تنتهي الحرب، وبانتهائها تعود العصابات إلى السكينة، وبانتهائها يستبدل المدفع في سهولنا بالآلات الزراعية.
لو كنا نعرف ماهية الحياة لعملنا مجتمعين على إحياء موسم الاصطياف، وحولنا نصف رءوس أموالنا التي تذهب وتُسمِّن صناديق الأوروبيين إلى صناديق شركات وطنية تشتغل لتسمن جيوب الأمة.
يقولون: إن التجارة واقفة! نعم إنها واقفة؛ لأن المشتري هو الزارع والصانع، وهذان — إذا وجدا — لا يشتريان؛ لأنهما لم ينتجا شيئًا، وإذا أنتجا فثمن ما ينتجانه زهيد أمام ثمن البضائع الأوروبية التي زادت أثمانها كثيرًا بسبب نقص اليد العاملة. التجارة واقفة لأن الأهالي مفلسون، ولا يعود دولاب التجارة إلى حركة طبيعية إلا إذا تساوت في البلاد حركة الصادر والوارد. لتقف هذه التجارة! هذه التجارة التي تغطينا بمنسوجات الغربيين! لتقف هذه التجارة إلى أن يشعر الشعب أنه بحاجة إلى الإنتاج فيحول قواه إلى ما يدر عليه المال، ولا حياة ولا حرية ولا استقلال بغير المال.
٣
لماذا نحن متأخرون؟
ولماذا تتحكم الأمم في رقابنا؟
ولماذا نحن عبيد للغرب، والنسبة بيننا وبينه لا تستلزم وجود مثل هذا الفرق؟
ولماذا ظُلمنا فقُدِّر علينا أن ندفع ثمن هفوات كل الأجيال التي تقدمتنا، وهذه ديون تركيا واحدة منها؟
كثيرون يتساءلون، وربما تمضي السنون فتطوينا الأرض، ويظل أحفادنا وأحفاد أحفادنا يرددون «لماذا»؟
•••
على أن الوقت حرج، حرج جدًّا لمن يفهم معنى القوة، الوقت حرج ولا يرفع الأحمال عن أكتافنا سوى تقدمنا الاقتصاديِّ. البلاد غارقة بالدَّين، وهذا المد لا يزال يعلو رويدًا رويدًا وعما قليل يأخذ بخناقنا، ونحن لاهون بالكلام نقضي أوقاتنا بالانتقاد ضمن جدران بيوتنا، وبالاستبشار بتقلص ظل الحكم الفلانيِّ لنستبدله بالحكم الفلانيِّ، كأن في إمكان الغريب — ولو كان من سكان السماء — أن يعاملنا كما يعامل نفسه، أو أن يبدل بقوة سحرية هذه الحالة التي أوجدتنا فيها هفوات الذين تقدمونا.
قضى التاريخ بأن تنفصل بلادنا عن تركيا، وما حوادث التاريخ سوى أعمال حسابية ذات قواعد مقررة لا سبيل إلى الخطأ فيها.
فكما نقول: إن الأرقام الفلانية تعطي المجموع الفلاني، هكذا يمكننا أن نقول: إن مجموع الحوادث — البعيدة والقريبة — التي توالت على الدولة التركية قضت بفصلنا نهائيًّا عن جسم هذه الدولة، فانفصلنا، ولكننا لم نزل نحمل فوق أكتافنا قسمًا مهمًّا من هفوات تركيا ومن ديونها.
وقد رافق هذا الانفصال حوادث سياسية مشئومة قضت بوجود جيش احتلال سندفع نفقاته المادية والأدبية عاجلًا أو آجلًا، أما النفقات المادية فهي الملايين التي يقوم لها البرلمان الفرنسوي ويقعد، وأما النفقات الأدبية فهي دماء أبناء السين، فكلما رفعنا رأسنا بطلب الحق — والنفس طلَّابة — يهيب بنا هاتف في داخلنا فيقول: «انظروا إلى الدماء إنها لا تزال طريئة»!
لو علم بعض الذين اندفعوا من أهل البلاد لتمثيل تلك الفاجعة أن روايتهم ستترك لنا هذه النتيجة لفضلوا أن يمشوا على الجمر قبل أن يلعبوا أدوارها؛ أقول هذا لأنني متيقنة أن الكثير من الذين ساروا مع التيار إنما ساروا عن طيب قلب، وصفاء نيَّة.
أقرأ من حين إلى آخر في الجرائد السيارة فصولًا عن ميزانية لبنان الكبير، وعندما أصل إلى الانتقادات على بعض النفقات، التي لو جمعت كلها لما بلغت المليونين، يتيه فكري في عالم الحقائق؛ فأرى «هذين المليونين» قطعًا ذهبية تؤلف كومة صغيرة، وأرى بجانبها جبلًا عظيمًا هو ذلك المليار!
ذلك المليار يجب أن نضع حدًّا لإنفاقه، يجب أن تجتمع كلمة السوريين واللبنانيين الموجودين في أقطار الأرض حول أمر واحد، وهو أن يطلبوا من الذين بيدهم زمام العالم أن يشفقوا على هذا القطيع الصغير، فيكفوا عنه هذه المناورات الحربية؛ ليتخلص من نفقات الحملة الحاضرة، ومن ويلات كل حملة. هذا ما يجب عمله أولًا.
وبعد، يجب على الأمة أن تتعلم شيئًا غير الكلام الفارغ، فتهتم بأمر حيويٍّ هو إيجاد نسبة بين الصادرات والواردات، يجب على الأمة أن تنتج فلا ترسل مليونًا إلى أوروبا إلا بعد أن تصدر من الحاصلات ما توازي قيمته المليون.
الاهتمام بالإنتاج، أيها الوطنيون، أهم من الاهتمام بحذف النفقات من ميزانية العدلية مثلًا.
الإنتاج قبل السياسة الخارجية وتتبع المناوشات في لندن وباريس وواشنطن، الإنتاج قبل قراءة أسعار القطع؛ لأن البلاد التي تستخرج حاجاتها من أكل وشرب ولبس لا يمكنها أن تتأثر من سقوط الفرنك وارتفاع الدولار؛ لأن الإنتاج فوق كليهما.
الإنتاج مصدر العز، فبدلًا من أن نقضي حياتنا بالتذلل أمام الأسواق الأوروبية نصبح سادة في أسواق بلادنا.
•••
قرأت أمس خبرًا في جريدة، مآله أن أهالي مقاطقة كولومبيا بدءوا يضطهدون السوريين، وحجتهم أن السوري يزاحم الوطني على خيرات البلاد. وهذه الحركة ضد السوريين ليست بالجديدة فقد سبقها أخوات لها في أماكن كثيرة.
إن الأميركي لا يضطهد المهاجر الإيطالي ولا المهاجر الألماني، فلماذا يضطهد السوري واللبناني؟ ليس في هذا سرٌّ عميق، والمسألة بسيطة: يذهب الإيطالي إلى أمريكا فلا ينقطع إلى التجارة — شأن السوري — بل يشتغل في الأرض فيستخرج كنوزها، وهو بهذا يساعد أهل البلاد التي يستظل بظل علمها على زيادة ثروة البلاد؛ أي تكثير الصادرات، خلافًا للسوري الذي يتاجر بالأصناف الأوروبية، فيأخذ من امرأة الفلاح الكولومبي في أسبوع واحد ما حصله زوجها في عدة أشهر.
وإنما أوردت هذا المثال البسيط لأظهر أننا شعب خسرنا مزية أولية أساسية لكل أمة تريد النجاح، وهذه المزية هي الإنتاج والعمل ضمن بلادنا.
من الغريب أن أتناول هذه الأبحاث وأنا امرأة، ولكن عذري حب بلادي، فهو يدفعني إلى ولوج هذا الباب الذي ما سبق لنساء البلاد أن دخلنه …
وهنا يقف قلمي لأتأمل بالألوف المؤلفة من أبناء وطني الضاربين في كل بقعة من بقاع الأرض ركضًا وراء الرغيف. والرغيف هنا في قلب هذه البلاد.
الثروة هنا وليس مَن يمدُّ يديه ليتناولها.
يعترض المهاجر بأن البلاد فقيرة لا تقوم بسكانها!
وليس من فقر إلا في قلوبنا وفي نفوسنا.
النفوس الفقيرة تأبى الجهاد، والنفوس الغنية تجاهد إلى أن تحيا حياة حرَّة أو تموت!
والحرية يا أهل الوطن هي أن يحصل كل إنسان على ما يكفيه دون أن يحمل الناس أثقاله.