حكاية الآثار
١
لما قرأنا ما اقتطفنا منه السطور السابقة؛ أي السطور التي تضع تحت نظر الناس ما يجري في فلسطين، اتجهت أفكارنا إلى سوريا ولبنان، إلى صور وصيدا وبيروت وجبيل وبعلبك ودمشق، إلى أشهر مدن التاريخ وما أُخذ منها من العاديات، وما يحتمل أن يوجد فيها الآن إذا نقِب عنه على أسلوب علميٍّ، ولكن أين يوضع؟
سمعت اليوم عن الآثار التي وجدت في جبيل حديثًا ونقلت إلى باريس، فاغرورقت عيناي بالدموع حالما رأيت أن آثار بلادنا وعنوان مجدها السابق لا تكاد تكشف فيها حتى تغرَّب عنها.
بعد هذه «الغمزات» اللطيفة يقول المقتطف: إن عنده وصفًا مسهبًا لمكان آثار لم تر العين مثلها في جمالها وكثرتها اهتدى إليه الأثري المشهور؛ المرحوم أدمون دوريغلُّو، ثم سدَّه وتركه كما كان، وأنه يضن بنشر هذا الوصف لئلا تخرج هذه الآثار وتنقل إلى أوروبا، وأنه قد يسلم ولاة الأمر هذا الوصف المكتوب بخط أدمون دوريغلُّو إذا هو؛ أي ولاة الأمر، قاموا بشروط يقصد منها في الدرجة الأولى حفظ حق الوطنيين.
- (١)
رفع الستار عن أمور كثيرة مبهمة؛ لأن هذا الإبهام قد يجر إلى ريبة عامة غير محمودة.
- (٢)
إفهام الشعب أولًا: معنى الآثار وقيمتها المادية والمعنوية، والربح الذي تناله البلاد من وراء المتاحف، وثانيًا: حمله على المطالبة بحقوقه في الإشراف على الحفريات بواسطة مندوبين يسميهم مجلس النواب.
- (٣)
المطالبة بمتحف ينشأ في أقرب وقت وفي مدينة بيروت.
- (٤)
الاحتجاج على تأخير إنشاء هذا المتحف، وعلى الأعذار التي ترمى إلينا، مثل: عدم وجود بناية، وعدم اهتمام الشعب بمسألة الآثار وما أشبه.
- (٥)
الاحتجاج إلى المجلس على لفِّه هذه القضية يوم تصدَّى لها أحد النواب، وعدم تعيينه لجنة تبحث فيها كسائر الأمور التي طرحت ووكلت إلى لجان.
ولي كلام في هذه النقاط الخمس أُرجِئُه إلى فصل ثانٍ متمنية أن تُزال هذه الحجب السوداء التي يكفنون بها الآثار.
٢
إن الرأي العام في كل بلاد الله يمشي مع تيار كبير هو تيار الاقتناع؛ فالناس يسمعون فيقتنعون فيمشون. وللاقتناع شروط: أولها التكرار، فمن يسمع بإشاعة مرَّة قد يرتاب في تصديقها، ولكن إذا سمعها مرات متواليات تدخل إلى رأسه، وترتكز هناك مع كل الأمور المقرَّرة، ولا تخرج إلا كما دخلت؛ أي بأدلة عديدة متكررة.
الشعب يقول: أين الآثار؟
وهذه الريبة تتردد ثم تتمدد حتى تصل إلى مسامع الوطنيين المقيمين في المهاجر، ثم تعم فلا يحجم عالم كبير مثل الدكتور صروف أن يسأل من على صفحات مجلة هي أم المجلات العربية: أين توضع الآثار؟
ثم هو يذكر — فيما يذكر — أنها أرسلت إلى باريز وكأني به يقول: «لماذا أُرسلت؟»
فالعالم والعامي إذن يستويان في طلب الأدلة، فعلى من بيدهم الأمر أن يقدموها لإزالة الريبة. ونحن نرجوهم أن ينشروا بيانًا يذكرون فيه كل ما وجدوه، وبيانًا ثانيًا يقولون فيه: لماذا أرسلت الآثار إلى باريس؟ قيل: إنها أرسلت ثم أرجعت! وحبذا لو يوضحون لنا الداعي إلى هذه المناورة؛ فالشعب كما قلنا: يريد الدليل.
يقول الأثريون الفرنسيون: إن الحكومة التركية لم تمضِ بعد معاهدة الصلح، وأن مسألة الحفريات لا تزال خاضعة للقوانين التركية، ويقولون: إن الحكومة اللبنانية لا تعطي غرشًا واحدًا لأجل الحفريات، وأن المفوضية قد دفعت إلى الآن كل النفقات فبلغت عشرات الألوف من الليرات، ويقولون: إن كل إلحاحهم لدى الحكومة الوطنية في طلب بناية تُجعل متحفًا قد ذهب عبثًا.
أما مسألة الصلح مع تركيا فلا نهتدي إلى وجهة المنطق فيها. الصلح لم يعقد؟ إن عدم عقده لم يؤخرنا عن التطور المتتابع في شكل الحكومة التي تكاد أن تكون كلها في يد الوطنيين. نحن لا ننكر وجود القيود … ولكننا قد خطونا خطوة كبرى إلى الأمام رغم كل الكبوات وكل الهفوات؛ فلماذا تسري الأنظمة الجديدة على كل شيء وتبقى إدارة الحفريات — وحدها — خاضعة للقانون التركي؟
أما مسألة النفقات التي صرفت من خزينة المفوضية إلى اليوم، فهذه نضيفها إلى حسنات الحكومة الإفرنسية في هذه البلاد التي منذ القديم تصرف بدون حساب على نشر المعارف، ونغتنم هذه السانحة لنقرَّ مرة أخرى بهذا الجميل ونقول: إن شعبنا لا ينسى المعروف.
ولكننا نسأل إذا كانت مسألة هذه النفقات تقف سدًّا بيننا وبين حقنا في الاشتراك بمشارقة الحفريات، وفي حصولنا على متحف يؤتمن عليه رجل وطني.
ونرجو الجواب.
تبقى مسألة البناية وتقصير الحكومة في تقديمها وواجبات الشعب وواجبات المجلس تجاه هذه المسألة الحيوية القيمة.
٣
في بيروت عشرات من الجمعيات لمشروع السل، ولدفن الموتى، ولتوزيع الطحين، ولتهذيب الناشئة، ولتجهيز البنات الفقيرات، ولإيواء المهاجرين، وقد بقي مشروع واحد أهملناه؛ وهو إيجاد متحف نحفظ فيه الآثار، ونشوق به السياح إلى زيارة لبنان.
يظهر من الحديث المنشور أعلاه أن أهل البلاد يفهمون معنى الآثار، فإذا كانت الفكرة لم تنضج بعد تمامًا، فيكفينا أن نرى السيدات أمثال السيدة ثابت يعملنَ على نشرها، ويحبذن تأليف جمعية تهتم بهذا الأمر الحيويِّ.
ندعو الشبيبة أن تحقق فكرة السيدة ثابت التي نرجو منها — وهي أم البيت الوطني الغيور — أن تُتابع السعي لهذه الغاية، وتعمد إلى تأليف حلقة لنشر الفكرة في المدينة، ومطالبة المجلس والحكومة بالأمر.
الآثار هي عنوان مجد البلاد؛ لأنها تظهر أننا أصحاب مدنية مضى عليها ألوف السنين، والمتاحف التي تضمُّ هذه الآثار هي لوحة يتعلم فيها الولد بزيارة أو بزيارتين مجمل تاريخ بلاده. المتاحف هي واسطة كبرى لتحسين ذوق الناس؛ إذ نعرض فيها مصنوعات أبناء الفن من متقدمين أو متأخرين، وهي عامل كبير على إيجاد موسم سياح يزورون البلاد خصيصًا للتفرج على آثارها.
•••
لقد طوى المجلس مسألة الآثار، ونجتهد أن نجد له عذرًا من ضيق الوقت … ومن ضيق اليد … و… ولسنا نعمد إلى حمل المجلس على استفتاء الحكومة: لماذا أرسلت الآثار إلى باريس؟ وما هي الغاية من إرسالها وإرجاعها؟ لا نطالب بأمر كهذا، ولا نكلف المجلس فتح الدفاتر العتيقة …
المفوضية صرفت على الآثار مبالغ جسيمة. صرفت وتصرفت وانقضى الأمر، فمن الآن وصاعدًا نريد أن نصرف من مالنا على الحفريات كي لا يقال: ما شأنكم والآثار؟
على المجلس أن يوجد المال، وأن لا «يتلبَّك». يكفي أن «يريد» والنجاح مكفول. على المجلس أن يوجد مالًا للحفريات من أي مورد شاءه.
أما مخصصات المتحف فنحن ننادي البلدية ونرجو منها أن تسمعنا كي نسجِّل لها أحدوثة طيبة، ونقول: إن أول متحف أنشئ في بيروت أنشأته البلدية.
المتحف يقوم بنفقاته — تقريبًا — لأن الداخل يدفع رسمًا، فلا يبقى على الصندوق الكريم إلا دفع النفقات الأولية، وسد العجز السنوي الذي ربما لا يحدث.
النتيجة العملية: نرجو المجلس أن يوجد مخصصات للحفريات تدفع منها معاشات الأثريين الإفرنسيين ونفقات الحفر.
ونرجو البلدية أن توجد لنا متحفًا.
ونرجو الشبيبة أن تؤلف حلقتها فتنشر الفكرة بين الناس، وتفهم من يهمهم الأمر أن الشعب — وإن كان غير متفهم كما يقولون — فهو يريد أن يفهم.