مي وكتابها
مي هي أكتب كاتبة عربية على الإطلاق. أقول هذا وأنا واثقة من مصادقة أخواتي الكاتبات، فكل منهنَّ شعرت وأقرت بتفوق مي بعد الاطلاع على كتاب «باحثة البادية».
هذا القول لا يحط من شأن كاتبات سوريا، هاته الشقيقات المخلصات العائشات في محيط قاتم، الراسفات في ثقيل السلاسل، المُفكِّكات، بقوة نفوسهنَّ العلوية، قيودًا أحكمت شدَّها الأيام، هؤلاء الحبيبات لهن فضل كبير، ومنزلة عزيزة.
في العالم العربي اليوم كاتبات يرسلن أفكارهن بلغة فصحى جميلة، ولكن هذا العالم فقير بالنساء المتمكنات من العلوم، المبتدعات الأساليب الحديثة، فما تكتبه نساؤنا يجيء خلابًا إذا نحن نظرنا إلى الصورة البارزة، ولكنه يجيء فقيرًا إذا نحن تقصينا الجوهر.
عالمنا العربي فقير بالنساء المطَّلعات على الجديد، الواقفات على حالة العالم فنيًّا وسياسيًّا وأدبيًّا وعلميًّا، المتضلعات بالعلوم الوضعية، المتآلفات مع المدنية الحديثة بكل ما فيها من البارز المصقول والجوهر العميق؛ لهذا يشعر من يقرأ شيئًا لكاتباتنا أنه يرى أفكارًا شديدة الشبه بأفكار الأطفال، بكل ما في الأطفال من العذوبة، والطهارة، والمعرفة الغريزية التي لم تصل إليها يد صاقلة.
وليس من ذنب على كاتباتنا إذا كنَّ لم يزلن أطفالًا؛ فنحن في أول درجة من الانقلاب الفكري، والطبيعة آية الله في حسن النظام؛ فهي لا تعطي النفوس إلَّا ما وسعت.
•••
- أولًا: نسبة إلى سنها؛ إذ لم تقع عيني إلى اليوم على كتاب عربي يمكن أن يقاس بكتاب «باحثة البادية» كتبهُ رجل في سن «مي».
- ثانيًا: نسبة إلى وضعية النساء الشرقيات وحالة أدمغتهن، ومَن يُكلِّف نفسه للبحث قليلًا يلمس بيده هذه الحقيقة، وهي أن دماغ الرجل الشرقيِّ سبق في التطور دماغ المرأة، فتكيف في عالم الأسفار، وعالم المدارس، وعالم المطالعة، وعالم التجارة. والدماغ المتحضر أكثر قابلية للنبوغ والإبداع من الذي لم يزل على الفطرة. وهذا حدث أوليٌّ أثبته العلم والاختبار.
وكثير على مي — وهي بنت الشرق — أن تعادل كبار الرجال علمًا واطلاعًا ونبوغًا.
أراني رجعتُ إلى التحفظ كأنني أحذر أن تقوم القيامة عليَّ … مي أكتب الكتَّاب عندي؛ لأنها جعلتني أقرأ كتابًا كاملًا بدون تثاؤب وكفى …
•••
وهي تنتفض بحمى الحياة، ذات إرادة جذابة، عميقة، غيورة، والقوة المفكرة فيها قوية، شديدة، حضَّانة، مستأثرة. ولعل لمُؤلَّفات «غوستاف له بون» يدًا في صقل مواهبها على هذه الكيفية.
أما كتابها فثلاثة مؤلفات في واحد: نظريات «قاسم أمين» في تحرير المرأة، وأجمل ما كتبته «باحثة البادية» في إصلاح شئونها، وشروح مي على هذا التحرير وهذا الإصلاح.
ولقد أنصفت مي صديقتها الراحلة بأن شرَّحت أفكارها، وحللت نفسها، وأظهرتها للعالم كما هي — ملك كريم — معيدة بإعجاب نشر أجمل ما كتبت. وهذه آية من آيات البلاغة تصف فيها باحثة البادية حالة المرأة الشرقية، متعة الأجيال، ورقيقة الدهور.
يصبونه فينصب، ويريقونه فيختفي في الأرض، ويضعونه في كل آنية معوجَّة وملوَّنة، فيأخذ كل شكل، ويصطبغ بكل ما يراد من الألوان، تبخره الطبيعة زارية هازئة، فتارة ترفعه إلى السحاب، وطورًا تقذف به إلى الأرض، وآنة تعاكسه بصقيعها فيتحول بردًا، وآونة تحمي عليه براكينها فيخرج ملتهبًا، ثم أليس هو رمز الطاعة والامتثال يضعون به سكرًا فيحلو، ويذيبون به الحنظل فيمرُّ، وهم مع ذلك لا يقيمون له وزنًا، ولا يعترفون بجميل … إنه مثلي يا مي يذهب ضياعًا.
فليس ما أُوردُه هنا إلا سوانح لا قيمة لها في الإصلاح المرجو، ولا أهمية لما أقوله إزاء ما يرتئيه أساطين المسلمين.
وبين زرافات النساء المارَّة أمامه تستوقف خاطره امرأة بلاده؛ أمه وأخته وزوجته وابنته، أولئك اللائي أوجدتهن الطبيعة صديقات لحزنه وأنسه، وكأني به يناديهن فيُلَبِّين النداء بطيئات متسكعات تعبات، ويدنين فيرى عليهن غشاء يمنع عنهن نور الشمس ونور الحياة؛ الحجاب!
لئن أتعست الطبيعة «مي» — كما تدعي في رسالة إلى مجلة الفجر — بأن «جعلت لفافة السياسة في دماغها جافة عميقة لا تتأثر ولا تتأخر.» فقد أسعدتها بلفافة كبرى أوجدتها في دماغها «اللفَّاف»، لفافة خلابة لا أدعوها «حسن السياسة»، بل السحر الحلال.