كتاب باز
إن الكتاب، والشعراء، والمصورين، هم رسل السعادة الروحية إلى الناس.
الإنسان ليس حيوانًا يأكل ويشرب ويسكر وينام وحسب …
للإنسان من أقدم أزمنة التاريخ ولوع بالملذات الأدبية، وفيه نزوع إلى تعميمها بين الناس.
هذه أساطير الأقدمين وأشعارهم وتماثيلهم تطفح بالأفكار والصور والأحلام العذبة نقف أمامها خاشعين، طَربين برنينها وخطوطها وألوانها فنقرؤها، ثم نقرؤها، ولها أبدًا طلاوة الجديد، ولها دوامًا حلاوة الأثمار الندية المبردة، فهي في حياتنا — نحن عشاق الخطوط والألوان والألحان والأحلام — مثل واحات يأوي إليها المسافر الملذوع بشمس الصحراء وبحرِّ رمالها.
الكتب هي الواحات المخضلة وسط صحراء الحياة المقفرة، نقف إليها ساعة فننهل نهلة تنسينا مشاق السفر، أو تساعدنا على إكمال الطريق.
فالتي تنسينا مشاق السفر وتبرد شفاهنا العطشى لحظة هي الكتب الشعرية ذات الألفاظ المشبعة نحتًا وصقلًا وتوازنًا وإيقاعًا، أصحابها هم المطربون المغردون، ولإنشادهم شيء من حلاوة أحاديث يسوع على جبال اليهودية، ومن طلاوة نشيد المؤذنين بعيد الغروب في حي من أحياء المدائن الشرقية النائمة …
أما تلك التي نقف إليها فنأخذ منها زادنا لمتابعة المسير، فهي المؤلفات الاجتماعية التي قد تبدو ناشفة لما فيها من النظريات ومن الأرقام، وأصحابها هم رسل الإصلاح في العالم، هؤلاء يعيشون لنشر فكرة يعتقدون أن في تعميمها خيرًا للناس، وقليلًا ما هم يخطئون.
وكتاب باز الجديد هو من هذه الفصيلة، كتاب يحوي أرقامًا وحوادث تاريخية نسائية، هو يسجل حسنات نساء العالم أجمع، في الشرق والغرب والشمال والجنوب، في الممالك المتمدنة التي تملأ أخبارها الأرض، وفي البلدان النائية البعيدة مثل الصين واليابان ونيوزيلاندا، حتى وليتوانيا، لم يترك باز بلدًا أنجبت امرأة عظيمة يعتب عليه.
لمن يكتب باز؟ هو يكتب للمرأة العربية، فإذا سمَّى كتابه إكليل غار؛ فهو يعني به إكليلًا لرءوسنا نحن النساء العربيات، فهل نستحق هذا الإكليل؟ ماذا فعلنا لأجل النهضة الحديثة؟ إننا لم نفعل شيئًا وما زلنا نتلمَّس الطريق … قدَّرنا الله أن نحسن العمل لنستحق الجزاء.
لست بالكاتب الكبير حتى ولا الصغير!
إذا ما كان باز كاتبًا كبيرًا فهو فكرة كبيرة، هو فكرة كبيرة نظيفة، نقية، بيضاء، مصقولة، وبسيطة بسيطة يفهمها الطفل.
تنشيط المرأة، إصلاح شأنها، تعميم تهذيبها، فالانتفاع بمواهبها.
المعرفة، المحبة، الخدمة.
وباز في سبيل المعرفة والخدمة لا يكل ولا يملُّ، فكرًا وقولًا وفعلًا وكتابة وخطابة، نشطوا النساء، احترموا النساء، انتفعوا بمواهب النساء.
هو ينظر إلى المجتمع ويعد فيه الصالحين والمصلحين، ثم يفتش عن سبب الصلاح والإصلاح فيرى خلف الستائر شبح امرأة، الأم والأخت والزوج، يرى المرأة الحاملة، المرضعة، التعبة، الساهرة، القلقة، الواجفة، الملوَّعة.
يرى الملكة، والكاهنة، والعالمة، والمخترعة، والمكتشفة، والمعلمة، والممرضة، ويرى تلك … تلك المجنَّدة لبثِّ دعوة الحرية بين الشعوب المستعبدة، وبث روح السلام بين الأقوياء المفترسين، تلك التي بما تكتب وما تنشد وما تخطب توحي إلى الرجل آيات المجد، فيسير ونفسه مستودع للقوة والمكابرة، وقلبه سر من أسرار الغلبة!
ثم يحول باز وجهه شطر مواكب البؤساء، من أطفال مرضى ومن سكيرين ومجرمين ومستعبدين، فيلتاع؛ لأنه يدرك أن كل هذا الشقاء ما كان لو فُتحت أبواب الحياة في وجه المرأة.
إنهُ يشتاق إلى يوم تزول فيه هذه المتاعب، يوم يرتفع نصف العالم فيرفع العالم «نصف الكائنات مشلول، مريض، مستعبد، اشفوه، حرروه، فيشفيكم ويحرركم، لا تشكُّوا بمقدرته فلا حدَّ لها تقف عنده، آمنوا بعطفه، وكرمه، وإخلاصه، وخذوا الأدلة بالأرقام.»
صدقوني أيها الناس — كذا يقول باز — صدقوني أنكم واهمون في هضم حق تلك التي يكفيها فخرًا أنكم نسيج يديها، ودماء قلبها. هاكم الأسماء والأدلَّة والتواريخ؛ أفلا تصدقون؟
لهذه الفكرة طبع كتاب «إكليل غار»، وصاحبه يطلب مني انتقاده؟ معاذ الله! ليكتفِ مني أن أسكت عن مديحه.
وليعلم أن كتابه هو عاطفة إخلاص ومحبة، وهذان هما — على الدوام — فوق لغويَّات البشريين، وفوق لغات الملائكة.