وديع صبرا
لا أظن أنه يوجد بين قراء هذه السطور من سكان بيروت من يجهل الأستاذ وديع صبرا، فقد عرفته هذه المدينة موسيقيًّا نابغًا، وعاملًا ممتازًا في عالم الفن، على أن له مزية أخرى لا يعرفها الناس، وهي العمل في بناية هذا الوطن من قبل أن يصير وطنًا؛ لهذا أقول بفخر: إن وديع صبرا هو من الرجال الذين يعملون منذ سنين في سبيل عمل لم يقدم عليه سواه، لا من الغربيين ولا من الشرقيين. وهذا العمل سيفتح صفحة جديدة في حياة الموسيقى الشرقية.
من المعلوم أن الموسيقى العربية الحالية مأخوذة عن الموسيقى البيزنطية، وأن الموسيقى الشرقية كلها غير مقيدة بالعلامات التي تتميز بها الموسيقى الغربية، ولم يقدم أحد إلى اليوم على ربط الموسيقى الشرقية بالعلامات المعروفة ﺑ «النوت» — بطريقة أصولية — لأن هذه العلامات وضعت للأنغام الغربية، وهذه الأنغام هي نفسها ناقصة نسبة إلى الموسيقى الشرقية التي هي أقرب إلى الأصوات الطبيعية.
على أن البيانو لا تؤدي الألحان الشرقية كاملة؛ ذلك لأن الأصوات في الموسيقى الغربية تقسم إلى أنصاف، أما الأصوات الشرقية فتنقسم إلى أرباع وإلى أثمان؛ لهذا لا يمكن لأي موسيقي مهما كان بارعًا أن يعزف على البيانو نغم «غيري على السلوان قادر» أو أي نغم سواه ويأتي به كاملًا كما يأتي به العوَّاد.
•••
وقد خطر في بال الأستاذ وديع — وذلك منذ ١٥ سنة — أن من الممكن إيجاد طريقة تقيَّد بها الموسيقى الشرقية بأرباعها وأثمانها، وتطبيقها عمليًّا على آلة مثل البيانو، ولما عرض فكره هذا في إسطنبول سنة ١٩٢٨ قال له أحدهم: لو كان هذا العمل ممكنًا لسبقك إليه الغربيون.
لقد وصفوا الشرقي بقلة الثبات، على أن وديع صبرا يخفي وراء سكوته إرادة تفتت الصخر ولا تتفتت، فهو منذ خمس عشرة سنة يعمل لإيجاد الطريقة التي حلم بها عندما كان تلميذًا في دار الموسيقى في باريس، إلى أن تكلل جهاده بالفوز، وتوصل إلى اكتشاف ما قضى الحياة بالتفتيش عنه.
أما سرُّ نجاحه فهو الثبات أولًا، ثم الانقطاع بالكلية إلى العمل الذي وجد لأجله، وقد اشتهر بهذه الصفة حتى شاع عنه أنه لا يعرف من أمور الدنيا شيئًا إلا الأنغام، فلو تكلم أحد أمامه عن مسألة تجارية قال بكل بساطة: «هذه مسألة يفهمها جيدًا التاجر الفلاني.» وإذا سأله أحد رأيه في السياسة أجاب: إن السياسة من اختصاصات الكوميساريا.
على أنه يفهم من الأمور أكثر من كثيرين غيره، ولكن مبدأه في التخصص ثابت لا يحول ولا يزول، وكثيرًا ما يقول النكات المستظرفة في هذا الصدد.
استقبلني فلان وكلمني عن الموسيقى، ولما صرنا إلى البحث عن الأنغام الشرقية رأيت نفسي أمام رجل متضلع في الفن، فرجعت ولم أكلمه في مسألة الماء؛ لأنني قلت في نفسي: إن الرجل الذي يعرف الموسيقى إلى هذه الدرجة يجهل — ولا بد — كل ما هو متعلق بالماء وشركات الماء.
إن في هذه النكتة المضحكة مثالة كبيرة، فلو تخصص كل منا للموهبة التي أوجدها الخالق فيه لانقطع هذا الضجيج في لبنان وسوريا، وساد مكانه العمل الهادئ المثمر …
لنرجع إلى الآلة التي اخترعها الأستاذ وديع، لقد اشتغل الأستاذ نهارًا وليلًا حتى بلغ ما يصبو إليه، وفي هذه الأيام يسمع من يسكن في جواره أنغامًا رقيقة كأنغام العود تخترق الأثير، وتحمل إلى قلب كل من تتبع وديعًا في جهاده عاطفة جميلة هي الشعور معه بسموِّ الفوز بعد الجهاد. وهذه الأنغام تخرج من طاولة خشبية بسط عليها الموسيقيُّ اختراعه الذي سيعرضه بعد أسابيع قليلة على البيروتيين، فيعزف أمامهم الألحان الشرقية على البيانو المعروف، فيرون النقص فيه، ثم يعزف نفس الألحان على الآلة التي اخترعها، فيظهر الفرق جليًّا واضحًا.
وقد اهتم أرباب الفن في باريس لهذا الاختراع يوم سافر إليها الأستاذ وديع صيف ١٩١٩، وعرض فكرته على صاحب معمل بلايل الذي كلفه أن يُطلعه على كل ما يجدُّ لديه، ووعده بصنع البيانو العربية حالما يتمُّ اختراعها.
وليس صاحب معمل بلايل بالغربي الوحيد الذي يعرف قيمة هذا النابغة اللبناني، فقد سبق الأستاذ لافينياك الشهير وكتب عنه سطورًا جميلة هي عبارة عن نبوءة تمت اليوم، وفي الأسطر التالية شيء من هذه المراسلة القديمة التي تدل على إقرار الغربي للشرقي بالنبوغ.
عندما أتاني الأستاذ وديع صبرا سنة ١٨٩٤ لم يكن يعرف كلمة في اللغة الإفرنسية، أو علامة من العلامات الموسيقية، والحق يقال: إنني لا أعلم كيف توصل إلى فهم الدروس التي كنت ألقيها على صفي، على أن نجاحه كان غريبًا في بابه، فقد كان يتعلم بسهولة نادرة، وظهر لي أن الموسيقى شيء غريزي فيه.
واليوم أصبح أصيلًا في علم الإيقاع، وقد برهن مرارًا عديدة على مقدرة في التأليف، فهو موسيقي كامل الأوصاف، وليس هذا كل ما يقال عنه، فهو ممتاز بفضائل سامية، وبأخلاق رضية، وقد عرف أن يجعل نفسه حبيبًا إلى كل رفاقه وإلى كل أساتذته. أما أنا فأُسَرُّ لأنني أرى فيه — ما عدا التلميذ البارع — الصديق الحقيقي، وإنني له كذلك.
إن ما يجب إلفات النظر إليه هو مقدرته الفنية المضاعفة، فهو الموسيقي الوحيد الذي يعرف الفن الغربي والفن الشرقي في وقت واحد.
أما مواهبه الموسيقية فلم أرها في أحد من أبناء الشرق؛ لقد قدم فرنسا فتًى، وتعلم فيها الموسيقى الغربية، على أنه لم يهمل موسيقى بلاده، فهو يسافر من حين إلى آخر إلى وطنه ويدرس فيه الموسيقى الشرقية، ولولا التوازن المتين في قواه العقلية لما نتج عن هذا الدرس المختلط سوى الاضطراب والتعقيد، على أن وديع صبرا قدر أن يملك ناصية الفنَّين في وقت واحد، فبينما هو يشتغل في تعميم الموسيقى الأوروبية في بلاده، نراه في باريس يشتغل بدون ملل بين أرباب الفن ليحبب إليهم الموسيقى العربية، ويكشف لهم مخبآتها.
ويلذ لي أن أصرح أن وديع صبرا هو أستاذ ذو مكانة سامية؛ فهو يكتب ويتكلم لغتين من لغات الموسيقى مختلفتين كل الاختلاف، ويفهم جمال الاثنتين على حد سواء. وهذا حدثٌ مفرد في تاريخ الفن.
هذا ما يقوله عن وديع صبرا كبير من كبار الموسيقيين في الغرب، ويسرني في هذه الفرصة أن أنشر هذه السطور «عسى أن يصير للأنبياء شيءٌ من الكرامة في وطنهم».