أحجار الزاوية
هم، في نهضتنا الحديثة، أولئك الرجال تلامذة مدارسنا الأولى، الذين استناروا بالعلم يوم كانت البلاد كلُّها في جهل عميم، فجعلوا حياتهم وقفًا على الأمة، وقضوا عمرهم بتعليم ما به علموا.
نعدهم ولا نعدد مآثرهم، وهل تعد حسنات البستاني واليازجي والحوراني وسركيس وإسحاق والحدَّاد ونمر وصروف وزيدان؟ هل تحصي خدماتهم في عوالم اللغة والأدب والعلم والتاريخ والسياسة؟
الحقُّ أنها لا تحصى ولا تقاس بميزان، هم مدارسنا من قبل هذه المدارس وبعد هذه المدارس، أجل إن الصحافة العربية من جرائد ومجلات هي التي حملت المشعل فاستنارت البلاد، هي كانت منبر الأحرار والمصلحين في أيام الظلمة، هي التي نقلت إلينا أخبار الحرية والمتحررين، وأخبار العلم والمتعلمين، هي التي بما أنشأت وما عربت وما نقلت وما حفظت أوجدت في الشيوخ عادة المطالعة، وهيَّأتهم لقبول فكرة «الإنفاق على البنين في سبيل التعليم».
وجرائدنا هي مدارسنا من بعد أن فتحت هذه المدارس … هي وحدها اليوم «المدافع الضعيف الوحيد» عن لغة تُقتل في المدارس والنوادي والمحاكم وفي دور الحكومة. جرائدنا لا تزال — والحمد لله — تدخل إلى العيال، ولا بدَّ أن يقع نظر الأولاد «المتفرنجين» عليها من حين إلى حين، فيقرءون ولو سطرًا يذكرهم أن لهم لغة قومية وكرامة قومية.
نحن اليوم نقرأ، ونقرأ كثيرًا، وذلك بحرية وسهولة. كل المطبوعات تدخل إلى البلاد بدون مانع ولا زاجر، ولكن إذا رجعنا بأفكارنا إلى ما قبل الدستور، وذكرنا أنَّ ما كنا نقرؤه كان قيد مراقبة «المكتوبجي» قدَّرنا جهاد الكتاب البيروتيين أمثال المرحومين خليل سركيس والعازار وحبيقة، وأمثال الأحياء كالبدوي وزينيه والعقَّاد وسواهم، الذين لم يهاجروا، بل بقوا خدامًا لفكرة الإصلاح وللآداب العربية يوم كان السجن والنفي قصاصًا خفيفًا لمن يخالف الإرادة الشاهانية ويتعمد «تخديش الأذهان».
نذكر جهاد مجاهدينا أيام الاستعباد فنحني رءوسنا إجلالًا، ولكن هنالك صفة أخرى وجب علينا تقديسها، وهي الثبات، فالجهاد يسمى جهادًا إذا تناول الحياة بكاملها؛ أن يبدأ الإنسان عملًا في شبابه ولا ينفك عنه إلى سواه، أن يمارسه ويتقنه بالدرس والصقل والمران حتى يصبح عملًا تامًّا؛ لأن الأولوية والأفضلية هي لتلك الأثمار الناضجة، يمر عليها الشتاء وتزهر في الربيع، وتنضج في الصيف فتُقطف في الخريف.
الأعمال في بلاد الغرب مثمرة ومتقنة؛ لأن الغربي يثبت في عمله إلى أن يموت، فيسلمه إلى أبنائه كاملًا، كذا كان عمل خليل سركيس — رحمه الله — وكذا سلمه إلى ابنه من بعده. كانت إدارة سركيس الأب مثالًا للصدق والثبات والإتقان والإخلاص، وهي لكذلك في أيام سركيس الابن.
عاش الأب في ابنه.
وعاش الابن لأبنائه ولأبناء أبنائه.