على ذكر اللغة العربية
إنني لا أذكر مرة ما تفعله هذه العصبة النسائية في سبيل الوطن إلا وتنتفض نفسي بعاطفة غريبة، هي مزيج بين الإعجاب والحنو والشفقة.
إنني أعجب بسيدات تتوق نفوسهنَّ إلى عمل الواجب فتثب نابضة، مختلجةً، تائقة، صارخة وسط هذا النزاع بين الموت والحياة: يا هؤلاء، انظروا فيَّ إلى بوادر الحياة!
إنني لأحنو وأحن إلى رفيقات يغرفن ماء البحر في صدفة، معتقدات بكل ما في قلوبهن الطيبة من البساطة أن اقتراحهنَّ في موضوع اللغة العربية سيأتي بنتيجة في إحياء هذه اللغة التي نقف أمام حبها خاشعين، قلقين، حذرين، كما يقف العابد أمام المعبود!
وإنني لأشفق على نفسي وعلى أمتي، عندما أنظر بعين الفكر إلى البناء الذي لم تضع فيه الأمة حجرًا واحدًا، وإلى الأتربة والخرائب والجماجم القائمة أمامنا كالجبال، والتي لن تزاح ويقوم مقامها البناء الجديد إلا بعد أن تصبح عظامًا رميمًا!
•••
لنعد إلى سيداتي وإلى اقتراحهن، وهذا رأيي على وهنه.
علاقة الوطن باللغة أو اللغة بالوطن. هذا تحصيل حاصل، وإنني لأعجب كيف يمكن لكاتب أن يطرق هذا الموضوع؛ ففي دماغي الصغير — الذي هو قبل كل شيء دماغ امرأة — لا يمكن للقوة المفكرة أن تفهم من المسائل إلا ما كان بسيطًا، جليًّا، واضحًا؛ لهذا لا أراني مدفوعة إلى تحويل هذه القضية من بسيطة إلى مركبة لأضيع في لوالبها وتعاريجها.
فالوطن واللغة في فكري واحد لا يتجزأ، والعلاقة بينهما صريحة لا تحتمل التأويل، فلا وطن بدون لغة، ولا لغة بدون وطن، وليس من حاجة لإثبات ذلك بالمنطق.
أما البحث في خير الوسائل لترقية اللغة فيعجبني جدًّا، وفيه أقول: إن ترقية اللغة في أمة من الأمم هو عمل من الأعمال الكمالية تتفرَّغ لها الأمة بعد أن يكتمل نموها؛ فنمو الأمم يكتمل عندما يسود النظام، ولا يسود النظام في مملكة بدون أن تستوي أحوالها الاقتصادية في مستوى راقٍ، ومتى أَثْرَت الأمم تفرَّغ أفرادها إلى الكماليات؛ فأوجدوا العلوم والفنون وكل ما نشاهده من المميزات في الأمم الحية.
فترقية اللغة أمر كمالي يأتي إلينا صاغرًا بعد أن تنتظم أحوالنا الاقتصادية. وتأخرنا الاقتصاديِّ هو عقدة العقد لا يحلها إلا الإنتاج، وزيادة صادراتنا على الواردات. وهذا النقص في الإنتاج لم يسببه الاحتلال الأوروبيُّ، ولا الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، ولا تقسيم سوريا إلى إدارات مركزية، هذا النقص في الإنتاج سببه الكسل ثم الكسل ثم الكسل، فاقتصادياتنا تئن من الإهمال كما تئن لغتنا، وكما يئن كل شيء في بلادنا.
قلت: إن ترقية اللغة هو من الأمور الكمالية، فإذا أردنا أن نصل إلى الكماليات يجب أن نهتم بالأوليات، هل رأيتم رجلًا يشتري أثاثًا وتحفًا قبل أن يستأجر بيتًا يأوي وأهلُه إليه؟
- (١)
نقيم معاهد علم وطنية تُعلَّم فيها كل العلوم الحديثة بلغتنا، وتفوق المعاهد الأجنبية الموجودة حاليًّا في البلاد؛ لتتمكن من مزاحمتها والقضاء عليها.
- (٢)
نقيم هذه المعاهد بأموال الأمة؛ إذ لا يجب أن نمزح ونعتمد في هذا الأمر على الآباء اليسوعيين، ولا على عمدة الكلية الكرام، ولا أن نسترسل في المزاح — بل في الدلال — ونطلب من الحكومات الأوروبية، إفرنسية كانت في سوريا، أو إنكليزية في فلسطين، أن تبني لنا المعاهد الوطنية.
- (٣)
نوجد مجمعَ علومٍ كبيرًا، عدد أعضائه مائتان، بينهم الأطباء والكيماويون والمهندسون والفقهاء والموسيقيون والفنيون، فيتفرغون لترجمة ألوف المجلدات، ونقلها إلى اللغة العربية في كل فرع من العلوم الحديثة؛ وذلك لنتمكن من تعليم أولادنا كل العلوم باللغة العربية.
- (٤)
تقوم الأمة بنفقات هؤلاء العلماء، لا أوروبا؛ لأن الغرب لا يعطينا قطعة نحاسية إلا ويدخل معها إلى نفوسنا ما يعادل وزنها من السم؛ فلكي لا نتشبع من السم الأوروبي، ولكي لا نُتَّهم بنكران الجميل، وجب علينا أن نترك مهنة التسول.
هذه هي خير الوسائل لترقية اللغة العربية! ولما كانت هذه الوسائل صعبة لا تنال اليوم، وكانت الأمة تريد شيئًا تضعه على النار — كما تقول العامة — فأنا أدل الذين تأكلهم الغيرة على اللغة على طريقة، وهي أن يقاطعوا المدارس الأجنبية بأن يتولوا أولادهم في بيوتهم، فهذه أحسن وسيلة نخبر بها هذه المدارس على الاهتمام بلغتنا.
ولما كان لا يوجد فينا شخص واحد يقدم على هذا الأمر؛ فإنني أنصح لقومي … بالصبر و… بالسكوت، فهو أولى.
هذا وإنني أطلب من سيداتي أعضاء الجامعة أن لا يغضبن لكوني لم أقل: إن ترقية اللغة مسألة بسيطة، فكل شيء أهون من غضبكن يا سيداتي.