تحية النهضة١
رأيت منذ أمد الشاعر الأديب ميشل أبي شهلا، فقال: نطلب خطابًا لجمعية النهضة الأدبية، قلت: ودَّعت المنابر منذ سنوات، قال: كلمة في الحي الذي نشأت فيه، قلت: بعيني الحي ومن فيه، وفي إنسانها منزلة القائمين بهذه الحركة المباركة.
فيا أهل الحي، سلام، وإذا ألقيت سلامي عليكم، فإنما أنا ألقيه على أفراد العشيرة التي عشت بينها أيامًا جميلة أبقت في قلبي أعذب وأجمل وأحسن ما يحفظ في تلافيف الذاكرة.
كل شجرة من هذا الحي، وكل عطفة فيه، وكل بيت من بيوته، وكل حفنة من رماله، وكل رنَّة من ناقوس معبده هي أناشيد خالدة أسمعها كل مرة أزور الحي، ولها في أذني طلاوة، وفي قلبي عذوبة، وفي نفسي عبادة.
وكيف لا أذكر المكان الذي يضم رفات والدٍ صالح بكل ما في كلمة الصلاح من المعنى، ورفات والدة نشيطة صبورة حنون كانت صورة حية للمثل الأعلى.
إن هذه البقعة من الأرض تذكرني بالحياة البسيطة التي عشناها بالأمس كلنا، والتي ذهبت من هذه البلاد ولن تعود. تلك الأيام نذكرها بشيء من التوجع؛ إذ كنا فيها بعيدين عن الأفكار الغربية، وعن تيار المدنية الحديثة المندفع كالسيل الجارف.
أيها الكرام، لن أقتل الآن وقتكم بما لا يفيدكم، فمن التذكارات القديمة سأستخلص ذكرى واحدة أبني عليها موضوع حديثي معكم.
أذكر من طفوليتي المدرسة الصغيرة الابتدائية، ورئيستها الفاضلة التي هذَّبتني وهذبتكم، ومما أذكره جليًّا هو التأثير العميق الذي كانت تتركهُ في نفسي زيارات السيدات الإفرنجيات لمدرستنا، وزيارات الطبيب الإفرنجي لبيتنا، وزيارات السيدات الإنكليزيات لبعض تلميذاتهن القديمات، وأذكر — وهنا يغشى أفكاري ضباب — عائلة إنكليزية كانت ترسل أولادها إلى المدرسة التي كانت فيها حيث كنا كلنا، معلمات وتلميذات، ننظر إلى هؤلاء الأولاد كما لو كانوا أولاد آلهة.
واليوم أرجع إلى نفسي وأسألها عن مصدر هذه السطوة التي كانت للإفرنج علينا ونحن صغار، تلك السطوة المعنوية المحتلة نفوسنا قبل الاحتلال العسكري لبلادنا بزمن مديد.
مصدر هذا التسلط المعنوي هو شعورنا بأننا دون الغربي تهذيبًا وعلمًا، فهل هذا صحيح؟ وهل نحن دونهم حقيقةً؟ وإذا كان من فرق بيننا وبينهم، فهل هو عظيم بهذا المقدار حتى نحني الركب ونعفر الوجوه؟
لسنا دونهم في التهذيب النفسي الخصوصي، ولكننا دونهم في التهذيب بمعناه المطلق؛ أي في التهذيب العلمي والاجتماعي.
والفرق بيننا وبينهم كبير وصغير. هو كبير إذا بقيت حياتنا فوضى.
ووطنيتنا أديان ومذاهب وطوائف، وأحزابنا شخصية نفعية، وهو صغير إذا وضعنا الجهاد نصب عيوننا وقلنا: حي على النظام، وعلى العمل، وعلى الفلاح.
وكم يمتلئ قلبي سرورًا عندما أرى هذه الفئة العاملة، أبناء هذا الحي العزيز، ينتظمون جماعة ويؤلفون نهضة حية غايتها الإصلاح والتهذيب.
أيها السادة والسيدات، لا حياة لنا بدون نهضة أدبية، ولا نهضة أدبية بدون نظام؛ ففي كل يوم وفي كل ساعة نشعر بفقد هذه القوة الهائلة التي يتميز بها الغربي، والتي تذوب أمامها كل فضائلنا النفسية، وكل مزايانا الطيبة، وكل رغائبنا الصادقة.
كنت أتباحث مرة مع أحد الغربيين عن حالة البلاد الحاضرة، فقال لي: بلادكم لمَّاعة غرَّارة تضيء من بعيد كلمع السراب، لكن لا منطق في بلادكم ولا نظام، ولا هيئة معروفة يمكن وصفها، معاهدكم شخصية، وجماعاتكم فردية، وأحزابكم نفعية، اكتبي وأنت كاتبة لهذا الشعب أن يتنظم، تنظموا، ابنوا أساساتكم.
قلت له: لمن أكتب وليس من يقرأ؟! لقد تسمَّمت أفكارنا بكتب الغرب، وأصبحت اللغة العربية شيئًا قديمًا لا يتنازل له أبناء هذا الجيل.
قال: اكتبي لعشرة أشخاص، اكتبي لاثنين، اكتبي لواحد، وإذا ما وجدت هذا القارئ الوحيد فاكتبي للأجيال القادمة.
وسافر هذا الغربي إلى بلاده وكتب لي من هناك: «أيتها السيدة، إنني أتأسف عليك وأنت في عنفوان العمر أن تدفني هبة يمكنك أن تنفعي بها أمتك، كلكم في هذا الشرق كسالى، كلكم تعيشون كما لو كانت الحياة ألف عام، نصيحتي إليكم أن تؤلفوا جماعاتكم، وتؤسسوا معاهدكم.»
فيا أيها السادة، أعضاء النهضة الأدبية، لقد أثَّرت بي كلمات هذا الغريب فانصببت على العمل، فأنا مثلكم أجرب أن أنفع أمتي بهبة أعطانيها الله، وكعاملة في حقل الأمة أحييكم إذ أرى طلائع العمل في هذه النهضة المباركة، جعلها الله بنشاطكم وتألُّبكم واتفاقكم نواةً حية لحياة كبيرة تتوحد فيها أفكار هذه الجماعة؛ فتسير في الطريق الذي سارت عليها الجماعات التي نحسدها.