أعطوا يعطيكم الله
١
احذروا الأرمن، اجتنبوا الأرمن، إياكم والأرمن!
الأرمنيُّ لا يحب أحدًا، ولا يرعى ذمة أحد. اجتنبوه فهو مفسد عليكم أعمالكم، وطاردكم من دياركم.
•••
مررت بحيٍّ من الأحياء فإذا بصبية كبار يقرءون في منشور ألصق بالحائط هذه الكلمات، وحولهم صبية صغار اجتمعوا يسمعون ويسمُّون قلوبهم الغضة بسموم البغضاء والقسوة، بفعل تلك اليد التي أبت إلا أن تلقي عليهم هذا الدرس.
وتابعت طريقي، فذهبت بي أفكاري خمس سنوات إلى الوراء، وأرتني ميتم عينطورة وفيه ألف يتيم أرمني أبناء ألفي شهيد وشهيدة.
لم أرَ هؤلاء الأيتام وحدهم، ولم تسمع أذناي صوت أنينهم وهم يسيرون في مفاوز الأناضول، لم أر بعين الفكر تلك المجزرة الهائلة التي ضجت منها الأرض والسماء.
لم أرَ شيئًا من هذا، بل رأيت طيف امرأة مسلمة، ابنة رجل مسلم، تدخل ذلك الميتم الذي كان بقذارته وبما فيه من الهياكل العظمية أشبه بمقبرة منه ببيت يضم أكباد ألف أم بائسة.
رأيت طيف تلك المرأة ورأيت قلبها — قلب الأم — يتفطر حزنًا، رأيتها بلحظة تحول تلك الهوَّة النتنة التي علا فيها العويل والأنين إلى مرتع آمن وراحة.
تلك المرأة الحنون كانت خالدة أديب، أتت سوريا ولبنان، وزارت أولاد الشهداء، ومن هناك توجهت إلى المنزل العسكريِّ في دمشق وفتحت أبوابه بما لها من النفوذ، فأخرجت من مستودعاته إلى هؤلاء الأولاد جبالًا من الأطعمة والأقمشة، مُحوِّلة حياتهم بدقيقة واحدة من جحيم إلى نعيم.
كانت خالدة أديب تنتمي إلى الأمة التي حكمت بإبادة الأرمن، ولكنها كانت تنتمي بروحها إلى ذلك الجوهر الأسمى الذي أجرى في قلب كل نساء الأرض ينابيع الحنان والحب.
أذكر أن أيتام عينطورة كانوا يوم سفر خالدة يعولون ويبكون وقد تعلقوا بها كما يتعلق الولد بأمه، وأذكر خاطرة مرَّت ببالي أوانئذٍ، وهي أن دين المحبة هو فوق كل الأديان، وأن الرفق يصرع كل عداوة جنسية.
•••
لنكن ما نشاء أيها الناس؛ لننتمي إلى حمورابي أو إلى فرعون أو إلى التتر، ولكن لنكن بشرًا.
ويا أمهات هذا الوطن الطيبات الحنونات، يوجد كثير من الأطفال ينامون في هذا الشتاء تحت الخيام، هؤلاء الصغار يقبلون بشكر السترة القديمة، والثوب القديم، والقليل القليل من الحب والحنان.
٢
نحن الآن في نصف الليل، والأجراس النحاسية في الكنائس القريبة تتجاوب أصداء أصواتها المتسارعات، المحمسات، منادية الناس إلى الاجتماع مرة أخرى لذكرى ميلاد الإله الثائر الذي خط للناس مبادئ الثورة الإلهية، تلك الثورة لا تخاصم ولا تصيح ولا تسمع أحدًا في الشوارع صوتها، تلك لا تقتل ولا تستبيح، بل بدون فوضوية أو بلشفية تقيم الحق على الأرض مُعطيةً ما لله إلى الله، وما للناس إلى الناس.
غدًا عيد الغربيين، وأنا من الطائفة الشرقية، وحقي أن أكون غريبة عن العيد، ولكن أجراس التهليل هذه توقظ الشعور في نفسي، ونفسي منذ وُجدت تبكي الجائعين والمتروكين والمحرومين.
الأجراس تهلل في الأبراج المرتفعة والناس يخرجون على صوتها من المراقص مئات وألوفًا.
وهنالك ألوف غيرهم تمرُّ الآن أمام مخيلتي، هي الألوف اللاجئة إلى الزوايا وتحت قباب الكنائس تنتظر رحمة الله وحنان الناس.
الله من بخل الإنسانية وكفرها! الله من بيروت مركز مدينة الشرق! تمرُّ فيها مواكب البؤساء فتحول وجهها كي لا ترى ولا تسمع.
لله منا! لا نفتح يدنا عن صدقة إلا بعد أن نأخذ ثمنها زهوًا ولهوًا ورقصًا، تعالوا أيها البؤساء، نقول: تعالوا وأعطونا من بؤسكم حجةً أخرى لنقيم مرقصًا آخر، ولنضحك ونسرَّ حتى الصباح، تعالي يا أجواق الروسيين أطربينا بأصواتك، أسمعينا من نغماتك أنين الظلم والاحتمال فالانفجار فالثورة! أسمعينا تلك القرارات ذات الصعود والهبوط؛ فنجود عليك ببعض الدريهمات!
تلك الدريهمات ثمن ورقة البالو ندفع مقابلها الألوف ثمن الأثواب وما يزينها، ثم أجرة العربات، ثم أرباح ملتزمي «البوفه»، ثم نرمي إلى المنكوبين بما يتبقى ونملأ الأرض صياحًا أننا دفعنا ثمن ورقة إلى مشروع المنكوبين. الله من صغارتك وصغرك يا قلوب البشر!
أيها القارئ — كائنًا من كنت — إن كاتبة هذه السطور تسترحمك في يوم العيد هذا أن تأخذ من جيبك ورقة «الخمسة غروش» وترسلها ضمن غلاف إلى مركز الإعانة باسم منكوبي الهجرة.
خمسة غروش ولك أن تزيد.
أيها القارئ — مسلمًا كنت أو موسويًّا أو مسيحيًّا — عندما تجلس اليوم وفي الأعياد المقبلة إلى المائدة الفخمة أو إلى الصحن البسيط، وعندما تشتري لأولادك اللعبة الكبيرة أو الزمور الصغير، وعندما تصفي حسابك في آخر هذه السنة — رابحًا أم خاسرًا — لا تنس «خمسة غروش» المنكوبين.
أعطِ يعطيك الله.