١٢ أغسطس
إن مناظر الصباح من «البلكونة» في ذلك الجو الهادئ الوديع المنعش لتمد النفس بعاطفة من السرور الفائق، ولعل القارئ لم ينسَ ذلك الحديث الذي قدمتُ به إليه عن الفنادق وعن نوافذ حجرها التي تبعث إلى داخلها أشتاتًا من الهوام، فقد تحدثت أن هذه النوافذ مفتوحة من نصفها ليمر الهواء منها، وأن الحشرات التي تسبح في الغرف لا يستطيع إنسان أن يُمسك بها، فالسحالي تسبح على الحائط، وعلى الرغم من أنها صغيرة الحجم فإن لها صوتًا مزعجًا تسمعه وكأنك تسمع إنسانًا يصفق بيديه
أما ضفادع الليل فإنها حين تسير تُحدِث قرقعة على الباب والحائط، بينما صوتها يشبه نهيق الحمير، وهذا لا يدع لرجل عصبي حالة من الراحة والسكون بل إنها أمور تقلقه وتبعثه على السأم.
ولكن أحاطتنا الخشية وملأنا الفزع مخافة أن يمر علينا في غرفتنا ثعبان، ولكنا قد ألفينا في إحدى ليالينا بالفندق «نِمسًا» يجري في الغرفة بملء قوته، فكان هذا مثارًا للخوف من هذه الحشرات ومثارًا للضحك من هذا المنظر الشاذ.
وهكذا قضينا ليلتنا وقد باعدتنا الراحة، ونأى عن جانبنا الهدوء.
في الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة عشرة من صباح اليوم توجَّهنا إلى حديقة النباتات سيرًا على الأقدام، فهذه الحديقة لا تبعد عن الفندق إلا مائتي متر.
إن حديقة النباتات بأشجارها الكثيرة وأنواعها المتعددة لأفخم وأروع ما شهدنا من مثيلاتها.
ولن يتمكن لك أن تعد أشجارها ولا أن تُحصي أنواعها، على أنها من نباتات البلاد الحارة دون سواها.
إن هذه الحديقة الفاخرة التي ذاعت شهرتها في عالم النباتات، والتي أصبحت حديقة وطنية للجاويين، إنها في اتِّساعها وفي أهميتها تدفع السائح إلى أن يجوبها ويجوس خلالها وينتهي إلى أطرافها جميعها.
ولكنها لا تجمع إليها من العناية ما يهيئ شيئًا من الراحة التي تعوز الزائر في هذه المكان الرحيب.
فإذا كنا في الطريق إلى الحديقة فثمَّة طريق مستقيم مبثوثة على جوانبه أشجار الكناريا التي ترتفع إلى خمسين مترًا يحتضن كل شجرة منها ذلك النوع المعروف ﺑ «المداد» يحف بساق الشجرة الكبيرة بينما يُبهرك في آخر هذا الطريق إلى منظر البحيرة الصغيرة التي تقوم سراي «الحاكم العام» من خلفها.
فإذا كنا في أول الحديقة فقد تراءت أمامنا عدة أبنية إحداها «الهر باريو»، والثانية للمتحف إليهما عمارة للمكتبة وثانية للمعمل الكيماوي الخاص بالنباتات، والثالثة أقيمت لتكون منزلًا خاصًّا بناظر الحديقة.
وإنه لحق على سائح مخافة أن يضل الطريق بين مسالك الحديقة المتشعبة أن يشتري «الخارطة» الخاصة بها من عند البواب؛ فليس هناك ثَمَّة من مقاعد يقتعدها الزائر كلما أتعبه التجوال، ولم يشأ منظمو الحديقة وهي في حكم «المعرض الدائم» أن يجعلوها في وجهة العناية على النسق الأوروبي، كأن يجعلوا على الباب مقاعد ذات عجلات يركبها المرضى والمسنون الذين لا يمكنهم التنزُّه على أقدامهم.
وإني لأعجب كيف لا تفكر حكومة جاوة في أن تصلح من هذه الأخطاء؟! وضآلة الأجور التي يأخذها العمال ثم كثرة أولئك العمال لن يدع لها سبيلًا إلى أن تفلت من هذه الأخطاء التي تُثقل كاهل الزائر وتُضنيه، إن جو هذه البلاد لا يحمل أحد الأوروبيين على أن يسير على قدميه أكثر من ربع ساعة دون أن يتصبَّب بالعرق الغزير، وعلى هذا فقد كنا كما كان الأوروبيون نلبس القميص المفتوح الياقة «سبور»، وعلى الرغم من أنه لا يوجد لنا غيره وقاءً نتَّقي به ذلك الحر اللافح وهذا الضيق الشديد فقد كنا نستشعر التعب والخَوَر في وقت نحن في مَسيس الحاجة إلى الراحة حتى نرى هذه الحديقة الباهرة النادرة، وبين ما ألاحظه في حديقة النباتات أنها خلو من كشك خاص بالخفراء، وأنها تتحلَّى بأنواع من الصناديق الزجاجية التي وُضِعت فيها جملة من الحشرات و«أبو دقيق» في ألوان زاهية جميلة، ولقد رأيتُ لأول مرة في حياتي نوعًا من «السحالي» ذات أجنحة تطير بها كعصافير الليل كما رأيت بعضًا من العقارب السود، إلى ذلك ما شهدته من حشرات ذات لون أخضر أو أصفر، وهي لغرابة منظرها تتراءى وكأنها صُنِعت من المعدن أو من الزجاج الملون بينما هي في الحقيقة نوع من الحيوانات وقسم من فصيلتها فسبحان الله أحسن الخالقين!
وبعد أن قضينا ما تمنَّيناه من شهود الحديقة عُدنا إلى الفندق حيث كانت الساعة العاشرة، فكان أول ما عنينا به أن نذهب إلى الحمام وأن نستريح.
في الساعة الرابعة مساء طلبنا «تاكس» للتنزُّه في المدينة وفي ضواحيها، فإذا بنا في طريقنا إلى الخلاء نجد أن الطريق التي نسير عليها تشبه ما شهدنا في طرق «جاوة»، فالأشجار والنظافة والعناية والبهجة كلها تتراءى هنا كما تبدو في كل طريق.
وقد لفت نظرنا ما شهدنا من شجرة ذات زهر أحمر يوجد نوعه في مصر، على أن وجه الغرابة في أمره أنه لا يرتفع في التربة المصرية إلى أكثر من ستة أمتار، بينما يرتفع في هذه الجزيرة إلى ثلاثين مترًا!
ولقد شهدنا كذلك شجرة من أنواع «النخيل» التي اختصت بها ضواحي «سنجابور»، ويمتاز ذلك النوع من النخيل الذي يدعى «كنسيا» بأنَّ ساقه في حمرتها تشبه المرجان، كما شهدنا بعضًا من العمارات الخاصة بالحكومة ثم أتينا على جولة في المدينة وضواحيها وانتهينا إلى حديقة الأزهار فأخذنا جولتنا فيها سيرًا على الأقدام.
وأبرز شيء يستلفت النظر في هذه الحديقة مجموعة «الأركدية» الجميلة.
وأدهش ما علمناه في صددها أن هذا اللون من النباتات يوجد في شتات نواحي الحديقة ملصوق ومعلق على الأشجار الكبيرة، بينما هو في جاوة ينمو حين يلصقونه بالشجر الذي يُدعى في بلادنا «الياسمين الهندي».
ولقد تأكَّد لنا هذا حين مررنا في طريقنا على قطعة من الأرض اتِّساعها فدان واحد أو ما يقرب من هذا القياس، وألفيناها مزروعة من ذلك الشجر وقد لصق على كل واحدة ما بين خمسة أو عشرة من هذا النبات.
ويجدر بي في هذه المناسبة أن أذكر لكم بأن الجاويين يحوطون مقابرهم بشجر الياسمين الهندي، ويجعلونه من حولها كأنه إطار بديع يضم صورة عزيزة.
وأتينا بعدئذٍ على الناحية التي تملأ أشجار النخيل فإذا هي مهمة جدًّا وعلى كثير من التنسيق والعناية، ثم غادرناها إلى مجموعة «الفوجير» والنباتات الأرضية «الواطئة» التي تكثر في صعيد الغابات نامية تحت أدواحها الباسقة.
ولو أن نزهتنا وجولتنا قد مرت في فترة قصيرة من الزمن فإن هذه الفترة قد أثقلتنا تعبًا ونصبًا بعَثانا على أن نجلس حيال «فسقية» تحوطها أشجار «الفيكوس» الذي يُعرف في بلادنا باسم «الكاوتشوك».
كما أنك ترى هنا أشجارًا ينتهي عمرها إلى ثمانمائة سنة؛ وذلك يعود في مجموعه إلى أن التربة خصيبة والهواء جميل، فترى أنَّها بذلك تمتد في حياتها إلى هذا الشأو البعيد.
فيما كنا نمتع النفس بهذه الصور الحية من نباتات جاوة وأشجارها العجيبة الساحرة، فاجأتنا السماء برعودها وانبسطت على أديمها كتائب السحب تنذر بالمطر الغزير، فأسرعنا إلى السيارة لتُعيدنا إلى الفندق قبل أن تصب السحب ماءها مِدرارًا، فإن جاوة كالبرازيل إذا أمطرتهما السماء هطل الغيث وابلًا، على أنه لن يدوم في انسيابه فترة رحيبة بل يزول وشيكًا، وكان حظنا أن ذهبنا إلى الفندق بعد نصف ساعة أعقبها هطول المطر غزيرًا.