١٣ أغسطس
في الساعة السابعة والدقيقة الثلاثين من صباح اليوم، أرسلنا في طلب سيارة تذهب بنا إلى «باتافيا»، ولقد انتهت فكرتنا إلى السفر بالسيارة دون القطار حتى نستعلم عن السفن التي تسافر من «جاوة» إلى «سنغافور» وحتى نقرِّر برنامج السفر، فألفينا الطريق من «بيتانزورغ» إلى جاوة على صورة واضحة من الجمال والرونق.
وفي الحق إنه لمن الصعب أن نتخير قطعة من قطعة لنقول إنها أجمل وأكمل، فإنه على امتداده منسق بهيج.
على أنه ليؤسفني بليغ الأسف أني لم أكن لأستطيع التعبير عن خوالج نفسي لا باللغة الهولندية ولا باللغة الجاوية، بينما تهيب بي هذه المناظر الرائعة على أن أتعرف كمينها وأتبين مكنونها، ويزيد في أسفي أني أخطأت فيما أخذت به نفسي من السياحة وحدي دون «دليل» يُفصح لي عن كل شيء وأتمكن من التفاهم معه.
فقد يكون مما لا يستسيغه المرء أن يُدعى إلى مأدبة تضم عددًا من السيدات ثم يضطر لجهله باللغة التي يتكلم بها أهل البلاد إلى أن يصمت، بينما تحفزه الحاجة الشديدة إلى التفاهم والحديث.
وفي الحق أني لم أختط في سياحاتي جميعًا خطتي في هذا العام، فقد كنت أجوب المملكة الواحدة في سفرة خاصة، أما في ذلك العام فقد ضممت إليها رحلات ثلاث مرة واحدة «أستراليا» و«جاوة» و«الهند» بينما كان من المحتم علي أن أُهيِّئ لكل إقليم من هذه الأقاليم الثلاثة رحلة خاصة بمعداتها ولوازمها جميعًا.
ولعل هذه العَجَلة أثر من آثار السن، فإذا أتى الإنسان في عمره على الخمسين عامًا فإنه دون شك، ومع أسف كبير يبدو مترددًا مغمورًا بالشكوك كثير التساؤل، كثير التفكير، جمَّ الحنين إلى وطنه وصحبه، بينما هو في شبابه كثير الإقدام موفور الجرأة بعيد عن موطن الخطأ حتى ولو كان تافهًا بسيطًا.
غير أن الذي يخفف عن كاهلي هذا الأسف العميق، أن سياحتي ذلك العام قد قُدِّرت لبلاد متجاورة في مواقعها متشابهة في مناظرها وعوائدها وألوان المعيشة التي يعيشها أفرادها، فإن السائح الذي لم يتمكن من رؤية جاوة ليدهش بالغ الدهشة حين أقرر له أنها شبيهة بشمال أستراليا أو سنغافور أو شبه جزيرة ملقا، وأن هذه المواقع المتباينة تكاد في كثير من مشاهدها لا تتميز عن بعضها بعضًا.
وثمَّت حالة أخرى أوحت إلينا العجلة في هذه الرحلة واستجماعها إلى ثلاث دول.
تلك الحالة هي التي يحسها رجل الخمسين حين تتردد على مخيلته أشباح الماضي البعيد والمستقبل الغامض، وحين يرى أنه قد لا يعاود رحلته مرة أخرى، وقد لا يمكنه القدر من إتيان ما يريد.
تبلغ الطريق التي سلكناها بين «بيتانزورغ» وبين «بتافيا» خمسة وثلاثين كيلومترًا قطعناها في ساعة وربع غير مسرعين حتى نمتع النفس بجمال المناظر التي تُحيط مسالك الجزيرة والتي أصبحت خير ما يؤثر في السائحين.
وبدهي أن أُكرِّر في كل مناسبة أن تسعين في المائة من الطرق الجاوية معبد مرصوف شيِّق الجنبات، ولكنا حين اقتربنا من العاصمة ألفينا بهجة الطريق إليها أقل شأنًا وألفينا أنه رديء غير ممهَّد؛ ذلك أن عربات النقل والسيارات التي تغدو عليها وتروح قد أثَّرت تأثيرًا كبيرًا.
وأول ما شهدنا في «بتافيا» ونحن في طريقنا إليها بالسيارة أماكنها الوطنية ومقابرها، وكان أول ما أخذنا نفسنا به من عمل حين أصبحنا فيها أننا ذهبنا إلى شركة البواخر الهولندية على أمل أن نسأل رجالها هل في مقدورهم أن يعدُّوا أماكننا في الإياب على الباخرة التي ستغادر جاوة يوم ١٨ أغسطس، فإذا بنا نجد من جميع الموظفين في هذه الشركة رغبة صادقة في العمل على راحتنا وتحقيق كل ما يبعث إلى نفسنا السرور، وفي كثير من الأدب الجمِّ أظهرونا على أنهم في تمام العدَّة لأي عمل نرجوه.
فتركنا مكتب الشركة وأخذنا سبيلنا إلى مكتب السياحة لنرى هل من الممكن لنا أن نبدل تذكرة السفر على الباخرة التي قررنا العود عليها دون أن ندفع نقودًا، فبعد محادثة تليفونية قيل لي إنه لا مانع من تبديل التذاكر على أن يأخذوا خمسة في المائة، ولما تحقَّقتُ ذلك ذهبت إلى شركة البواخر الهولندية وأعطيت موظفيها التذاكر التي كانت معي وأخذت الفرق في النقود ثم اشتريت التذاكر الجديدة، وكان من جميل صنيعهم معنا أن تعهَّدوا بأننا سننال في الباخرة أحسن مكان.
تركت مكتب الشركة إلى «بيتانزورغ» وهناك ذهبت إلى منزل الدكتور «فون ليفن» رئيس حدائق النباتات وناظر الحديقة الفنية الجميلة التي توجد في «بيتانزورغ»، فلما أن دخلنا عليه في مكتبه وتحادثنا سويًّا بضع دقائق قدمنا إليه بكتاب التوصية الذي نحمله من الكونت «ليمبور شتيرم» الحاكم العام في جاوة سابقًا، وأظهرناه على شديد رغبتنا في زيارة الحديقة والتعرف إلى ما فيها آملين منه أن يُسهِّل علينا سبيل التحقيق من كل شيء فيها، فكانت مقابلة الدكتور لنا بالغة الحفاوة سابغة الإكبار، وكان من حسن الحظ عنده، كما تحدث إلينا أن يُسهِّل أمامنا كل سبيل وأن يرافقنا بنفسه فترة الزيارة في أي وقت نُحدِّده، فجعلنا موعدنا الساعة السابعة من صباح الغداة.
وبعد عودتي إلى الفندق بادرت بإرسال تلغراف إلى مندوب «كوك» في «سنغافور» أظهرناه فيه على تبديل موعد السفر واليوم الذي أصل ميناءه فيه.
في الساعة الخامسة شربنا الشاي وأخذنا سيارة ذهبنا بها إلى خلف الحديقة، ثم ترجَّلت وسرتُ على قدمي وسط الغابات والأشجار وخاصة ما كان منها مرتفعًا عاليًا.
وإنه وإن تكن الأشجار هنا على شيء كثير من الارتفاع فإن واحدة منها لن تبلغ هذه الشجرة شجرة «السكوابا» التي توجد في «كاليفورنيا» بأمريكا الشمالية والتي تحدَّثنا عنها في رحلتنا إلى هذه القارة بأنها تجاوز مائة متر، كما تحدثنا في هذه الرحلة ذاتها أننا مررنا بعربة تجرها أربعة خيول في قبو مقطوع من ساق شجرة.
إن الذي يُؤسَف له أن الحكومة الهولندية حين أنشأت هذه الحديقة لم تتخذ لها قطعة رحيبة في الأرض بل غرست الشجر متقاربًا بعضه البعض حتى أشبه في منظره منظر الغابة المكتظة، وهذا الشأن مما يعوق الأشجار عن أن تنمو، وأن تستريح في مستقرها، بل إن الباحث في أنواعها لن يتسنَّى له ذلك من بعيد، وإنما يجب عليه أن يقف تحت الشجرة التي يريد تحقيق نوعها حتى يتمكن من ذلك.
لقد فعلت الحكومة الهولندية هذا بينما ترى أن الإنجليز يُعنون في مستعمراتهم وحدائقهم حين غرس الأشجار بأن يباعدوا ما بينها حتى تبدو مستريحة، وذلك في الحق مثل واضح يدل على أنهم لا يعملون ولا ينفقون إلا على رغبة صادقة بأنهم سوف يأخذون في المستقبل أضعاف ما بذلوا.
وكأنما تحققت الحكومة الهولندية من هذا الخطأ، فنهضت أخيرًا تفتديه بقطعة من الأرض تجاور الحديقة وتبلغ ما يقرب من مائة وخمسين فدانًا حتى تنفرج بها ضائقة الحديقة، ولكنها ماذا تفعل وأمامها الأشجار التي غرست من مائة عام والتي لا يمكن بأي حال نقلها من مكانها؟
وعلى هذا فقد بقي الأمر على عهده السابق وبقيت أشجار الحديقة مُكدَّسة كأنها غابة كثيفة مؤتلفة الأفنان ملتفة الأغصان.
بعد أن استرسلنا قليلًا في وسط الأشجار أبصرنا بالسماء وقد احتوتها السحب وآذنت كالأمس بالمطر الغزير، فأخذنا طريقنا إلى الفندق سراعًا عجلين.
وفي الساعة السادسة مساء تفتَّحت عيون السحاب وصبَّت ماءها مِدرارًا على أن الغيث حين نضب قد ترك في جو المدينة صفاءً ونسيمًا عليلًا.
وإنه لخير لنا وأجدى علينا ألا نتبرم بهذه المياه التي تدعها الأمطار وترسلها السحب فإنها رحمة للبلاد، وبركة على الأرض ما فتئت تُنبت الزرع وتُغذي البحار وتخلق الشلالات.
الجاويون كاليابانيين كلاهما شغوف بالاستحمام مولع بالماء، ولأنهم يزاولون أعمالهم وجسومهم عارية فإنك ترى ألوان بشرتهم على شاكلة النحاس الأحمر، فإذا انتهوا من عملهم آخر اليوم تدثَّروا «ملحفة» من القماش ولفُّوا بها أجسامهم!
وإنه ليدهشني أن الذباب هنا يكاد أن يكون معدومًا، وأن التراب لا حياة له في هذه الأرض، وعلى هذا فإن عيون الأطفال سليمة لا عيب فيها، ونظافتهم ظاهرة محسوسة لمن يتمعَّن فيهم على نقيض الأطفال في مصر، أما منازل الفقراء والفلاحين فإنها أنظف من أشباهها لدينا.
ولقد شهدتُ كثيرين من أهل المدينة يمضغون نباتًا يدعونه «بتيل» حتى ينظفوا به أسنانهم ويُزيلوا من أوضارها، وهو نبات أحمر يترك في بصاقهم لونًا كلون الدماء.
وكل ما أخذته على «الكفور الصغيرة» أن جوها مُشبَّع دائمًا برائحة «زيت جوز الهند».
يُدهشني ألا تكون عناية الجاويين بمنازلهم كعناية الإنجليز فإن الغرفة مهما يكن بها من نوافذ خلو من الزجاج أو من شبكة السلك الرفيع التي يُقيمها الإنجليز على نوافذهم، وهذا الأمر من شأنه أن يدع للحشرات حريتها في السير والسباحة، وأن يجعل النوم الهادئ مستحيلًا على النائم، فقد هالنا في هذه الليلة أنا سمعنا أصوات الضفادع في الغرفة وكأنها توقيع النحاس على بعضه، بينما تأتي أُخريات من هذه الضفادع وكأنها تُقلِّد في أصواتها ضجيج القطار عندما يغلي البخار في مِرجله، وهذا في الواقع شيء عجيب!