١٤ أغسطس
لم أترك السهاد ليلة الأمس ولم أتمكن من النوم، فقد تسمَّعت إلى ضربات حيوان يوقعها على مِظلَّة النافذة، حتى خُيِّل لي أن إنسانًا يعالج الدخول إلى غرفتي، ثم سقطت بعدئذٍ إحدى الجثث على الناموسية فلما تبينيها ألفيتها خفاشًا كبيرًا.
وهذا ما يدفعني إلى القول بأن رغبتي في مشاهدة أكبر الحدائق الفنية النباتية في العالم قد دفعت بي إلى أن أُقرر في برنامج رحلتي أربعة أيام وخمس ليال أقضيها في «بيتانزورغ» مدينة الحديقة، ولكني لم أفكر في أن أقطن في أحد فنادق «بتافيا» طوال هذه المدة، وأن أذهب إلى الحديقة كل يوم في القطار؛ فهذا الفندق «بل في» الذي أُقيم به في «بيتانزورغ» أقل استعدادًا وأضأل شأنًا من نظائره في جاوة، وإنه لا يجذب إليه أنظار السياح لانعدام الراحة فيه، فإذا ما آوى إليه سائح فإنما كل همِّه أن يتناول الطعام فيه دون أن ينام به.
وعلى أي حال فقد عقدت عزيمتي على أن أودِّع هذه المدينة وفندقها حين أنتهي من دراستي في حديقة النباتات.
في الساعة السابعة توجَّهنا إلى ناظر الحديقة كما تواعدنا في الأمس فإذا به في انتظارنا على بابها، فبعد أن تبادلنا التحية مررنا في الحديقة، وأخذ يخبرني عن أجناس الشجر وأنواع النباتات ويُحدثني حديثًا مسهبًا عن أعمارها ووطنها حتى قضينا ساعة ونصف ونحن بين أرجاء حديقة أجدر ما توصف به أنها أفخم حديقة فنية في الدنيا، تتبعها حديقة «بارادانيا» في جزيرة سيلان، وتتلوها الحديقة النباتية في «ريودي جانيرو» عاصمة البرازيل، وترجع أهمية الحديقة التي جُبتُها اليوم مع مديرها لا لأنها تحوي مجموعة كاملة من النباتات فحسب، بل لأنها في نواحيها أشبه شيء بالدوائر العلمية، فقد جُعِلت للاستكشاف والتنقيب والدرس كما جُعِلت المستشفيات مكان الدراسة العملية لمن ينتهي من دروسه العلمية في معاهد الطب؛ ولهذا ترى «بيتانزورغ» مليئة بجماعات من علماء النبات من فرنسيين وهولنديين وإنجليز وأمريكيين قَدِموا هذه المدينة وكل أطماحهم تنتهي إلى التعمق في دراسة النباتات التي تضمها حديقتها.
ولقد تسنَّى لي بعد أن انتهيت من زيارة الحديقة أن أجمع بضعة أسماء من نباتاتها رغبتُ حتى أشتريها.
وحين عُدنا إلى مكتب المدير تفاهمنا فيما أدفعه من نقود ثمنًا لهذه النباتات، وكيف يتمكن له إرسالها إلى مصر، ثم سلَّمنا عليه وغادرناه إلى متحف الحيوانات المُحنَّطة، فإذا بنا نرى بينها عظام سمكة من نوع «البلين» طولها عشرين مترًا وقد وُجِدت ميتة على شاطئ جاوة مع أن وجودها على ذلك الشاطئ حدث غريب؛ لأنها لا توجد إلا في البحار الشمالية دون سواها.
وأظهر ما في هذا المتحف أنواع الثعابين والوطاويط كما أن به نوعًا من فصيلة الثعبان يُدعى «سنجاب» وهو يطير كالخفافيش، كما توجد به «السحلية الطيَّارة» وأنواع غريبة من الأسماك.
يندر في هذه الأماكن أن يقع البصر على رجل أعمى أو أعرج أو ذي ظهر مُحدودب أو أحول، وأكثر الأهالي يعيشون على الأرز والسمك والفواكه، وعجائزهم مفقودو الأسنان، وبيوتهم مرتفعة عن سطح الأرض ومبنيَّة على عَمَد.
إن حرارة الجو شديدة لا تُطاق وعلى هذا فقد رجعنا إلى الفندق، وكان أول ما تبادر إلى ذهني من عمل أننا خاطبنا فندق باتافيا بالتلفون بأننا قد انتوينا أن ننزل فيه غدًا ونغادر هذه المدينة.
في الساعة الرابعة والنصف طلبت السيارة كعادتي للتجوال والتنزُّه، فمررنا على «كُبري» يتوسط نهرًا شهدنا فيه ما يقرب من عشرين حيوانًا من نوع «الجاموس» وقد استوى على ظهرها طفلان، بينما هي هانئة بالماء، ولعل الدلالة الملموسة التي تجلو أمامك حب «الجاموس» للماء، حين عودتنا من التنزُّه بعد نصف ساعة وجدناها ما تزال بين أطواء النهر تتمتع بمياهه.
وقد آنسنا في الأمهات حالة مدهشة، فإنها بعد أن تنتهي من استحمامها تشرك معها في الماء أطفالها التي لم تبلغ بضعة أشهر أو ما يزيد قليلًا!
واجتزنا في طريقنا غابة بها شجر «المطاط» الكاوتشوك.
وعلى مقربة منها بيت فخيم تُحيطه حديقة رحيبة وقد أضيء بالكهرباء، وذلك البيت يمتلكه صاحب هذه المزرعة، فإن «الكاوتشوك» أهم تجارة في جزيرة جاوة وبلاد الملايو.
ويُستخرَج المطاط من أشجار تزرَع على صفوف متراصَّة يؤلفون منها غابات واسعة، فبعد أربع سنين حين تنمو ويكبر ساقها يأتون إليها فيفصدونها فصدًا حلزونيًّا على ارتفاع أربعين سنتيمترًا من سطح الأرض وفي طول الرجل، ثم يضعون تحت جِراحها أكوابًا من الصفيح فتسيل إليها مادة بيضاء تُشبه اللبن، فإذا مسستها ارتبطت بيدك لوفرة ما هي عليه من لزاجة، ثم يأتون بعد اثنتي عشرة ساعة ويضعون ما حملته الأكواب في إناء كبير ويذهبون إلى المعمل الخاص ليحوِّرها إلى «المطاط» الذي تشاهده.
ولقد اتَّخذوا لهم طريقة جميلة في استدرار الأرباح وفي إنماء المكاسب؛ تلك هي أن يزرعوا بين الشجر الكبير شجرات صغيرة فإذا انتهوا من استثمار الأشجار الكبيرة وأصبحت ولا خير فيها ولا نفاع، أصبحت هذه الشجرات التي بنوها من حولها على حال يتسنَّى لهم به أن يستدرُّوا لبنها ليحوِّلوه إلى مال وفير وهكذا دواليك.
ثم مررنا على بعض أراضٍ زُرعت بالشاي، وعدنا إلى الفندق في الساعة السادسة.
لم أسترح هذه الليلة ولم أتذوَّق فيها لذة النوم، فقد وجدت في سريري سحلية بيضاء اللون كبيرة الحجم تشابه هذه السحلية التي ندعوها عندنا «بُرص» وشر ما تحمل معها من أوصاب أنها أداة للعدوى، ولقد كانت سببًا في خوفي من أن يقْفوها حيوان أشد ضررًا وأوخم آثارًا فيدخل الناموسية؛ وعلى هذا فإني لم أنم.