٣ أغسطس سنة ١٩٢٩
في ميناء «مكاسار» أمام جزيرة «سيلابس».
الساعة الخامسة والنصف صباحًا.
نطالع الآن أنفس منظر من مناظر الطبيعة في ذلك الوقت الباكر، فأمامنا مشهد الشروق ببهجته وروائه تتحوَّر ألوانه وتتبدَّل مرائيه، فإذا كانت الشمس تنسج وشاحها الأول رأيت السماء في لونها الياقوتي البهيج، حتى إذا ما تعددت الألوان وتزاحمت الصور شهدت السماء وقد لبست إهابًا ذهبيًّا وهَّاجًا لتبدو لك بعد فترات زرقاء الأديم، فما أحفل ما يغمر النفس من جلال هذه الصور المتحركة بيد الله القدير!
وعلى الرغم من أن الميناء لا يقع على بوغاز فإنه يتراءى للناظرين على حُلة جميلة رائعة.
فسواحلها المُوشَّاة بالسُّندس المزركشة بالخُلجان الصغيرة الجميلة، تلك السواحل التي تُشبه نظائرها في شمال أستراليا، وهذه الجزر الصغيرة التي تزهو بالخضرة والأزاهير، وهذه السهول المُنبسِطة التي تتألف منها «مكاسار» يحيطها البحر من جانب وتحرسها الجبال الشوامخ الرواسخ من جانب آخر، كل هذه المرائي الطريفة والمشاهد الجميلة، آيات تغمر النفس بفيض من البهجة وصيِّب من الحبور.
كانت السماء عند مَقدِمنا إلى الميناء تتزيَّن صفحتها الساجية بذلك اللون الأصفر، لون العصفور «كناريا»، وكانت الشمس كلما أخذت سبيلها إلى الحياة والتألُّق كلما سترت بنقابها الأبيض البهيج ذلك اللون الصفراوي الفاقع، حتى إذا استدارت دارتها، ونزحت عن الأصداف دُرَّتها رأيت الزُّرقة الصافية والفتنة الضافية، والصحو البالغ والجمال المزدهر، يشعُّ على كل كائن، ويبعث الحياة في كل الوجود.
ولقد شهدنا على شاطئ البحر أشجارًا كثيرة أحفلها على جانبه شجرات «جوز الهند» كما رأينا عديدًا من «القوارب» السابحة في لُجَّة اليم، وقد امتلكها الصيادون الذين اتَّخذوا من أسماك البحر حِرفةً يبلغون منها مآربهم في العيش، فأما هذه القوارب فإنها فلائك طويلة ورفيعة ترتكز من جانبيها على خشب طويل مرتبط بعمودين كمِسند لها من جهتيها، وأما قلوعها فإنها على نسق من قلوع المراكب الصينية التي هي عبارة عن قَلْع مُرَّبع من الأمام.
في الساعة السادسة والربع قدم رئيس البوغاز، وفي الساعة السابعة كانت الباخرة قد ألقت مراسيها واستقرت على الرصيف فتناولنا طعام الإفطار على سرعة أحدثتها رغبتنا في التنزُّه داخل المدينة، وكان مما أُشِير به علينا أن نُشاهد شلالًا يبعد عنها باثنين وأربعين كيلو مترًا.
وجاءنا ممثل «كوك» في «مكاسار» وأخبرنا أن سيارة قدم بها على الرصيف قد أُعِدَّت لتكون تحت إمرتنا، فأسرعنا في النزول، وبدرت عندي خاطرة أحسبها جديرة بأن تلابس كل سائح في بلد لا يعرف مسالكه ولا نواحيه.
تلك هي أني شئتُ أن أكون أول الذين يأخذون طريقهم إلى المدينة حتى لا نُصاب بوابل التراب الذي يتطاير من ازدحام السيارات السائرة أمامنا، ثم هناك سبب آخر لا يقلُّ أهمية عن سابقه، وهو أن يتسنَّى لراكب السيارة الأمامية أن يجد من خلفه سيارة تُسعفه إذا ما أُصيبت سيارته بسوء، أما إذا كان من المتأخرين فإنه يصعب عليه أن يُنقذ نفسه.
ووقفنا في الميدان الكبير لملء مخزن البنزين، ثم مررنا في طريق تحفُّ على جانبيه أشجار «الفيكوس» المرتفعة الشامخة.
أما منازل الأهلين وأكواخهم فإنَّها قائمة على عَمَد مرتفعة ذات منظر بهيج.
وأما شجر الأثمار فيانع كثير، وأجزل ما تشاهده كثرة وإنتاجًا في جوانب المُستنقعات وعلى حواشيها، وأغزره شيوعًا في هذه الأصقاع «جوز الهند» والموز.
مررنا بعدئذٍ على «كفر كبير» وأمتع ما أخذنا في أهله أنهم لا يرتدون من الملابس غير «الفوط» الزاهية اللون، وأنهم يتدثرونها في مواضع العفة، تاركين ما تبقى من أجسامهم دون أن يسدلوا عليها إهابًا.
وبعد أن اجتزنا عشرة كيلومترٍ بين غابات وأشجار، ألفينا أنفسنا وسط سهول رحيبة أجزل مزروعاتها الأرز، يعمل في حصاده الأطفال والنساء، إلى ذلك ما شهدنا فيها من حيوان «الجاموس» الذي يُقزِّزك فيه ولا يسرك منه بشرته البيضاء، وأنفه الذي يشبه أنف الخنزير.
وقد اجتزنا بعدئذٍ بلدانًا كثيرة، وأنهارًا صغيرة حتى طلعنا على بقعة جبلية وقع نظرنا فيها على كثير من المنازل التي بُنِيت من الحجر وقيل لنا إنها تتبع الحكومة وأن بها أمكنة السجن، وإن المناظر في هذا المكان لجميلة ورائعة، فهذه الصخور الحجرية المديدة التي يبلغ اتِّساعها من مائة إلى مائتي متر، والتي تملؤها النباتات المتنوعة، تلك الصخور من الطباشير.
لقد زيَّنها السيل بكثير من الخطوط والتجاويف يحسبها الرائي نقوشًا أبدعتها يد الصانع، وهذا ما يزيدها رواءً وفتنة.
وفي مناسبة السيول يجدر بي أن أُقرر حقيقة الطبيعة في تلك الجزيرة، فإنها غزيرة المطر كثيرة الشجر حتى عاف التراب أديمها.
وترى فيها أوراق الأشجار تزهو وتلمع فتخالها على حال مرضيٍّ حسن، بينما يُدهشك أني لم أُشاهد شجر الموز دون أن يكون له ورق طويل ومقطوع كما شاهدت في تلك الجزيرة، وأن ارتفاع شجر «البوسيانس» يبلغ إلى عشرين مترًا حتى ليعلو المانجا الكبيرة التي تكثر في أفريقيا والهند.
ثم انتهينا إلى «الشلال» الذي أُشير علينا بشهوده ودخلنا في مضيق لرؤياه فإذا هو في الحق دون ما تصوَّرنا، ودون ما سمعنا عنه بكثير، على أنا قد استعضنا عن مشاهد الشلال بمناظر الطبيعة الخلَّابة التي غمرتنا طوال نُزهتنا، وبعد أن مكثنا قليلًا قفلنا عائدين، فصادفنا في طريقنا أولئك السائحين الذين قدموا بعدنا لمشاهدة ذلك الشلال.
إن الفلاحين هنا يحملوا بضائعهم على عِصيٍّ من طرفيها تُوضَع على أكتافهم، وذلك هو شأن الصينيين في هذه السبيل، أما خَيْل هذه البلاد فصغيرة الحجم، وأكثر ما يُستعمَل فيها من حيوان هو الجاموس، كما أن أبناء الصينيين يغمرون بكثرتهم البقاع والأصقاع.
وفي الساعة الرابعة مساءً تحرَّكت الباخرة بعد أن تسلمت البريد الذي جاءت به إليها سيارة ربطت على مقدمها «العَلَم التركي»، ومن العجب أن نشهد في جزيرة نائية كجزيرة «سيلابس» منظر «العَلَم التركي» يرفرف في أجوائها البعيدة، ولكنها عروة الدين تربط الممالك، وتُهيئ للناس قِبلةً واحدة يتولون شَطْرها من كل فجٍّ.
وكان معنا في الباخرة واحد من كبار الموظفين الهولنديين في جاوة، بينما كانت تزخر بجمهرة من أعيانها وتجارها جاءوا على رغبة توديع أصدقائهم النازحين وقد بدت على رءوسهم العمائم، مما يدل على أنهم من المسلمين.
ولقد حاولت أن أتحدث معهم بالعربية على أنه ظهر لي أنهم في ضربها على كثير من الجهالة إلا واحدًا منهم تمكَّن أن يعرفها وهو تاجر يمني وكهل كبير.
عندما دقَّ ناقوس الباخرة إيذانًا بإقلاعها من الميناء شاهدنا كثيرًا من الأطفال الفقراء يعدون تجاه الباخرة على الرصيف رجاءً منهم أن يُصيبوا ما عسى أن يُلقيه الراكبون من نقود تعولهم وتُفرحهم، ولقد بلغ عديدهم ثلاثمائة شخص بينهم حشد ممَّن قدموا لمشاهدة الباخرة والتمتُّع بمناظرها، فإن البواخر لا تقدم ساحلهم إلا كل أسبوع فانتظارها والاختلاف إليها عمل مُطرِب جميل.
وقد سحب الباخرة رفَّاص به رئيس البوغاز لمناسبة امتداد الرمال داخل البحر حتى ليسهل عليك أن تسير على قدميك أميالًا عشرة دون أن تجد عُمقًا.
وها هو النسيم يهبُّ والباخرة تتحرك والسرور السابغ يُحيط نفسنا ويُفعم قلبنا، وذلك اليوم الممتع وما شاهدنا فيه من مباهج ليجعل حقًّا صريحًا كل ما تحدث به السائحون عن هذه الجزيرة الجميلة وعن مرائيها الجذابة الرائعة.