٥ أغسطس
استيقظتُ في الصباح الباكر وكانت طبيعة الجو مقرورة تنفث الزمهرير، وبعد أن أديت فريضة الصلاة، وتلوت ما تيسَّر لي أن أتلو من القرآن الكريم وفاقًا لما رضتْ عليه نفسي من أمد بعيد، تناولت طعام الإفطار، ثم علمتُ أن الباخرة قد ألقت مراسيها على ثغر «سورابايا» فأما ثغر «سورابايا» فإنه أكبر موانئ التجارة في الجانب الجنوبي الشرقي من الجزيرة، وأما ما يُرجى له من مستقبل فإن بوادره تدلنا على نجاح باهر؛ ذلك أنه أول ميناء يصل إليه القادم من أستراليا والجُزر الجنوبية التي تتبع هولندا؛ وذلك أنها قد استعدت بمعاملها العديدة لتُهيِّئ طريقها المُعبَّد بين الثغور الممتازة، وحسبها ما يتحدَّث به المتحدثون عنها من نوالها هذه المنزلة الرحيبة في التقدم والنجاح في مثل ذلك الزمن الوجيز.
وقدمنا إلى الباخرة مندوب «كوك» وقدَّم لنا رئيس فندق أورانج الذي رغبنا النزول فيه.
وكان مما أردناه أن نغادر الباخرة قبل أن تطأ الأرض من ركابها قدم نزوحًا منا عن مغبة الزحام، وهكذا كنا أول من أخذ طريقه إلى اليابسة بين السائحين جميعًا، فمررنا بالجمرك وأرينا رجاله الجواز الذي أخذناه من السفير الهولندي في مصر كتوصية لهم من جانبه على أن يُسهلوا أمامي من إجراءاتهم.
ولقد تقدَّم إليَّ واحد من الموظفين يسألني في أدب جمٍّ عمَّا إذا كنتُ أحمل معي سلاحًا، فلما أجبته بأني لا أحمل غير «روفلفر» صغير كان من شأنه أن أخبرني في كثير من الاحترام أنه من المحظور على أي قادم أن يدخل الجزيرة ومعه أي نوع من أنواع السلاح ولكنه عاد فرجاني أن أنتظر خمس دقائق حتى يُشير على رئيسه في الأمر جنوحًا عن المسئولية ورغبة في ألا يزيد في هذه المسألة تعقيدًا؛ لأن واجبه الرسمي يُحتِّم عليه مصادرة السلاح فورًا.
فلما ذهب إلى رئيسه وأظهره على الخبر، وأفهمه أني أحمل جواز توصية من السفير إلى ذلك ما أحمل من جواز «سياسي» أمر رئيسه في الحال بمروري موفور الإكبار، محوطًا بكل عناية، على أنهم كتبوا إليَّ ألا أبيع «الروفلفر» في «جاوة»، ومن البديهي أني لم أكن لأود بيعه كما يتوهَّمون.
لقد يجدر بي أن أُثني على ذلك الموظَّف لأدبه وذكائه، وعرفانه لواجبه واضطلاعه بأعبائه في كثير من العذوبة التي خلعها عليهم حب النظام واحترام مشاعر الناس على صورة لا تأنف منها الواجبات ولا تحيطها شناعة الإهمال في العمل ثم أخذنا سيارة وذهبنا إلى الفندق.
تبعد الميناء عن المدينة خمس عشرة دقيقة بالسيارة، طريق ممهد مفروش بالمكدام ومموه بالأسفلت، تقف على جوانبه الأدواح الكبيرة، فإذا أمعنت في ذلك الطريق المُنسَّق وفي الشجر الوارف الظليل لمَلَأَتك غبطة المنظر البهيج جمالًا وحبورًا.
أما شوارع المدينة الكبرى فعلى خير ما تنشد من نظافة هي ميزة الهولنديين في كل فجٍّ، تحيطها الحوانيت المنتشرة والأشجار المزدهرة، ولكن اليوم هو «يوم الأحد» فليس ثمة من حانوت يفتح بابه أو يستقبل زائريه.
وبلغت دهشتي منتهاها في نظافة الهولنديين حينما رأيت الفندق الذي نزلنا به، فهذا هو النظام الجميل وذلك هو المنظر الذي لم أشهده من قبل.
إنه فندق كبير يتألف من طابقين ويجمع إليه فناءين زُركِش أديمهما بالزهر الناضر وسبحت في سمائه الدَّوْح، بينما كل حجرة من حجراته تزينها «فراندة» خاصة جميلة مُوشَّاة.
وتقع البناية الوسطى التي تتألف من الطابقين بين هالة من البهجة تحرسها بنيَّتين من طابق أرضي عن اليمين والشمال، جعلتا على منظر «الفللا» لكل منها ثلاثة حجر للنوم يجاور بعضها بعضًا حتى يكتنفها الهواء المُتجدد عندما تفتح الأبواب.
وأمام كل منهما «فراندة» تُشبه الصالون الصغير مكشوف من أمامه وخلفها دورة المياه.
وفي الساعة الثامنة والنصف وبعد أن أرسلتُ برقية إلى سمو الوالدة أُنبِّئها بوصولي إلى جاوة أخذتُ سيارة للتجوال بها في المدينة ورؤية مشاهدها.
أعجبتني «سوربايا» من وجوه كثيرة؛ فمساكنها الإفرنجية التي تتألف عادة من طابق واحد أو من طابقين، وهيكلها الصغير المنسق وفضاء الحديقة الوافر الجمال وروعة النظافة التي تأخذ اللُّب، كل هذه الصور تُحرك في النفس كامن الغبطة ودفين السرور.
وتُدعى هذ البيوت «بنجالو» وإذا كانت «جاوة» قد طبقت شهرتها النباتية الآفاق، فإن الأشجار التي تُحيط بالشوارع لدليل حاسم على أنها صعيد النبات الخصيب.
ولما أمتعنا الطرف بمباهج الأحياء الإفرنجية رغبنا أن نتصل بالأحياء الوطنية ومساكن الهنود حتى نشهد مناظرها، فإذا هي ويا للأسف تُعبِّر عن بالغ الضَّعَة وجسيم الإملاق، هي وضيعة في معالمها الدارسة، وفي أطلالها العافية، على أنها من وجهة الفقر ليست أكثر حظًّا من مثيلاتها في الشرق، بل إنها لتقل عن كثير من الأحياء الشرقية البحتة التي شاهدناها في أدوار الرحلات، وذلك لما تُعنى به الحكومة الهولندية في صوب الصحة والنظافة.
وعند أوبتنا إلى الفندق في الساعة العاشرة بدأت وهجة الشمس تُكسِب الجو طبيعة حارة لاذعة، فتناولنا الطعام شهيًّا سائغًا مُتقنًا بعد عشرة أيام كان طعامنا طوالها في الباخرة قديمًا لا يحرك في النفس عوامل الراحة، ولا يُذهب عنها بواعث النفور، ثم آويت إلى فراشي نُشدانًا للراحة من وعثاء السفر الطويل.
ويجدر بي أن أقول إن الإفرنج في هذه المدينة لا يدعون منازلهم أو متاجرهم بين الساعة العاشرة والنصف صباحًا وبين الرابعة مساءً، فلا ترى واحدًا منهم يجوب ناحية من نواحي الشوارع إلا أن يكون باعثه على ذلك أمرًا خطيرًا؛ لأن الحرارة شديدة بحيث لا يتحمَّلها واحد من البِيض في هذه الساعة اللافحة، وأول ما لا حظته تلك السَّحْنة الزَّريَّة التي تبدو على وجوه الأهلين، وهذه الدمامة البالغة التي تحف بسيماهم، وذلك النحول الهائل بأجسامهم، وذلك الضعف والهزال الذي يغمر هياكلهم، كما أنني لم أشهد من بينهم واحدًا تبدو عليه حالة الشيخوخة، فكلهم في الحق قِصار صِغار، على تناقض من الصينيين الذين يفوقونهم في القوى والذين يؤلفون جالية كبيرة لها شأن في ثروة الجزيرة بما تضم إليها من التجار الكبار المشهورين.
وأدهش ما عجبتُ له أنه مع وجودنا في بلد إسلامي، ومع شهودنا لبضعة من المساجد الصغيرة والمدارس الإسلامية فإن أهمية الإسلام هناك حديث لا شكَّ أنَّ المسلمين يتحسَّرون لسماعه والإنصات إليه.
وفي الساعة الرابعة غادرنا الفندق في سبيلنا إلى التجوال مرة أخرى بالمدينة، على أن بعضهم أشار عليَّ بأن يحسُن بي أن أذهب إلى مكان يُدعى «جريز» يبعد خمسة عشر ميلًا إنجليزيًّا عن «سورابايا» حتى أشاهد هناك الأهالي وهم يُربُّون الأسماك على شاطئ البحر.
أما السيارات فإنَّها من النوع الأمريكي المنتشر هنا انتشاره في أستراليا، وكانت سيارتي من طراز «بويك».
وعلى الرغم من أن البلاد الجاوية شديدة الحرارة لافحة الأوار، فإن شيئًا من التراب قلَّ أن يبدو على أديمها؛ ذلك أن المطر الذي لا ينكف عن الهطول بها كل يوم قد أباد التراب وقضى عليه، وإنَّ هذا الشأن لممَّا يسرُّ السائح الذي يشاء التجوال بسيارته حتى ولو كانت السيارة مكشوفة لا ستر لها.
ولقد لاحظنا في طريقنا إلى «جريز» أن القوم هناك يُكثرون من زراعة الأرز، كما مررنا في طريقنا على غابة جذَّابة المنظر، فاتنة الرواء، وهنا بدرت لنا فكرة الذهاب إلى «كفر جيرى» حتى نزور قبر «مقلنا ملك إبراهيم» ذلك الرجل العظيم الذي يُقدِّس فيه الجاويون ذكرى أول رجل مسلم دخل أصقاعهم ونشر فيها تعاليم الدين السمح الحنيف، فلما ذهبنا إلى «جيرى» تأكَّد لدينا أن مقبرة الرجل في بلدة تدعى «جريز» فأخذنا معنا أحد الصبية الوطنيين ليؤدِّي مهمة الدليل، واقتعد مع السائق أريكة القيادة في السيارة، فعندما أشار الصبي بوقوف سيارتنا كنا أمام أطلال دوراس تشبه في نسقها المعابد الهندية، فحسبت الدليل الصغير قد ضلَّ الطريق وحادَ عن الهدف، ولكنا وجدنا حشدًا حافلًا من مقابر المسلمين كان لنا حظ التوفيق في زيارتها والاعتبار بما تضم بين صفائحها.
ويا سبحان الله!
إن منظر المعابد الهندية ليدع في النفس حالة قد لا يُهيأ له شهودها في سواها حالة من الروعة الصامتة والخشوع الهادئ، تمدها إلى الجِنان تلك العناية التي التفت حواليها فأبدعت في حواشيها ونمَّقت في نواحيها، فإنك تراها إما وسط غابة تحفُّ أشجارها على جُدُرها، وإما على حافة بحيرة تدفع صفحتها المنبسطة إلى جلالها جلالًا مديدًا، بينما تقف على أرجائها أشجار «الفيكوس» الضخمة تلك الأشجار التي تبلغ سنَّها بين مائة وبين مائتي عام، تبدو لك جذورها المتعددة وكأنَّها عظام الموتى.
ولقد قيل لي إن هذه الأشجار التي تجاور تلك المدافن تبلغ من العمر ما بين ثلاثمائة وأربعمائة سنة.
وفي الحق إن مشهدها أكثر هيبة وأجزل مكانة من مشاهد أخواتها اللاتي يُظلِّلن المعابد السفلى.
لقد أهاب بي ولعي بالنباتات أن آخذ من وقتي فترة رحيبة أُمتِّع الطَّرْف فيها بعظمة هذه الأشجار.
وفي مقدوري أن أُصرِّح بأن أكثرها بهجةً وأجلَّها صمودًا إلى النفس وركونًا في الشعور إنَّما هي فصيلة «الفيكوس».
وقدمنا شيخ عجوز مكتهل وفتح أمامنا الباب، ولشدة ما أسفنا لحالة القبر، وتألَّمنا لشأنه؛ فإنه أثر عافٍ ومعلم دارس، وأنقاض لا تُفصح لرائيها إلا عن بالغ الحسرة بينما يعمر جاوة ثلاثون أو أربعون مليونًا من المسلمين لم يهتف بينهم واحد بدعوة تُصلِح من هذا الرجام وتُعيد إليه من الجدة ما يحدث عن جليل شأن ساكنه العظيم.
وتلك هي حالة الشرق، يصرخ بنوه رغبة في الإصلاح، وينشد أهله كل عمل منتج، ويضجُّون في مجالسهم بكثير من الجدل ووافر من الحديث الشيِّق بينما تجمد أعصابهم وتغلق أفواههم إذا دُفِعوا إلى العمل الصالح؛ لأنه سيأخذ من همَّتهم ويُبيد نذرًا من نقودهم!
إن هذه المقابر التي شاهدتها ككثير من مثيلاتها في كل بلد إسلامي تملأ جوانبها النقوش، فهنا تقرأ تاريخ الأموات وأسماءهم مكتوبًا بالخط الثُّلُث.
كما تقرأ بالخط الكوفي على كل قبر كلمة «لا إله إلا الله هو القادر» في حين أن واجهة القبور قد كُتِب عليها «لا إله إلا الله محمد رسول الله» إلى ذلك جوانبها التي نُقِشت عليها آية الكرسي في كثير من العناية والإتقان.
غير أن الأحجار قد ذابت من كثرة المطر، وانمحت هذه الكتابة إلا القليل الذي سيندثر دون ريبة إن لم تقم عليها الستائر لتقيها التلف.
وليست إقامة الستائر على القبور بالأمر العجيب، إنما العجيب والمُؤلم حقًّا أن يذهب الزمن وتذهب عوامل الطبيعة بهذه النقوش التي نضعها في قيمة الوثائق التاريخية المجيدة، تُنبئ عن عظائمهم، وتُحدِّث الأجيال عما كانوا يعملون.
وأعود مرة إلى الشرقيين فأذكر لهم في جمٍّ من الأسف ضئيل عنايتهم في ذلك السبيل وقليل اكتراثهم لأداء عمل قد لا يُكلِّفهم كثيرًا، بينما يحفظ لهم إذا أدوه سلسلة مرتبطة من حلقات تاريخيهم قد ينفعهم استوعابها يومًا.
لقد وفقنا حِيال هذه المقابر أنا وسكرتيري أحمد مختار ورفعنا أيدينا إلى السماء نستمطر الله سحائب الرحمة على إخوان لنا في دينه القَيِّم، ونقرأ الفاتحة على أرواحهم التي ذهبت جوار ربها، وكان من بواعث الغبطة أن نؤدي ذلك الصنيع لقوم جاهدوا ملء جهدهم وجالدوا ملء قوَّتهم في سبيل الإسلام حتى رسَّخوا من دعائمه ورفعوا من هامته.
ثم أعطيت العجوز «واحد جلدر» وهو نوع من العملة تساوي «جنيه إنجليزي» ففرح وطرب لأن لهذه القيمة شأنها مع الرجل الفقير.
ثم رجعنا إلى السيارة، وأخذنا سبيلنا في العودة إلى المدينة في طريقنا الذي سلكناه في الذهاب.
وأمرت السائق أن يمر بنا على حي العرب في «سورابايا»، فإذا بهم ظاهرون بسيماهم ولونهم الفاتح عن الجاويين ووجههم الصبوح الجميل، وإذا بأكثريتهم تُزاول التجارة وتجارة الأقمشة «المانيفاتوره» بنوع خاص إلى هذا ما يمدُّون به الأهالي من مال يقرضونه لهم بالربا.
وعلى الرغم من كسبهم ومن ربحهم الكثير فإن الصينيين أحسن منهم حالًا وأكثر رَغَدًا، ولقد ألفيت في طريقي أبنية كُتِب عليها «مدرسة الإصلاح والإرشاد» ولكن يلوح لي أن القوم فقراء، وأن مقدرتهم على العمل المُنتِج مقدرة ضئيلة لا تحدث أثرًا ملموسًا.
ثم عدت إلى الفندق، وتحدَّثت لصاحبه عن زيارتي قبر «مقلنا إبراهيم» فأنبأني أن دليلنا قد ضلَّ بنا الطريق، وأن ذلك القبر الذي شهدناه ليس بقبره!
إن حالة الأهالي تدلنا على أنهم فُطروا على البساطة والسِّلم، وتحدثنا بأنهم جِدُّ فقراء لا شأن لأكثرهم ولا صناعة إلا مزاولتهم لخدمة الأجانب خدمةً يؤدُّونها بكل أمانة وجهد في سبيل أجر تافه ومال قليل.