٦ أغسطس

كانت ليلتنا في ذلك الفندق رديئة تُنذر بعدم الراحة وتجتوي بالهناءة؛ فحرارة الجو قد بلغت منتهاها ومراتب السرير جامدة صُلبة محشوة بالقش حتى تكون ضد استجماع الحرارة على جسم النائم، وليس ثمَّة من غطاء غير السقف، وعلى هذا فإني افتقدتُ النوم طيلة الليلة لأن عوائدي لا تتَّفق وذلك النظام الجديد.

وكانت رطوبة الجو التي بلغت نهاية الفزع قد أكدت لدي أني لن أغادر الفندق إلا مصابًا بالروماتيزم ولكن الله سلَّم.

وفي الساعة الثامنة صباحًا جاء رجال الفندق ليأخذوا متاعنا إلى محطة السكة الحديد، وفي التاسعة والنصف غادرنا ذلك الفندق يُرافقنا واحد من موظفيه، وكان حظنا في ذلك الموظف الحظ الضئيل الأقل فإنه لا يعرف لغة أجنبية، وهكذا كان التفاهم معه مستحيلًا صعبًا.

وأخيرًا وصل القطار في الساعة التاسعة والدقيقة الخامسة والثلاثين، وكان دخولنا إلى عربة الدرجة الأولى في القطار أشبه شيء بالهجوم والقفز مخافة أن تكون مليئة ومكتظَّة، ولكنا سُررنا عندما تبيَّن لنا أننا فيها دون شريك.

ولكن الكمساري قد أخبرنا بكل أسف أن هذه العربة ستترك القطار وأنه يتعيَّن علينا أن نُغادرها إلى سواها، فألفينا العربة الثانية للدرجة الأولى ولا فراغ فيها، ولا موضع قدم، فاضطررنا إلى أن نأخذ مكاننا في الدرجة الثانية على الرغم من أننا نحمل تذكرة للدرجة الأولى، ولبثنا كلما أقفر مكان من صاحبه ننتقل إليه حتى أُتيح لنا أن نستريح.

إن المناظر على جوانب القطار جميلة وممتعة، والأراضي كلها مزروعة بإتقان، وتكثر في هذه الناحية زراعة القصب وهو طويل رفيع، ولقد شهدنا عديدًا من «الفابريكات» قيل لنا إنها معامل للسكر وإن ذلك القصب يُزرَع من أجلها.

ثم جاء موعد الغداء فتناولناه بالقطار، ولأن قائمته كانت مكتوبة باللغة الهولندية فقد أصبح لزامًا علينا أن نُترجمها حتى نختار من ألوانها ما نريد.

سولو

ولقد مررنا في طريقنا على مدينة «سولو» عاصمة «سلطنة» ويُقال إن حاكمها رجل مسلم، وهذه المدينة يبلغ تعدادها مائة وأربعين ألف نسمة، بينهم ألفان وخمسمائة من الأوروبيين، ويرتدي أهلوها وأمراؤها الأقدمون أردية الوطن القديمة حتى لقَّب الجاويون تلك البقعة من جزيرتهم «جاوة الأصلية» وهم ينظرون إلى سلطانهم وكأنه الحاكم بأمره؛ عليه أن يأمر وعليهم أن يُنفِّذوا أمره دون لجاجة أو استخذاء.

على أنَّ الحركة الأخيرة التي قامت من جانب الجاويين ضد «هولندا» قد ألجأت هذه الدولة على أن تقصَّ من أطراف السلطان، وأن تقلِّص من ظله وتُضعف من سلطته.

يعيش السلطان في سرايته التي تُتاخم دورًا أُنشئت لكبار الموظفين، ولجملة من أقاربه يُحيطهما سور عالٍ كبير حتى ليتراءى للناظر أن هذه الدور قسم قائم بنفسه في تلك المدينة، وإذا شاء أحد من السائحين أن يشهد «سراي الحاكم» تمكَّن له ذلك إذا أذن له موظف هولندي كبير.

وتجمع «سولو» بضعة من الشوارع الجميلة التي يظللها الشجر الوارف إلى ذلك بضعة أخرى من الشوارع التي تجري عن يمينها وشمالها تُرع صغيرة ذات ماء رَقراق، فإذا أراد أحد أن يأوي إلى بيته في تلك الشوارع أو يخرج منه تسنَّى له ذلك بواسطة قناطر صغيرة.

ولقد شهدت بعضًا من ممثلي «السِّرك» يؤدون ألعابهم في الشوارع.

وترى هنا كما ترى في الصين أن عظماء الرجال لا يؤدون نزهتهم خارج منازلهم إلا وقد ساروا خلف واحد من تابعيهم يحمل مظلَّة ذلك العظيم في يده دلالة على أن سيده من طبقة نبيلة ممتازة.

وحركة التجارة في «سولو» على ما يبدو لي منتعشة جدًّا؛ فقد شهدت بها دكانًا يدعونه بالهولندية Bazar «بازار» وفي الحق إنه مليء بأشتات المصنوعات الوطنية التي تنتجها هذه البلاد.

وهذه الدكاكين تقع تحت رقابة الحكومة الهولندية، وعلى هذا فقد يندر التلاعب في الأسعار، وأجمل ما تؤديه الحكومة تشجيعًا لهذه الصناعات أنها توحي إلى أصحابها أن يبيعوها بثمن لا جشع فيه ولا طمع حتى يتهيَّأ لها الرواج والذيوع، وحتى يُقبل المستهلكون على شرائها آمنين الغُبن الفادح مطمئنين إلى أنهم قد أخذوا السلعة بثمنها الذي يجب أن تكون عليه.

جوكجه

ولقد قيل لي إن ذلك الشأن المحمود تؤديه الحكومة في مدائن الجزيرة كلها.

وفي الساعة الرابعة والدقيقة الخامسة والعشرين وصلنا إلى جوكجه، ويجمُل بي أن أُسجِّل بأن القطار كان سيره بطيئًا على الرغم من أن الأرض التي يدرج عليها أرضها منبسطة لا وعورة فيها.

وكان في انتظارنا على المحطة أحد موظفي الفندق الذي سننزل فيه، وقيل لي إن ذلك الموظف يعرف إحدى اللغات الأجنبية، فكان سروري به جمًّا عظيمًا، ولكني ألفيته لا يعرف إلا كلمة yes فإذا سألته عن شيء أجابني بها، وإذا استوضحته عن أمر كانت هي كل خطابه.

وأخذتُ «الأمينوبوس» الذي يرسله الفندق إلى المحطة لاستقبال ضيوفه فوصلته بعد دقائق.

إن الفندق الذي نُقيم فيه «جراند أوتل» ليُعد من أكبر فنادق المدينة وأفخمها، ولقد أعدوا لمقامنا فيللًا صغيرة، على أن الفيلات هنا أقل شأنًا من مثيلاتها في «سورابايا».

وأول ما أخذنا به أنفسنا بعد وعثاء السفر الطويل هو أن نُزيح أوضار الطريق بالاستحمام، فكل بلد حارٍّ يجلب في النفس شوقًا إلى الماء وحنينًا إليه.

وأغلب الظن عندي أن الاستحمام بالماء مرتين أو ثلاث قد لا يُشبع رغبة النفس في اتِّقاء هذا الهجير.

والحمَّامات هنا لا تُشبه الطراز الأوروبي بل هي شرقية رومانية قديمة تتكوَّن من حجرة صغيرة، في أحد أركانها «ماجور» تعلوه حنفية ماء بارد؛ لأن المياه الساخنة لا تستعمل في جاوة إلا لطهي الطعام.

وعلى المستحم أن يملأ ذلك «الماجور» ثم يمسك كوز الماء بيده ويزاول عملية شاقَّة في صبِّه على جسده، حتى إذا ما انتهى كان عليه أن يُدلِّك جسمه بالصابون ليعاود مرة أخرى عملية الكوز، وهكذا دواليك حتى ينتهي من ذلك العمل الشاق.

«جوكجه» هي المدينة السادسة بين المدن الجاوية، وهي العاصمة كما أنها تبعد عشرين ميلًا عن ساحل المحيط الهولندي، تصلها «بتافيا» بالسكة الحديدية، وقد أُنشِئت محطتها في وسط المدينة وعلى مقربة من فنادقها.

وأما عرباتها التي تخصُّ الوطنيين فيها فهي نوع من العربات ذات العجلتين أو الأربعة عجلات يجرها حصان صغير يشبه السيسي، وأما السيارات فإنها وقْف على الأجانب والأثرياء في تلك المدينة.

وأكبر شوارعها وأجلها شأنًا وأكثرها عمرانًا ذلك الشارع الذي يدعى شارع Residence ففيه الفنادق الكبرى وبضعة من النوادي.

ويبلغ تعدادها مائة ألف نسمة بينهم ما يُقدَّر بأربعة آلاف من الأوروبيين؛ فهي في هذه الوجهة أقل تعدادًا من «سولو» كما أنها أكثر في ناحية الأجانب.

على أنها تشبه «سولو» في نظام الحكم؛ فهي ثانية الولايات التي يُطلقون عليها اسم «سلطنة» يحكمها «سلطان» يحفظ جهده بتقاليد قومه الأقدمين.

ويرعى ما «لرتبته» من عهود، وولاية العهد في هذه «السلطنة» تتآلف مع النظم القديمة التي كانت لولاية العهد في الشرق، فأخ السلطان هو «ولي عهده» وإن لم يكن من أخ فأكبر رجال العائلة سنًّا هو ولي العهد العتيد.

وقد جعل موقع المدينة الجغرافي لها ميزة خاصة؛ فإنها في قلب الجزيرة، وعلى هذا يعدها السائحون نقطة ممتازة ومكانًا يجب أن يُزار.

وقد بُنِيت «جوكجه» على أنقاض بلد قديم كان مسرحًا للاضطرابات والفوضى وميدانًا رحيبًا للقلاقل والتقاتل.

وأجدر ما يُذكر فيها «سراي السلطان» يحيطها سور تُقدَّر مساحته بميل مربع، وأمامها ميدان رحيب حَفَل بالشجر الشامخ الضخم تقوم على جوانبه أشجار نُسِّقت على وضع «المِظلَّة» لما لها من مكانة التقدير عند الجاويين جميعًا.

وإلى جانب هذه البهجة التي تتراءى جلية في مشاهد الميدان والسراي، يجدر بي أن أقول بأن أحقر ما في المدينة هو «دورات المياه» التي تعود بنا إلى حقبة «حُجرة الزير» في منازلنا البالية العتيقة!

وفي موعد العشاء التقيت مع اثنين من السائحين كانا معنا في الباخرة في قدومنا من «أستراليا» إلى «سورابايا».

ولقد طلبت من إدارة الفندق أن تضع على سريري «ملاءة» حتى أتمكَّن من الغطاء، وحتى لا تتكرر مأساة السُّهاد الذي أصابني في الليلة الماضية، وهنا يحسن بي أن أوضِّح حالة الفراش كما شهدتها في حجرة النوم

«فالناموسية» في جاوة لها وضع خاص، تُفتَح من ناحية واحدة كباب تَلِجُ من إلى السرير، فإذا كانت مفتوحة فإن لها في أعمدة السرير — من الناحيتين أيضًا — «شناكل» كهذه التي تمسك عندما تكون مفتوحة بجوار النوافذ.

وأدهش ما رأيته في السرير أنه توجد عند «المخدة» مِقشَّة كبيرة جامدة تُشبه المِقشَّات التي نستعملها في بلادنا لغسيل الحجرات، بينما توجد إلى جوارها «مخدة» طويلة صلبة كأنها قطعة من الخشب.

لقد دُهِشت جدًّا لرؤيتهما وقد تمدَّدا في وسط السرير، وأخذني العجب لهذا المنظر الذي لم يختلف إليَّ رؤية مثله، فألفيت أنه من المحتم عليَّ أن أسأل مدير الفندق وأن أستوضحه ذلك السر الهائل فكان جوابه:

إن المِقشَّة قد وضعت هكذا حتى يتسلَّح بها النائم ضد حشرات الأرض، من عنكبوت كبير وسحالي وخفافيش وثعابين!

وأما «المخدة» الحجرية الطويلة فإنها تدعى «الفتاة الهولندية» وأنها وجدت هكذا لينام عليها الإنسان أو يتكئ حتى تتمكن له بواعث الراحة!

لقد أفزعتني مهمة «المقشة» فإن النوافذ بغير زجاج و«الشيش» فيها لا ينتهي إلا إلى النصف على نقيضه في نوافذنا ولقد جعلوه هكذا في جاوة حتى يجلب نصف النافذة المفتوح شيئًا من الهواء إلى الحجرة، إلى هذا أن الأماكن أرضية ليست لها فراندة على سطح الأرض، وفي هذا ما يجعل السبيل سهلًا أمام هوام الليل وحشراته البغيضة التي يغمرها السم الزُّعاف.

ولقد أضحكتني قصة «المخدة» وكان شأني أن احتويتها أول الأمر، على أني تحقَّقت من فوائدها بعد بضعة أيام، وآمنت أن الذي قيل لي عن مهمتها واضحًا صحيحًا.

إن مشاهد الصباح في جاوة تُمتِّع النفس وتُبهج الحِس، وإن مرائيها في الساعة الباكرة جميلة وفاتنة؛ فهذه أشجارها وزهورها تفتح عن أفنانها جمال الطبيعة الشائق فتملأ الجَنان غبطة، وهذه عصافيرها تسمع الأذن تغريدها الفائق الإمتاع السليم النفحات تلك صور تُحرِّك الفؤاد وتُذهب عن جوانبه كل أسًى.

لقد عُنِي الجاويون كما عُنِي المسلمون في كل فجٍّ بطير اليمامة؛ فقلما ترى منزلًا في الجزيرة يخلو من زوج أو اثنين يحيطهما أهل المنزل برعاية موفورة، ويدعون لها شيئًا من إكرامهم بأن يضعوها في قفص مخصوص، وترى أهل الريف يبالغون في إكرامها إلى الحد الأقصى حين يرتفعون بها إلى سماء المنزل مربوطة بحبل شُدَّ على عامود حتى تخال أنها بين مدارج الجو حرة طليقة.

كُنَّا من «سورابايا» إلى «سولو» لا نشهد من المزروعات غير «القصب» وغير هذه الفابريكات التي مدت السكك الحديدية إلى مزارعها حتى تكون عملية الشحن يسيرة سهلة، أما في «جوكجه» فإن ضواحيها مغمورة بزراعة الأرز الذي يستولي عليه الأجانب، ولقد رأينا في كل «تفتيش» جملة من «الأجران» المُسقَّفة المبنية من خشب «البامبوز» الذي تكثر أشجاره في هذه الجزيرة وليست «أجران» الأرز وحدها هي التي تُبنى من هذه الأخشاب فإن جدران المنازل وأسوار الحدائق ومجرات العربات والنقالات كل هذه المنافع تُبنى من شجر البامبوز.

لقد رأينا أن حركة الزراعة هناك تدل على نمو واضطراد نجاح كما أن الأهالي يعمرون الأصقاع في كثرة واضحة.

ويلوح لي أن أجور العمال ضئيلة تافهة، فكثيرًا ما ترى ألوفًا منهم يملئون المزارع وذلك يدل على كثرة الأيدي وتفاهة الأجور، على أن المثل القريب الذي أريد أن أظهرك به على حقارة الأجور هناك هو أن الصبي الذي تبلغ سنه ما دون الثانية عشر بقليل لا يأخذ أجر يومه غير مليم واحد، بينما هو يؤدي عمل الرجل تقريبًا!

وأجمل مشهد وقع عليه نظري بين هذه الأراضي المنبسطة التي غمرتها النباتات هو مشهد المنازل الجميلة التي ابتناها السكان بين الأشجار الظليلة، فإنك تخالها أول الأمر بقايا جذور قُطعت سيقانها واندثرت أغصانها، فإذا أمعنت فيها النظر عجبت لهذه الفكرة الجميلة التي نظم بها القوم هذه الأماكن حتى اتَّخذوها مأوًى أمينًا، وبيوتًا هادئة حصينة.

بينما هذه الأشجار التي تظللهم تضم إليها جمعًا من أشجار الفواكه كشجر «الموز» و«عين الجمل» و«البُن» إلى ذلك ما بينها من أشجار الفواكه التي تخص البلاد الحارة المانجا وما إليها.

أما المساكن في هذه المدينة فقد بُنِيت من «بامبوزه» وسُقِفت من قش الأرز، على أنها في صورة من الإتقان الجميل.

لقد قيل لي إن الأهالي هنا قوم بسطاء في كل شيء، في معيشتهم وفي السُّبل التي يتوفرون عليها طوال حياتهم، وإن الحياة العلمية بين طبقاتهم معدومة لا ظل لها، فقليل منهم من يتعرف قواعد الحساب؛ وعلى ذلك فقد ألجأتهم الحاجة إلى أن يفتقوا الحيلة التي أضرب مثلًا منها:

عندما يولد بينهم مولود جديد يزرع أهله في الحال شجرة من شجرات «جوز الهند»، فإذا سألتهم بعدئذٍ عن عمر فتاهم ذهب بك أحدهم إلى الشجرة التي غرسوها يوم مولده، وعد حلقاتها المرسومة على جذعها، ثم يجيبك أنه قد بلغ كذا من السنوات؛ ذلك أنهم عرفوا أن هذه الشجرة لا تستدير حلقتها إلا كل حول، فلجئوا إليها يستنطقونها ذلك الحساب الدقيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤