١٠ أغسطس
في الساعة العاشرة والدقيقة الخامسة عشرة صباحًا قصدنا بالسيارة بلدة تدعى «تشيباناس» حتى نشهد بها عيون المياه الساخنة، ففي طريقنا إليها مررنا على عدة بحيرات صغيرة تُستعمَل لتربية الأسماك، وقد علمت أن نتائجها في كل عام يأتي بإيراد غير قليل، كما أن تربية «البط» تجلب بدورها إيرادًا يُعين المنتجين على أن يعيشوا عيشة منظمة.
وأغرب ما شهدته أن البط هنا أكبر وأعلى من مثيله في مصر، وأن لونه ترابي، وأنه هنا كالغنم ينتشر صفوفًا متراصة كصفوف الجنود بين الحقول والمزارع، فإذا شاء أصحابه أن يُعيدوه إلى منازلهم رأيت صبيًّا صغيرًا يهشه أمامه كأنه فصيلة من الأنعام!
وقد تحدَّثوا عن فصيلة البط بأنها تُنتِج «بيضًا» كثيرًا وأنه أكثر ثمنًا من بيض الدجاج، وأعجب ما فيها أنها ذات رقبة رفيعة حتى تخالها أول ما تشهدها أنها من فصيلة «الأوز»!
سرتنا مزارع الأرز ذات اللون الأخضر الفاتح الجميل الذي يبدو أجمل صفاء من منظر السماء في البلاد الحارة.
وأدهشنا أن الجاويين يُحوِّلون الجبال من قممها حتى السفح إلى مزارع للأرز، وأنهم يقيمون حقولهم على شاكلة «المُدرَّج» يتصل الماء من حقل إلى آخر دون أن تظهر أعراض الظمأ على واحد منها.
وهذا يناقض الحال الزراعي لدينا، فإنه متى كان لإنسان في مصر مزرعة خاصة من عشر إلى عشرين فدانًا ترتفع عما يجاورها من الأراضي ارتفاعًا محسوسًا فإنك ترى لندرة المصاريف وقلة العناية أن هذه العشرة أفدنة قد جعلت ما يجاورها أرضًا بورًا لا تصلح لغرس ولا تنتج حصادًا.
وقصدنا عيون الماء فإذا بها جمة النظافة تشرح الصدر وتبهج النفس على نقيض هذه العيون التي تتفجر في مصر لتحتويها الأوحال والقاذورات بصورة بشعة محزنة.
وقد ساعدنا صفاء الجو ونقاؤه ولطفه وعليل نسيمه على أن نغادر العيون إلى بحيرة «ليلس» فإذا بمنظرها من المرتفعات يُفعم الخيال جمالًا، وإذا بها جديرة بأن تجذب إلى وجهتها قلوب السائحين.
ثم غادرنا بحيرة «ليلس» إلى بحيرة «بجانديت» وإنها وإن تكن أكثر اتِّساعًا من «ليلس» فليس ثمة من منظر جميل أو مشهد يستحق أن يُذكر، ومن هذه البحيرة عدنا أدراجنا إلى المدينة.
لقد أدهشتنا كثرة الأهالي، لا على هذا الطريق وحده، ولا في هذه المدينة دون سواها، بل في أرجاء جاوة جميعها، فالطريق التي اجتزناها من البحيرة إلى المدينة كانت مُكتظَّة كخلية النحل مليئة بالفلاحين غادين رائحين.
وأغرب ما وقع نظري عليه في هذه الناحية أن الرجال والنساء والأطفال كل منهم يحمل شيئًا في يده يريد أن يبيعه في السوق.
وليس هذا هو المدهش ولا هو بيت القصيد، إنما المدهش حقًّا أنه إذا كان لرب عائلة دجاجة أو اثنتان وأراد أن يبيعها شهدت عائلته من زوجته وأطفاله وقد نفروا جميعهم إلى السوق خفافًا سراعًا ليبيعوا سلعتهم!
ولوافر ما أصابهم من فقر وما لحقهم من فاقة ترى أنهم يحملون أثقالهم على أكتافهم عشرة من الكيلومترات أو عشرين، وقد برزوا من بالغ الحرارة في أجسام عارية يتصبب العرق منها وكأنه ماء يتدفق من أفواه القِرب، بينما هذه الأثقال قد لا تساوي غير قرشين، وهذا يدل على غاية النشاط والكدح العظيم.
في الساعة الرابعة والنصف قدمنا أربعة من الصبية وفي أيديهم آلات موسيقية صُنعت من خشب البامبوز — وقد سمعت عن هذه الآلة من قبل — جاء أولئك الصبية الأربعة ومعهم صبي آخر أحضروه ليرقص فكانت هذه الجوقة التي تتراوح أعمار أفرادها بين التاسعة والعاشرة ظريفة خفيفة مُبهجة، ولقد ظلوا يرقصون على نغمات موسيقاهم التي كانت تنبعث جميلة شائقة، وكم عجبتُ لهذه الآلة، كيف يتسنَّى لها أن تُرسل ذلك الصوت الشجي، وألفيت هذه الموسيقى أُفتن بكثير من تلك الموسيقى النحاسية التي سمعتها في «جوكجه».
وكان بين الأدوار التي عزفها الأطفال دور يشبه المارش العسكري.
ومكثوا يعزفون وبينهم الطفل الصغير الخامس يزيد المنظر بهجة بتقليده الإفرنج حتى لقد طربت كثيرًا.
ثم أعطيتهم البقشيش، وفي مناسبته أقول بأنه قيل لي إن أولئك الأطفال سيكونون جد فرحين إذا أنا نفحت كل واحد منهم قرشًا، ولكني حوَّرت النظرية فأعطيتُ كل واحد منهم ريالًا فما أمتع منظرهم الذي يدل على الأدب الكثير والخضوع الوافر، وهم يستقبلون الأرض ركوعًا على أقدامهم شكرانًا وحمدًا!
ولقد حببتُ إلي هذه الآلات أن أشتري واحدة منها حتى أريها لصاحبة السمو الوالدة حين عودتي، وهكذا فعلت.
ثم أوصيتُ بعدئذٍ على سيارة للنزهة، ولا بدَّ لي من أن أعاود القول بأنه لا توجد بلاد يدفعك جميل مناظرها ورائع أناقتها وجسيم نظافتها وجمال مسالكها وطرقها إلى أن تجوبها وتتنزَّه فيها بسيارة مكشوفة، لا توجد بلد تدفعك إلى ذلك إلا أن تكون هي «جاوة»، فالتنزُّه فيها بعد الظهيرة عمل مقدس، ولقد رغبنا إلى سائق السيارة أن يقودها في بطء ما دامت المشاهد كلها على نسق واحد، وما دام رجاؤنا في هذه الجولة أن نُمتِّع الطرف بالمناظر البهيجة، ولكنه طمعًا في الربح، وجريًا وراء الكسب، وتمشيًّا على منهج الطيش لم يضع نُصب عينيه السير على البرنامج الصغير الذي وضعناه لهذه النزهة بل تمادى في عدوه وأطلق في سيارته العنان ونحن بين مناظر خلَّابة كأننا نودُّ أن نقطع الليل إلى صفحة النهار، فمررنا بفصائل الجاموس ذات اللون الأبيض يسوقها الأطفال أو يمتطون ظهورها كما هو الشأن في مصر.
وأخذ الظلام ينشر سدوله وأرديته، وأخذ الجو الرطيب يلقي زمهريره على الوجوه، وتبيَّنا طريقنا فإذا به بعيدًا عن «جاريت»، فسألت السائق في كثير من الكَدر، كيف ساغ له هذا الضلال؟ وكيف استحلَّ لنفسه أن يبعدنا عن المدينة فحسب أننا كنا نريد اتجاهًا غيرها؟ وعلى ذلك أردناه أن يعود وأن يسرع في عوده.
وحين مرورنا شهدنا لوحة الطرق التي تسجل أرقام الأميال، فألفينا أننا نبعد عن المدينة بتسعة عشر ميلًا، وهنا ظهرت على خيالنا العادة التي تعودناها من زمن بعيد وهي استحالة وجودنا في الخلاء بالليل، فحثثناه على العود القريب، وتنكر سرورنا من النزهة إلى قلق وألم، حتى إذا ما وصلنا إلى الفندق كان أول ما اتَّخذنا من عمل أن شكونا السائق إلى صاحبه، وقد أراد هذا أن ينجو من ورطته فقال إننا لم نسر إلا تسعة أميال، بينما كانت اللوحة تسجل أننا سرنا تسعة عشر ميلًا؛ وعلى ذلك انتهى الأمر.
إن صاحبة الفندق عجوز تناهز الستين، لطيفة المعشر رقيقة الجانب، ولها بنت متزوجة هي في الحق مديرة الفندق الساهرة على شئونه وصوالحه، وكم كان جميلًا ما أثره في نفسنا من عنايتها بخدمتنا وتوفيرها لراحتنا راحة بذلت فيها من جهودها كثيرًا.