في الطريق
تأهبت للسير يوم الخميس ١٥ مارس فصحوت في الساعة السادسة أهيئ حوائجي، وقضينا في إعداد كل شيء ثلاث ساعات كما هي العادة في أول يوم من أيام السفر؛ نظرًا لعدم تعود القافلة على ما يستلزمه السفر من ربط وحل، وكان علينا أن نسير على عادة البدو من «التجهيز»، وهو الاصطلاح الذي يطلق على الذهاب إلى بئر قريبة قبل البدء في سير طويل، والاستعداد في بحر بضعة أيام لعمل الترتيبات الأخيرة، بعيدًا عن مشاغل حياة المدن، وكانت بئر بو الطفل وهي على بعد ثلاثين كيلومترًا تقريبًا من جالو — البقعة التي أردنا أن نجري عندها «التجهيز».
وبعد أن تم حزم كل شيء جاءنا حاكم المدينة وأشرافها وإخوانها، ليقوموا بتوديعنا فجلسنا جميعًا القرفصاء، نتشاور في أمر الرحلة، وكنت قد سافرت إلى الكفرة، قبل هذا بسنتين، في ظروف أكثر موافقة وأسعد حظًّا، ومع ذلك، فقد ضللت الطريق قبل الوصول إلى الكفرة، وكان الجو في رحلتنا السالفة أشد ملاءمة والريح والعواصف أضعف هياجًا، والقافلة أقل عددًا.
ولم تشغلني في رحلتي الأولى مسألة إعداد الجمال وعلفها وتهيئة الرجال وطعامهم وأدواتهم؛ لأن السيد إدريس تفضل فقام عني بتعهد القافلة ولوازمها، وكانت هذه الرعاية من جانبه، باعثًا قويًّا على تهدئة خواطر البدو وإزالة ريبهم، ومحو نزعة الكراهية فيهم للأجانب، ولكني وجدتني هذه المرة مضطرًّا لترتيب كل شيء بنفسي، مع ما يبعث في نفوس العرب من الدهشة أمثال هذه القافلة الكبيرة، التي تحمل كمية وافرة من الحوائج التي تستلزمها رحلة طويلة.
والطبيعة القاسية في قطع المسافات الطويلة الخالية من الماء، وهي فيها عدو الإنسان الوحيد، وفي مقدورها أن تكون عدوًّا لدودًا إذا شاءت، ولكن تضامن الرجال وغيرتهم على العمل، ما يجعل القافلة تهزأ بالحوادث، وتمضي في سيرها آمنة مطمئنة. وكان رجالي الأربعة الذين استحضرتهم من القاهرة والسلوم وسيوة، على أحسن ما يكون؛ من لطف المعاملة مع كل مَنْ لاقينا، وكان الزروالي وهو الإخواني الذي انتدبه السيد إدريس لمرافقتنا مثال اللطف والإخلاص، وقد أفرغ كل جهده في توفير أسباب الراحة أثناء الرحلة، والحقَّ أقول: إني لم أكن أحمل همًّا للطوارئ مهما قست علينا الطبيعة.
وبعد أن حمَّلنا الجمال بدأت حفلة «الموادعة» التي اعتادها العرب؛ فوقفت مع رجالي على شكل نصف دائرة، وواجهنا شيوخ جالو وإخوانها، وقد وقفوا على شكل نصف دائرة أخرى، ورفعنا الأكُفَّ خاشعين مبتهلين أن يبارك الله رحلتنا، وأن يسدد خطانا ويرجعنا سالمين إلى الأوطان، وقرأنا الفاتحة وأمَّن عليها أكبر الإخوان سنًّا، ثم تبادلنا الشد على الأيدي، وبدأنا السير بين صراخ الرجال تستحثُّ الجِمال، وزغردة النساء تدوي في الفضاء.
وزاد إقبالنا على السفر، ما حدث لنا عند اختراقنا اللبة، وهي ثانية القريتين اللتين تكوِّنان مدينة جالو، فقد لاح لنا على جانب الطريق، بدوية رشيقة القوام قد انفردت وهي مسدلة نقابها على وجهها، فلما مررنا بها أدار رجالي الأبصار إلى الغانية وصرخوا بصوت واحد «وجهك وجهك» فعطفت البدوية وأزاحت نقابها، وهي خفرة فكشف عن وجه بديع القسمات صافي الأديم، ينمُّ عَمَّا عُرِفَ في غواني البدو من حياء وجلال، وبهر جمالها رجالي وملك أدبها نفوسهم، فأرسلوا عبارات الإعجاب والسرور، ولم يسعني أمام ذلك إلا أن أسير على عوائد البدو في مثل هذه الظروف، فأمرت رجالي أن يفرغوا البارود عند قدميها، فتقدم حامد ورقص أمامها رقصًا رشيقًا، كأنما يوقع له الطبل إيقاعًا منتظمًا، وهو ممسك بندقيته فوق رأسه بكلتا يديه جاعلًا فوهتها إلى الأمام، ثم اقترب منها وهو يغني أنشودة بدوية من أناشيد الغرام، حتى إذا صار قبالتها هوى على ركبة واحدة وصوب بندقيته إلى موطن قدميها ثم أطلق النار على قيد شعرة منهما، وكان هدفه من القرب والدقة بحيث أصاب لهب البارود حذاء الصبية فشاطت جوانبه، ولم تجفل عند إطلاق النار، بل ظلت منتصبة القامة فخورة بالشرف العظيم الذي نالته؛ لأن الحذاء الشائط في أرجل الغادة البدوية دليل فخار، تسمو إليه فتيات الصحراء.
وحاكى سعد أخاه حامدًا حتى إذا انتهى من إطلاق النار، صرخ رجال القافلة مهللين مستبشرين، وبدأنا المسير وبسمت الصبية في أثرنا كأنما سَرَّها ما لقيته من إكرامنا لها، تفاؤلًا بالوجه الصبيح تشرق علينا طلعته، في أول ساعة من ساعات السفر، واحتوانا فضاء الصحراء، فوصلنا بعد سير ثماني ساعات إلى بئر أبي الطفل حيث نوينا الإقامة يومًا، وقضينا ليلتنا أطرب ما تكون، وسمرنا حتى منتصف الليل في حديث وغناء، حتى إذا تَهَيَّأ رجالي للنوم، أخذت «غليوني» وانطلقت أخلو بنفسي، ولم يكن أحب إليَّ في الصحراء من تلك الرياضة الانفرادية التي أدخن فيها «غليوني» الأخير قبل الإقدام على السفر الطويل، وأنا هادئ البال وادعه.
وكنت راضيًا عن كل شيء، يسرني التوفيق في اليوم السعيد، ويملأني الأمل في الغد، إذا أخطأني الحظ في يومي الحاضر، ولا أكون مبالغًا إن قلت: إني لم أدخل فراشي ليلة من ليالي السفر، وأنا أحمل في نفسي همًّا من الهموم، مهما ضايقتني الظروف أو آذتني الأحوال.
وقضينا اليوم التالي في التمهيدات الأخيرة للسفر، ولحقنا أبو حليقة صاحب الجِمال في قافلة صغيرة مكونة من ثلاثة جمال، وتبعه في نفس اليوم رجل من جالو.
وكنا في حاجة إلى حبال ومشد، ولكن بائعيها بالغوا في طلب الثمن، وأطال عبد الله معهم الفصال وترك البت في أمر الشراء حتى آخر لحظة، واتفق مع رجل منهم اسمه السنوسي أبو جابر، على أن يتبعنا بالحبال إلى أبي الطفل، وحضر الرجل فجاء إلى خيمتي وأخبرني أن له أخًا في واداي، وطلب مني أن آخذه معنا، على شريطة أن يخدمنا طول الطريق قيامًا منه بنفقات الرحلة، فتوسمت الرجل وعرفت أنه جدير بمرافقتنا، وساقني منه على الخصوص ظرف وفكاهة نحن أحوج ما نكون إليهما في قطع الصحراء، فقد تخون الإنسان قواه فيستعين على تحمل التعب بإشغال باله بسماع الْمُلَح المستطرفة، وكنت أود أن يرافقنا، ولكن ذلك لم يكن بالأمر الهيِّن، كما يدل ذلك الحديث الذي جرى بيني وبينه.
قلت: إِنَّا مسافرون في التوِّ، وليس لديك من الوقت ما يُمكنك من السفر إلى جالو والعودة بأمتعتك.
فقال: «إن لدي كل ما أحتاجه.»
فسألته وأنا أدور بعيني مندهشًا: «وأين حوائجك؟»
فأشار إلى قميصه وعصاه، وقال: «هات كل ما يلزمني.»
فضحكت من أعماق قلبي حيث رأيت أن هذين الشيئين هما كل ما يحتاجه الرجل في رحلة صحراوية متعبة، وشاركني في ضحكي طروبًا، ورضيت بمرافقته لنا، ولم أندم على ذلك فيما بعد، فقد خبرته أثناء السفر فكان من أحسن رجالي.
وسقينا الجمال في اليوم التالي ولم نكن في ذلك بالمتعجلين؛ لأن حال الجمال أهم شيء في قطع الصحراء، ولا يُكتفى بإشباعها وتسمينها قبل الرحيل، بل يجب تركها تشرب جهدها من الماء وفق رغباتها والسماح لها بعد ذلك بالراحة، واستعدت الجمال فحمَّلناها بعناية شديدة؛ لأن وضع الأحمال بدقة على ظهور الإبل في مبدأ الرحلة يوفر وقتًا طويلًا وعناءً شديدًا أثناء السير، فقد يوفر المسافر يومًا أو يومين من الوقت المحدد للرحلة إذا لم يُضع وقتًا طويلًا في وضع الأحمال ورفعها يومًا بعد يوم.
وتأهبنا للسير في منتصف الساعة الثالثة، وما كادت الإبل تتحرك حتى دوى صوت أبي حليقة بالأذان جريًا على عادة البدو عند البدء للسير، فإن التقاليد البدوية تزعم أن القافلة التي تستهل سيرها بالأذان تختمه بالأذان كذلك غير ملاقية في الطريق أذى أو مصيبة. وقد زاد عدد القافلة بالتدريج حتى أصبحت تضم تسعًا وثلاثين جملًا وواحدًا وعشرين رجلًا وجوادًا وكلبًا، فكان رجال القافلة وأنا ورجالي الأربعة عبد الله وحمدًا وأحمد وإسماعيل والسيد الزروالي، وأبا حليقة صاحب الجمال وابنه وابن أخيه وعبده وداود عم الزروالي. وكان مزمعًا السفر على جمله الوحيد إلى واحة تيزربو لإحضار زوجته وابنته. ودليلنا أبو حسن والسنوسي بو جابر صاحب القميص والعصا، وحمد الزوي مغنينا المطرب وسعد الأوجلي، وفرج العبد وعبدان من قبيلة التبو وبرفقتهما ثلاثة جمال، وثلاثة عبيد آخرين من نفس القبيلة، ومعهم ثلاثة جمال محملة بضائع بقصد تسليمها إلى بعض تجار الكفرة.
واتجهنا جنوبًا قاصدين الكفرة، وكان يوم الرحيل حارًّا شديد الريح، ورمال الأرض المنبسطة متماسكة، تتناثر عليها صغار الحصى، وكان مقصدنا الأول بئر الطيغن التي قدرنا الوصول إليها في تسعة أيام، وكانت العادة قبل عهد السنوسيين، أن تُقطَع هذه المرحلة في بحر أربعة أيام، من غير أن تقف القوافل في الطريق، لتناول الطعام أو طلب الراحة، ولكن السنوسيين أبطلوا هذا وأدخلوا عادة حمل الزاد والماء الكافِيَيْن للقيام بهذه المرحلة في ضعف الوقت السابق، وتمكين الرجال والجمال من الراحة كل يوم.
ولم تقبل الجمال على السير بادئ بدء؛ لأنها لم تكد تترك مراعيها التي تؤثر العودة إليها عن السير في الصحراء، فحاول أبو حليقة أن يجعل تجار التبو يتقدمون القافلة بجمالهم، ولكنهم رفضوا ذلك بلباقة؛ لأن السير في المقدمة شاق على الجمال؛ إذ يُفضل الجمل أن يلحق سابقه عن أن يسير في الطليعة غير تابع؛ ولذلك يضطر الجمَّال المتقدم في بعض الأحيان إلى الاستمرار في السير باللكز والضرب بالعصا، وهذا هو السبب الذي دعا العبيد إلى تفضيل السير في مؤخرة القافلة؛ حتى لا يضطرون إلى استحثاث إبلهم، ولم يأبَ أبو حليقة أن ينزل لهم عن هذا، ولكنه استفاد من خدماتهم أثناء السير.
هذه عين الصحراء المنبسطة التي تهيج في خاطري ذكريات قديمة، ما أكثر الإنسان غفرًا لشمس الصحراء المحرقة، ورياحها العاتية إذا هدأ المساء، وغربت الشمس، وطلع القمر، وهبَّ النسيم وانيًا بليلًا! وما أسرع ما ينسى أخطارها في الاستمتاع بملذاتها التي تحببها إليه رغم قساوتها وجفائها!
إني لأنسى آلامي في كوب من الشاي وفي «غليون» أدخنه ورجال القافلة نيام، وتحمل أذيال النسيم عبقه الفيَّاح، وأجد لذة في رؤية انعكاس ألسنة اللهب على وجوه رفقائي بين شيخ مغضَّن الجبين، وشاب ناعم الأديم، وتطربني ملاحظة الرجال يعملون، فمنهم الموفقون ومنهم الخائبون، ويملأ نفسي فوق كل هذا، إحساسي بالقرب من الله جَلَّ وعلا والشعور بحضرته.
صحونا في اليوم الثامن عشر في الساعة السادسة فحملنا جمالنا في ٣٥ دقيقة ولم نستطع تحميلها بهذه السرعة، لولا عنايتنا بتحميلها أول الأمر في جالو وبئر بو الطفل، على أَنَّا لم نبدأ السير إلا في الساعة التاسعة؛ لأن الإسراع في إعداد العدة للرحيل يُضايق البدوي الذي يكره أن يضطر إلى الإسراع في تناول طعامه، وأن يُحرَم من دقائق الفراغ اللازمة لتنظيم حركة الهضم وخلق الرضا في نفسه، والعاقل بين رؤساء القوافل مَنْ يلاحظ كل هذا قبل إصدار أمره بالرحيل. وإني لأرى الفرصة هنا مناسبة، لإعطاء القارئ صورة ليوم من أيام السفر يكون مثالًا لجميع الأيام التي قضيناها في السفر إلى أن وصلنا لواحة أركنو.
كانت رحلتنا هذه في شهر مارس، ومع هذا، فقد كان البرد شديدًا يضطرني إلى الاستيقاظ بعد الفجر بقليل؛ لأن البقاء في الفراش يعرضني لفتك البرد القارس، رغم ما أشعر به من الدفء في أكياس النوم وتحت ملاءة البدو الصوفية، وأنظر من ثنايا الخيام فأرى نجوم الصباح تغيب وهي حيرى كسالى، أصحو فأجد أحد رجالي قد أوقد النار وأشعر بدافع إلى الإسراع في طلب الدفء، فألتف بجردي وألف كوفيتي حول أذني، ثم أندفع إلى النار مقرورًا في تلك الساعة المبكرة من الصباح، أقف إلى جانب النار، ثم أدور بعيني فأرى الرجال منكمشين من فعل الصقيع وإن صحوا من نومهم جميعًا، وألحظهم وقد أَنِسوا إلى الدفء في ألفاف جرودهم وكل ما وصلت إليه أيديهم من الثياب، واعتدنا متى كان الماء وفيرًا أن تُدار أكواب الشاي فيشربوها، ثم تسري فيهم روح العمل، فينطلق كلٌّ إلى عمله، ويقوم الجمَّال بعَلْف إبله بلحًا «جافًّا» تلتهمه بما فيه من حصى وتراب وتأخذ في مضغه، ثم يتعهد الجِمَال فيخفف عبء ما شكا منها بالأمس ثقل أحماله، ويحسن وضعها على ظهر ما آذاه سوء ترتيبها من قبل، ويقوم رجال آخرون فيحلون خيامنا الثلاث المنصوبة على شكل مثلث تضم أضلاعه إبل القافلة، ويفرزون ويعدون للتحميل حوائجنا التي كدسناها وأقمناها لوقايتنا من الريح الباردة.
وفي هذه الأثناء أكون مشغلًا بملاحظة البارومتر والترمومتر، وتدوين ما قيداه من الملاحظات في يوميتي العلمية، ثم أتحقق من وجود شريط للتصوير «فيلم» جديد في آلات التصوير، أفعل هذا، وأنا أسمع أصوات الرجال تشيع بين الخيام، خافتة النبرات، تحت ما تلثَّمَ به الرجال من الكوفيات وغيرها من الملابس.
وبعد طعام الفطور وقد يكون عصيدة أو أرزًا وهما طعامان بسيطان، ولكن الأيدي تهوي عليهما في كلتا الحالتين بهيئة شديدة؛ لأن الإنسان لا يشعر في الصحراء بما يشعر به ساكن المدن، من عدم الميل إلى الفطور، ويعقب الفطور ثلاثة أكواب من الشاي يحتسيها الرجال في بطء وهوادة؛ لأن إنزال البدوي على الإسراع في تناولها يضايقه، ويفقده الميل إلى العمل ويجعله يتباطأ في إنجازه.
ويشعر رجال القافلة بعد الفطور بالدفء والرضا والاستعداد للعمل، فيسرعون في تحميل الجمال، رغم عناد صغارها التي لا تخلو قافلة منها، والتي تمرق من تحت أحمالها وترمي بها إلى الأرض بعد وضع كل شيء على ظهورها. وكان السيد الزروالي وعبد الله يشرفان على دقة التحميل والعناية به؛ لأن إضافة نصف ساعة إلى الوقت المقدر لهذا، توفر علينا تأخير ساعات في الطريق، إذا زلت الأثقال، أو آذى الدواب سوء توزيعها على ظهورها.
وتستعد القافلة للسير، فَأُعَرِّف الدليل اتجاه سير اليوم، ويرسم خط السير في الرمل، فأحقق ذلك على إبرة البوصلة، وهو يلحظني غير راضٍ مني بعدم الثقة فيما يقول، ولكني أرضي نفسي بذلك؛ لأني أضمن بملاحظة البوصلة، من وقت لآخر، صحة اتجاه سير القافلة سحابة اليوم. ولست أنكر أن ذلك الاحتراس الشديد كان ضربًا من الوسواس في نفسي؛ لأن السنوسي أبا حسن كان لا يخطئ غرضه كأنه حمامة تقصد وَكْرَها، وإن كان يصيبه وسط النهار بعض الحَيْد عن جادَّة السبيل؛ لأنه يعتمد على ظله في السير فيخونه في الظهيرة إذا اختفى تحت قدميه.
ويحار الدليل في ساعة الغسق، وهي وقت انتشار الشفق بين غروب الشمس وطلوع النجوم؛ لأن الجهات الأصلية تلتبس عليه إذ ذاك في منبسط الصحراء؛ ولذلك كانت البوصلة نافعة في بعض الأحايين؛ كما حدث يومًا في إحدى رحلاتي عند الغسق؛ إذ رأيت بفضلها الدليل وقد حاد ما يقرب من التسعين درجة عن سواء السبيل، ومع هذا، فدقة الدليل الماهر في ملاحظة الاتجاه الصحيح حذق خارق للطبيعة.
نفرغ من مشاورة بعضنا البعض في أمر الطريق الذي سنسلكه في يومنا، وننتهي من تحميل آخر جمل من جمال القافلة، فيتقدم الدليل وتتبعه الجمال واحدًا بعد الآخر، ويدفئ الرجال أيديهم وأرجلهم آخر مرة على صهيد النار الخابية، ثم يلبسون أحذيتهم البدوية ويسرعون إلى اللحاق بإبلهم، وهم يُغنُّون جذلين ينعش نفوسهم نسيم الصباح، ويبعث فيهم النشاط والهمة.
وتشتد حرارة الشمس بعد ذلك، فإذا لم تكن هنالك ريح تكسر من شدة حرارتها، نزع الإنسان ما التحف به من الغطاء حول أذنيه وعنقه، وانتهى به الأمر إلى خلع جرده ووضع ما نضا من الثياب على ظهور الجمال، ثم أخذ الجميع يتبادلون النُّكت ويتسابقون في العَدْو، وهم فَرِحون ناشطون ثم يلتئمون بعد ذلك جماعات، على طول القاقلة، ويتساجلون الحديث في مختلف الشئون، وكثيرًا ما كنت أتقدَّم القافلة، أو أتعقَّبها على مسافة، كي ألاحظَ دقَّة اتجاه المسير بالوحدة، وأشعر بالوحدة وأنعم بجَمال الصحراء.
وينتصف النهار، فتُخامِرني بعضَ الأحيان ذكرياتٌ بعيدة تقطع عليَّ خطَّ التفكير في جَمال الطبيعة، فيتمثَّل لي غشياني المطاعم المألوفة في المدن البعيدة، واستمتاعي بمختلف ألوان الأطعمة التي أتشهَّاها في تلك الساعة من النهار، فيبغتني أحمد أو عبد الله في هذه الآونة، فيضع في يدي كيسًا من البلح يمحو هذه الأحلام، وإن كنت ألتهم ما فيه بشهية، لا أقبل بمثلها على طعام في بلاد الحضارة والمدنية والرفاهية.
ولا نقف السير لتناول الغداء؛ لأن الجِمال تأكل مرَّتين في النهار.
ومتى حللنا بواحة عمدنا إلى أخذ حاجتنا من الخبز؛ ولذا فإنه يكون طريًّا عادة عند خروجنا من الواحات، ويصيب كلٌّ منا رغيفًا أو نصف رغيف، حتى إذا طال بنا السير بين واحة وأخرى جفَّ الخُبْز أو نَفَد، فقنعنا بالبلح الذي لا ينقطع عنا مَوْرِدُه.
وكان من عادتي أن أضع خيمة مطويَّة على ظهر جَمَل من جِمال القافلة، حتى يرقُدَ عليها كلُّ مُتعَب من السَّيْر فيستريح، وكان يُسمِّيها أحمد «الكلوب»، وإني لأذكر أن عبد الله الْتَمَسَنِي ذاتَ يوم ليعطيني نصيبي من الخبز والبلح، فسأل أحمد: «أين البك؟» فقال له أحمد، وهو يغمز بعينيه: «إن البك يتناول غذاء اليوم في الكلوب.» وقد يمتطي الإنسانُ بعيرَه فيغفو قليلًا على ظهره، ولكنه يفضِّل المشي؛ لأن سير الجمل بطيء يمكِّن صاحبه من ملازمة القافلة، وكثيرًا ما يكون السير على الأقدام أقلَّ إنهاكًا للقوى من الركوب.
وقد يلُوح طول اليوم مجرى من الماء يبرق أمام القافلة عند الأفق، ولكن هذا المجرى الموهوم لا يقرب من رائيه، ويظل يغريه ببرودة مائه وعذوبته، حتى إذا جنحت الشمس للغروب انمحى السراب الذي خدع الأبصار طويلًا.
ويلوح نوع آخر من السراب في بكرة النهار، فتتراءى البلاد النائية معكوسة في السماء على مقربة من خط الأفق، وليس هذا النوع من السراب خداعًا للبصر كسابقه، ولكنه صورة منعكسة للبلاد الواقعة على مسافة عشرات الأميال، قدَّام رائي السراب، وتنمحي هذه الصورة بغتة إذا توسطت الشمس كبد السماء.
ويؤثر انعكاس الأضواء تأثيرًا عجيبًا في نواحي الصحراء، فيبدو الحجر الصغير على بعد مِيل، صخرة كبيرة قائمة كأنها علم من أعلام الطريق، ويتشكل هيكل الجمل أو الإنسان أو جزء من ذلك الهيكل بأشكال غريبة. ولا تخدع البدوي هذه المظاهر؛ لأنه خبرها طويلًا، أما القول بأن السَّراب يغر البدويَّ ويضله طريقه ويُورِده موارد الهلاك فقول مبالغ فيه؛ لأن المتعود قَطْعَ الصحراء يميز السَّراب الحقيقي، وقد يتبين البلاد من رؤية صُورِها المنعكسة في صفحة السماء فيساعده هذا على السير.
وتشتد الحرارة بعد الظهر فيبطؤ سير الإبل ويغشى القافلة هدوء وفتور، فإذا قرب المساء وبرد الجو جدَّت الإبل في السير، واندفعت قبل أن تحِين ساعة ضرب الخيام وحداها الرجال بالغناء يستحثونها للمسير، فأسرعت هاشَّة لهذا التشجيع.
وأغاني البدو بسيطة شعرية تنم عن حياة الصحراء، فتمثل إحداها بدويًّا ينتظر القافلة المنشودة في إحدى الواحات ويغني إبلها المقبلة بما يأتي:
ثم يغني بجماله فيقول:
ويخاطب جماله فينشد:
ويحدث آخر جماله فيقول:
أما الأغنية التي أنقلها فيما يلي، فتمثل مكان الجمل من نفس البدوي، فهو أعز ما يملك وأضن ما يجود به، وهو لا ينزل عنه حتى يموت في سبيل المحافظة عليه، وقد يتحين البدوي الفرص للثأر من قاتل أخيه أو ابنه، ولكنه إذا ضاع جمله هامَ على وجهه فلا يقر له قرار، حتى يسترجعه ولو سفك في سبيل ذلك دمه، والمثل البدوي يقول: «اللي ما يصونها ما هي له.» وهذا ما يحدو به البدوي تنويهًا بجمله وافتخارًا به:
والبدوي ينشد من الأغاني ما يوافق الظروف التي يتغنَّى بها، فينشد الأغنية الأولى إذا طالت عليه الشقة إلى الواحة التي ينشدها، ويغني الثانية إذا قرب من الأصقاع التي تتناثر فيها تلال الرمل، وينشد الثالثة والرابعة إذا أشرف على بئر، ويتغنَّى بالأخيرة إذا دخل أرضًا يسكنها أعداؤه.
وكان من دأبي إذا حلَّ وقت الغروب، أن أسير على مقربة من الدليل؛ حتى أعينه على السير في الطريق السويِّ بواسطة إبرة البوصلة؛ لأنه قد يخطئه قبل أن تطلع النجوم، فيهتدي بها، ثم ينتشر الظلام فيُعطَى الدليل سراجًا نسير على نوره الضئيل في تلك الحُلْكَة الشاملة، وكان كلما ابتعد عنا نوره وراغ منا، ازددنا إسراعًا في محاولة اللحاق به، وتحب الجِمال خاصة أن ترى السراج ينير في أبصارها وتندفع إلى الأمام في أثره.
وهكذا، تمضي بنا اثنتا عشرة ساعة أو ثلاث عشرة ساعة ونحن سائرون، وقد تعاكسنا المقادير فلا نسير هذا الزمن الطويل، ثم تنتهي مرحلة اليوم، وتحين ساعة حط الرحال، فينادي الدليل: «الدار يا عيَّان» ويكرر هذا النداء بعده جميع رجال القافلة، ثم يضمون جمالهم ويقسمونها جماعات بين حاملات الماء، وناقلات الخِيَام، وحاملات الحوائج المُعَدَّة لعمل المتاريس، وتَبْرُك الجمال راضية عن دنو الساعة التي ترتفع فيها الأثقال عن ظهورها، وتأخذ الرجال في رفع أحمالها، فأُشرِف على ذلك بنفسي، خوف الإهمال، فقد تتهاون الرجال بعد جهد السير في إنزال الصناديق التي تحوي أجهزتي العلمية وآلات التصوير، فيحطمون ما فيها، وتُصَفُّ الحوائج على شكل سدٍّ يدفع الريح إن كانت شديدة الهبوب، وتُنصَب الخيام على شكل مثلث، إلا إذا كان الجو صحوًا والريح رخاء. ولست أدري أي الوقتين أحب إلى نفسي وأمتعها، أهو وقت ضرب الخيام بعد سفر يوم طويل، أم وقت فَكِّها في الصباح استعدادًا للمسير؟!
ثم تُوقَد النار وتتصاعد ألسنة الوقود فتُلقِي ضوءَ لهبها على الرِّمال وتضطرم، فيكون أول همِّنا الشاي الذي أُقَدِّر فائدته وأذوق لذَّاته، رغم اسوداد لونه ومرارة طعمه؛ فإن البدوي يأخذ «حفنة» من أوراق الشاي وأخرى من السُّكَّر، ويلقي بهما في وعاء الماء حتى إذا غلى ما فيه، رفعه عن النار ووزَّع أكوابه على إخوانه؛ فجدَّد نشاطهم وأنعش نفوسهم وَقَوَّاهم.
ويشرب الرجال الشاي، ثم يُعِدُّون العَشاء ويتناولونه ويعلفون إبلهم ويستعدُّون للنوم، أما أنا فأكون في ذلك الوقت منهمكًا في مقارنة الساعات الست التي أحملها، وتقييد الصُّوَر التي أخذتها سحابة اليوم وتغيير «أفلام» السينما في الظلام، ووضع أسماء العيِّنات الجيولوجية التي جمعتها، وترتيب مواضعها، وكتابة يومياتي وملاحظاتي العلمية وغيرها. ولم أكن لأقوى على القيام بعمل كل هذا، لولا ما دبَّ في أوصالي من تأثير الشاي، وربما نشطتني أكوابه فأحسست ميلًا إلى التجول في الصحراء، فإذا لم تكن الريح باردة سرت نصف ميل، وأنا أُدِير البصر من وقت لآخر، فأرى أشباح الرجال فوق أديم السماء عند الأفق. ويبدو لعيني فيملك لُبِّي منظرُ الخيام المتقاربة والحوائج المكدَّسة والجِمال الباركة، ينعكس على كل ذلك بصيص النور المنبعث من النار الخامدة، في وسط ذلك المنبسط المنتدح من الرمال. ويغمرني السكون من جميع نواحيَّ، فلا أسمع همس النسيم بين الأغصان، ولا خرير الماء في الغدران كما يسمعها المنفرد في الأحراج الملتفة الأشجار، ولا يقع في أذني صوت الأمواج وهي تتكسَّر على جوانب السفينة، كما يُصغي إليها راكب البحر: