الطريق إلى بئر الظيغن
سأقيد من الآن فصاعدًا ما كتبته في يومياتي يومًا بعد يوم.
الأحد ١٨ مارس
قمنا الساعة التاسعة صباحًا ووقفنا الثامنة والنصف مساء، قطعنا ٤٦ كيلومترًا، وكانت أعلى درجة للحرارة ٢١ وأسفلها ٣، كان اليوم غائمًا والمساء صحوًا، أمطرتنا السماء رذاذًا بعد الظهر، وثارت ريح عاصفة من الشمال الشرقي تحوَّلت إلى زوبعة رمال في منتصف الساعة الثالثة، وسكنت الريح عند الغروب، ثم ثارت ثانية في الثامنة مساء، الشمس غائبة والدليل حائر بعض الحيرة في تحديد الجهات، كما أتبيَّن ذلك من ملاحظة البوصلة، ظهرت الشمس في منتصف الساعة السادسة، فأقام الدليل معوج سيره، ظهرت نجمة القطب في السابعة والنصف فاهتدى بها، وَيُسَمِّي العرب هذا النجم «الجدي». الأرض منبسطة كعهدنا بها أمس، ولكنها متموِّجة الأديم قليلًا، يتناثر عليها «أكوام الصوان» الكبير القاتم اللون.
وأصبح الصباح فطرب رجال القافلة حين رأوا عند الأفق عقدًا من الأشباح ينبئ باقتراب طليعة قافلة، وتحققت القافلة بمنظاري، وأدرته على الرجال فنزعنا البنادق من أماكنها على ظهور الجمال، وأسرع رجال «التبو» إلى رماحهم، واصطف الجميع على ناحية القافلة القريبة من القادمين، وصوَّبوا الأنظار يَقِظِين يتأكدوا من سلام القادم أو عدائه.
ولم يمضِ بنا القليل حتى تيقنا صداقة القادمين، فتلاقى رجال القافلتين وجلسوا القرفصاء يتبادلون الأخبار، تاركين جِمالهم تسير بطيئة الخطو، وكان الحديث دائرًا عَمَّنْ تزوَّج أو مات أو أثرى متناولًا ما نشأ من طلب ثأر جديد، ومَا قَرَّ من عداء قديم، ثم قام الرجال مُوَدِّعين داعين بالتوفيق، ولحق كل فريق بقافلته، ولعمري إن هذه المقابلة الهفافة في صميم الصحراء هي عند العرب بمثابة البرقيات اللاسلكية.
الاثنين ١٩ مارس
قمنا الساعة الثامنة والربع صباحًا وقفنا في الثامنة والنصف مساء، وقطعنا ٤٩ كيلومترًا، وكان أعلى درجة للحرارة ٢٢ وأقلها ٥، وكان الجو صحوًا جميلًا، وقامت ريح قوية من الشمال الشرقي، وقرَّت عند الظهر، وانتشر في العصر سحاب صبير، وكانت الشمس شديدة الحرارة تَعُوقنا عن الإسراع في السير، حتى إذا حلَّ المساء، رطب الجو، فجددنا في السير، وكانت الأرض منبسطة صلبة يكسوها بساط من الحصى الرقيق. وفي السادسة مساء، قطعنا منخفضًا من الأرض قد قامت على جانبه الأيمن صخرة رمادية اللون، وقامت على بعد كيلومتر منها إلى اليسار صخرة بيضاء.
كنا في هذه المرحلة نَخُبُّ في السير، وكان البدو والعبيد يتسابقون ويقفزون، وعبيد التبو سُذَّج على الفطرة سليمو النية فقراء، حريصون على ما يملكون فيلبسون قميصًا من القطن وسروالًا يحافظون عليهما كل المحافظة، ويتمنون لو ظلًّا على أجسادهم أبد الدهر، فإذا امتطى أحدهم جملًا خلع سراويله خشية أن تبلى أو تتقطع، ثم علقها على ظهر الجمل، فإذا أراد النوم خلع ملابسه خيفة أن تَحتَكَّ بالرمال فتبلى، ويكتفي بالالتحاف بمعطفه الفرو. وحدث أن البدو أخذوا سراويل أحد العبيد وهو على ظهر جمله، ثم أخفوها فلما ترجَّل والتمسها فلم يجدها، خاف أن تكون قد زلَّت عن الجمل وسقطت على الأرض في بعض نواحي الطريق، فأسرع بالعودة جاريًا ملء ساقيه يبحث عن ضَنائنه، وأوغل في الصحراء حتى لم يبن منه إلا شبح ضئيل في ذلك المنبسط الممتد من الرمال؛ فأشفقنا عليه وأطلقنا النار ندعوه، فعاد بعد تردد وانضمَّ إلى القافلة كاسف البال، غير أن طرب المازحين به كشف له سرَّ الأمر فَرُدَّت إليه سراويله، وكان سروره باسترجاعها شديدًا فلم تغظه تلك المداعبة الثقيلة.
وحدث في الليلة الماضية أن أغار الجِمَال على خيمتي وهددتني بهدمها عليَّ، والإبل دواب شديدة الذكاء تحب أن تَحُكَّ رقابها على حبال الخيام فإذا نام رجال القافلة، جاست خلال الخيام تطلب ذلك، فيدخل أحدها رأسه من ثنايا الخيمة حتى يتحقق نومي، فإذا لم يسمعني أنهره، علم أني غارق في سبات عميق، فأخرج رأسه ثم بدأ في حكِّ رقبته على الحبال، وبعد قليل ينضم إليه الكثير من إخوانه، ثم يأخذ الجميع في هذا العمل حتى أفرغ من نومي ظنًّا مني أن العواصف الشديدة تزعزع أركان خيمتي.
ومرت بنا الأيام فما ازددت إلا وثوقًا بأبي حليقة وتقديرًا له، فقد كان رجلًا قليل الكلام ذا قلب كبير ونفس خيِّرة، وكان موضع احترامنا جميعًا لكبر سنه وشيبه؛ لأن رجال الصحراء يجلون رجل التجاريب الذي لقنته السنون دروس الحكمة؛ ولذلك كنت أنا والسيد الزروالي نستضيء برأي أبي حليقة من وقتٍ لآخر، وكان حاذقًا في عرض آرائه عليَّ، وكانت من العقل بحيث أقدرها حقَّ التقدير، وكان دائم العناية بِجِماله، لا يني سحابة يومه عن إرسال صوته الرنان في الفينة بعد الفينة يخاطب رجاله أو جِماله، فيقول لعبده إبراهيم: «إن الجمل الأبيض تعب؛ فلتخفِّف بعض أثقاله في الغد وتضعها على ظهر الجمل الأسمر.» ثم يلتفت إلى بقية الرجال، فيقول: «ناجوا الجمال أيها الرجال وغَنِّها صوتًا يا إبراهيم.» وما أصدر أبو حليقة هذه الأوامر إلا لعلمه أن التشجيع يدفع الإبل إلى الإيجاف في السير، ثم ينادي جماله فيقول: «ابتغي الدليل أيتها الإبل العزيزة.» وينظر إلى حمد فيقول: «ناشدتك الله يا حمد إلا عدلت سرج هذا الجمل فإنه يؤذيه.» ويظل على هذه الحال من الإشراف على القافلة، حتى إذا انتشر الشفق قال: أوقدوا السراج؛ فإن الجِمال تحب النُّور.
وإنما تظهر قيمة الجمل بعد اختبار طويل، فهو ذكي كالجواد إن لم يكن أذكى منه، وهو أطيب منه نفسًا في بعض الأحايين؛ فإن العرب تقول بحق: «هذا الرجل صبور كالجمل.» وإن آذى رجل جملًا حمل الأذى في نفسه، ولم ينتقم على الأثر، ويصبر له حتى يتكرر الأذى منه، فيفكر في الانتقام ولا يوقعه به والقوم حوله، بل ينتهز فرصة انفراده به ليجزيه الجزاء الحق، فَيُغِير عليه ويلقيه على الثرى أو يرفسه ثم يطأه بخُفَّيه.
وقد حدث أن جملًا داس أحد الرجال ثم بَرَك عليه وأبى أن يتحرك عنه، رغم ما لاقى من ضرب رفقاء ذلك التَّعِس الذين جَرَوا لإنقاذه، وظل الجمل باركًا فوقه حتى مات.
وقد يظن البعض أن جمال القافلة يُربَط بعضها إلى بعض ويقودها الدليل، ولكن الواقع أن الجمل يصعب إبعاده عن بقية القافلة؛ لأنه يَعرِف بغريزته أن تركه وحيدًا يجلب عليه الموت؛ ولذلك يظل ملتصقًا بالقافلة جهد الطاقة، وإن لم يُربَط إلى سائر إخوانه.
ومن آلم المناظر رؤية جمل جهد في الطريق، وهو يحاول اللحاق بالقافلة؛ فإنه يحكي إذ ذاك الجندي المحارب أثناء التقهقر، يعتريه الجهد والإعياء فلا يستطيع مسايرة إخوانه الجنود، وهو في الوقت نفسه يعرف أنه ليس في ميسور أحدهم أن يحمله ويسير له، كما يعرف أن في التخلف عنهم موته المحقق.
ويُظهر الجمل ذكاءً شديدًا بعد إخراجه من الواحة والقذف به في الصحراء؛ فإنه يحاول في المساء أن يتسرَّب فيعود إلى الواحة، وإن مرَّ على تركها ثلاثة أيام أو أربعة، وقد وقعت غيرُ مأساة للقوافل التي تركها جِمَالها ليلًا ضاربة في أحشاء الصحراء، أو قافلة إلى معاطنها والرجال على بعد أيام من البلد الذي يقصدونه، وربما حدث حادث للقافلة يمنع رجالها من إتمام رحلتهم، فتتمها الإبل التي طرقت تلك السبيل سنين عديدة وخبرت دروبها.
وقد حدث بينما كنا نقترب من جالو بعد تركنا خيام البدو الذين استكرينا ثلاثة من جمالهم، أن جملًا فتك به الداء وانقطع أملنا منه، فَقَسَّمَ أصحابه حمله على الجملين الآخرين، وَتُرِكَ في الصحراء رغم إلحاحي عليهم بقتله ليرحموه من آلام الموت البطيء، وقد عرضت عليهم ثمن الجمل، إن سمحوا لي أن أقضي عليه ولكنهم رفضوا قائلين: «إن هذا الجمل كريم الأصل، وهو منهوك القُوَى لا يلبث أن يعود إلى خيامه بعد أن يستريح.» وقد علمت بعد ذلك أن الجمل عاد فعلًا إلى معطنه، وأنه أجود صحة.
ويحسُّ الجمل أن له دليلًا، فإذا وقفنا في وسط الصحراء نتناقش في أمر السبيل الذي نسلكها، اجتمعت الجمال حول الدليل حتى يسير، فتتبعه غير حافلة بسائر رجال القافلة.
ولا يتقدم الجمل الدليل في العادة، فإذا سار قدامه غير حافل به، فاعلم أن الصلاح في اتباع ذلك الجمل؛ إذ من المحقَّق أنه يعرف المكان الذي تريده القافلة.
ويقول البدو: إن الجمل الذي رعى مرة في واحة لا يُخطئ السبيل إليها، وإن فصلتهما الأيام الطوال، وللبدو قصة منافسة مشهورة يزعمون أنها وقعت بين قطاة الصحراء والجمل. تقول القطاة: «إني لأضع بيضي في الصحراء وأطير أيامًا ثم أعود لفقسه.» ويجيب الجمل: «إن أمي إذا شربت من بئر ولم أزل في بطنها سافرت أيامًا، ثم عدت فشربت من نفس البئر.»
وقد رأيت بعيني جملًا تقدَّم القافلة ونحن على مسيرة أربعة أيام من بئرٍ ذاق ماءها قبل ذلك بأربع سنوات، ويعرف الناس قصة عن جمل أنقذ قافلة في سفرها من الواحات الداخلة إلى واحة العوينات، كان دليل تلك القافلة موغلًا في الصحراء متبعًا في سيره وصف أحد أصدقائه فأخطأ السبيل؛ لأنه لم يطرقها من قبل وهامت القافلة على وجهها اثني عشر يومًا، ونفد الماء وفقدوا الرجاء، فاندفع الجمل بغتة وتقدم القافلة، فسارت في أثره ونجت؛ لأن ذلك الجمل سافر إلى العيونات قبل ذلك ببضع سنين، فنشق الماء، كما يقول البدو، على مسيرة يومين وأوصل القافلة إلى إحدى الآبار.
ويستطيع الجمل المتدرب أن يسافر أسبوعين في الشتاء من غير أن يذوق الماء، وقد يصبر في الصيف اثني عشر يومًا، ويعلف البدو جمالهم حشيشًا إذا أمكنتهم الفرص حتى إذا رموا بها في الصحراء أطعموها بلحًا جافًّا أو شعيرًا. وأغلب جمال برقة إبل «حملة»، وأسرع الإبل عدوًا جمال قبيلتي «التبو» و«الطوارق» التي تمتاز ببياضها ونحافة أوصالها ورشاقتها، ويقطع جمل الحملة ٢٥ ميلًا في اليوم، ويسير الهجين الطوارقي أربعين ميلًا، وربما قطعن ستين دفعة واحدة.
وقد يكون الجمل مخلصًا لصاحبه محبًّا له، فإن الناقة الكريمة لا ترضى ممتطيًا لها غير صاحبها، والعادة أن يُحْمَل الماء على ظهور الجمال الْمُسِنَّة الرزينة التي لا يُخْشَى من نزاقتها على ما تحمل من الْقِرَب، وهي تعلم أنها تحمل أعزَّ حوائج القافلة، فإذا انتهى سير اليوم، وحانت ساعة رفع الأحمال، انتحت ناحية بعيدة عن بقية الجمال؛ خوفًا على الْقِرَب التي تحملها من الاصطدام وانبجاس ما تحمله من الماء.
وقد رأيت جمالًا تحوم حول الخيام، ثم تقترب من قِرَب الماء الملقاة على الأرض بعضها إلى بعض، وهي مغطاة بحيطة وتحفظ؛ حتى لا تطأها بأقدامها، كأنها تشعر بقيمة تلك الْقِرَب، وأهمية ما تحويه من المياه فتدور حولها. وقد اخترت جملًا فأخذته مدة طويلة يحمل خيمتي وكتبي وأجهزتي العلمية، وإنما وقع اختياري عليه لقوته وكبر سنه، وكان من عادته إذا أصبح الصباح وبدأت عملية التحميل أن يقصد خيمتي من تلقاء نفسه، ثم يبرك بالقرب منها؛ انتظارًا لوضع الأحمال فوق ظهره.
والجمل بعل غيور والناقة زوج مخلصة، والناقة لا تترك سيدها ووليها من الجمال فتتبعه أينما ذهب، والويل للجمل الذي تحدثه نفسه بالاعتداء على ناقة جمل آخر.
وقد اعتدتُ كل صباح ومساء أن أساير أبا حليقة وأحادثه عن الجِمال والصحراء وتاريخ البدو، فكنت لا أجبهه بالأسئلة تفاديًا من إساءته الظن بي؛ لأن البدو سريعو الريبة يشكون في الدافع إلى سؤالهم، وكنت رغم حبي للعرب وبلادهم، أجد نفسي مضطرًّا إلى تجنب ما يثير الشكوك، والتحايل في الحديث على فهم الكثير من الآراء والمعلومات.
وقد قال لي ذلك الشيخ الوقور: «أتى على قومنا حِينٌ من الدهر كانوا يجهلون فيه الكفرة، ولاحظ بدوي من قبيلة الغوازي في الأبيض — وهي واحة صغيرة قريبة من بئر أبي الطفل — أن غُرابًا دأب على الطير صوب الجنوب، كلما أشرقت الشمس، والعودة ثانية بعد ذلك، فراقبه البدوي زمنًا طويلًا، ثم قام يتبعه في مطاره إلى الجنوب، وأوغل في الصحراء حتى وصل واحة «تيزربو» فقضى أيامًا في ظاهر الواحة، ولقي الماء الذي يرجعه إلى وطنه، فرجع وأخبر إخوانه بوجود نخيل وماء في صميم الصحراء، فاجتمعوا وأغاروا على «تيزربو» وافتتحوها، ثم تقدموا إلى «بوزيمه» و«ربيانه» و«الكفرة»؛ وهذه هي الطريقة التي وصل بها البدو إلى الكفرة.»
وراقني جواد أبي حليقة منذ رأيته أول مرة في جالو، فتاقت نفسي إليه، وسأل عبد الله إن كان في الإمكان شراؤه، فطلب فيه صاحبه ثمنًا باهظًا؛ ولذلك أظهرت عدم الاهتمام وتركت الأمر للظروف. وكان أبو حليقة لا يسمح لأحد من أفراد أسرته بركوب هذا الجواد؛ لأن كرامته لا ترضى ذلك ولكنه تفضل فسمح لي أن أمتطيه كلما أردت الركوب، فأكثرت من ركوبه حتى خُيِّل أني صاحبه دون أبي حليقة.
وتعب ثلاثة من الجمال فبركوا من غير أن يأذن لهم أحد، وليس من عادة الجمال أن تفعل هذا، ما لم يكن هناك سبب قوي، فرفعنا أثقالهم طلبًا لإراحتهم، وأضعنا بعض الوقت في ذلك، ولكنا استعضنا ما فقدناه في نسيم المساء.
وقد وضعت نُصب عينيَّ أن أحادث يوميًّا كل رجل من رجال القافلة؛ فسهَّل ذلك مجرى الأمور، ومكَّنني من استقاء بعض المعلومات من وقت لآخر، فعلمت أن البدوي يميز أثر جماله ويمكنه أن يتبين إن كانت الجمال التي سبقته في الطريق ملكًا لرجال قبيلة مجاورة له أم لا. ويُعرَف أيضًا جمال التبو من شكل أخفافها واقتفاء خطواتها، وجمال التبو أصبر جمال البدو على السير، ويمكن استخدامها في الشمال بصحراء برقة، وفي الجنوب بأراضي السودان، والكفرة محطة لاستبدال جمال القوافل التي تسير شمالًا وتنحدر جنوبًا.
وقد أخبرني الدليل أبو حسن بحيلة يعملها البدو حين يطلقون جمالهم أو ماشيتهم ترعى، فإنهم يحلبون الإبل والماعز في الصباح ويدفنون قِرب اللبن حتى يظل رطبًا، ولكن لصوص الصحراء من المهارة بحيث يعرفون مخابئ هذه الْقِرَب؛ ولذلك يدفن العربي الماكر قِرْبتين إحداهما تحت الأخرى، ويملأ السفلى منهما لبنًا عذبًا والعليا لبنًا حامضًا، ويقع اللص على الْقِربة العليا فلا يبحث عن غيرها، وهكذا يجد صاحب الْقِرَب لبنه العذب سالمًا عند عودته مساء.
ورأينا أسرابًا من صغار الطير تخفُّ إلى الشمال، وكان بعضها من التعب بحيث أقبل على ما قدَّمنا له من الماء، وقد جثم أحدها على يدي ليشرب، ويرى الإنسان على مقربة من الآبار النزرة الماء، نثارًا من الأجنحة والريش والعظام، يفصح عَمَّا حدث لأصحابها من مأساة. فقد تكون هذه البقايا آثارًا لبعض الطيور الرَّحَّالة، التي وقعت على البئر وقضت أيامًا على حافتها تسترد قواها لاستئناف المطار، وتعيش على الماء الذي لم تجد صعوبة في الوصول إليه؛ نظرًا لأن بعض القوافل حفرت تلك البئر حديثًا، وتأنس الطيور إلى تلك البئر، ثم تنهال الرمال عليها شيئًا فشيئًا حتى تملأها، فيجف الماء ولا يبقى من البئر إلا ثرى من الرمل ندي، فتموت الطيور عطشًا. وربما وصلت الطيور إلى تلك البئر الجافة وقد أنهكها التعب، فعجزت عن الطيران مائة ميل أو مائتين للبحث عن الماء، فظلت مكانها حتى تموت عطشًا.
ومررنا في الساعة العاشرة والنصف صباحًا بتلال من الرمل تُسَمَّى «الخويمات»، على بعد ثمانية أو عشرة كيلومترات من يسارنا، وكانت هذه التلال، كاسمها، تحكي خيامًا صغيرة بيضاء قد نُصِبت على رمال الصحراء. وفي منتصف الساعة الخامسة مساء، رأينا عن يسارنا على بعد ثلاثين كيلومترًا، علمًا يُسَمَّى «الفريِّق» أي فريق صغير من التلال المتجاورة؛ وهو عبارة عن أربعة تلال رملية على صفٍّ واحد. وفي الساعة السادسة وربع، لحظنا قمة علم آخر في الجهة الجنوبية الشرقية يُسَمَّى «المعزول»، وقد سُمِّيَ كذلك لأنه بمعزل عن بقية التلال، وكان هذا العلم غير واضح لبعد المسافة.
وقد أنعش نفوسنا رؤية هذه الأعلام، واستدللنا منها على تقدمنا في السير، وزاد فينا اليقين أن دليلنا رجل قادر بالرغم من أن البدو يقولون في أمثالهم: «لا يُعْرَف الدليل الماهر إلا بعد الوصول إلى البئر.» ولهم الحقُّ في ذلك؛ لأنهم في الطرق الخالية من الأعلام لا يتحققون صدق الطريق إلا في نهاية المرحلة.
وأظهر السنوسي أبو حسن حدَّة بصره العجيبة، حين أخبرنا في بكرة الصباح قبل حل خيامنا أنه رأى علم «الخويمات» رغم ضباب الصباح، ولم يتمكن رجال القافلة من تحقيق هذا الخبر حتى رأوا العلم بأعينهم بعد ذلك ببضع ساعات، ومررنا في طريقنا في العصر بهياكل بيضاء لبعض الجمال، فكان لذلك في نفوسنا فرح شديد، ولا عجب في ذلك فالبدوي يحب رؤية عظام الجمال لسببين أولهما: أن أي شارة تدل على مرور أحد قبله تشجعه على السير في تلك المفاوز المتشابهة، وثانيهما: أن عظام الجمال أكثر ما تكون على مقربة من الآبار؛ لأن الجمال أكثر ما تكون تعرضًا للموت في نهاية الرحلة، حين يرهقها أصحابها وقد عزَّ الماء، ولا يحب البدو أن يستعملوا كلمة هيكل للدلالة على بقايا تذكِّرهم بالموت؛ فيطلقون عليها كلمة غزال.
الخميس ٢٢ مارس
صحوت في منتصف الساعة السادسة صباحًا، فشاهدت شروق الشمس عند الساعة السادسة و٢٧ دقيقة وقيَّدت ذلك، وبدأنا السير في الساعة الثامنة فقطعنا ٤٨ كيلومترًا في أراضي منبسطة من الرمل المتماسك والحصى، وقد ظلت تلال «المعزول» طول الصباح عن يسارنا على بعد ٢٥ كيلومترًا، ولكنا تجاوزناها بعد الظهر.
وقد سمعت في الصباح مناقشة بين الزروالي وعبد الله في أمر تلك الأصقاع الممتدة التي كنا نقطعها.
قال الزروالي: «إن أرضنا مقدسة.»
فردَّ عليه رجل مصر ساخرًا قائلًا: «نعم؛ إن لها مستقبلًا عجيبًا، وإني لأعتقد أن سيكون فيها موقف الحشر؛ لأنها المنطقة الوحيدة التي أوجدها الله سبحانه وتعالى حفراء قفراء واسعة بحيث تسع العالمين.»
وكان عبيد التبو يجرون يمينًا ويسارًا ويتقدمون القافلة للبحث عن روث الجمال؛ ليتخذوا منه وقودًا، فقد اعتادوا أن يعيشوا بمعزل عن بقية أفراد القافلة، ومالت نفوسهم إلى الاستئثار بنار خاصة، يوقدونها ليلًا على مسافة قصيرة من مضرب الخيام. وكان روث الجمل كل ما تصل إليه أيديهم من الوقود، فكانوا يستفيدون من سرعة عَدْوهم، ويحيدون عن طريق القافلة مسافات، بلغت أربعة أميال في بعض الأحايين للبحث عن هذه المادة الثمينة!
وكان البدو لا يرضيهم عادة هؤلاء العبيد من سبق القافلة وجمع الروث، ولكن العبيد لم يخرجوا في ذلك عن قوانين الصحراء التي تقول: «إن أول مَنْ يضع يده على شيء في الطريق مالك له بدون منازع.» ولكن البدو كان لهم حجة يدفعون بها هذا الحق، فكانوا يقولون للعبيد: «ليس لكم دليل يتقدمكم، ولا أنتم راضون أن تتقدموا القافلة خوفًا من حمل جمالكم على السير بضرب العصى، وتنتهزون الفرصة فتتركونها لأنها تتبع جمالنا، وتجرون لجمع الروث؟» ويقول العبيد: «تريدون أن نقود جمالنا فتسبقونا إلى جمع الروث الذي هو ملك لنا؛ لأنَّا أول مَنْ يعثر به وأنتم سائرون إلى جنب إبلكم.» واشتد النزاع بينهم فسألوني حكمي، فقضيت أن الحق في جانب البدو، وأن ليس للعبيد حق في الاستئثار بالروث، ولكني مع هذا كنت لا أمنع إعطاء العبيد طعامًا ساخنًا من المؤن العامة كل مساء؛ لفقرهم المدقع، ولقلة ما لديهم من المؤن التي جاءوا بها لأنفسهم.
ويختلف عبيد التبو عن البدو في كثير من الخصال والعوائد؛ فالعبيد قلما يستعملون النار في تحضير طعامهم، وإن أَنِسوا إليها وفرحوا بها وهم يُجفِّفون لحاء النخلة عند قمتها ويطحنونه، ويصنعون من ذلك مسحوقًا يضيفون إليه بلحًا وجرادًا مسحوقَيْن، وهم لا يدعون أحدًا إلى اقتسام طعامهم كما يفعل البدو، ولا يتأخرون عن تلبية الداعي إلى طعامه، والبدو يأخذون عليهم هذه النقيصة.
وعبيد التبو يتعمَّدون أن لا يتركوا في طريقهم شيئًا من أشيائهم؛ لأنهم يخافون خرافة مؤدَّاها: أن مَنْ يلتقط شيئًا سقط منهم، لا بد أن يستولي عليهم يومًا من الأيام.
وهم قوم ذوو أجسام متينة البناء، أهل جد وعمل، ولكنهم شديدو السذاجة في نظام معيشتهم وتفكيرهم، على أنهم الآن آخذون في الاختلاط بالبدو ومحاكوهم في كثير من طبائعهم.
ومرض أحد الجِمال في ذلك اليوم، فلازمه أبو حليقة ثم حجمه عند ذيله، ورجونا أن يكون أتمَّ صحة بعد راحة الليل.
وكان معنا المقدار الكافي من الماء، فاتفقنا أن نتناول كوبًا من الشاي، فتقدمت القافلة مع أبي حليقة والزروالي وعبد الله، وأخذنا الدليل حتى يحدِّد لنا الطريق السويَّ حتى إذا صرنا على مسافة كافية، أسرعنا في إيقاد النار، وغلينا الشاي، ولحقت بنا القافلة، فناولنا كل رجل يمر بنا كوبًا من الشاي، ولم تقف القافلة عن السير أثناء ذلك حتى إذا مرَّ بنا آخِرُ الجمال، جمعنا حوائجنا ولحقنا بالقافلة، وهي تسير سيرًا بطيئًا، وكان أبو حليقة يمتطي جمله والزروالي وعبد الله يركبان جملًا واحدًا، وكنت معتليًا ظهر الجواد.
ولا يسعني هنا إلا الإقرار أن الجواد «بركة» كان شديد النفع لي في كثير من المواقف، فكنت أجمع به الإبل من مراعيها التي لا تتركها إلا بعد تردد وامتناع شديدين، وكنت أركبه لزيارة الأماكن الشيقة إذا وقفنا في واحة من الواحات، تاركًا الإبل تستريح أو ترعى، وكنت أتقدم به القافلة وأتخلف عنها؛ لعمل بعض الملاحظات أو الحصول على بعض العينات الجيولوجية، وكنت أظهر فوق متنه بمظهر لائق بشيخ في طليعة قافلته حين تدخل واحة أو تتركها.
الجمعة ٢٣ مارس
قطعنا ٣٦ كيلومترًا وهبَّت في ليلة الأمس ريح قوية من الشمال الشرقي، بدأت في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وظلت الريح تهب طول النهار، واشتدت بين الساعة الواحدة والثالثة ولم تقر إلا عند المساء، وكان الجوُّ معتدلًا صحوًا قرب المساء، ورأينا في الساعة الخامسة مساء تلال الرمل المسمَّاة «المعازيل» على مسافة ٢٥ كيلومترًا في الجهة الجنوبية الشرقية.
وراق الرجال أن يسيروا عامة اليوم، فأبدوا مجهودًا كبيرًا للبدء بالسير في الساعة الثامنة قاصدين أن يمشوا ١٢ ساعة، ولكن الجمل المريض عاقنا عن تحقيق هذه الفكرة، فقد ضعف حتى اضطررناه إلى النهوض حين حان وقت الرحيل، وهز أبو حليقة رأسه، ثم قال: «سيكون لحم هذا الجمل طعامًا لنا قبل انتهاء اليوم.» وبعد ذلك بساعتين برك الجمل وأبى أن يقوم فذبحه رجال أبو حليقة بعد ذلك بقليل، وتركنا ثلاثة رجال وجملين لحمل لحمه واللحاق بنا، ولم نكد نسير قليلًا حتى جاءني أبو حليقة يتخطر على ظهر جمله، ثم قال: «إنه جمل سمين فلنقف قليلًا.»
ووقفت القافلة لعلمي بميل البدو إلى أكل اللحوم، وأوقدت النار وأُدِيرت الشواء على الرجال، فأكلوا إلا أنا وخادمي المصريان، وسألني أبو حليقة عن امتناعي، فأخبرته أني لا أميل كثيرًا لأكل لحم جمل مريض، فقال: «إنه خير من السمك الصغير — يريد علب السردين التي كانت معنا — فقد رأينا الجمل يُذبَح، ولكن مَنْ يدري ماذا أصاب هذا السَّمَك الصغير بعد إخراجه من البحر.»
وجفف البدو ما بقي من لحم الجمل، ثم نسلوه خيوطًا دقيقة يضعونها في أرزهم وعصيدتهم بعد ذلك، وعند استئنافنا السفر بعد الظهر، قال لي أبو حسن: «سنسير حتى يغيب الهلال فنتمكن بذلك من تناول غذاء باكر عند البئر.» ولكن «الجدي» حجبته السُّحُب قبل أن يغرب القمر، فاضطررنا إلى الوقوف وضرب الخيام عند الساعة العاشرة والنصف مساء؛ خيفة أن نضل الطريق.
ولم يكن في هذا الجزء من الصحراء شيء يستكشفه الإنسان فيما يرى حوله، ولكنه يسمع في ذلك السكون نجوى نفسه، فتستجيش عواطفه، ويزيد هذا الشعور فيه أن نَسِي المدن والتفكير في العودة إليها، وعاش للساعة التي هو فيها؛ فاستمد منها كل سرور وطرب.
ورأيت السيد الزروالي عند الغروب يخط في الرمل لمعرفة البخت كما يقول البدو، وكان يرفع عينيه من وقتٍ لآخر، فيتركهما تهيجان بين ثنايا ألوان الغروب الزاهية؛ لأن البدوي لا يتمالك نفسه من أن يحب الطبيعة ويُقدِّر جَمالها.
وتعاقبت الأيام متشابهات، وكانت الصحراء خالية من الأعلام ليس فيها إلا بعض هياكل الجمال أو الحصى الصغير، حتى إنه ليُخيَّل لرائي الصور التي أخذتها في تلك الجهات في بحر سبعة أيام، أنها تُمثِّل مضرب خيام واحد صُوِّر من جهات مختلفة، وهكذا لم يكن هنالك شيء يشغل العقل، أو يقطع خيط التفكير.
يا لها من صحراء خلَّابة ساحرة، تستهوي العقول بما فيها من وحشة وعزلة! ففي تلك الفيافي المترامية، وذلك القفر الموحش، يتجرد العقل والجسم من أدران الحياة، وفي ذلك الفضاء الشاسع تقضي اليوم بعد اليوم وتقطع الليلة بعد الليلة … ويُخيَّل لك أنك ستستنفد سنوات حياتك، السنة بعد السنة، والعقد بعد العقد دون أن تجد منه مخرجًا أو له آخر، وفي تلك اللانهاية، ترى نفسك وقافلتك ذرَّة من ذرات الرمال التي تطؤها قدماك، وتتجلى لك عظمة الله وقدرته، وتتضاءل نفسك في عينيك، وتشعر بأن وسائلك في المدن لا تغني فتيلًا في الصحراء، وتحس أنك ضعيف الحَوْل، قليل الحيلة، لا سبيل لك إلا أن تهديك يد القدر.
السبت ٢٤ مارس
صحونا متْعَبين في الخامسة والنصف صباحًا؛ لأننا لم ننم ليلة أمس إلا الساعة الثانية صباحًا، وكان اليوم صحوًا، وهبَّ نسيم من الشمال الشرقي في الصباح، وقرَّ عند الظهر فزاد في دفء الجو، وقامت ريح شديدة من الشمال الشرقي في العاشرة مساء.
وأخذت نواحي الصحراء تتغير قليلًا منذ التاسعة والنصف صباحًا، فزادت نعومة الرمل وتجعد أديم الصحراء قليلًا، ومررنا في الساعة العاشرة بأكوام من الحجارة السوداء في تلك الهشمة التي ظللنا نراها سحابة اليوم، ورأينا عند الظهر عن يميننا أول أكداس الحطب في وادي الظيغن، وحططنا الرِّحال في الساعة الثانية إلا ربعًا لتناول طعام ساخن، وكان ذلك على مقربة من الحطب الذي لقيناه في تلك الساعة؛ لأن وقودنا كان قد نفد في اليوم السابق، فلم نتناول شيئًا ساخنًا منذ صباحه، وشاهدنا في الساعة الخامسة والربع تلالًا من الرمال على بعد ٤٠ كيلومترًا في الجهة الجنوبية الشرقية، وكانت هذه التلال على هيئة خطٍّ منحدر إلى الجنوب صوب وادي «الظيغن»، وفي منتصف الساعة التاسعة لاحظنا ازدياد أكداس الحطب في تلك المنطقة.
وقد رجونا عند بدئنا السير في الصباح أن نصل «الظيغن» ذلك اليوم، ولكن رجاءنا خاب، واختلفت الآراء في معرفة السبب الذي دعا إلى ذلك التأخير، فقال أبو حليقة: «إن الدليل قد حاد غربًا عن جادة السبيل، وإلا كنا وصلنا البئر قبل هذا.» ولكن السيد الزروالي الذي اختار الدليل دافع عنه، فقال: «إنَّا أضعنا وقتًا في ذبح الجمل وشيِّه وأكله.» وفسَّر حامد ذلك التأخير، فقال: «إن الرجال لا تستحث الجِمَال للسير؛ فإن بعضهم يغفى طويلًا في الطريق، ثم يصحو على مهل فيرى القافلة لم تغب بعدُ عن بصره.» وإنما قال حامد هذا لأن بعض البدو كان يخرج عن خطِّ القافلة، ثم يغفى نصف ساعة أو أكثر، حتى إذا صحا لحق بالقافلة، من غير جهد شديد؛ نظرًا لبطء السير ووجود أثر القافلة على الرمال.
وقد ذكرت إذ وقفنا النار لِطَهي أول طعام ساخن نتناوله بعد مرور ثلاثين ساعة، أن تلك الجهة هي التي ضللنا فيها الطريق في رحلتنا السابقة إلى الكفرة سنة ١٩٢١.
وبعد الفراغ من تناول الطعام تركنا داود عمَّ الزروالي إلى «تيزربو» التي تبعد عن «الظيغن» مسيرة يوم إلى الغرب، وكان قصده أن يعود بزوجه وبنته إلى برقة حيث يمكنه أن يجد عملًا أوفق له، وزاد أمله أن السيد الزروالي رضي أن يمدَّ له يد المساعدة في مركزه الجديد، ولم يكن من السهل على ذلك الرجل المسن أن يعود بامرأتين فيخترق الصحراء شمالًا إلى برقة، وليس معه إلا جمل واحد، وقد سألته كيف يُدبر الأمر فأخبرني أن ثلاثتهم يمشون أول يوم حتى إذا خفَّ الماء على الجمل امتطته بنته ثاني يوم، ثم ركبته زوجه في اليوم الثالث، فقلت له: هب أن الجمل أصابه شيء في الطريق، فقال: «الحماية من الله.» وأعطيته أرزًا ومكرونة وشايًا وسكرًا، فتركنا وهو سعيد بعد أن قرأ لنا الفاتحة.
وتناول البدو طعامًا شهيًّا من الأرز ولحم الجمل وانقلبوا إلى فراشهم راضين، وكانت الليلة بديعة، فتركت خيمتي وقضيت أُوَيْقات هادئة في ضوء القمر الذهبي، والنجوم الباهتة في غمرة نوره الوضيء، وملأت نفسي سرورًا بذلك المنظر الممتع، وازددت شجاعة بنجواها الصامتة فعدت إلى فراشي ملآن ثقة وأملًا.
الأحد ٢٥ مارس
قمنا الثامنة إلا ربعًا ووقفنا الثانية إلا ربعًا وقطعنا ٢٤ كيلومترًا، أعلى درجة للحرارة ٣٢ وأقلها ١٤، وهبت ريح قوية من الشمال الشرقي طول الليل، فلم تسكن إلا في منتصف الساعة الخامسة، وكان الغيم يحجب الشمس في الصباح، وأمطرتنا السماء رذاذًا عند الظهر، وتبددت السحب بعد الظهر، وكنا نمر طول الطريق بأكداس الحطب التي ازداد ارتفاعها كلما قربنا من البئر، وكان يتخلل تلال الحطب، بقاع رملية تتناثر عليها قطع صغيرة من الحجر الأسود، وأخذ الرمل يزداد نعومة حتى صار نديًّا على عمق بضع بوصات من سطح الأرض، وفي التاسعة وربع رأينا في الجنوب الغربي على بعد ٣ كيلومترات تلال «الوشكة»، وهي بئر صغيرة من مجموعة آبار «الظيغن»، وفي التاسعة والنصف اجتزنا على اليسار «معطن بو حوَّاء»؛ وهي بئر ظيغن القديمة، ثم نصبنا الخيام على مقربة من أيك النخيل القائم على بئر الحرش، وهي أعذب آبار الظيغن، وليست بئر الصحراء تلك العين الجيدة الحفر المتينة الجوانب، التي رُبِط إليها دلو أو أُقيمت عليها مضخَّة، ولكنها حفرة قد قرب الماء من سطحها فسهل الوصول إليه بعد الحفر؛ لأن القافلة إذا تركت بئرًا في الصحراء، تراكمت الرمال عليها، وسدت منفذها فيتعب القادم الجديد في تطهيرها، ولم يضره ذلك؛ لأن سروره يكون شديدًا بنصيبه الوافر من الماء العذب، بعد أن ظل أيامًا لا يجد منه ما يزيد عن حاجته، يعد عمل الشاي ليتمكن من الاستحمام أو الحلاقة.
ولا يتخيلن القارئ أن بئر الصحراء ذات حوائط يقوم عليها علم من الأعلام، فما هي في غالب الأحيان إلا بقعة ندية من الرمل يحفرها البدوي فيخرج الماء منها على عمق ٣ أو ٤ أقدام.
وبعد مثل هذه «المرحلة» الطويلة يكون أول همِّ رجال القافلة أن يسقوا الجمال ويطعموها، ثم يكون أكبر همهم بعد ذلك غسل الأجسام والملابس، ويرجئون غسل الملابس إذا كان الماء قليلًا حتى يصلوا بئرًا ثانية، فإذا استراح الرجال ملأوا الْقِرَب وتركوها طول الليل، ثم تعهدوها في الصباح لمعرفة الناضج منها وفحص العيب فيها، ففصلوا رديئها عن جيدها، وبدءوا بشرب ما في الأولى يقينًا منهم بصلاح الباقي.
وتكون أولى الليالي التي تقضيها القافلة عند بئر — مهما كان نصيب أفرادها من التعب — ليلة أنس وسرور ورقص وغناء.
ويشعر الإنسان قبل الوصول إلى البئر أنه سيقيم عندها أربعة أيام أو خمسة، ناعمًا بوفرة الماء بعد حرمانه منه طويلًا، ولكن العجيب في الأمر، أن الإنسان إذا قضى يومًا فاستراح، تملكته حمى القلق وغَنِي عن الراحة والنعيم بجهل الطريق وقلة ما فيها من مناعم الحياة، واكتفى بالبلح الجاف، فأكله هنيئًا لا فرق في ذلك بين البئر الغزيرة الماء في الواحة المخصبة الملأى بملاذ الحياة وبين العين ذات الوشل.
ولا تزيد البئر بعد حفرها في غالب الأحيان عن متر مربع في مساحتها، ويمسك الرمل الندي حيطانها فيتركها الإنسان حتى يقرَّ الرمل ويصفو الماء، وقلما يصبر البدوي حتى يروقه فيشربه عكرًا، وكم شربت من أكواب الماء العكر وكرعت منه في كوبة الزنك التي لا أبصر لها قرارًا، ولم أستعمل الراووق «الْفِلْتر» الذي اقترح عليَّ حمله بعض الأصدقاء حتى وصلت السودان، فإن الماء كان من الرداءة ووفرة القذى بمكان، وقد استعملته قليلًا ثم أهملته؛ لأني وجدت بعض أجزائه مفقودًا، وليست قذارة الصحراء كقذارة الجهات الأخرى، فإنها لا تُؤذي الصحة؛ لأن الرمل شيء نظيف وثياب البدو يتخللها الهواء، والحشرات وافرة لا يمكن الخلاص منها، ولكن البدوي اعتادها فأصبح لا يأبه لها.