الكفرة – الأصدقاء القدماء – تغيير خطة الرحلة
الأحد أول أبريل
قمنا العاشرة إلا ربعًا صباحًا ووقفنا الثانية بعد الظهر وقطعنا ١٧ كيلومترًا، ووصلنا التاج، وفي الساعة الحادية عشرة وربع دخلنا أرضًا مهشمة الصخور كثيرة التعاريج، تغطيها أكوام من الخراسان الأسود والأحمر على طول الطريق إلى التاج.
وجاء «عقيلة» يساعدنا في تحميل الجمال، وكان قد أبلَّ من مرضه وعزم على السفر معنا إلى التاج، وأرسل أبو حليقة الفطور إليَّ وإلى رجالي، وأخذت عليه شدة اهتمامه بي، فأجاب على هذا: أني حرمته حق ضيافته لنا مدة الثلاثة الأيام المألوفة. وبعد قليل جاءت جارية من بيته تحمل صحفة كبيرة من الأرز ودجاجًا وبيضًا، وقد ظهر لي أن سيدها ألبسها لباسًا خاصًّا لهذه المناسبة، فقد راقني ثوبها الرشيق ذو القماش الأزرق والنطاق الأحمر الملتف حول خصرها النحيل.
وأخبرتها أنَّا مسافرون في التوِّ، وأنَّا لسنا في حاجة إلى الطعام، فقالت في خفر: «ربما مست الحاجة إليه في الطريق.» لقد طهيته بنفسي، فقلت لها: «إذا كان الأمر كذلك فأنا أتقبله بكل سرور.» فبان عليها الفرح، ورجعت فأتتنا بصحفة أخرى لا تقل عن تلك حجمًا ولا تحريكًا للشهية، وشكرت لها لطفها وزودتها بشكري لسيدها الكريم.
وودعنا أهل «العوازل» توديعًا حارًّا، وتقدمتُ القافلة على جواد أبي حليقة، ولم نكن في حاجة إلى دليل لمعرفتي بالطريق، ولم تفت السنوسي أبا حسن ملاحظة ذلك؛ فقال: «إن البك يعرف الطريق حق المعرفة، ولا أحسبه إلا صائرًا دليلًا قادرًا في بلادنا.»
والطريق إلى الكفرة من جهة الشمال فيه شيء من المفاجأة تجعله ممتعًا، فقد سرنا في أرض قليلة التعرج، يكتنفها مرتفع من الأرض قليل العلو كان لنا بمثابة الأفق، ثم انقلب ذلك التل فجأة فأصبح طائفة من الأبنية لا تكاد العين تميز عن بعد فرقًا بين جدرانها وبين الصخور والرمال التي تماثلها تلك الأبنية لونًا وشكلًا.
وكانت هذه المحلة مدينة «التاج» مركز الأسرة السنوسية في الكفرة.
ودخلنا المدينة فرأينا الأرض التي خلفنا قد هبطت فجأة في وادي الكفرة، وهو وادٍ بعيد الغور، يكاد يكون بيضاوي الشكل يبلغ أقصى قطريه ٤٠ كيلومترًا وأدناهما ٢٠ كيلومترًا، ويتناثر فيه النخيل، وتمتد فيه على شكل خط متعرج من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، القرى الست المعروفة بأسماء: بويمه، وبومه، والجوف، والزرق، والطلاليب، والطلاب.
وتقع بالقرب من الجوف بحيرة متوسطة الحجم زرقاء اللون متألقة الماء، هي في وسط تلك الرمال الموحشة عطية من عطايا الله، فإن مياهها المنبسطة تبعث السرور إلى العين المتعبة من رؤية الرمل الدائم، ولكن مياه هذه البحيرة الملحة أشد غصة في حلق الظمآن من قذى السراب في عينه.
وقابلني عند دخول مدينة «التاج» أصحابي القدماء، وكان السيد العابد ابن عم السيد إدريس وشيخ السنوسيين في الكفرة مريضًا بالروماتزم، فتفضل بإرسال تحياته إليَّ مع سيدي صالح البسكري القائمقام، والسيد محمود الجدَّاوي وكيل السيد إدريس وجمع من الإخوان.
وصحبني هؤلاء إلى منزل السيد إدريس الذي أعدَّ لإقامتي، وكانت إقامتي في رحلتي الأولى إلى الكفرة منذ سنتين في نفس هذه الدار، فأحسست كأني في داري، وأراد السيد البسكري أن يمازحني، فقال: «علِّم يا بك رجالك دروب الكفرة؛ فإني لأحسبك أخبر بها منهم جميعًا بما فيهم السيد الزروالي الذي لم يطأها منذ ١٣ سنة.»
وبدأت دلائل الضيافة في الحال، فقدَّم لنا الشاي قائد الجند، ولم أكد أستريح قليلًا حتى جاءني أحد العبيد يدعوني إلى تناول الغداء في دار السيد العابد، وكان نفس الرسول الذي قادني منذ سنتين، وسرت معه في نفس الدروب ودخلت نفس الدار العجيبة التي يقيم فيها قائد السنوسيين، وأنا أشعر كأني أعيش في عهدي الماضي أو كأن العمر لم يتخطَّ بي السنين …
ودار السيد العابد ذات طرقات متعددة متوشِّحة، ملأى بأبواب الغرف التي يقيم فيها أفراد أسرته وحشمه، ودخلنا الغرفة المعهودة التي زاد زينتها عن قبل، ما أضيف إليها من السجاجيد الثمينة والوسادات ذات الألوان المزركشة، وقد علَّق على جدرانها تلك المجموعة من الساعات والبارومترات التي يحب جمعها صاحب الدار، وكانت الساعات سائرة بدقة وهي لا تقل عن اثنتي عشرة ساعة مختلفة الشكل والحجم.
وجاء السيد صالح يسامرني ويعتذر عن غياب السيد العابد القهري، ووُضعت أمامي مائدة تصلح للملوك وتهيج شهية مَن قضى الأيام الطوال في الصحراء، وتنوعت فيها ألوان الطعام والحلوى، وخُتمت بثلاثة أكواب من الشاي معطَّرة بالعنبر وماء الورد والنعناع.
وعدت إلى داري بعد انتهاء الوليمة، فلم أكد أتعهد حوائجي وأتحادث في أمر الجمال اللازمة للمرحلة الثانية، حتى جاءني عبد صحبني ثانية إلى منزل سيدي العابد لتناول العشاء، فاستقبلني السيد البسكري، ذلك الشيخ الوقور الرضي في جبة ذهبية اللون، وكان قد خلع عن رأسه طربوش البدو الطريَّ، ولبس كوفية بيضاء من الحرير، وعقالًا اختلطت فيه الخضرة بلون ذهبي، وبعد أن فرغنا من تناول الطعام، أُديرت أكواب الشاي المعطر وأُحرق البخور، وهنا بدأت ساعات الغرفة تدق أنغامًا مختلفة مؤذنة بحلول الساعة الثالثة من الزمن العربي، فأغمضت عيني لحظة وأحسست كأني في أكسفورد أسمع الدقات المتنوعة تنبعث من ساعات أبراج الكليات والكنائس.
وخرجت في ضوء القمر يغشاني عبق ماء الورد ويحيط بي نشر البخور، فعلوت التل المشرف على مياه البحيرة، وذكرت زيارتي الأولى أيام كانت الكفرة غاية رحلتي السالفة، وفكرت في شأنها اليوم، وهي مبدأ القسم الشيِّق من رحلتي الثانية.
ووقفت أسمع أصوات الإخوان والطلبة ترتل الحزب في سكون الليل، فطفر عبد الله من بين الظلال، ووقف إلى جانبي، ثم قال بصوت خافت عميق: «هذه ليلة النصف من شعبان، يحقِّق الله فيها أمل من يدعوه.» ثم سكت، وظللنا وقوفًا صامتين بضع دقائق. وكان وجهي صوب الجنوب الشرقي، حيث تقع سبل غير مطروقة وواحات مجهولة، ودار عبد الله بوجهه صوب الشمال الشرقي حيث توجد مصر وفيها أسرته وأولاده، ثم تمتم دعاء خافتًا، ولم تكن ثمة حاجة لأن أسأله لِمَ الدعاء.
الاثنين ٢ أبريل
أخبرني أثناء إقامتي بالهواري بدو القافلة المسافرة من واداي، أن فرقة فرنسية سارت شمالًا حتى وصلت بئر سارة، متبعة في سيرها الطريق التجارية الأصلية من واداي إلى الكفرة، وكانت هذه الطريق هي التي صممت على أخذها بادئ بدء، ولكنه وضح لي أن الذي لم يستكشف منها بعد، هو الجزء الصغير الواقع بين سارة والكفرة، وكنت قد سمعت قبل ذلك بعض حكايات غامضة عن واحات مجهولة، في الطريق الجنوبي الذي دار بخلدي أن أستكشفه يومًا من الأيام، رغم علمي أن الطريق المستقيم إلى دارفور لم تطأه قدم بدوي أو سوداني؛ لما توهَّم الناس فيه من الصعاب والمخاطر، وغيرت قصة الفرقة الفرنسية وجهة تفكيري صوب هذه الواحات، وفضَّلت أن أسعى لاكتشافها عن أن أتبع خطتي الأصلية.
وكان عزمي من البداية أن أفرغ قصارى جهدي في استكشاف الواحات المجهولة، حتى إذا خِبْتُ في هذا قطعْتُ صحراء ليبيا سائرًا في الطريق المعروفة، فاخترقت واجنجا وواداي، ثم انحدرت جنوبًا إلى دارفور. وجاءني السيد الزروالي وسليمان أبو مطاري يناقشاني في أمر السفر إلى الجنوب، فكانت نصائح أبي مطاري مثبطة لهمتي؛ إذ قال: «إن آخر قافلة طرقت هذا السبيل منذ ثمان سنين، وكان قائدها أخي محمود ذبح أفرادها وقطعوا إربًا على حدود دارفور، على أنهم لم يسيروا في الطريق التي تريد اتخاذها أنت الآن، وإنما أخذوا الطريق الأسهل من العوينات إلى واحة «مرجه» — وهي واحة صغيرة على بعد ٢٩٠ كيلومترًا من الجنوب الشرقي للعوينات.
أما الرحلة التي تزمع القيام بها فترمي بك في أصقاع لم تطأها قدم بدوي من قبل، والمرحلة بين العوينات وأردي بعيدة الشقة، كثيرة المخاطر، والله يلطف بالقافلة التي تُقاسي حرها الشديد. وأكبر ظني أن جمالك تسقط كالطيور في الطريق أمام ريح السموم الجنوبية، ولو فرضنا أنك اجتزت تلك النواحي سالمًا، فمن يدري كيف يعاملك سكان تلالها الموحشة؟! ونصيحتي لك أن لا تدع شوقك إلى السفر السريع يتغلب على حكمتك، فيمنعك اختيار الطريق الآمنة التي يأخذها التجار إلى واجنجا «وابشه»، وكان بهذا يخلص لي النصح رغبة منه في عدم تعريض حياتي للخطر، فشكرته على نصائحه، ولكني كنت موطد العزم على تنفيذ خطتي.
وبعد تناول الغداء الفاخر الذي قدمه لنا السيد العابد، ذهبت لزيارة ابنه السيد شروفه، وهو شاب يتوقد ذكاء وتشوفًا لتحصيل العلوم، وقد سافر إلى بنغازي، فكان رأيه أنها خير مدن العالم، على ما بها من صغر الحجم وقلة انتشار المدنية، واعتذر لي عن مرض أبيه، فعرضت أن أرسل إليه بعض الدواء الذي أتمنى فيه الشفاء له.
الثلاثاء ٣ أبريل
كانت حرارة الجو شديدة، والسماء ملبدة بالغيوم، والريح تهب بقوة من الجنوب الغربي، وذهبت بعد تناول الغداء كالعادة لزيارة السيد شمس الدين ابن عم السيد شروفه وزيارة أخيه الأصغر، وكان أكبر هذين ذكيًّا ذا عينين براقتين تنمان عن حب الاستطلاع، كما تبدو على أخيه الأصغر علامات النجابة والذكاء، وقدم لي ثلاثة أكواب من اللبن ولوزًا مقشورًا ومربًّى، فأشبعت نفسي إكرامًا لخاطر ضائفِيَّ وخرجت ممتلئًا، ولم يمنعني ذلك من تناول العشاء في منزل السيد العابد.
وتناقشنا مرة أخرى في خطة السفر بطريق أركنو والعوينات، فرأيتني أثبت ما أكون على رأيي، وانتظرت أن آخذ رأي أبي حليقة بعد عودته من الهواري.
الأربعاء ٤ أبريل
أيقظني السيد الجداوي في الصباح وأحضر لي إبريقًا من الشاي المعطر، وأحضر لي أحمد أدوات الحلاقة، فشعرت بشيء من عيشة المدن بعد حياة الصحراء، ولست أكتم القارئ أن هناك لحظات يشعر فيها الإنسان بهشاشة إلى ملاذ المدن وأسباب راحتها، ولكن نفسه تطيب بالسفر الطويل في الصحراء أثناء السير أكثر مما تطيب زمن الإقامة في واحة من الواحات.
ومضى القسم الأول من النهار في تصغير أكثر الصناديق الخشبية، وفي ترتيب الحوائج من جديد تحضيرًا للمرحلة الطويلة إلى الجنوب، وكانت العناية الشديدة لازمة في تحضير كل شيء؛ لأنه لم يكن هناك أي فرصة لاستبدال الجمال حتى نصل الفاشر، وهي على بعد ١٥٠٠ كيلومترٍ تقريبًا.
واهتممت باستحضار «أخفاف» جديدة لرجال القافلة؛ لأن الأخفاف التي شريتها لهم في جالو قد بليت.
وزارني قبل الغداء بعض شيوخ زوي يقدمون لي واجب الترحيب، وهم مدفوعون في الحقيقة بدافع الارتياب والتشوف إلى معرفة عدد القافلة وحوائجها، والاهتمام بقدر الطاقة باستكشاف الخطط التي دبرتها للسفر إلى السودان.
وتغديت عند السيد العابد كالعادة، وسرَّني علمي أن الدواء الذي قدمته له نجع فيه، وقضيت بعد ظهر اليوم في تهيئة الأسلحة والذخيرة، وخرجت أتريض في المساء لعمل بعض الملاحظات بواسطة بوصلتي عن النواحي المجاورة لبلدة «التاج».
الخميس ٥ أبريل
كان الزروالي قد أطال في محادثة أبي حليقة الذي وصل أثناء الليل من الهواري، وكان رأي الأخير الرفض الصريح في تنفيذ فكرة السفر إلى الفاشر بطريق العوينات، وجاء لزيارتي وحاول أن يحملني على السفر بطريق واداي، ولكني لم ألِنْ لنصائحه فداخَلَهُ اليأسُ؛ لأني صرَّحتُ له أن لا شيء يزعزعني عن تنفيذ رغبتي في السفر إلى الفاشر بطريق العوينات.
ودار بيننا الحديث الآتي، قال أبو حليقة: «والله، إنها لطريق مخُوفة، وكم من قافلة أكلها سكان التلال الواقعة في تلك الطريق، إنهم قوم لا يخشون الله ولا يخضعون لسلطة إنسان، وهم كالطيور يعيشون على قمم الجبال، ولا محيص لك عن الوقوع في مناوشات معهم.» فأجبته: «إنا رجال مؤمنون، نوقن أن مصيرنا في يد الله جل وعلا، فإن قدَّر علينا الموت دهمنا في طريقنا إلى أقرب بئر.»
فقال أبو حليقة: «كم من شيخ زوي واراه التراب في تلك الأصقاع المجهولة، إن سكانها خائنون لا يخافون الله ولا يخشون الناس.»
فأجبته: «رحم الله من قضى في تلك البلاد من شيوخ الزوي، إن حياتنا ليست أعز وأغلى من حياتهم، ولا يليق بنا أن نكون أقل منهم إقدامًا.»
فقال: «إن الماء في تلك الطريق نادر ورديء.» وقد قال الله تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
فأجبته: «إن الله يطفئ ظمأ المسلمين المؤمنين ويلحظ بعنايته الصادقين من عباده.»
وشعر أبو حليقة أني سأحجه في المناقشة، فغير مجرى الحديث، وقال: «ليس بين رجالي من يرضى مرافقتك في تلك الطريق، وليس في مقدوري أن أرمي بجمالي في تلك المفاوز التي يدهمها فيها الموت المحتوم، فإن وجدت من يكري لك جماله، فإني مستعد لدفع الأجرة المطلوبة، ولكن رجالي وأنا لا نرضى بمرافقتك في تلك الطريق.»
فأجبته وأنا ملآن حمية: «افعل ما بدا لك، إني سائر إلى الفاشر من تلك الطريق، وسيكون الأمر بينك وبين السيد إدريس حين يعلم أن أبا حليقة لم يُحافظ على كلمته.»
وانتهت بيننا المناقشة عند هذا، وعلمت أن أبا حليقة دفع أصحاب الجمال في الكفرة إلى عدم الرضا بمساعدتي في تنفيذ خطتي، آملًا بذلك أن يضطرني إلى قبول السفر إلى واداي بالطريق المأمونة.
وانتهت أيام الضيافة الثلاثة في دار السيد العابد، فأرسل لي الغداء من دار السيد الجداوي وكيل السيد إدريس في الكفرة، وكان أبو حليقة على وشك الرحيل، ولكني دعوته إلى مشاركتنا في تناول الغداء، فرضي آملًا أن يحملني على تغيير خطتي، وكنت آملًا من الناحية الأخرى، أن أقنعه أن تلك الطريق لم تكن من الخطر بحيث تصور.
وفرغنا من تناول أكواب الشاي وافترقنا، وليس منا منتصر على أخيه، ولكني شعرت أن كلماتي الأخيرة كان لها تأثير شديد في نفسه.
وجاءني بعد الظهر السيد العابد يحمل إليَّ رغبة سيده في رؤيتي، ولم أكن أحدِّث نفسي بإسراعه في مقابلتي؛ لأني علمت أنه يشكو نقرسًا قاسيًا، وأن من الصعب عليه أن ينزل لمقابلتي في غرفة الزائرين، ولكنه لم يرد أن يداخلني الظن في عدم اتباعه قواعد الضيافة بتأخير مقابلتي، فسمح لي أن أراه بالرغم من تألمه، وكانت هذه أول مرة رأيت فيها السيد العابد في هذه السفرة، فشعرت حين دخلت عليه أني أرى صورة حيةً لرسم فاخر من رسوم ألف ليلة وليلة، وكان يلبس قفطانًا من الحرير الأصفر مطرزًا بجدائل حمراء، وبرنسًا من الحرير الأبيض ملقى على منكبيه، وكان على رأسه عمامة بيضاء، يتهدل على جوانبها غلالة ناصعة البياض، هي شارة شيوخ الأسرة السنوسية، وأمسك في يده عصا غليظة من الأبنوس ذات قبضة من الفضة، وكان في هيئته وقار البساطة واللطف، لا يشعر من رآه أنه ذلك الفارس الباسل الذي تعرفه المواقع.
وكان يجلس حين قدمت عليه على كرسي كبير حسن التنجيد، فحاول أن يقف، ولكني أسرعت إليه، وأمسكت يده، ورجوته أن لا يكلف نفسه مئونة القيام لي، وكان يشكو مر الشكوى من داء النقرس، فبدأنا الحديث في أمر مرضه الذي لزمه السنين الطوال قال: «إني لأضرع إلى الله إذا اشتدت عليَّ وطأة المرض في بعض الليالي أن يقصر أيامي في هذه الدنيا؛ لأني لا أطيق أن أقوم بالصلاة كما يجب عليَّ.» ثم تناولنا أمر رحلتي إلى السودان، فرأيت من حديثه أنه يفضل لي أخذ الطريق المأمونة التي تمر بواداي، فقلت له: «إن السيد إدريس في مصر الآن، وأود أن أسرع بالانتهاء من رحلتي والعودة إلى وطني حتى أرد له بعض جميله فيما لقيت من كرم الأسرة السنوسية، ولا يبلغني هذه الأمنية إلا السفر إلى السودان بطريق العوينات؛ لأنها الطريق الأَقْصَر.» فقال: «إنك صديق حميم لنا، وأظن أن السيد إدريس يفضل لك أن تصل سالمًا إلى مصر، وإن تأخرت عودتك عن أن يسمع بأي أذى نالك.»
فأجبته قائلًا: «إن مصيرنا في يد الله، وقد قدر علينا مساعينا، وإني لأحمل معي مباركة شيوخ السنوسيين.»
وكان في كلامي لهجة القطع في الأمر، ففكر قليلًا ثم رفع رأسه ببطء، وبسط كفيه إلى السماء ثم قال: «نجح الله مسعاك وأرجعك سالمًا إلى أهلك، لقد زرت قبر جدنا في جغبوب ودخلت قبة سيدي المهدي في الكفرة فنلت بركتهما، والله في عون من سعى وآمن.» ثم قرأ الفاتحة وباركني وتضرع إلى الله أن يسدد خطاي، وأن يهبني ورجالي القوة والثبات.
وتركته وسرت في منعطفات الدار وأنا أحس في نفسي سعادة عظيمة، وأراح بالي أن لي عَضُدًا من السيد العابد، وأنه لا يكون عقبة في سبيل تنفيذ خطتي الجديدة في السفر إلى السودان بطريق العوينات.
ودخلت داري فلقيت جميع رجال قافلتي ورأيت في وجوههم من أول نظرة، شوقهم إلى معرفة ما قر عليه رأي السيد العابد في أمر السفر، ودلفت إلى غرفتي ثم ناديتهم لأسكن خاطري أنا الآخر، وأقر شوقي إلى النجاح الذي أنتظره.
ومرت بي برهة طويلة لزمتُ فيها السكوت قبل أن أتمكن من ضبط لهجتي، وأُظهر عدم الاهتمام بهذه المسألة الكبيرة، ثم فاجأتهم بقولي: «لقد بارك السيد العابد رحلتنا إلى العوينات، وقرأ الفاتحة ابتهالًا إلى الله بتوفيقنا.» وأشحت بوجهي عنهم غير مجترئ على توسم وجوههم، وأردفت قائلًا: «ولقد حلَّت علينا بركة السنوسيين وزادها السيد العابد توثيقًا، والله يرزقنا الثبات والنجاح ويهدينا سواء السبيل.»