إلى واحة العوينات
السبت ٢٨ أبريل
قمنا في منتصف الساعة العاشرة مساء، وقضينا لأول مرة طول الليل في السير، وحططنا الرحال الساعة السابعة من صباح يوم ٢٩ أبريل، فقطعنا ٤٠ كيلومترًا، وكان الجو صحوًا جميلًا، وهبت ريح ساخنة قوية، طول النهار من الجنوب الشرقي، واستمرت الريح تهب من هذه الناحية طول الليل، ولكنها كانت دافئة، وكانت الأرض سريرة كثيرة الحجارة الكبيرة، فآذت الجمال في السير، وفي الساعة السادسة صباحًا وصلنا الركن الغربي لجبال العوينات، وحططنا الرحال بعد ساعة.
قضينا اليوم هادئين، فاسترحنا استعدادًا لمرحلة الليل، وأرسلنا في المساء رجالًا يجلبون الجِمال من مراعيها، واستأجر بوكاره جملًا من أحد العبيد التبو، وكان قصده من ذلك أن يريح جمله الذي أراد أن يبيعه بثمن غالٍ في نهاية الرحلة، وقد استخدمت ثلاثة من عبيد التبو، واستأجرت جمالهم لمرافقتنا في هذه الرحلة؛ لأني رأيت وسائل النقل غير وافية، فقد لاحظت أن حوائجنا كانت ثقيلة أنهكت قوى الإبل بعد تركنا الكفرة.
وجاءت الجمال في الساعة الثامنة، وبدأنا السير بعد ذلك بساعة ونصف ساعة، وكانت الأحمال خفيفة على الجمال هذه المرة؛ لأنَّا لم نحمل ماء من أركنو؛ لأنه رديء الطعم عَسِر الهضم، أحدث ثلاث إصابات من الدوسنتاريا بين رجال القافلة، وقد امتطى المرضى ظهور الجمال منذ بدء المرحلة، وتناوب بقية الرجال الركوب أثناء الليل، وبدأنا المسير أمرح ما نكون خاطرًا، وانبعث الغناء من نفس طروبة، فانضم إلى صاحبها بعض الرجال، وغنَّى الجميع ورقصوا وصفَّقوا بأيديهم متوافقين، بينما كانت الإبل تجدُّ في المسير، وكانت الأغنية كلمات مرددة ترجع بصوت قوي النبرات تختلف أنغامه في الشطرين، وهي:
وظل الرجال يطيلون في ترجيع هذه الأغنية حتى انتهوا منها بصرخة فجائية، وكنت أنصت إلى إنشاد الرجال، وأنا أوقع ضروبه بسوطي، فلما فرغوا صِحْتُ على الرجال «فرغوا بارود»؛ أي: أطلقوا النار إعلانًا للسرور، ثم أخذنا بعد ذلك مواضعنا من القافلة وسرنا مبتهجين.
وللسفر بالليل ميزات خاصة، فإن المسافر إن لم يكن منهوك القوى، يشعر بسرعة فوات الوقت أكثر مما يشعر به أثناء النهار، والنجوم رفقاء مسلون لمحب الطبيعة، وبدت لنا بعد ذلك عند الأفق قطع جبال العُوَيْنات القاتمة، وإنه لأسهل على المسافر أن يسير إلى قصده وهو ماثل أمامه من أن يضرب في ذلك المنبسط من الصحراء، الذي تتشابه فيه جميع الجهات، ويظل فيه الأفق على بعد سحيق لا يقرب مداه.
وظللنا نقترب من تلك الجبال، حتى بزغت الشمس، فصبغت قممها، وذهبت حواشيها وألقت خلفها من ناحيتنا ظلًّا كثيفًا أخذ يتقاصر، ويرتد إلى سفحها شيئًا فشيئًا، بينا كنا نتقدم إليها.
وبعد طلوع الشمس بقليل، كنا أمام الركن الشمالي الغربي لهذه الجبال، وبعد ذلك بساعة حططنا الرحال في ظل جوانبها الصخرية، وأمكننا في هذه الجهة من الجبل، أن نتحقق [من] وجود بئر في نهاية أحد الكهوف، فنصبنا الخيام في مدخل ذلك الكهف، ولم تمضِ منا عشر دقائق حتى كنا غارقين في سبات عميق؛ لأنا كُنَّا في حاجة شديدة إلى النوم بعد سفر استغرق منا طول الليل، ومع هذا، فإنا لم ننل من النوم بقدر ما انتظرنا؛ لأنا صحونا عند الظهر نهيئ أسباب الغداء. والمثل الفرنسي «من ينم يغن عن العشاء.» ينطبق في بعض الأحوال، ولكنا نحن أهل الصحراء، نظن أن النوم والتغذية معًا أمتع للنفس إذا نالهما الإنسان في وقت واحد، وكان لنا شغل شهي في الاهتمام بشيِّ قِطَع من الشاة التي ضافنا عليها الدليل محمد احتفالًا بالوصول إلى العوينات.
وقضيت اليوم في زيارة البئر الواقعة في الكهف الموجود على جانب الجبل، وفي عمل بعض الأبحاث والاستطلاعات والتفرج على الجهات المجاورة، وفي هذه الجهة يزيد ارتفاع الجبل حتى يصير صخرة قاتمة قد تكدست عند قاعدتها الحجارة المتناثرة من كبيرة وصغيرة. وقد توالد على هذه الحجارة لطمات الريح ومياه الأمطار في ماضي السنين، وتتابعت عليها سافيات الرمال حتى أصبحت ناعمة الملمس، مستديرة الأشكال، أحق بها أن تكون في مقاليع رماة القرون الخالية، يصيبون بها ضاريات الوحوش أو يتقاذفون بها في ألعابهم الخشنة.
وتقع عين الماء على بعد أمتار من مضرب الخيام، في ثغرة اتخذت من الصخور العظيمة التي تحيط بها حوائط وسقفًا، وهي منبع عذب الماء أربده الظل، فكان برودًا زلالًا.
وفي الصحراء نوعان من موارد الماء، العين، وهي المنبع الفياض، والبئر وهي المكان الذي ينبجس منه الماء بعد الحفر في الرمل، وقد أُطلِق على منابع العوينات كلمة عين وإن كانت أحواضنا تجتمع فيها مياه الأمطار، ويقال: إن بجبال العوينات سبع عيون، رأيت منها أربعًا قبل استئناف السفر، وسمعت ذلك، أن بهذه الناحية بئرين ولكني لم أرهما، وحل المساء فكانت القافلة أنعش ما يكون وأبهج، فرقص الرجال وغنوا، كأن ليس أمامهم أيام مجهدة يشقون فيها بصهيد الرمل ولفح السموم.
الاثنين ٣٠ أبريل
صحوت مبكرًا وذهبت مع السيد الزروالي، وعبد الله، ومحمد ملكني التبوي، إلى العين الكبيرة في قمة الجبل، بعد أن صعدنا ساعة ونصف ساعة فوق أرض صخرية، والعين ثرَّة بالماء القراح يوشع جوانبها قصب رقيق، قطعت منه قليلًا واتخذت منه مقابض لمباسم التبغ تحيل الدخان باردًا لذيذًا. وفي المساء، امتطيت هجيني وصحبني ملكني والسنوسي أبو حسن وسعد لاستكشاف الواحة، وكانت ليلة مقمرة، يهب فيها نسيم دافئ من الجنوب الشرقي، وسرنا في السريرة أربع ساعات ونحن ندور حول الركن الشمالي الغربي للجبل، ثم دخلنا عند منتصف الليل واديًا امتدت فيه سلسلة من التلال عن يسارنا، وقام عن يميننا ذلك الجبل ذو المناظر الغريبة بأشكال صخوره وأوضاعها، وأرض الوادي من الرمل الناعم، تتناثر فوقه حجارة كبيرة كانت تعوق في بعض الأحيان سير الجمال.
ورأيت الرجال قد فترت عزائمهم فأوقفتهم بضع دقائق تناولنا فيها بعض أكواب من الشاي، الذي حملته معي في زجاجة «ترموس»، ثم اندفعنا في السير، وقد انتعشت قوانا وكان في سحر الليل وضوء القمر وجمال الجبال ما هاج خيالنا وسما بأرواحنا.
وفي الساعة الخامسة صباحًا انبسط الوادي، فصار سهلًا من الرمل المنداح، قامت على جانبه الشمالي الشرقي تلال، يتراوح ارتفاعها بين ١٠ أمتار و١٥ مترًا، وملنا دفعة واحدة صوب الجنوب حول قاعدة الجبل، فطلع الفجر ووجبت صلاة الصبح فبركنا الجمل وتيممنا، ثم وقفنا فوق الرمال، مولين الوجوه شطر البيت الحرام.
وليست الصلاة في الصحراء إطاعة عمياء لتقاليد الدين، وإنما الغريزة هي التي تدفع الإنسان إليها، إعرابًا عما تشعر به النفس نحو الخالق من شكر واسترحام، والصلاة في الليل تبث الهدوء والسكينة، فإذا طلع الفجر ودب الانتعاش في الأوصال، ارتفعت الرءوس إلى الخالق؛ شكرًا على ما أودع الكون من جمال واستدرارًا لرحمته وهديه في اليوم الجديد، ولذلك يؤدي الإنسان صلاة الصبح؛ لأنه مندفع إليها لا مسوق.
وفي الساعة السابعة، دخلنا واديًا واسعًا يمتد إلى الجنوب الشرقي وتقوم الجبال على جانبيه، وأرض هذا الوادي منبسطة انتثرت عليها الحشائش التي ظهرت بينها أشجار «الميموزا»، وشجيرات أخرى، ينبعث منها عند سحقها رائحة زكية تشبه رائحة النعناع، وكانت الأرض تكتسي من وقت لآخر بساطًا من النباتات الزاحفة، ومن الحنظل، وهي مساحات ممتدة من الأوراق الخضراء، ترصعها كرات صفراء شديدة اللمعان كأنها نوع كبير من الليمون الحلو، ومن الحنظل يصنع التبو والجرعان ما يسمونه «عبره»؛ وهي أهم أنواع طعامهم الذي يعملونه بغلي حبات الحنظل حتى تضيع مرارتها وسحقها بعد ذلك، مع التمر والجراد، في هاون من الخشب.
وظللنا نتقدم في الوادي مدة ثلاث ساعات، ثم حططنا الرحال في الساعة العاشرة مجهودين، ولكن غير ساخطين فأكلنا أرزًا شهيًّا وشربنا الشاي، وتفيأنا ظل مرتفع من الأرض نريغ غفوة قصيرة، وكان نومًا متقطعًا لما أصابنا من لسع أسراب الذباب، وانتقال ظل ذلك المرتفع؛ مما اضطرنا إلى تغيير مواضعنا من وقت لآخر.
وفتحت عيني، فأبصرت شبحًا قائمًا بالقرب مني كأنه طيف حلم لذيذ، وكانت صبية فتانة من بنات الجرعان، هيفاء القد بديعة القسمات لم ينقص من رشاقة قدها ما كان عليها من ملابس بالية، وكانت تحمل جرَّة لبن فقدَّمتها إليَّ وجلال الخجل في نظراتها، ولم يسعني إلا أن أقبل الهدية، فجرعت منها شاكرًا حتى إذا انتهيت من شربي، سألتني دواء لأختها العاقر فأظهرت عجزي، ولكنها لم تعتقد صحة قولي ظنًّا منها أني أحمل في حوائجي أنجع الأدوية، ولما ضاقت بي الحيلة في سبيل الخروج من هذا المأزق، لم أجد مخرجًا غير تلك الأقراص من اللبن المركز الذي يشفي من العلل، ما لا يصل إليه علمي، وأعطيتها بعد ذلك مجيديًّا، ومنديلًا من الحرير هدية مني إليها.
وجاءني أحد التبو بجزور من لحم الودَّان، وهو ضرب من الأغنام البريَّة فأعطيته شيئًا من المكرونة والأرز فمضى راضيًا.
وذهبت بعد الغذاء أشاهد بقايا تدل على إقامة الإنسان في العصور القديمة بهذه الجهات، وكنت أثناء إقامتي في أركنو قد حادثت أحد الجرعان، فخرجت من حديثه بمعلومات وافية عن سكان العوينات الحاليين، ثم سألته بعد ذلك إن كان يعلم شيئًا عن سكانها الأقدمين، فأجابني إجابة أدهشتني؛ إذ قال: «لقد عاش حول هذه الآبار شعوب مختلفة يرجع عهدها إلى ما لا تعيه الذاكرة، ولا يهولنك قولي إن الجن سكنت هذه النواحي في قديم الزمان.»
فسألته: «وكيف استدللت على إقامة الجن هناك؟»
فقال: «أوما ترى آثار تصويرهم على الصخور؟»
فكتمت دهشتي وسألته: «وأين ذلك؟»
فقال: «لقد وجدت في وادي العوينات تصاوير على الصخور.»
وحاولت أن أجرَّه إلى وصف أتم من هذا، فقال: «يوجد هناك كتابات ورسوم لجميع الحيوانات الحية، ولا يدري أحد أي قلم استعملوا؛ لأن كتاباتهم في الصخور عميقة، لم يقوَ الزمن على محو آثارها.»
وظللت أحاول كتمان تأثري، ثم سألته أن يصف لي مكان هذه النقوش، فقال: «إنها في أقصى الوادي عند تعرجه في نهايته.»
ووعيت ذلك، وبعد أن قضيت زمنًا قليلًا في الحصول على الماء، وهو ألزم شيء للقافلة، وبعد أن علوت قمم التلال أرتاد بنظري ما أحاط بها من الجهات، رأيتني في شوق شديد إلى الطواف حول الواحة، وكنت أعلم أن العوينات كانت محط قبائل التبو والجرعان في طريقهم شرقًا إلى مهاجمة الكبابيش والفتك بهم، وكان موقع أركنو والعوينات صالحًا لهذا الغرض لما غزر فيهما من الماء الذي تحتاجه هذه القبائل المغيرة، وكانت هاتان الواحتان من البعد عن الكبابيش بحيث لا يجسرون على محاولة الانتقام أو استرداد ما ابتزَّ من أشيائهم.
وتملكت رؤية تلك النقوش من نفسي، فصحبت ملكني الذي انضم إلى القافلة في أركنو، وقادني عند الغروب إلى أماكن تلك النقوش، وكان موقعها في جزء الوادي الذي ينحني قليلًا في نهايته، وكانت النقوش على الصخور قريبة من سطح الأرض، وقيل لي: إنه توجد نقوش أخرى تماثلها على مسيرة نصف يوم، ولكني لم أزرها نظرًا لضيق الوقت، وخوفًا من إثارة الشكوك، وكانت النقوش رسومًا لحيوانات خالية من الكتابة، وظهر لي أن راسمها كان يحاول أن يصور منظرًا من المناظر، ولم تكن من الدقة على شيء، ولكنها تنم عن ذوق فني، فقد كان مصورها يميل إلى الزخرفة؛ لأنه أظهر مهارة في نحتها، وإن لم يبن فيها أثر كبير لدقة الصنع.
وتناولت هذه الرسوم صور الأسود والزراف والنعام والغزلان والبقر، وكانت واضحة رغم فعل السنين بها، وعمق هذه النقوش في الصخر يتراوح بين ربع بوصة ونصف بوصة، وقد قل عمقها في نهاية بعض الخطوط، حتى إنه ليسهل مرور الأصابع على قرارها، وسألت عمن عساه يكون صانع هذه النقوش، فكان الجواب الوحيد الذي تلقيته من ملكني إبداء اعتقاده أنها من صنع الجن، وسأل: «أي إنسان يستطيع في هذه الأيام محاكاتها؟!»
ولم أتمكن من استقاء الأخبار عن منشأ هذه النقوش الشيقة، ولم يتيسر لي العثور بما يُفسر أصل وسر وجودها، ولكن شيئين شغلا بالي، وهما أن الزراف معدوم في تلك الناحية في هذه الأيام، كما أنها لا تعيش في أي منطقة صحراوية كهذه، ولم أجد صورًا للجمال في هذه النقوش. والجمل هو الدابة التي ينتقل عليها الإنسان هذه الأيام، في تلك الأصقاع التي تبعد الآبار فيها مسير بضعة أيام عن البعض، فليت شعري أعرف سكان هذه النواحي القدماء الزرافة دون الجمل الذي يرجع عهد دخوله أفريقيا من جهات آسيا إلى حوالي ٥٠٠ سنة قبل الميلاد؟
وبدأنا عودتنا إلى الخيام في منتصف الساعة السادسة، فصعدنا طريقًا متعرجًا في جبل شديد الانحدار، لا تتسع دروبه في بعض المواضع لأكثر من رجل واحد، والخطر شديد لمن يجتازها على ظهور الإبل، ووصلنا قنة هذه الطريق الجبلية، ثم انحدرنا إلى الصحراء المنبسطة عند سفح الجبل، وقد رأينا من القنة التي صعدنا إليها بعض قنن أخرى انتثرت حولها، وارتفعت عنها بقدر يتراوح بين ٢٠٠ أو ٣٠٠ متر، وقد أظهرت الجمال مهارة شديدة في الصعود إلى هذه القنة والنزول عنها رغم الظلام.
ووصلنا سفح الجبل في منتصف الساعة الحادية عشرة، فرأينا من الصلاح أن نريح الجمال، وحططنا الرحال في الساعة الحادية عشرة، فاسترحنا ساعتين وتناولنا الشاي وزارتنا أسرة من التبو كانت تعيش بالقرب من مناخنا، وغفونا قليلًا ثم صحونا منتعشين وكان النسيم رطبًا والسير في الصحراء المنبسطة استراحة طيبة بعد الجهد الشديد في تسلق تلك الصخور، ووصلنا مضرب الخيام في الساعة العاشرة صباحًا من يوم ٢ مايو، فاستقبلنا رفقاؤنا بطلقات البنادق.
الأربعاء ٢ مايو
وجدنا عند وصولنا إلى الخيام الشيخ هري، وهو شيخ الجرعان الذي يُطلَق عليه لقب ملك العوينات وشعبها المكون من ١٥٠ نفسًا، وكان قد جاء بالأمس يزورني، فانتظر عودتي وكان شيخًا لطيفًا مهيب الطلعة هادئها، وأحضر لنا شاتين ولبنًا «وعبرة» بصفة ضيافة، وكان في ذلك اليوم صائمًا رمضان، فألححت في بقائه لتمضية الليل معنا حتى أقوم بحق الضيافة نحوه أنا الآخر، وحادثته طويلًا، وكان لا يزال يحن إلى وطنه في شمال واداي يتنهد عند ذكره في حديثنا، وهري من أسرة الرزي إحدى قبائل الجرعان الحاكمة في شمال واداي، وقد اختار الكفرة منفى له عند دخول الفرنسيين واداي، وأقام في العوينات بعد ذلك، ووجدتني متعبًا بعد سير ٢٨ ساعة لم أسترح فيها إلا ٩ ساعات، ولكن قواي انتعشت في المساء بعد حمَّام وعشاء طيب وإغفاءة قصيرة.
وكان بوكاره قد رتب مجلس غناء، فقضينا هزيعًا من الليل في سماع الأغاني البدوية والتبوية والسودانية.
الخميس ٣ مايو
جاءني «هري» بطاس من اللبن عند استيقاظي وشكرته، فهز رأسه حزينًا، وقال: «هذا كل ما يمكنني أن أقدِّمه وهو لا يليق بك، ولكن الهدية على مقدار مهديها، فاعذرنا إذا لم نفك حقك من واجبات الضيافة.» فأكدت له أن قيمة الهدية في المعنى الذي أُريد منها، لا في قيمتها الذاتية، وقضينا اليوم في عمل ترتيبات السفر الذي رجوت أن نبدأ به في الغد.
الجمعة ٤ مايو
اتفقت مع هري على أن يصحبنا إلى أردي بصفة دليل ثانٍ؛ لأن محمدًا لم يطأ هذه النواحي منذ سنين عديدة، وظننت أن هري أعرف بمفاوزها، وتروضت طويلًا بعد ظهر اليوم وصورت الجبال، وسمع بوصولنا أفراد قبائل التبو والجرعان الذين يعيشون في تلك الواحة، حيث يجدون المراعي الصالحة لدوابهم، فجاءوا لزيارتي ودعوت كثيرين للعشاء، فكانت ليلة مرح وطرب عددتها، من أبهج ليالي الرحلة.
ويجمل بي قبل أن أفرغ من وصف العوينات أن أقول شيئًا عن بوكاره، وهو من أمتع رجال القافلة صحبة وأكثرهم شاعرية.
كان بوكاره طويل القامة منسرحها صلب القناة، دائم المرح والطرب، مثالًا للبدوي الصميم، لا يسكت عن الغناء في الأوقات العصيبة من اليوم، سواء كان ذلك في بكرة الصباح بعد سير الليل أم في آخر الليل حيث يجهد السير رجال القافلة، فيكونون في حاجة إلى ما يرفه عنهم ويشجعهم على المضي، ولم أعلم أنه يدخن حتى رأيته ذات يوم، بينما كنت أمتطي جوادي، يجمع أعقاب السجاير من الموضع الذي قامت فيه خيمتي، فشاطرته سجائري بعد ذلك، وكان يروق لي أن أراه يغني ويرقص طربًا، كلما قدمت إليه علبة من تلك اللفائف الثمينة.
وبوكاره من أكثر البدو الذين رأيتهم أسفارًا، فقد جاب واداي وبركو وبرنو ودارفور وهو لم يعدُ الثالثة والثلاثين من عمره، وقد ساعده الحظ في ماضيه فذاق الغِنى، ولكنه لا يملك اليوم إلا جملًا واحدًا، وقد أراغ المكسب حين انضم إلى القافلة واتفق مع أبي حليقة على أخذ شطر من أثمان الجمال عند بيعها في نهاية الرحلة. وهو يجيد أكثر لهجات القبائل السود، ويعرف الكثير عن هذه القبائل، كما أنه مقلد مدهش، أذكر ذات مساء يوم أنه التحف بقطعة من القماش الأخضر، الذي يُكوِّن قسمًا من خيمتي واتخذ منها «برنسًا» وتبعه سعد وحامد، وهما يقلدان ثغاء الشاة، ثم تقدَّم إلى مضرب الخيام، مدعيًا أنه شيخ بدوي قد أحضر شاتين بمثابة ضيافة، فضحكنا ضحكًا عاليًا، ونضا بوكاره تلك الخرقة الخضراء وانتزع حربة من أحد التبو، ثم طفق يرقص رقصًا حربيًّا تبويًّا، وساعده أحد التبو على الرقص بالإيقاع على أحد الفناطيس الخالية، وتبع هذا المنظر الغريب، مجلس غناء ترددت فيه أغاني البدو الشائقة في برقة وفزان وطرابلس.
وبوكاره شديد الوله بزوجه، وقد قال لي عند وصولنا: «إني لأشعر الآن أني أحسن حالًا، ولكني بكيت بكاء الأطفال عند توديعي امرأتي في الكفرة، وهذه حالي دائمًا عند البدء في أسفاري غير أني إذا أنست إلى رفقائي، واستطيبت صحبتهم سهَّل عليَّ ذلك ألم الفرقة.»
ورأيت بوكاره ذات يوم يرفض امتطاء جمله، في ساعة لم يتمالك فيها إخوانه أن يصبروا على السير، فسألته: «لماذا لا تركب والجمال غير المحملة عديدة؟»
فأجابني، وفي صوته نبرة سخرية وتعنيف: «وماذا عسى تقول زوجي إذا سمعت أني ركبت بين أركنو والعوينات؟!»
وأخبرني أنه وُكِل إليه ذات مرة أن يصحب خمسين جملًا إلى العوينات لترعى، وكان وحيدًا، ونفد منه الزاد فقضى اثني عشر يومًا لا يذوق طعامًا إلا حب الحنظل، الذي أضر بجهاز هضمه، ثم قال: «ووصلت الكفرة، وكان الرجال الذين أرسلوني بجمالهم قد نسوا أن يتركوا لي طعامًا؛ لأنهم توقعوا وصولي قبل ذلك.»
فسألته: «وما الذي منعك من ذبح جمل تقتات به؟»
فقال لي بشمم: «وكيف أسمح لرجال الكفرة أن يقولوا: إن بوكاره لم يصبر على الجوع؛ فذبح جملًا من جمالهم؟!»