دخولنا السودان
صحوت مبكرًا لفتح صندوق الأفلام «الشرائط» ووضع أفلام جديدة في آلات التصوير، والجو ما زال باردًا، وفي الساعة السابعة قصدت زيارة البئر مع محمد وحمد، ووادي أردي من النوع الذي يسمونه «كركور» وهو منخفض طويل ضيق بين التلال، متعرج كالثعبان، ويمتد صوب الجنوب على مدى سبعة أو ثمانية كيلومترات، وينتهي بعطفة مسدودة توجد فيها البئر في شق مظلل تحت الصخور، والعين على شكل نصف دائرة يبلغ طولها ١٢ مترًا وعرضها ٦ أمتار، وهي كعيون العوينات، على أني أظن أنها فوق ما تتلقاه من مياه الأمطار، يمدها نبع خفي، والطريق إليها صخرية لا تخلو من الخطر، فقد عثر فيها أحد الجمال التي أرسلناها في الليلة السالفة فناله ضرر لا يُستهان به.
وتسلقنا الصخور إلى العين فاسترحنا وشربنا الشاي، وعدنا تحت شمس محرقة، والوادي بديع بجدرانه القائمة من الحجر الأحمر والحشائش الخضراء والأشجار المنتشرة في سفحه.
وقال لي محمد: إنه أوعر أودية هذه الجهات، فدخوله شاق؛ ولذلك كان الدفاع عنه سهلًا هينًا، وعند العصر تسلقت حائط الوادي لأرقب الغروب الجميل، وأرى لعب الأضواء على الرمل الأحمر والصخور الوردية اللون.
وقصَّ الرجال شعورهم وأصلحوا لحاهم واغتسلوا ورتقوا ثيابهم التي كادت تبلى، وكانت المراعي كافية لجمالنا، فرأينا من الحكمة أن نستريح ذلك اليوم ونستعد للرحيل، وأخبرني محمد وهري أن السفر بعد ذلك لا يحسن في الليل؛ لأن اجتياز التلال في الظلام غير مأمون، وأثنى البدو على محمد لما رأوا أمس من قيادته الجمال من قنة الصخور العالية إلى الوادي.
وأكثر الكلب من النباح في المساء فظننا قرب أحد منا، وأطفأنا النار بغتة، وجمعنا الجمال وأعددنا البنادق، ونصبنا العسس حول الخيام، ولكن إنذار الكلب كان كذبًا، وقد تبدو هذه الاستعدادات — التي يُتخَذ مثلها عند الاقتراب من بئر — سخيفة بعد زوال الخطر، ولكن القافلة التي لا تتخذ هذه التدابير في أرض مجهولة، تكون قافلة خطلة الرأي، فإن مهاجمة البدو المعادين أو اللصوص أمر في حكم المحتمل.
الخميس ١٧ مايو
صحونا الساعة الرابعة وسرنا في منتصف الساعة السادسة، وكان خروجنا من الوادي أمرًا لا يقل صعوبة عن نزولنا إليه، فقد سقط أحد الجمال ولم يصبه ضرر كبير لحسن الحظ، وقد أدرت بصري إلى الوادي عند وصولنا إلى نهايته، فتحققت الفرق بين أودية هذه الجبال وأودية أركنو والعوينات، فإن أرض تلك الأودية على مستوى السهل الخارجي، ويسهل على المسافر أن يدخل الوادي من مضيق يشبه ممرًّا، ولكن أودية هذه الجهات منخفضة عن المستوى العام للأرض، ولا ينزلها المسافر بالهبوط المتعرج في طرق صخرية.
وقضينا ساعة في الخروج من الوادي، ثم سرنا صوب الجنوب الشرقي، وكنا في جهة جبلية تكثر فيها الصخور السوداء والحمراء، فوضح لنا استحالة السير في هذه الأرض في الظلام.
وفي منتصف الساعة العاشرة، نزلنا واديًا ضيقًا مخترقين طريقًا سحيقًا، فوقع جملان ورميا بأحمالهما إلى الأرض، وكان أحدهما يحمل الماء، فكفانا عبد الله انبثاق القرب بحضور ذهنه؛ لأنه أخرج سكينه بسرعة وقطع حزام قتب الجمل، وسقطت سدادة أحد الفناطيس فسال من مائه مقدار ثلاثة الأرباع، ولكن البئر التالية كانت لحسن الحظ على مسيرة ثلاثة أيام، وكان معنا من الماء ما يكفينا لأطول من ذلك شقة، وربما كانت هذه الحادثة عظيمة لنا إذا كنا في مرحلة طويلة المسافات بين الآبار.
وحدث لنا هذا الصباح حادث فجائي كاد يجرنا إلى نتائج وخيمة لولا أمران ساعدنا فيهما الحظ، فقد كان أحمد، وهو ذلك الطاهي الذي جاء معي من مصر راكبًا جملًا بلا رَسَن، وقد سأل حامد جمَّال أبو حليقة أن يحضر له رسنًا فأبطأ هذا؛ اعتمادًا منه على معرفته بالجمال، واعتقادًا بأن الجمال كانت منهوكة القوى، وأنها كانت في حاجة شديدة إلى الرعي، وهي سائرة، فرأى جمل أحمد بعض الحشائش وأسرع إليها، ومر في طريقه تحت شجرة تكثر فيها الأشواك، ولم يسع أحمد أن يتفادى هذه الأشواك الحادة فخُدِش وجهه خدوشًا كثيرة وآلمه الوخز، فصب لعنته على الجمل وصاحب الجمال، فأجابه حامد في الحال بالمثل، وطلب منه أن لا يعود إلى لعن صاحب الجمال الشريف، وكنت قريبًا منهما، فلم يسعني إلا الإعجاب بالجمَّال لوفائه لسيده أبو حليقة.
ونزل أحمد بسرعة البرق عن جمله، ثم تقدَّم متهيجًا إلى حامد والدم يسيل من وجهه، واندفع السنوسي أبو حسن وحامد الآخر وسعد الأوجلي فانضموا إلى جانب أخيهم البدوي، ووقف عبد الله إلى جانب أحمد يعاضده.
ولم تكن هذه أولى المشاجرات التي رأيتها بين رجال الصحراء؛ فدفعتني خبرتي إلى أن أتبين قبل كل شيء موضع البنادق لأطمئن من وجودها بعيدة عن أيدي الرجال، وقد أراح بالي أني رأيتها مربوطة في مواضعها إلى ظهور الجمال، ولم يكن في أيدي الرجال إلا العصي يتضاربون بها. ومع ذلك فقد كانت الحاجة ماسة إلى التداخل السريع قبل أن يتفاقم الخطب، فحثثت جوادي بين الرجال ووقفت بين عصبتي المتخاصمين، وأمرت عبد الله وأحمد أن يرجعا القهقرى، وكانت ساعة عصيبة أحسست خطرها وأنا أقف بين رجالي ورجال القافلة.
والتفتُّ إلى السنوسي أبي حسن وحامد، فلحظت أنهما يصوبان نظراتهما إلى موضع البنادق.
وكانت تكفي كلمة تشجيع واحدة مني لرجليَّ فيهلكا؛ لأن البدو كانوا أكثر عددًا، ولكن الوقت لم يكن مناسبًا من الوجهة الأخرى، لإذلال رجليَّ أمام البدو وإن كانا مخطئين، فالتفت إلى الفريقين وقلت غير متحيز إلى جانب: «ماذا تعنون بهذه الأفعال الصبيانية؟! ألا تخجلون من هذا العمل وأنتم رجال؟!»
فبدأ حامد الكلام، وقال: «إنه أهانني.» وقاطعة أحمد فقال: «إنه البادئ بالتحدي.» فأجبتهما بحدة: «لا يعنيني من القاذف ومن المهين، فأنتم جميعًا رجالي، ومن العار أن تتخلقوا بأخلاق الأطفال.»
وهنا تقدم السيد الزروالي فالتفت إلى عبد الله، ثم إلى السنوسي أبي حسن، وقلت بشدة: «وأنتما أيها الشيخان العاقلان تنضمان إلى هذه المشاجرة المزرية، بدل أن تسعيا في التوفيق بين المتخاصمين، وبعد فقد يكون الذنب ذنبي؛ لأني اخترت لقافلتي أطفالًا بدلًا من الرجال.»
وكانت ثورة الفريقين قد أخذت في الهدوء، وضعفت تلك النظرات الحادة، التي كانت تُشعر بالتحفز للوثوب، ورأى الزروالي عدم تحيُّزي لرجليَّ، وأحسبه كان يتوقع عكس ذلك فلم يجد ما يأخذه عليَّ وفعل ما لم أكن أنتظره منه، فإنه أمر فرجًا العبد أن ألقِ حامدًا أرضًا حتى أضربه بسوطي، فلم تمضِ غمضة عين حتى ألقى فرج حامدًا على الأرض وركز عليه بركبته، فصب السيد الزروالي سوطين على حامد قبل أن أتداخل في الأمر، ولكني ترجلت بسرعة وأمسكت ساعد الزروالي، وقلت له: «إن الأمر لا يحتاج إلى إنزال عقابك؛ فإنَّا لا ندري من الملوم، وسأتفحص الأمر وأعاقب بنفسي من تظهر إدانته … ثم التفتُّ إلى الرجال، وأمرتهم أن يتبعوا الجمال وأشرت بعصاي إلى محمد وهري، وكانا بمنجاة من التداخل في هذه المشاحنة وأمرتهما أن يهديانا السبيل.
وانتهى كل شيء، وسرت وحيدًا محاولًا أن أستبقي لمصلحة الجميع إعرابي عن عدم الرضا بما حدث.»
واقترب مني السيد الزروالي، ثم سألني وفي صوته رنة أسف: «أظن أن غضب البك مما حدث قد انصرف، ويعلم الله أني منذ استيقظت هذا الصباح، وأنا أحس شيئًا يضايق أنفاسي، فتوقعت حدوث أمر كريه، وقد رأيت ذلك الإحساس في نفسك عندما رددت عليَّ تحية الصباح.»
وذكرت أنا الآخر أني كنت أشعر بإحساس غريب لا باعث له؛ لأن كل شيء كان على ما يرام.
ولم يمضِ زمن طويل حتى شعر الفريقان بما يشعر به الأطفال الأشقياء بعد لوم لائم، ولاحظت أن الرجال تخلس النظرات إليَّ ليروا إن كانت ثائرة غضبي قد قرَّت، ولكنني ظللت عابسًا حتى ساعة الغداء، ولا يخفى على من اجتاز الصحراء تلك النتيجة السيئة التي تسببها مثل هذه الحوادث، فإن لفظًا قاسيًا يُشَم منه رائحة الإهانة يكفي لتبادل الطلقات إن كانت البنادق في متناول الأيدي، وأكبر ظني أنها لو كانت في أيدي الرجال، وكنت على بعد قليل منهم كما هي الحال في أغلب الأحيان، لسالت الدماء وخرج الأمر من يدي، وقضى البدو على أحمد وعبد الله، وفي هذه الحال أسائل نفسي: ماذا عسى يكون تصرفي وأنا المصري إلا أن أثأر لنفسي من قاتلي مواطنيَّ مهما كلفني ذلك من النتائج الخطرة، ولكني حمدت الله على أن البنادق كانت مربوطة إلى ظهور الإبل، وأني كنت على مقربة من المتشاحنين.
ولم يفت السيد الزروالي أن يهوِّن الأمر عليَّ، فقال: «إنا نقترب من نهاية الرحلة، والرجال عادة في هذا الموقف ميَّالون إلى الشِّجار.» ولم تكد تنتهي هذه الحادثة الخطرة، حتى اشتدت حرارة الشمس، فحططنا الرحال في الوادي، في ظل بعض الأشجار اليانعة، ورعت الجمال بينما كنا نأكل ونستريح، وجاءني بعد الظهر قبل البدء في السير محمد، والسنوسي أبو حسن، وبوكاره، وحامد الجمَّال؛ يسألونني أن أسامح حامدًا على مهاجمته أحمد مدفوعًا بغضبه. وسامحت حامدًا على الفور، فتقدم إلى أحمد وقبَّل رأسه وجاوبه أحمد بالمثل، فانتهت تلك المشاجرة كما تنتهي مشاجرات البدو على أصفى ما يكون.
وانحدرنا إلى الوادي الكبير في ثلاث ساعات، ثم ضربنا الخيام عند مدخله في الساعة السابعة وربع، ورأينا قدامنا قبل حط الرحال جبال «أجاه» البعيدة حيث توجد البئر التالية، وكانت الأرض أمامنا منبسطة، فبعثت الراحة في نفوسنا فقد خُيِّل لنا في الصباح عند انحدارنا إلى الوادي أن حوائجنا لا بد محطمة، إذا كثرت تلك المنحدرات السحيقة، وكانت المنحدرات في بعض الأماكن من الوعورة بحيث اضطررنا إلى رفع الأثقال عن ظهور الإبل خوفًا عليها من التحطيم، وكان على الرجال أن ينزلوا بالحوائج فوق الصخور المنحدرة، التي يرتفع بعضها عن بعض في كثير من المواضع نحو ثلاثة أقدام.
وطلع الهلال ونحن ننصب الخيام وكان عيد الفطر في الغد، وجاءني السيد الزروالي يبلغني رغبة الرجال في الاحتفال بالعيد جريًا على العوائد الإسلامية، فرضيت كل الرضا؛ لأن جبال «أجاه» كانت على مرأى منا، وكان زادنا من الماء كافيًا، وكانت مراعي الوادي كثيرة الحشائش المغذية للجمال.
وصحونا مبكرين في اليوم التالي، وكان يوم الجمعة ١٨ مايو، فلبسنا الثياب النظيفة احتفالًا بالعيد، وتبادلنا التهاني ثم أدينا صلاة العيد، وكان في نظرات رجالي ما ينم عن التفكير في الأهل والإخوان البعيدين في نائي الأوطان، وأخرجت قطعًا من الريالات المجيدية وأوراق مالية مصرية فوزعتها على الرجال، وكانت النقود من نصيب محمد وهري وحسن وأرامي؛ لأنهم كانوا سيتركوننا قبل أن نصل أرضًا يتعامل فيها الناس بالأوراق المالية المصرية، وأخذ بقية الرجال الأوراق المالية، ففي استطاعتهم صرفها في الفاشر، وأعطيت الزروالي عشرين طلقة من طلقات المسدس وقنينة روائح عطرية، ووزعت زجاجة أخرى على الرجال، وأعطيت بوكاره غليونًا وطباقًا، فأظهر لي عجزه عن إيفائي الشكر على ما تفضلت به عليه، وقال: «ليس لي إلا جملي والملابس التي أرتديها، وقد أعطاني البك قيمة جملي طباقًا.»
وكانت القافلة مرحة في الصباح، وكان الرجال مسرورين من هداياي فسرني رضاهم وغفونا بعد الفطور، ولكنا استيقظنا بسرعة؛ نظرًا لفتك النمل الأبيض بأجسامنا، وبدأنا السير في الساعة السادسة إلا ربعًا، وخرجنا من الوادي إلى السريرة بعد ذلك بنصف ساعة، كان يمتد أمامنا سلسلة تلال تجري شرقًا وغربًا، وكان في وسطها جبل «اسلنجاه» وعن يمينها جبل «أجاه» الذي كنا نقصده، وأخبرنا هري بوجود بئر صعبة المرتقى في جبل «اسلنجاه»، وكان الوادي الذي نصبنا فيه الخيام مميزًا بوجود أشجار على الجانب الأيمن من مدخله. وكان يومًا شديد الحر، فسرنا مبطئين مدة ست ساعات، ثم وصلنا منطقة من أكوام الرمل، أوقفت سيرنا في الليل.
السبت في ١٩ مايو
قمنا الساعة الخامسة وربع صباحًا، وحططنا الرحال في الساعة الثامنة مساء، وهبت من التلال المجاورة ريح ساخنة من الشمال الشرقي قرت عند المساء، وكان سيرنا فوق أرض ناعمة الرمل كثيرة التموج مغطاة بالحشائش الجافة، وانبسطت الأرض أكثر من ذي قبل عند اقترابنا من التلال، وكثرت فيها أكداس الحجارة السوداء الصغيرة، واشتدت حرارة الشمس بسرعة في الصباح، وهبت ريح ساخنة، فضربنا الخيام في منتصف الساعة العاشرة في ظل شجرة «طمطم» فحمتنا فتك الهجير، وأنست أنظارنا إلى عناقيد ثمرها الأحمر، وسرنا ثانية في منتصف الساعة الرابعة، بالرغم من اشتداد الحر آملين أن نصل جبال «أجاه» قبل انتشار الظلام، واضطررنا إلى ضرب الجمال لإنزالها على الخروج من ظل الشجر والسير بها في الهجير، ولم يحن منتصف الساعة الثامنة حتى كنا عند سفح التلال والهلال يبدو حاجبه.
وأرسل محمد بغتة صوته منذرًا ومحذرًا؛ لأنه رأى آثارًا حديثة لرجلين يسيران صوب «مردي»، وكان له الحق في ذلك؛ لأن وجود غريب عن القافلة في الصحراء، أمر يستلزم اليقظة حتى يتبين الأمان منه، وسرعان ما انتُزِعت البنادق من أماكنها ووُضِع الرصاص فيها، وجمع الرجال ما تفرق من الجمال التي ترعى وتقدم محمد وهري والسنوسي أبو حسن إلى الوادي يتفحصون الأمر، وبعد البحث الدقيق عادوا فأخبرونا أنهم لم يجدوا أثرًا لداخل إلى الوادي، وإنما وجدوا آثارًا حديثة لخارج منه فضربنا الخيام عند مدخل الوادي، في نجوة من الأشجار والنباتات حتى لا تفوتنا رؤية من يقترب منا في الليل.
وتعشينا مسرعين، ثم أطفأنا النار ووضعت الجمال والقِرَب في وسط مضرب الخيام وصفت الحوائج حوله، ووقف أربعة من حراس الليل، ثم انقلبنا إلى فراشنا، وتعذر علينا النوم لشدة الحر وانشغال البال.
وصحونا مبكرين في صباح الأحد وتقدمنا إلى الوادي محترسين، فعثرنا بآثار حديثة لرجال وقطعان، ووضح لنا نزول أحد قبلنا في الوادي، وسبقنا محمد وهري؛ لأن سكان تلك النواحي كانوا من الجرعان، فقابلتهم ثم تبادلنا عبارات الأمان، وتقدم كل منا إلى الآخر بعد أن ألقينا على الأرض ما كنا نحمله من سيوف وبنادق، وخاطبتهم بهذه الجملة التي يُوثَق بقائلها: «أقسم بالله إنا مسالمون وإنا لا نريد بكم ضرًّا، وإنا لا نقصد سبي نسائكم وأولادكم.» وأجابني أحدهم بمثل ما قلت، ثم أخذنا في تبادل الأسئلة والأجوبة القصيرة من مثل: «من أنتم؟» «من أين قدمتم؟» «أين تذهبون؟ وأي غرض تقصدون؟» ثم شددنا على الأيدي وحمل كل منا سلاحه وارتد إلى موضعه، وحاولنا أن نشتري منهم غنمًا فأبوا أن يبيعونا شيئًا، وتركونا بعد قليل، ثم عادوا بثلاث نعاج وقدموها لنا بمثابة ضيافة، وامتنعوا عن قبول أثمانها، فأعطيتهم «عتقية» من القماش الأزرق، ففرحوا به كثيرًا.
وأرسلت الجمال لتشرب من البئر وتحمل الماء للقافلة، بينما كان الرجال يستعدون لتجهيز الوليمة العظيمة، واشتغلت بعد الظهر بأخذ بعض الصور، وقمت في المساء بعمل بعض الملاحظات بآلة التيودوليت.
وقد فزع أطفال الجرعان من رؤية مصباحي الكهربائي الذي أستعمله في قراءة التيودوليت، ثم شاقهم بعد ذلك.
ووادي «أجاه» بديع المناظر، وهو طريق طويل ضيق بين الصخور العالية يحوي من الأشجار والنباتات أكثر مما رأينا فيه من بعيد، وقرب منتصفه يتفرع إلى طريقين يؤدي أحدهما إلى البئر والآخر إلى الصحراء الممتدة.
وبئر «أجاه» مشابهة لبئر أردي، ولكن ماءها مضطرب من فعل الغنم والجمال، والطيور كثيرة في هذا الوادي تذكر أغانيها الشجية بمختلف الأصوات الجميلة التي تنبعث من أقفاص الطيور في حدائق الحيوانات.
وصحونا والظلام شامل، والنجوم ساطعة في سماء صافية وجاءنا الجرعان يودعوننا، وأبى أرامي وحسن أن يستمرا في السير معنا إلى الجنوب أكثر من ذلك، وتركانا يقصدان العوينات على جمل أرامي وانحدرنا إلى مستدق الوادي تحمينا جوانبه حرارة الشمس وأبصرنا ثلاثة غزلان في طريقنا، فانطلق الرجال لصيدها، ولكنها قفزت فوق التلال هاربة. وَصَوَّب حامد الزوي بندقيته إلى إحداها فأخطأها وسخر منه أصحابه شامِتِين، ولكنه أبى أن يقر بخيبته فأقسم بعظمة قائلًا: «والله لقد أصبتها ورأيت الدم يسيل منها.» ولم أهتم بالأمر كثيرًا لوجود فضل من اللحم الذي أهداها إلينا الجرعان.
واشتد الحر بعد ذلك فضايقنا، وأبت الجمال أن تسير ولم يمر على سقيها وقت طويل، فحططنا الرحال في ظل شجرة، ولم يغننا ظلها، فرأينا الأفضل أن نستظل بشقوق الصخور، وانطلقت الإبل ترعى، وأخذ الرجال في إعداد الغداء، وذُبِحت النعاج وانتظم لحملها في عصي، ثم أُدِير ببطء فوق النار، كعادة البدو في شيِّ اللحوم، وكان طعمه لذيذًا. وبينما كان الرجال يعدون الطعام جرح سعد يدَه ورأيت الدم، فسألته من أين أصابه ذلك، فأجابني بوكاره: «من رشاش دم الغزالة التي أصابها حامد.» وضحك الرجال ملء أفواههم مرة أخرى.
وملأتُ ساعاتي بعد الغداء وأثبتُّ ما قيَّد البارومتر والترمومترات ذات الدرجة القصوى والنهاية الصغرى وكتبت يومياتي، وجاءني حامد الجمال يعدو ليخبرني بوجود قطيع من النعام على مقربة منا، فقبض كلٌّ بندقيته وقام مستعدًّا للصيد، وبعد ذلك بقليل ظهر قطيع من النعام يبلغ الأربعين عدًّا، وتهيجت الرجال فلم يتمالكوا الانتظار حتى يقرب القطيع وأطلقت النار على مسافة بعيدة، فاندفع النعام في وادٍ آخر، وتعقبها الرجال مسرعين وأرسلت طلقات عديدة، ولكن الزروالي عاد وشيكًا وأخبرني أن الرجال لم تصِد شيئًا.
وبعد قليل، جاء حامد يحمل نعامة صغيرة، وتبعه السنوسي أبو حسن، وادعى كل منهما أنه صاد النعامة، وسألاني حكمي لوجود جرحين في جسمها يحتمل أن يكون كل منهما قاتلًا، وسألت رأي من حضر الصيد من الرجال، فاتفقوا جميعًا أن صائد النعامة حامد، فحكمت في مصلحته.
وقام حامد الجمَّال بعد ذلك بعمل طريف شديد الغرابة، وحامد هذا ضئيل الجسم، حاد التقاطيع، لا يخاف الحيوانات، ولا يخشى الثعابين، حدث له أن عثر بنعامة في ناحية مسدودة من الوادي، فقذفها بالحجارة حتى إذا لم ينل منها شيئًا هجم عليها ولفَّ يده حول عنقها وصارعها صراع الأبطال، ولكنها رفسته برجلها القوية رفسة شديدة في جنبه وانطلقت تعدو. وقد رأيت هذه المجالدة بمنظاري، فكدت أستلقي على ظهري ضحكًا، وتسلقت النعامة مرتفعًا من الأرض، ثم أدارت بصرها بازدراء إلى حامد الذي كان واقفًا يلعنها، وبعد ذلك أصلحت ريشها وانطلقت فخورة بانتصارها، وهي فرحة بنجاتها تاركة حامدًا ضاغطًا بيده على جنبه المرضوض.
وعاد حامد، فسألته: «هل آذتك النعامة؟» فأجابني وقد رفع يده عن جنبه بسرعة: «لا.» وسألته ثانية: «ولماذا لم تأتِ بها؟» فقال معتذرًا: «رأيت من واجبي أن أطلقها؛ لأنها كانت أنثى.»
وكان مما أسفت له في هذه المرحلة أني لم أتمكن من متابعة الصيد، كما كنت أود؛ فإن السير ليلًا بين العوينات وأردي لم يُبقِ لي في الصباح من النشاط إلا بقدر ما مكنَّني من تقييد ملاحظاتي العلمية، وانتهاز الفرص للإغفاء ساعتين أو ثلاث قبل اشتداد الحر.
وبدأ زادنا في النقصان، فلم يسعني أن أقيم في «أجاه» حيث تكثر الغزلان والنعام والنعاج البرية، وزادني رغبة في الرحيل قلَّةُ الماء، بعد أن رأيت كدورة ماء البئر من أثر الحيوانات، ولم يكن معي إلا بندقية مصرية عتيقة من طراز «مارتيني»، وأخرى من بنادق الفرسان الإيطالية أُهدِيَت إليَّ في الكفرة. وهاتان وإن كانتا صالحتين في الدفاع عن النفس إلا أنهما كانتا قليلتي الفائدة في الصيد على المرمى البعيد؛ ولذلك حرمت نفسي لذة الصيد.
وكان الجو شديد الحر فلم نبدأ السير إلا الساعة الخامسة مساء، فسرنا في الوادي الجميل مدة ساعة، ثم أخذنا نتسلق التلال، حتى إذا وصلنا قممها رأينا منظرًا بديعًا امتزجت فيه ظلال الأشجار والأدغال بلون الرمال الوردي، وحمرة صخور التلال التي تكتنف الوادي.
وكان نسيم المساء البليل يحمل على أجنحته أنغامًا عذابًا تنبعث من أسراب اليمام، وزاد هذا المنظر بهاء وانطباعًا في الذاكرة غروب بديع امتزجت فيه الحمرة بلون الذهب، فوقفت جوادي وترجلت، ثم انطرحت على قطعة من الرمل الناعم، وقضيت نصف ساعة أشرب جمال ذلك المنظر الفردوسي.
وشمل الكون الظلام وطلع الهلال، وسمعت على البعد بدو القافلة يتغنون، فعدت إلى نفسي وقمت ألحق بالقافلة، وفي نفسي الميل إلى البقاء.
واختلفت مناظر الأرض، فأصبحت متموجة كثيرة الشقوق يحيط بها جبال شعثاء بعيدة.
وكانت الرجال والجمال تشكو أثر ماء «أجاه» المكدر، وحططنا الرحال مبكرين لهذا السبب، ولخطورة المسير في نور الهلال الضئيل، ونزلنا واديًا ناعم الرمل يبعد عن سبيلنا زهاء مائتي متر، وضربنا الخيام.
وصحونا ولم تزل النجوم ساطعة في السماء يوم الثلاثاء ٢٣ مايو، فبدأنا السير بينا يوشع جانب الأفق عن يسارنا شروق بهي الألوان، وكان سيرنا بطيئًا؛ لأن الأرض كانت مغطاة بالعوسج ونثار الحجارة، ولأن محمدًا وهريًّا لم يطآ هذه النواحي عشر سنين، فكانا شديدَي الاحتراس في سيرهما. وبينا نسير التفت إليَّ حامد الجمال وأنا أمشي في مؤخرة القافلة، كعادتي للتحقق من اتجاه المسير وتدوين مذكراتي، ثم سألته: «أظن أن محمدًا الدليل على ظهر جمله، وإلا ما سرنا بهذا البطء.» فأجابني ذلك الذكي بسرعة قائلًا: «إن الشيخ سائر على قدميه يا سيدي البك؛ فإني أرى أثره فوق الأرض.»
وأدهشتني ملاحظة البدو الدقيقة وأخصهم الجمَّالون، فإن حامدًا ميَّز آثار أقدام رجال القافلة، ولا عجب إذا تعرف مواطئ جمالها كذلك.
وكان في الوادي مضرب خيام كبير لرجال «البديات» يحوي مئات الغنم وبعض جياد أشياخهم.
ولم يمضِ على إقامتنا قليل حتى جاءنا سكان الوادي يحيُّوننا، وعلى رأسهم الشيوخ، وشددت على أيديهم جميعًا، ثم قطرت الروائح الزكية في راحة كل منهم، وأرسلوا إلينا بعد الظهر بعض الغنم ضيافة منهم، وعرض علينا نساؤهم — وكلهن محبات للمتاجرة — سمنًا وجلودًا نشتريها، فاستبدلناهم بها نقودًا من المجيدي وقماشًا.
وقمت بعمل بعض الملاحظات في المساء.
وفزع رجال «البديات» من رؤية التيودوليت والمصباح الكهربائي، وثارت ظنونهم، ودخل أحد الأشياخ عليَّ في خيمتي، ففاجأني وأنا أفتح صندوق أجهزتي العلمية، فأقفلت الصندوق مسرعًا، ورأيت بعد قليل أني لم أكن مصيبًا في ذلك؛ فقد لاحظت في وجهه المغبر الجاف وعينيه المصفرتين المتقاربتين كعيني الثعلب أنه اعتقد بوجود ذهب في صندوقي، وبينما كان يترك خيمتي أمرت السنوسي أبا حسن وحامدًا على مسمع منه أن يستعدَّا لحراسة الخيام، وأشرت إليهما وقلت للشيخ أن ينبه على النساء والأطفال بعدم الاقتراب من الخيام في الليل، تفاديًا من أن ينكرهم الرجال فيطلقون النار عليهم، وكان عملي هذا إشارة إلى أنَّا يقظون، وأن لا أمل في انتهاز غفلة منا، ولم تضع هذه الإشارة عبثًا.