نهاية الرحلة
ودبَّ إلى جفني النوم في ليلتي الأولى «بفوراويه»، ونالني تأثر لم أشعر به منذ ودعت الضابط باثر في السلوم عند ابتداء الرحلة.
وأحسست أني الآن على اتصال بالدنيا الخارجية، وأن رحلتي انتهت وأنه لم يزل أمامي شهر أو يزيد حتى أترك قافلتي وأغير وجهة سفري، لقد أصبحت واحتا أركنو والعوينات معروفتين بعد أن كان يجهل موقعهما الجميع، وأصبح في الإمكان إن صَحَّت ملاحظاتي وكنت آملًا صدقها، أن ترسم خريطة دقيقة لجهات صحراء ليبيا الواقعة بين جالو وفوراويه.
وقضينا ثلاثة أيام في «فوراويه» اعتدنا فيها جوها الرطب الذي مُنِينا به، وحاولنا أن نصل إلى ما نتبلغ به من الطعام، وكان السحاب القاتم ينتشر فوق رءوسنا والمطر يهطل كل يوم، وأكثر رجالي من أكل الضأن، ولكن عدم وجود السكر اللازم للشاي، وحرماننا من الأطعمة الأخرى نقص من استمتاعنا بذلك النعيم.
وانحدرنا إلى الجنوب بعد ظهر اليوم السادس من شهر يونية، وتصعدنا من الوادي فمررنا بقطعان كثيرة من الأغنام القافلة من مراعيها، يتبعها صبيان وفتيات هيف القدود لا يلبسون إلا ما يستر عورتهم من قماش وعقودًا من الخرز.
وكانت هذه الأصقاع مختلفة عن الصحراء التي اخترقناها، فقد كنا نسير في سبيل مطروقة، ونمر من وقت لآخر بقرى صغيرة من أكواخ القش، ونساء يحملن الحطب ونرى غير ذلك من دلائل الإقامة والحياة، وطلبت من رجال القافلة عند اقترابنا من إحدى هذه القرى أن يتقدموني وأشرت لهم إلى الموضع الذي تُضرَب فيه الخيام وتبعتهم بجوادي، وإنما فعلت ذلك لأن هذه الجهات شاقتني من الوجهة الجغرافية، فأردت أن أقوم بعمل بعض الملاحظات، وسمعت عند اقترابي من الخيام أصواتًا عالية، وكانت خليطًا من الغناء والعويل.
وكان أول ما خطر ببالي أن نزاعًا قام بين رجال القافلة وسكان القرية فحثثت جوادي أستطلع الخبر، ولكني لم أكد أقرب الخيام حتى سمعت دوي الطبل وغناء النساء، وكان وقت الغسق، فلم أتمكن من توسيم وجوه الجمهور الذي كان يتقدم إليَّ، ولم يمضِ زمن قليل حتى هُرِع إليَّ أحد رجالي وأخبرني أنهم استُقبلوا أعظم استقبال من رجال القرية ونسائها الذين أصروا أن يخرجوا إلى ظاهر القرية ليستقبلوا شيخ القافلة، ولم يكد يخبرني الخبر حتى أحاط بجوادي سرب من العذارى يتغنين ويرقصن، فلم يسعه إلا أن يجاوبهن بالطفر والقفز كما يليق بالجواد البدوي، وزغردت النساء فطلب مني البدو أن أفرغ البارود، وأفسح الجمهور الطريق لجوادي فابتعدت به مسافة قصيرة، ثم درت وانطلقت به عائدًا فوقفته دفعة واحدة. وكنت في ذلك الوقت قد أخرجت بندقيتي فأطلقتها عند وقوف الجواد، على الطريقة البدوية، عند أقدام أول صف من العذارى الجميلات فأخافهن ذلك وشاقهن.
وبعد ذلك أحاط ست منهن بجوادي وطفن حوله ثم أدين لي «الشبَّال»، وهو أن يرسلن جدائل شعورهن ثم يلوين رءوسهن بغتة تاركات خصلهن تدور أمامي، وأجبتهن على هذه التحية، فكنت أضع أصبعي على جبين كل منهن، وأدير بندقيتي في الهواء حول رأسها وأنا أقول: «أبشر بالخير»، ثم التأم جمعنا في موكب حافل، وتقدمنا إلى مضرب الخيام، ورآني رجال القافلة محاطًا بالعذارى، فأطلقوا النار احتفاء وتكريمًا، ووزعت عليهن بعد ذلك الروائح العطرية، فانصرفن فرِحات، وكانت ليلة أنس وطرب في مضرب الخيام.
ووصلنا «أم برو» في اليوم التالي، وهي على بعد ٣٨ كيلومترًا من فوراويه وحططنا الرحال بالقرب من البئر، وصحوت في الصباح التالي على أصوات الغنم والماعز القادمة للاستقاء، وبعد ذلك بساعة أُقِيمت سوق عامرة على مقربة من خيامنا؛ لأننا كنا نصبناها بدون تروٍّ بالقرب من شجرة كبيرة من وسط المكان المعد لإقامة السوق، ولم يشترك في هذا السوق إلا النساء اللاتي جلبن الزبد والجلود والحصر والشعير والقطن والملح، واستبدلن بكل هذا أشياء أخرى غير مستعملات النقود في معاملتهن، تقوم النساء بهذا بينما يستريح الرجال ويظلون عاطلين من العمل.
وقد دار بخلدي حين أبصرت هذه المناظر وأشباهها في قرى السودان أن هؤلاء الجواري السود يكن أسعد حالًا وهن في ربقة الأسر في البيوت البدوية، فإنهن وهن مطلقات يقمن بتأدية كل الأعمال فيتعهدن الغنم والماعز، ويشتغلن بأمور المنزل، ويجهزن الطعام ويصنعن المريسة وهي شراب الرجال المحبوب، ويشتغلن في الأسواق، ويقمن بعمل كل شيء على وجه عام، أما وهن في ربقة الأسر فليس عليهن إلا واجبات محدودة تترك لهن من الفراغ نصيبًا غير قليل.
وطال بي التفكير في هذه المقارنة، وأنا ألاحظهن في السوق، فخُيِّل لي أني أسمع في حديثهن وغنائهن نبرات لم أسمع مثلها في أصوات الأسيرات، فعلمت أن الحرية قد تبعث في النفوس شعورًا خاصًّا ينعم به المُطلَقون في أشد حالات العيش نَصَبًا.
وأقمنا يومين في «أم برو» وزارني عبد الرحمن جدو وكيل محمدين وهو رأس قبيلة الزغاوة، وقدَّم لي غنمًا ودجاجًا بصفة ضيافة، وقابلنا الوكيل في اليوم التالي مقابلة رسمية يحف به خدمه وحشمه على ظهور جيادهم، وهم يدقون الطبول، وأرسلت لنا أسرة محمدين في غياب رئيسها غذاء من العصيدة والخضر والفطائر والمريسة.
وكانت مرحلتنا التالية تتطلب سفر خمسة أيام إلى «كُتُم» على بعد ١٢٩ كيلومترًا إلى الجنوب، وكان الجو جيدًّا رغم حرارته ونزول بعض الأمطار، وسرنا كالعادة في الصباح الباكر والعصر، وكان سبيلنا مطروقًا سهلًا بين الأراضي التلية المغطاة بالحشيش الجاف والأشجار الصغيرة، وعثرنا في الطريق بقطع من الأرض أحرقت حشائشها تمهيدًا لزرعها بعد ذلك.
ورجع رسولي إلى الفاشر في صحبة آخرين، ولم يكن عند حسن ظني به، فقد قضى خمسة أيام بدلًا من أربعة للوصول إلى الفاشر.
ولم يحضر مع ذلك ردًّا على رسالتي، وقال لي: إن الرد في انتظاري مع جندي عند بئر «مطرج» على مسيرة ١٢ ساعة من محلتنا، وأن ذلك الجندي يحمل زادًا لنا، ولكن ذلك الزاد المنتظر كان قليل الفائدة، على تلك المسافة البعيدة، فقد تناولنا عشاء قليلًا عندما حططنا الرحال تلك الليلة. وبعد تناول العشاء أمرت دليلنا أن يُسرع بالسفر، فيسير عامة الليل ولا يقف حتى يصل «مطرج»، ثم يخبر الجندي بالإسراع إلينا على قدر الطاقة.
وبدأنا السير قبل الساعة الرابعة من الصباح التالي، ولم تمضِ ساعة حتى هُرِع الرجال يخبرونني أن جنديًّا يتقدم إلينا على جَمَله، وبعد ذلك بدقائق، سلَّمني الجندي خطابًا من المستر شارل ديبوي القائم بأعمال حاكم دارفور المستقيل سافيل باشا، وَقَدَّم لنا كمية من الأرز والدقيق والشاي والسكر، وسرني على الأخص، أنه سَلَّمني كمية من السجائر فإني لم أكن دخنت منذ تركنا أردي، فقد عرفت بغتة في العوينات أنه لم يبقَ لي إلا بعض سجاير قليلة، فأخذت نفسي بتدخين سيجارة واحدة في اليوم، أنعم بها بعد العشاء، وكان يؤلمني الانتظار طول النهار، حتى تحل الساعة التي أُدخن فيها سيجارتي، ولكني كنت أسعد كثيرًا بساعة التدخين فكنت أنتحي ركنًا ظليلًا، وأشعل سيجارتي الثمينة، ثم أقيها هبَّات الريح حتى لا تهيج شعلتها فتنفد سريعًا، ونفدت السجاير فلم يبقَ لي إلا الذكريات القديمة والانتظار المقبل، وقد كُوفِئت على ذلك الانتظار الطويل، وثأرت لنفسي بالانكباب على التدخين حتى احترق حلقي.
وأهديت بوكاره حفنة من تلك السجاير، فوضعها فوق طربوشه الأحمر ذي الزر الطويل، ثم امتطى جواد الدليل وأخذ طربًا، ولكن السرور لم يعم أفراد القافلة فيدفعهم إلى الغناء والرقص، إلا حين نزلنا دار راحة الحكومة في مطرج، فإنَّ الطرب تملك الرجال حتى وضعوا رأس السكر على الأرض، وأطالوا الرقص حولها حتى داخَل الجنديَّ أن بنا جميعًا مسًّا من الجنون.
وقد سأل بعضنا عن مبعث ذلك الطرب، فأجابه عبد الله: «إن لنا شهرًا لم نذق السكَّر فيه، وإنا قادرون الآن على تحلية الشاي الذي نشربه.» وإنما يشعر بافتقاد السكر وشدة الافتقار إليه من حُرِمه عهدًا طويلًا، فهز رأسه الجندي مبتسمًا، ثم قال: «يجب عليَّ أن أعود في الحال إلى كُتم وأحضر لكم شيئًا من الزاد؛ فإنا لم نظن أنكم بهذه الدرجة من الافتقار إلى الطعام.» وتفضل علينا قبل سفره بالذهاب إلى خيام قريبة، وإتحافنا بشاة وزبد يدفع ثمنهما معاون كُتم؛ لأن البائع رفض قبول الأوراق المالية المصرية.
وتركنا الجندي بعد أن زودته بخطابات مني إلى المستر ديبوي والمعاون وهو الحاكم المنتدب في كُتم، وكفانا الزاد الذي أحضره الجندي، ولكن الخوف من حاجتنا إلى الاستزادة جعلنا نقرر السفر في التوِّ، فسرنا وحططنا الرحال عند الظهر في دار «استراحة» الحكومة عند بئر «المراحيج»، وضربنا خيام الليل على بعد بضعة كيلومترات من تلك الجهة، وكانت حال الجِمال من السوء بمكان عظيم، فقد تقرحت ظهور بعضها وجنوبها ودُمِيَت، ورفض اثنان منها أن يسيرا حتى تُرفع عنهما الأحمال، وأمطرت السماء ذلك المساء مدة ساعة، ولكن ذلك لم يبل أوام نفوسنا وَغنَّت الرجال ورقصت حول ركية عظيمة من النار.
وقد ذكرتني رطوبة المكان ورائحة الحشيش الرطب بمطافاتي في أرياف إنجلترا، وسرنا مبكرين في الصباح التالي حتى نصل بئر مطرج عند الظهر، وتناولنا الغذاء في دار «استراحة» الحكومة القريبة من البئر وزارنا شيخ مطرج، وأحضر لنا دجاجًا بصفة ضيافة، وأراد أن يستبقينا تلك الليلة حتى يقوم بواجب الضيافة نحونا في اليوم التالي، ولكني كنت أشعر بالحاجة إلى الإسراع في السفر، فقد ساءت حال الجمال عن ذي قبل، واضطررنا إلى ترك أحدها عند شيخ القرية، على أن يأخذ ربع ثمنه إذا شُفِي وبيع، وأن يكون خاليًا من المسئولية إذا مات.
وظهر لنا جندي آخر على ظهر جواده، بعد مسيرنا بساعة ونصف ساعة في اليوم التالي، وأحضر لي خطابًا من معاون كُتم، وكمية صغيرة من الأرز والسكر، وشكرنا له الهدية؛ لأن زادنا كان قد نزر ونفد منا السكر اللازم لتحلية الشاي، وأعطيته خطابًا يوصله إلى كُتم، ثم حططنا الرحال بعد ذلك بواد صغير في «باوو».
وأمطرت السماء عند استئنافنا السير بعد الظهر، وهبَّت ريح قوية من الجنوب الشرقي، ورأيت من الحكمة أن نحط الرحال؛ حتى تقر العاصفة، ولكني أطللت في منظاري فرأيت صف الأكواخ القشية التي تكوِّن مركز الحكومة في كُتم، فشجعني ذلك على المضي في المسير فحثثنا الإبل.
ورأينا بعد ذلك كوكبة من الفرسان تتقدم إلينا، فصرخ البدو عند رؤيتها مبتهجين، وتعرفت الملابس الرسمية للجيش السوداني، فكان ذلك أبهج ما وقع عليه نظري منذ أسابيع طويلة، وتقدم إلينا رياض أفندي أبو عقله، ونصر الدين أفندي شداد — وهما معاونا كُتم — على رأس كوكبة مكونة من عشرة فرسان، وفي صحبة القاضي ورئيس الكتبة وغيرهما من موظفي كُتم ووجهائها، وشددت على أيديهم جميعًا، ثم اخترقت القافلةُ القريةَ وهم يحيطون بها.
وحيَّانا عند اقترابنا من المركز نساء متشحات بالثياب البيضاء، يغنين ويزغردن ويضربن الطبول، ووقفن صفًّا طويلًا يغنين ويرقصن فطرب لهن البدو كثيرًا، وسألوني أن أسمح لهم بإطلاق البارود ردًّا على تحياتهن، ولم يسعني الرفض فتناوب الرجال، وعلى رأسهم بوكاره، إطلاق البارود عند أقدامهن، ولم تكن السودانيات متعودات تلك العادة البدوية في تكريم النساء كأخواتهن البدويات في الشمال، فجفلن قليلًا عند اشتعال البارود على مقربة من أقدامهن ولكنهن رَضِين ذلك، وظللن يتمايلن ويرقصن على دق الطبول، بينما كان رجالي يطلقون البارود عند أقدامهن على التوالي، وكان لقاء بديعًا بدَّد سرورنا به، ما نالنا في السفر من نصب وكلال.
وزاد إظهار الكرم نحونا، فأرسل إلينا المعاونون والموظفون أربع نعاج وزبدًا وخضرًا وسكرًا، فقضينا ليلة أبهج ما تكون حالًا، وكان هبوطنا كُتم في ذلك الوقت فألًا حسنًا عند سكانها؛ لأنا قَدِمناها مع وسمي فصل الأمطار، وقضينا يومين في ضيافة المعاونين في غياب المفتش المستر أركل الذي كان في الفاشر.
وقد تفرجنا عصر يوم من أيام إقامتنا على مباراة في لعب الكرة بين الجنود، وأبدى اللاعبون نشاطًا شديدًا وإن لم يتقنوا اللعب إتقانًا تامًّا، ولم يخلُ اللعب من فكاهة ظريفة، فإن كثيرين من اللاعبين الذين حاولوا أن يرفسوا الكرة رفسة قوية أخطأوها وأرسلوا أحذيتهم السودانية تنطلق في الفضاء، وقد شاقتنا كثيرًا روح التآلف التي كانت سارية بين الضباط والجنود الذين قاموا بهذه اللعبة التي لا تخلو من بعض الخشونة.
وتناولت عشاء تلك الليلة في دار رياض أفندي ونصر الدين أفندي، فكان أول طعام ذقته بين حيطان المنازل منذ تركت الكفرة، وقدم لي ضائفيَّ جرائد مصرية، فكانت أول ما قرأت منها بعد مضي ستة أشهر.
وتركنا كُتم في الساعة السادسة من صباح يوم ١٧ يونية منشرحين بما لقينا من دلائل الكرم والضيافة أثناء إقامتنا، ومن مظاهر التوديع الحار عند تركنا المدينة، وكانت المرحلة الباقية إلى الفاشر وهي تستغرق يومين ضربًا من ضروب التريض.
ودبَّ في نفوسنا جميعًا دبيب الاهتياج والابتهاج بعودتنا إلى الاتصال بحياة الحركة، ولكني شعرت ساعة انقلبتُ إلى فراشي ليلة ١٨ بوخزة حزن في قلبي؛ لأن ذلك اليوم كان آخر أيامي في الصحراء، وبدا لعيني آلامي المستقبلة لافتقادي رجالي وجمالي، وحرماني تلك الوحشة المؤنسة والجمال والوحدة ومتعة المرافقة التي ملكت نفسي في الصحراء وعيشي بها، وشكرت الله على هديه لي في تلك الأصقاع الرملية الممتدة غير المطروقة، ورأيتني أضيف إلى صلوات شكري دعاء خالصًا أسأله فيه، أن يُقدر لي العودة إليها يومًا من الأيام.
وكنت قد أصدرت أمري إلى رجال القافلة بالسفر المبكر في الصباح التالي، وَتملَّكهم الشوق إلى الرحيل، فبالغوا في التبكير، ولم أكن أقل منهم هشاشة إلى الرحيل، فلم آبه بالمسير في منتصف الساعة الثالثة صباحًا، وحططنا الرحال على مسير ثلاث ساعات من الفاشر، نستعد لدخول المدينة، فحلقنا ذقوننا ولبسنا أفخر ثيابنا، وكان المستر ديبوي قد أرسل إلينا في كُتم كمية من القماش الأبيض، فأمكن رجالي أن يظهروا في لباس لائق وتهافتوا جميعًا على القطعة الباقية من مرآتي يتوسمون فيها وجوههم، ونظفت البنادق وأُصلح من شأن حوائجنا التي أصبحت في حال يُرثَى لها من البلى، وكان بودي أن أصنع شيئًا للجمال فأغير مظهر هزالها ونحفها، ولم يكن سبيل ذلك إلا بتعهد ظهروها المقروحة وإراحتها، ولم يكن عندنا من الوقت أو الظروف ما يمكننا من فعل ذلك، ومع ذلك فقد خُيِّل لي أنها تشاطرنا الشوق إلى الرحيل، فجدَّت في السير بخفة ونشاط.
وارتدى عبد الله والسيد الزروالي ثيابهما الحريرية، وتقدمت القافلة إلى المدينة فرحة، ووصلنا ظاهر الفاشر فإذا بصرخات السرور تنبعث من جميع أفراد القافلة؛ لأنهم رأوا كوكبة من الفرسان لابسي الخاكي تتقدم إلينا، وحثثت جوادي بركة فعدا راضيًا، وسَرَّته رؤية الجياد القادمة فنشر أذنيه وانطلق في عَدْوِه.
وتقدم المستر ديبوي على جواده يحييني، فتبادلنا الشد على الأيدي، وَحَيَّانا بقية الموظفين المصريين والإنجليز، فرددنا عليهم التحية بأحسن منها، ثم ذهبنا إلى دار المستر ديبوي الذي تفضل فخصني ورجالي بجزء منها، وتفضل البكباشي «أوداس» فتعهد الجمال المنهوكة فأطعمها وسباها وعالج جراحها، وكانت في حاجة ماسة إلى هذا العلاج.
وقضيت عشرة أيام في ضيافة المستر ديبوي، ولقيت شيئًا كثيرًا من كرم ضباط وموظفي المدينة بين مصريين وإنجليز، ومن وجهائها كذلك، والحق أقول: إن دلائل الكرم غمرتني ومظاهر الرعاية ظلَّتني فلم أكن في حاجة إلى شيء.
وشعرت بحياة المدنية، فاستمتعت بملذاتها وأخصها أكل الخضر والفواكه، وما كنت لاقٍ هذه الملذات لولا ما ذقت في صميم الصحراء من طرف محدودة في عيشتها، وحل يوم توديعي لرفقائي الذين صحبتهم في رحلتي من الكفرة، فجاءني بوكاره وأخوه وحامد والسنوسي أبو جابر يودعونني، فكانت ساعة مؤثرة شعرت فيها بألم الفراق وازدحمت فيها على خاطري خوالي الذكريات، ولم يتمالك أولئك الرجال الجليدون البكاء، ولم أستطع منع عيني أن تندى بالدموع، فقد صحبنا الأيام معًا في حلوها ومرها، وخرجنا من عشرتنا الطويلة أصدقاء مخلصين، ولست أتمنى على الدهر أمتع من هؤلاء رفقاء؛ لاجتياز تلك الأصقاع الموحشة، ولا أكثر منهم قدرة ورجولة وإخلاصًا.
وقرأنا الفاتحة فكانت جهشات بوكاره تخالط كل وقف من آياتها الشريفة، وشدَّدت على أيادي الرجال جميعًا للمرة الأخيرة، ثم افترقنا لنتقابل كما أرجو يومًا من الأيام في تلك الصحراء التي نالت من نفسي بقدر ما نالت من نفوس ساكنيها.
ولم يبقَ أمامي إلا مرحلة واحدة إلى الأُبَيِّض التي تبعد ٦٠٠ كيلومتر إلى الشرق، فقطعتها وأخذت القطار إلى الخرطوم ومنها إلى القاهرة، فوصلتها في أول أغسطس سنة ١٩٢٣، وكنت قد غبت عن وطني سبعة أشهر و٢٣ يومًا، وقطعت بالقافلة مسافة ٣٥٠٠ كيلومترٍ في الصحراء، وأمكنني بواسطة هذه الرحلة أن أقطع في تحديد مركز آبار الظيغن ومكان الكفرة على خريطة أفريقيا، وكان موضع الأول قبل ذلك بعيدًا عن مكانه الأصلي بمقدار ١٠٠ كيلومتر، والثانية بمقدار ٤٥ كيلومترًا، ونلت كذلك توفيقًا عظيمًا في إثبات الواحتين المجهولتين أركنو والعوينات على خريطة صحراء ليبيا.