السنوسيون
لا يكمل سرد قصة عن صحراء ليبيا بدون ذكر السنوسيين الذي هم أهم عامل من عوامل النفوذ في تلك الأصقاع، وهذا الموضوع كبير، أحق به أن يُفصَّل في كتاب خاص، ولكني أقدم للقارئ في هذا الفصل القصير أهم نقط تاريخ السنوسيين.
لا يكوِّن السنوسيون شعبًا أو مملكة أو وحدة سياسية، وإن كان فيهم من هذه الأشياء خواص كثيرة، على أنهم من البدو الذين يسكن معظمهم صحراء ليبيا.
ويبسطون نفوذهم على مساحة عظيمة من تلك النواحي، وتسلم حكومات النواحي بأنهم قوة حقيقية في شئون أفريقيا الشمالية الشرقية، وهم مسلمون، وأحسن وصف لهم أنهم رابطة دينية زعامتها وراثية ونفوذها قوي في إدارة شئون سكان صحراء ليبيا.
ويمكن تقسيم هذه الطائفة إلى أربعة عصور اكتسبت الطائفة صبغتها في كل عصر منها من شخصية الزعيم، والزعماء الأربعة هم على التوالي: السيد ابن علي السنوسي مؤسس الطائفة، والسيد المهدي ولده، والسيد أحمد ابن أخ المهدي، والسيد إدريس بن المهدي زعيم الطائفة الحالي.
وُلِد السيد محمد بن علي السنوسي المعروف بالسنوسي الكبير في الجزائر سنة ١٢٠٢ هجرية، وهو من نسل الرسول عليه السلام، توفر على دراسة العلوم في جامعة القيروان، وفي فاس وفي مكة، حيث أخذ العلم عن الفقيه الشهير سيدي أحمد بن إدريس الفاسي وقد مالت نفسه إلى التقشف، وتمكن من نفسه اليقين بأن الدين الإسلامي مفتقر للرجوع إلى تلك الصورة الخالصة التي وضعتها تعاليم النبي عليه السلام.
وقد اضطر أن يترك مكة في السنة الأولى بعد الخمسين من عمره مدفوعًا بمعارضة المتقدمين في السن، من المتفقهين الذين خالفوه في بعض آرائه الدينية، فعاد عن طريق مصر إلى برقة، وأخذ يؤسس المعاهد لبثِّ تعاليمه بين أهل البادية، وسنتناول في شرح هذه التعاليم، ذكر ثلاثة أشياء لا مندوحة عن تفسيرها وهي الزاوية والإخوان والوكيل.
أما الزاوية فبناء مكوَّن غالبًا من ثلاث غرف، ويتوقف حجمها على أهمية المكان الذي تُقام فيه، وإحدى هذه الغرف خاصة بإعطاء الدروس التي يتلقاها صغار البدو عن الإخوان، والثانية مَضْيفة ينزل فيها المسافرون لتمضية ثلاثة الأيام التي يقضي بها كرم البدو، والغرفة الثالثة لسكنى الإخوان، وتُقام الزاوية عادة بالقرب من بئر يقف عندها المسافرون ويجاور الزاوية، في أغلب الأحيان، قطعة من الأرض يزرعها الإخوان.
والإخوان هم الأعضاء العاملون في هذه الطائفة وهم الذين ينشرون تعاليمها وأغراضها، والإخوان لفظ يُطلق على المفرد والجمع — في اصطلاحهم — وأما الوكيل فهو ممثل شيخ السنوسيين والقائم عنه بالأمر.
رأى مؤسس هذه الطائفة مسلمي برقة سادرين في غيابات الضلال، معرَّضين لخطر الاضمحلال السريع من الوجهتين الدينية والْخُلُقيَّة، فأراد أن ينتشلهم من وهدة السقوط، وَإِنَّا لنسوق بعض الأمثال لتلك الأعراض التي غيرت من معالم الدين الحنيف.
أسس بعض أصحاب النفوذ من شيوخ البدو في الجبل الأخضر، شمال برقة ضربًا من الكعبة قصدوا به تقليد البيت الحرام الذي قضى الإسلام بحجه، على كل مَنِ استطاع إليه سبيلًا، وقد أراد مؤسسو هذه الكعبة الزائفة، أن يدخلوا في أذهان البدو أن زيارتها، تقوم مقام حج بيت الله الحرام.
وأراد أولئك الشيوخ أن يتخلصوا من صوم رمضان، والانقطاع فيه إلى العبادة، فابتدعوا لذلك بدعة، هي أن يذهبوا قبل حلول رمضان بأيام إلى وادٍ اسمه وادي زازا، وهو معروف بقوة رجع الصدى الذي تردده جوانبه، ثم يصرخون جميعًا سائلين: «أي وادي زازا أنصوم رمضان أم لا؟» فيُجيب الصدى بالكلمة الأخيرة من هذه الجملة وهي «لا لا» ويتصور مَنْ سأل ذلك الوادي أنهم أصبحوا في حل من الإفطار فيفطرون، غير مقيدين بأوامر الدين الحنيف، قانعين بأن الأمر صدر إليهم بعدم الصوم.
ومما يُذكر أنه في بداية تعاليمه، أقيمت الصلاة فدخل المسجد أعرابي اسمه «مجرم» ووقف في الصف الأول يصلي لأول مرة، فقرأ الإمام آية: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ فتأخر إلى الصف الثاني، فقرأ الإمام: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآَخِرِينَ فتأخر مجرم إلى الصف الأخير، فقرأ الإمام: كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالمُجْرِمِينَ فخرج مجرم من بين المصلين يعدو مهرولًا إلى داره، فسألته امرأته وقد رأته مضطربًا ما خطبه؟ فقال: «ها دوَّة الصلا دوَّة وعرة، هلك الأولين توخرت، هلك الآخرين توخرت، نادى بالاسم: يا مجرمين عدِّيت.»
وكان في بدو تلك النواحي بقية من العادات البربرية القديمة، فكانوا يقتلون البنات خشية ما قد يجلبنه عليهم من العار، وهذه العادة المرذولة تحول بين هؤلاء القوم وبين التقدم إلى مصاف ناشري الدعوة للإسلام.
رأى مؤسس الطائفة السنوسية كل ذلك، فحاول في تعاليمه وإرشاداته أن يعود بالإسلام إلى قواعده في ذلك العهد الطاهر، وأسس السيد ابن علي أول زاوية في أرض إفريقية في واحة سيوة، وتقدم من تلك الناحية غربًا إلى برقة، فأسس الزوايا في «جالو» و«أوجله»، وتوغل غربًا في طرابلس وتونس ينشر تعاليمه بين البدو، وكان قد تقدمته إلى تلك النواحي شهرته الدينية والعلمية، فطلب وفادته شيوخ البدو وتنازعوا في سبيل إكرامه، وعاد إلى برقة سنة ١٢٥٨ هجرية فأسس زاوية كبيرة، في الجبل الأخضر، بالقرب من درنة، ودعاها الزاوية البيضاء، ولم يكن له حتى هذا العهد مركز ثابت؛ لأنه كان كثير التجوال، ينشر تعاليمه في كل مكان، فأقام في الزاوية البيضاء واستقبل الزوار من رؤساء قبائل برقة.
أسألكم باسم الإسلام أن تطيعوا الله ورسوله فقد قال — سبحانه وتعالى — في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ويقول: مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، ويقول: وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا.
أسألكم أن تطيعوا أوامر الله ورسوله فتؤدوا الصلوات الخمس وتصوموا رمضان وتؤاتوا الزكاة وتؤدوا فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، وتجتنبوا ما نهى الله عنه من قول الكذب والغيبة وابتزاز أموال الناس وشرب الخمر وتأدية شهادة الزور، وغير ذلك مما أمرنا الله باجتنابه، فإذا فعلتم ما أمر الله به، ورجعتم عما نهى عنه، أسبل عليكم نعمته الأبدية ومنحكم الخير والرزق الدائمين.
وكان أهم ما عُنِي به مؤسس الطائفة السنوسية الدعوة إلى الحياة الدينية الطاهرة، فلم يعمل لأن يكون زعيمًا سياسيًّا أو صاحب قوة زمنية، وكان في كل أعماله مثالًا صالحًا للتقوى التي دعا الناس إلى التحلي بها، ولم تكن له تعاليم خاصة في الفقه أو آراء شخصية في تفسير قواعد الدين، وكان أكبر همه، اتباع رجاله لقواعد الإسلام لا الإكثار من رسوم العقائد، والشيء الوحيد الذي أضافه إلى العبادات الدينية دعاء وضعه وردده السنوسيون بعد ذلك، وهو «حزب» على نحو الأحزاب المعروفة، بين طوائف الطرق الصوفية، وليس فيه ما يناقض تعاليم أئمة الفقه السابقين، أو يزيد عما نزل به القرآن، وإنما هو تعبير موافق لِمَا جاء في محكم التنزيل.
تنبيه الغافل، وتعليم الجاهل، وهدى مَنْ ضَلَّ سواء السبيل.
وقد نهى عن حياة الترف كل مَنِ انضم إلى طائفته، فمنع حيازة الذهب والجواهر إلا في حلي النساء، وحرم تدخين التبغ وشرب القهوة، ولم يأمر بطقوس أو فروض جديدة، وإنما طلب إلى الناس أن يتبعوا قواعد الدين في أبسط مظاهره، كما أنزل الله على رسوله الكريم، وكان في بدء دعايته، لا يجيز اتصال رجاله بالأجانب، كي لا يفسدوا عليهم عقائدهم إلى أن تتأصل تعاليمه في نفوسهم، بل كان لا يجيز اتصالهم بأهل البلاد الإسلامية التي يعتقد أنها حادت عن جادة الدين الحنيف.
وكانت جغبوب مركزًا أُحسِن اختياره وصالحًا لأغراضه، فهي وسط قبائل في الشرق والغرب، كان النزاع بينها مستمرًا، ومن ثَمَّ، أمكن السنوسي الكبير أن يبسط نفوذه على المتنازعين، وأن يصلح ذات بينهم كما أمر بذلك الرسول.
وليست جغبوب من الوجهة العملية ناحية تصلح أن تكون مركزًا علميًّا أو دينيًّا، كما فكر السنوسي الكبير؛ لأنها ليست في خصب الواحات، إن صح أن تُسَمَّى واحة، فإن النخيل فيها قليل، والماء غير عذب، والتربة مستعصية على الزراعة، ولكن مركزها السياسي لا نزاع في صلاحه؛ ولذلك اتخذها مقرًّا له بدون تردد. وقد انقطَعَتْ فعلًا بعد إقامته هناك تلك الإغارات التي كانت مستمرة بين قبائل الشرق والغرب، وكان له الفضل في إيقافها، ولم يقتصر نفوذه على تلك النواحي، بل تعداها إلى قبائل برقة فقضى على ما كان بينها من عداء قائم من قديم الزمان.
وعاش السيد ابن علي ست سنين بعد أن اتخذ جغبوب مقامه، ومدَّ نفوذه شرقًا وغربًا حتى دعته إلى الكفرة قبيلة «زوي» — التي اشتهر رجالها بقطاع طريق برقة، وكانوا معروفين بين العرب بأنهم لا يخافون الله ولا يخشون الناس — وهي مركزهم المهم وسألته أن يؤسس زاوية له هناك، وقد رضوا أن يقفوا الإغارات والنهب ومهاجمة القبائل الأخرى، وعرضوا عليه ثلث أملاكهم في الكفرة، إذا رضي بأن يوفد إليهم أحد إخوانه ينشئ بينهم زاوية ينشر فيها تعاليمه ويعلم أبناءهم، ولم يتمكن السيد من الذهاب بنفسه، فأرسل أحد مشاهير الإخوان، وهو سيدي عمر أبو حواء؛ فأسس زاوية في «جوف» بالكفرة.
وبدأ ينشر تعاليم السنوسي الكبير بين أهالي قبيلة «زوي»، وأرسل السنوسي إخوانًا آخرين إلى جهات أخرى من صحراء ليبيا، ولم يمت حتى أصبح جميع البدو المقيمين على حدود مصر الغربية، وفي جميع نواحي برقة وطرابلس تلاميذه وأتباعه.
وقد مات سنة ١٢٧٦ هجرية في الرابعة والسبعين من عمره، ودُفِن في القبر الذي تظله القبة الشهيرة بالجغبوب.
وخلف السنوسي الكبير ولده سيدي محمد المهدي، وكان في السادسة عشرة من عمره عند موت أبيه، وقد قوَّى مركزه بين السنوسيين، على الرغم من حداثة سنه، عاملان مهمان: أولهما أنه كان في مجلس أبيه وأراد الانصراف، فقام أبوه وأصلح وضع حذاء المهدي بنفسه، وكان قد خلعه قبل أن يدخل على أبيه — وفي ذلك ما فيه من المهابة والتواضع — ثم التفت بعد ذلك إلى جلسائه وقال: «اشهدوا أيها الحضور أن ابن علي أصلح بنفسه وضع حذاء ولده المهدي.» وقد فهم الناس ساعتئذ أنه أراد بذلك أن يشعرهم بأن الولد لن يخلف أباه فقط، بل يقوم بعده أيضًا في صلاحه وتقواه.
أما العامل الآخر، فهو أنه جاء في بعض الأنباء القديمة، أن المهدي المنتظر الذي يرفع لواء الإسلام في نهاية العالم يصل سن البلوغ في غرة محرم ١٣٠٠ هجرية، وأن يكون من أب اسمه محمد وأم اسمها فاطمة، وقد جمع المهدي في نفسه كل الصفات التي قيل إنها وردت في أحد كتبهم؛ ولذلك تم اختياره خلفًا لكبير السنوسيين.
وانتشرت زوايا السنوسيين حتى صارت عند بلوغ السيد المهدي ثمانيًا وثلاثين زاوية في برقة، وثماني عشرة في طرابلس وتناثرت غيرها في بقاع إفريقية الشمالية، ولم تخلُ مصر من نحو عشرين زاوية، وقد قدر المحصون أن عدد مَن انضم لطائفة السنوسيين وأقر بالزعامة الدينية للمهدي عندما خلف أباه كان يتراوح بين مليون ونصف مليون وثلاثة ملايين.
والمهدي أشهر أفراد أسرة السنوسي، فقد رأى، من أول الأمر، أن نفوذ الطائفة يجد في جهات الكفرة والبلاد الجنوبية، مجالًا أوسع مما يجده في الشمال، فنقل مركز إقامته سنة ١٣١٢ هجرية من الجغبوب إلى الكفرة، وقبل أن يترك مقره القديم أطلق جميع عبيده من الرق، ولا يزال بعض هؤلاء العبيد وأولادهم مقيمين في الجغبوب.
وكان انتقاله إلى الكفرة فاتحة عصر جديد في تاريخ السنوسيين، فقد تقدمت التجارة في عهده بين السودان وشاطئ البحر الأبيض المتوسط، عن طريق الكفرة حتى صارت الطريق الوعرة الخالية من الماء بين بئر «بو الطفل» بالقرب من «جالو» وبين بئر «الظيغن» في شمال الكفرة طريقًا تختلف إليها القوافل التجارية، ويرتادها المسافرون لزيارة الكفرة مركز طائفة السنوسيين، وبلغت الحركة في تلك الطريق حدًّا قال لي بدوي عنه: إنه كان في وسع الإنسان أن يسير نصف يوم من أول القافلة إلى آخرها، وكانت الطريق من الكفرة إلى «واداي» وعرة خطرة في تلك الأيام، فحفر المهدي بئري «بشرى» و«سارة» في الطريق الموصلة من الكفرة إلى «تكرو».
وكانت واحات الكفرة في أيام قبيلة «زوي» البدوية التي انتزعتها من قبيلة «التبو» السود مركزًا مهمًّا للسطو والاغتيال في صحراء ليبيا، وكان أفراد هذه القبيلة المتمردة ميالين للقتال، لا يخضعون لقوة أو قانون، ولا يرحمون مَنْ يخترق أراضيهم، فلم تخلُ قافلة تمر بالكفرة، من النهب والسلب أو الاضطرار لدفع جزية، وجاء المهدي فجعلهم ينزلون عن طلب تلك الجزية؛ لأنه أراد أن يؤمن الطريق الممتدة في صحراء ليبيا من الشمال إلى الجنوب، وأن ينمي تجارة تلك الأصقاع، وعمل على ذلك حتى قال لي أبو مطارى — وهو من شيوخ قبيلة «زوي» في الكفرة: إنه صار في وسع المرأة أن تسير من برقة إلى واداي بدون أن يتعرض لها أحد.
وبسط المهدي نفوذ السنوسيين في جهات كثيرة، وأرسل الإخوان يؤسسون الزوايا في البلاد الواقعة بين مراكش وفارس، ولكن أعظم أعماله، كانت في الصحراء بين البدو والقبائل السود، القاطنة جنوب الكفرة، فقد جعل من السنوسيين قوة روحية في تلك الأصقاع، وعاملًا قويًّا على بث السلام والإخاء بين القبائل، بل جعل منهم فوق هذا، هيئة تجارية كبرى، بفضلهم نمت التجارة وأزهرت، وأراد أن يبسط نفوذ الطائفة بنفسه في أواخر أيامه، فانحدر إلى الجنوب حتى وصل «جرو» جنوب الكفرة، وهناك وافاه القدر المحتوم فجأة سنة ١٩٠٠ ميلادية.
مات المهدي ولم يترك بين أولاده بالغًا، فخلفه في زعامة السنوسيين ابن أخيه السيد أحمد وصيًّا على السيد إدريس أكبر أبناء المهدي وخليفته الشرعي.
وخرج شيخ السنوسيين الجديد عن مناهج أسلافه، فأراد أن يجمع بين القوتين الزمنية والدينية، فإنه حين أخذ الإيطاليون برقة وطرابلس من الأتراك، حاول السيد أحمد أن يضيف إلى قوته الروحانية، ما تركه الأتراك من القوتين الزمنية والحربية، وقامت الحرب العظمى، فأراد أن يهاجم تخوم مصر الغربية تحت تأثير البعثات التركية والألمانية، وفشلت مساعيه حتى اضطر إلى السفر إلى تركيا في غواصة ألمانية.
وهكذا خالف ثالث الزعماء السنوسيين سياسة السنوسي الكبير وابنه المهدي، فإنهما رأيا أن الزعيم الديني لا يمكن منازعته في زعامته أو القضاء على مكانته، أما إذا خرج يتطلب السلطة الزمنية، فإن بضع هزائم حربية تكفي للقضاء على سلطانه وتدمير شهرته.
وقد كانت قوة السيد ابن علي والسيد المهدي راجعة إلى صفتهما الشخصية، وما يشع من تأثيرهما الروحاني، فخالفهما السيد أحمد في ذلك باعتماده على الأسلحة والذخائر والظروف، حتى إذا خانته كلها، لم يبقَ في يده من الأمر شيء، غير أنه مشهور بصلاحه وتقواه، وله مكانة عظيمة عند البدو، لشدة تمسكه بأمور الدين الحنيف، وَلِمَا بذله من المساعي في محاربة الطليان، واجتهاده في تخليص بلاده من ربقة الاحتلال.
ولما خرجت الزعامة من يد السيد أحمد عادت إلى الوارث الشرعي السيد إدريس، الذي يستمد بانحداره من صلب السيد المهدي قوة عظيمة ونفوذًا كبيرًا، وهو على تمتعه بهذه الميزة أهل لتمكين نفوذ السنوسيين، وإنجاح أغراضهم تحت زعامته، بما يتحلى به من الصفات الشريفة، من لين في الأخلاق إلى شدة في الحق؛ ولذلك لا يقر له بالطاعة والولاء، الإخوان السنوسيون فقط، بل أهالي صحراء ليبيا أيضًا.
وفي سنة ١٩١٧ حصل اتفاق بين السيد إدريس وبين الحكومة الإيطالية، أقرت فيه إيطاليا للسيد بحقه في إدارة شئون واحات «جالو» و«أوجله» و«جدابيا» و«الكفرة»، وقد تجددت المصادقة على هذا الاتفاق بعد ذلك بسنتين في «رجمه» وحدث لسوء الحظ سنة ١٩٢٣ أن وقع خلاف بين الطرفين المتعاقدين، فوقف سير الاتفاق، وإني لأرجو أن يتجدد الاتفاق بين السيد إدريس والحكومة الإيطالية، فيعود إلى تلك الواحات، ما كان لها من أمن ورفاهية.
ولا نزاع في أن للنفوذ السنوسي في حياة سكان تلك النواحي أثرًا طيبًا، فالإخوان السنوسيون لا ينشرون العلم ويقيمون قواعد الدين ويبثون دعوته فقط، بل يقضون ويوفقون أيضًا بين الرجال والقبائل، وليس أدل على روح التوفيق والرغبة في نشر لواء السلام، من خطاب السنوسي الكبير إلى أهل «واجنجه» الذي ألقى تلك المهمة على عاتق السنوسيين الإخوان، ولم يخرج ولده المهدي عن هذا الميل في التوفيق، إن لم يكن زاده وقوَّاه.
ومهما كان ما قلناه: فإننا لم نغالِ فيما ذكرنا عن أهمية مظاهر الحكم السنوسي في حفظ الأمن، وصيانة السلام والسعي لِمَا فيه خير أهل الصحراء.