جغبوب الهادئة
في عصر اليوم التالي لمقابلة السيد إدريس رأينا قبة مسجد الجغبوب البيضاء تنيف على المدينة، فاتبعنا عوائد البدو وحططنا رحالنا على مسافة من المدينة، وأرسلنا رسولًا يحمل خبر وصولنا، فعاد بعد ساعتين يخبرنا باستعداد القوم للقائنا، وتقدمت القافلة إلى المدينة، حتى إذا صارت على مقربة من أسوارها، أرسلنا طلقات النار في الهواء، وقابلنا بباب المدينة سيدي حسين الوكيل، وهو ممثل السيد إدريس في تلك المدينة، ويرافقه جميع الإخوان المدرسين في جامع الجغبوب، واصطف الطلبة على جانبي الطريق، ورحبوا بنا مهللين، ونحن نخترق صفوفهم، فكان لهذا الترحيب صدى سرور يتردد في قلوبنا.
دخلت الجغبوب وكأني عائد إلى وطني، فقد كانت في رحلتي الأولى منذ سنتين قريبة من غايتي، غير أنها الآن النقطة التي تبدأ منها رحلتي الثانية، أو في الواقع نقطة من عدة نقط، لكنها على أي حال بداية الرحلة الطويلة النائية التي تنتظرنا.
وأحسست عند دخولها برد فعل يعتري كل مَنِ انتهى من سفر طويل، وكان شعوري خليطًا من التشوُّف والتأثر؛ لأن الانتهاء من رحلة واستئناف السفر إلى أخرى ظرفان متباينان يهيج كل منهما في النفس عواطف متباينة.
وقد كنت واقفًا أود الإسراع في الرحيل، ولكن عدم وجود الجمال اضطرني إلى الإقامة في الجغبوب نحو خمسة أسابيع، وكنت قد أرسلت قبل قيامي من السلوم رجلًا اسمه السيد علي السعيطي، وكلفته أن يسبقني إلى الجغبوب بالطريق المستقيمة ليؤجر جمالًا، ويعدها حتى ألحق به عن طريق سيوة ولكني لم أجده، وسمعت أنه انحدر إلى الغرب، إلى جدابيا غير موفق؛ لأن الأعراب الذين لقيهم بعد سفره من السلوم، لم يرضوا أن ينزلوا له عن دوابهم التي كنت في حاجة إليها، ولم يوفق عليٌّ إلى إيجاد الجمال في جدابيا كذلك، ولم تصلني أخباره لمدة أسبوعين، وبعد ذلك عرفت السبب في عدم توفقه، وهو أن الطريق من الجغبوب إلى جالو وَقْفٌ على رجال قبيلتي زوي والمجابرة، لا يجرؤ على اجتيازها غيرهم من رجال القبائل الأخرى إلا بإذن منهم.
وأنساني جمال الجغبوب وهدوءها، شوقي إلى استئناف السفر، فإنها بلد عامر بالعلم والدين، وإن لم تكن مركزًا للتجارة أو الزراعة؛ إذ الصالح للزراعة فيها بقاع متناثرة من الأرض، تخرج القليل من الخضر والبلح، ويستغلها العبيد الذين أطلقهم السيد المهدي عند انتقاله إلى الكفرة.
ومركز حياة الجغبوب مسجدها الكبير الذي يسع زهاء الستمائة نسمة ومدرستها، وهي مركز التعليم الديني لطائفة السنوسيين، ويحيط بالمسجد بعض منازل يسكنها أفراد الأسرة السنوسية والإخوان، ويتناثر داخل أسوار المدينة وخارجها قليل من المنازل الخاصة، ويسكن زهاء الثلاثمائة طالب في منازل صغيرة بالقرب من المسجد.
وقد وصلت الجغبوب إلى أوج شهرتها في عهد السيد ابن علي السنوسي الكبير حين اتخذها قصبة لطائفته، ووليه ابنه المهدي، فظلت حافظة شهرتها مدة اثنتي عشرة سنة حتى انتقل إلى الكفرة، فأصبحت هذه مركز أعمال السنوسيين.
ورجعت الجغبوب إلى عهدها الزاهر أيام السيد أحمد الشريف، الذي كان وصيًّا على السيد إدريس قبل بلوغه، وكانت أهميتها تزيد وتقل تبعًا لترك السنوسيين لها، أو رجوعهم إليها، فإن فُرض أن جعلها السيد إدريس عاصمة السنوسيين أصبحت مدارسها ومنازلها في بحر شهرين عامرة بأعضاء الطائفة والطلاب، يقصدها الأتقياء من كل صوب لزيارة ضريح السنوسي الكبير، ولكني عند زيارتي لها لم أجد بها إلا ثمانين طالبًا بدويًا، تتراوح سنهم بين الثامنة والخامسة عشرة، يأخذون العلم على الإخوان، وإنما قَلَّ عدد الطلاب لقلة عدد المدرسين، فإن السيد إدريس الذي تفضل بمقابلتنا في طريقه إلى مصر، كان يقيم في ذلك الوقت ببلده جدابيا الواقعة على مسافة بعيدة من غرب الجغبوب.
ومسجد «الجغبوب» به غرفة داخلية تحوي مقصورة من النحاس، فيها ضريح ذلك الرجل الكبير الذي طلب لقومه مظهر الإسلام الطاهر المتين في بساطته، والذي لا تشوبه شائبة من الحياة المادية، ويزور هذا الضريح كل مَنْ قدر على السفر مِمَّنِ اتصل بالطائفة، وأراد أن يجدد المواثيق على اتباعه تعاليم السيد السنوسي الكبير، وإنما يقصد الطلاب الجغبوب لأمرين فإما أن يتهيأوا ليصبحوا إخوانًا للطائفة، أو ليعودوا إلى ديارهم في الواحات المختلفة، وقد تزودوا من العلم؛ ما يجعلهم يهيمنون هيمنة دينية على رجال قبائلهم.
ولم يكن يشغلني شاغل في هذه المدينة الهادئة، إلا اهتمامي باستحضار الإبل التي توصلني إلى جالو الواقعة على مسافة ٣٥٠ كيلومترًا تقريبًا إلى الغرب، وفيما عدا هذا، قضيت أيامي في الجغبوب في التبصر والتأمل وإعداد ما يلزم للرحلة.
وللصحراء في العقل والروح تأثير يغاير تأثير حياة المدن الصاخبة، فإني أيام جست خلال هذه المدينة الصغيرة أو خرجت إلى الواحة التي تحيط بها، أو وقفت تحت ظلال المسجد الندية، أو جلست في برجه، أساجل علماء البدو مختلف الحديث، وأرى الليل يمد رواقه على القبة البيضاء، وما تشرف عليه من تلك الأبنية المتلاصقة، خلصت من توافه المشاغل التي تبعثها حياة المدن المزدحمة بسكانها المتناحرين على الحياة.
ومرت بي الأيام فقضيتها بين تنزه في الصباح وأداء صلاة الظهر في المسجد، ثم تناول الطعام في هدوء، حتى إذا انتهيت منه قضيت وقتًا في تعهد معداتي العلمية وآلات التصوير، ثم صليت العصر واسترحت قليلًا، وتناولت العشاء وجلست إلى رجالي أوزع عليهم أكواب الشاي على طريقة البدو، وبعد أن أصلي العشاء أخلص إلى النجوم فأناجيها، وأطلق خيالي في سماء الليل الساكن، ثم أنقلب إلى فراشي، فأهنأ بنوم لا يذوقه ساكن المدن.
وقد راقني من بين الإخوان الذين رأيتهم في الجغبوب رجلًا استرعى لُبِّي لعدم اختلاطه بي أو محادثته إياي، وقد حاولت أن أعلم سر ذلك من بقية الإخوان، فلم أفلح حتى علمت أخيرًا قصة الرجل بطريق الصدفة.
كان سيدي … شيخًا ذا وجه صبيح يظهر فيه الكبر وتلوح دلائل احتقار الحياة، في شفته المتقلصة وإن لم تنصفه الدنيا في أيامه الأخيرة، وكنت في زيارتي الأولى للجغبوب، قد أقمت في داره الخالية، وحاولت أن أطيل معه الحديث فلم تُتَح لي الفرصة المناسبة، ولما هبطت الجغبوب هذه المرة جاءني يُرحب بي ليلة وصولي فأحسست في ضمير ذلك الشيخ مأساة يخفيها عن الناس، وهو رجل من قبيلة البراعصة، من خيار رجال البدو، أهل الشمم ولكنه كان ينعى على الأقدار، ولا يستسلم لحكم الدهر، وكثيرًا ما أدهشني ذلك منه فإني أعرف في نفوس العرب الرضا بصروف القضاء، وكان كل مَنْ يحيطون بي في الجغبوب يمثلون الإنسانية الخيِّرة الرضية إلا سيدي … فكان وحده دون بقية الإخوان صورة محزنة للكبرياء المحطمة.
وحدث لي ذات مساء عند عودتي من المسجد أن لقيت مبروكًا، وهو من عبيد سيدي المهدي الأقدمين فحييته ورد التحية بأجمل منها، ثم جلست أجاذبه أطراف الحديث؛ فبدأنا بذكر قطعة الأرض الصغيرة التي يتعهد زرعها فقال: «ليس لدينا من الغذاء شيء كثير، ولكن بركة سيدي المهدي تجعل من قليلنا كثرة.» وفي هذه اللحظة اجتاز صحن المسجد، وقد بدأ الغسق يرخي غلالته، رجل منسرح القامة في ثوب أبيض، يمرق كأنه شبح من الأشباح، وكان ذلك الشيخ البراعصي فأشرت إليه بأصبعي وقلت لجليسي: «لست أكتمك أن صحة هذا الرجل لم ترقني حين زارني اليوم، إني لأعجب ما خطبه؟!» فأجابني مبروك قائلًا: «إن هذا الشيخ لا يشكو داء، وإنما يتألم لخيانة أخيه التعس الذي جلب على نفسه غضب أسيادنا السنوسيين.» واستطرد بعد ذلك في قصته فانكشف لي سر ذلك الشيخ الحزين.
كان أخوه سيدي … وكيلًا أمينًا للسيد المهدي في الجغبوب صاحب أمر ونهي، حدث له أيام طفولته أن سقط عليه حائط فحطم رأسه، وكان السنوسي الكبير على مقربة منه فأسرع إليه وعصب رأسه قائلًا: ستكون هذه الرأس في مقبل أيامها منبعًا للعلم والعرفان. وقد صدقت نبوءته، فقد أرسله أبوه إلى الجغبوب أيام إقامة السنوسي الكبير بها وتركه يطلب العلم في مسجدها العامر، وأصبح بعد ذلك كبير الإخوان وشيخ المدرسين في الجغبوب وشاعرًا نابغًا يخطو إلى المجد.
ومات السنوسي الكبير، فاتخذه سيدي المهدي وكيله الوحيد في الجغبوب حين نزح إلى الكفرة وائتمنه على أملاكه، ووكل إليه إدارة كل شيء في تلك المدينة، ولكن الله أراد أن يضربه مثلًا لِمَنْ يخون السيد ولا يكون عند حسن ظنه به، فقد أغوته الحياة الدنيا فمال إليها، وبدد أكثر أملاك المهدي، وباع الكثيرين من عبيده وابتز كل ما وصلت إليه يده من المال.
وكتب الله عليه العقاب ففضح سر خيانته، وكان آخر مظهر من مظاهرها — والخبر مفتقر إلى الأدلة — أنه كتب إلى كبير من الكبراء في مصر — قيل إنه أجنبي — يخبره أن السيد المهدي بعيد في الكفرة، وأن الجغبوب لا تُمانع في إلقاء مقاليد أمورها لِمَنْ يستولي عليها. وكان سيدي محمد العابد السنوسي يقيم في الجغبوب في ذلك الوقت، فسمع بكتابة ذلك الخطاب، وعرف أنه مرسل إلى مصر عند هجوم الليل، فأرسل في الحال اثنين من الإخوان يكمنون للرسول في الطريق ويأخذون الرسالة منه، وجيء بالرسول بعد يومين، فاطلع سيدي العابد على الكتاب، ولم يَقُلْ شيئًا، ولكنه هَيَّأَ قافلة للرحيل إلى الكفرة، وسأل الوكيل أن يصحبه، فحاول الاعتذار بكبر سنه وضعف صحته، ولكن العابد أصر على مرافقته له، فاضطر إلى القبول، وقطعوا الصحراء صامتين حتى وصلوا الكفرة، فأظهر العابد ذلك الكتاب إلى السيد المهدي.
وفي يوم الجمعة التالي لوصولهم دعا السيد المهدي جميع الإخوان للاجتماع بعد صلاة الجمعة في مسجد التاج، ثم وقف بينهم ملتفتًا إلى الوكيل وقال: «يا سيدي … إنك لتعلم علم اليقين ما فعلت.» فوجم الحضور وعلموا أن في الأمر شيئًا، فاشرأبت أعناقهم إلى سماع الحديث، واستطرد المهدي في حديثه فقال: «ولكنا لن نجزيك على ذلك، سندعك تعيش ونجري عليك رزقك المألوف، والله يتولى عقاب مَنْ يخفر ذمتنا، غير أنَّا نطلب إليك أن تقرأ على الجمع الحافل من الإخوان هذا الكتاب الذي خطته يدك.» فلم يَسَع الرجل إلا الإذعان لأمر المهدي؛ فقرأه والإخوان تلوح في وجوههم الدهشة من خيانته وهو موضع ثقة المهدي.
وانتهى الرجل من قراءة الكتاب فقال المهدي: «سنعفيك بعد الآن من مشقة النظر في أمورنا.» ثم صرفه المهدي فانقلب المسكين إلى داره مريضًا ومات بعد ذلك بأيام قليلة وتبعه ولداه بعد بضعة أشهر، وتزوجت بنتاه من رجلين من الأسرة السنوسية، وقد استولت الأسرة السنوسية على جميع أملاكه وكتبه، وكانت مكتبته من أعمر مكتبات الطائفة، ولم يبقَ من أسرته إلا أخوه هذا الشيخ البالي الذي ورث عنه بيته الخالي في الجغبوب وعاره الملصق به، وبموت هذا الأخ تنقرض أسرة هذا الشقي الذي وثق به السيد السنوسي فلم يكن عند حسن ظنه به.