الولائم والأدوية
لقد أظهر الزعماء السنوسيون من دلائل كرمهم شيئًا كثيرًا، وجروا على سُنَّة البدو في إظهار ذلك، تبعًا لمكانة رب البيت والضيف، ووفقًا للظروف ومناسباتها؛ فإن المسافر إذا حل بواحة أو بلدة في الصحراء، كان معه رجال قافلته، وما يحتاج إليه من ضرورات العيش، ولا ينزل ذلك المسافر في فندق أو في دار صديق، وإنما يتخذ له مقامًا منفردًا فينصب خيامه ويقيم فيها أو يسكن في دار تُوضَع تحت تصرفه، كما حدث لي في الجغبوب وجالو والكفرة.
فإذا حل ضيف المدينة أظهر كبراؤها كرم الضيافة نحوه، فدعوه إلى تناول الغداء أو العشاء في منازلهم أو أرسلوا إليه الطعام بخيامه أو داره، وسأفيض في وصف كرم البدو إذا دعوا أحدًا إلى منازلهم عند التكلم عن إقامتي في جالو، فقد دعاني في هذه المدينة زهاء الخمسة عشر وجيهًا من وجوهها، أما في الجغبوب فقد أبدوا لي ذلك الكرم بإرسال ألوان الطعام إلى داري، وقد تمتد ضيافة البدوي لضيفه ثلاثة أيام أو سبعًا تبعًا لمنزلة الرجلين.
وقد حدث بعد وصولي الجغبوب ببضعة أيام، أن تفضل فتيان في الثالثة عشرة والخامسة عشرة من عمرهما، وهما سيدي إبراهيم وسيدي محيي الدين، وهما أصغر أبناء السيد أحمد المقيم الآن بالحجاز، والذي كان الوصي على السيد إدريس — فأظهرا نحوي من دلائل الكرم، ما ترك لهما في خاطري أجمل ذكرى، فقد وصل إلى داري بدوي ومعه عبدان ينوءان تحت عبء الأطعمة ونثرا أمامي صحاف الطعام المتنوع، فوجدتني مضطرًّا إلى تذوق ما لا يقل عن عشرين صنفًا، وجلس ممثل ضائفي بأدب واحتشام، لا يمد يده إلى شيء بينما أصبت قليلًا من كل صَحْفِه، وظل يشرف على تقديم ما يجعلني راضيًا ويسامرني أثناء تناولي الطعام. وهذا البدوي من قبيلة البراعصة، التي اشتهر رجالها بأنهم الطبقة الراقية لأهل الصحراء، وامتازوا بطول القامة وجمال الخلقة وعزة النفس والشجاعة؛ فإن البراعصي لا يحجم عن مقابلة الإهانة بالسيف ولو انفرد بين رجال قبيلة بأسرها.
جلست أتناول الطعام ترعاني عين هذا البدوي ويخدمني العبدان، ولست أدري لكثرة ما قُدِّم إن كان في إمكاني أن أذكر الألوان الشهية التي ملأت الخوان، ولكني أذكر أن ذلك لم يخلُ من جميع أصناف اللحم والخضر والفطائر.
واللحم من أهم أنواع طعام البدوي وأخصه لحم الخراف، وهو قوام حياة البدوي إذا لم يكن مسافرًا، ولا تكمل ضيافة البدوي لنزيله إلا بتقديم اللحوم التي أُحضرت خصيصًا له، فإذا أراد البدوي أن يدعو أحدًا لتناول الطعام نحر له شاة، والعادة أن لا يجهز شيئًا أو يذبح ذبيحًا حتى يحضر الضيف فيرى بنفسه أن كل شيء قد أُعدَّ له وحده، وربما طلب رب الدار من ضيفه سكينًا يذبح بها الشاة، حتى يؤكد له أنه يقوم نحوه بكل أنواع الإكرام.
وإنما يبين كرم البدوي في كثرة ألوان الأطعمة التي يقدمها لضيفه، فإن الطعام في الصحراء أهم مظاهر الكرم، وهو في تلك الأصقاع الساذجة، كل ما يتحدث به الناس، ولم تخلُ إقامتي في الجغبوب من حادثتين أبانتا لي أن الشرق والغرب على كثرة ما بينهما في الاختلاف، متفقان اتفاقًا ظريفًا في بعض الميول، وأولى هاتين الحادثتين فكهة والثانية لا تخلو من عاطفة تشوبها فكاهة.
كنت قد أمرت رجالي أن لا يردوا أحدًا يقصدني في طلب دواء، فجاءني أحد الإخوان السنوسيين يطلب دواء لسعاله، فأعطيته زجاجة من الشراب الخاص بمداواة السعال، وجاءني بعد يومين قائلًا أن الجرعات الأولى التي تناولها أفادته فائدة عظيمة دفعته إلى إفراغ ما في الزجاجة، وسألني أن أعطيه زجاجة أخرى ثم انصرف. وكان عبد الله حاضرًا فالتفت إليَّ وقال هازئًا: «لا أعجب إذا طلب سيدي الإخواني زجاجة أخرى؛ فإن الشراب شهي لذيذ وإنه ليشربه متلذذًا بطعمه لا متداويًا.» وأظن أن عبد الله كان مصيبًا في تعبيره، فطالما لاحظت أثناء إقامتي بإنجلترا أن الأطفال يؤكدون لآبائهم فتك السعال بهم وإن برئوا منه، وإنما يدفعهم إلى ذلك حلاوة الدواء وطيب مذاقه.
وقد اعتاد رجالي أن يفخروا أمام البدو، بأني أحمل في حوائجي الدواء لكل علة، فجاءني فتى تحت تأثير تابعي أحمد يسألني شيئًا يداوي به جارية من السهو والنسيان، فكان جوابي على ذلك: إني رأيت بعد تجاربي العديدة في كثير من الممالك، أن منع الخدم من النسيان لا يقل صعوبة عن منع الماء من الغوص في الرمال.
أما الحادثة الثانية فكان بطلاها يختلفان كل الاختلاف: جاءني عبد أحد الإخوان يستشيرني في شيء كلفه سيده بعرضه عليَّ؛ لأنه لا يجمل به أن يسره إليَّ شخصيًّا؛ فإن آداب البدو تقضي أن لا يذكر إنسان زوجه أمام غيره، بل أن لا يذكر سيدة لا يعرفها المتحدثان، أما العبد فيمكنه أن يقول ما تأبى كرامة السيد التصريح به.
جاءني ذلك الخادم، فقال: «إن زوج سيدي عاقر، وإن ذلك يؤلم بعلها كثيرًا، وإن سيده واثق أن إزالة ذلك العقم لا بد في استعمال الأدوية التي أحملها من عجائب علم الغرب.» وما كاد يتم حديثه حتى عادت بي الذكرى إلى أيامي الأخيرة في أكسفورد؛ فذكرت خادمًا في الجامعة، كان لطيف العشرة ولكنه شديد الحياء.
جاءني ذلك الخادم ذات يوم وكنت أهيئ أسباب عودتي إلى مصر، وبعد أن استجمع كل جرأته للجهر بما يضمر، سألني هذا السؤال: «إذا سمحت يا سيدي أن أسأل فضلك أفضيت إليك بحاجة لي، إن زوجي عاقر والطبيب عاجز عن مداواتها وليس لديه ما يقترحه، فإذا عدت يا سيدي إلى بلدك الذي سمعت أنه يحوي طلاسم عجيبة تؤثر في كل شيء، فتنازل بالبحث لي عن طلسم للحبل، وأرسله عسى أن يرزقنا الله ولدًا، ولست أكتمك يا سيدي أني لا أعتقد بالسحر، ولكن الحيل ضاقت بي في سبيل هذا الأمر.» ولم يسعني وقد رأيت انشغال باله، وكشفه لي عن بنات صدره، إلا أن أجيبه بجد وعطف، أني سأفعل ما أنا قادر عليه، ولم تدعني الحاجة بعد ذلك إلى البحث عن طلبته؛ لأنه مات قبل أن أعود إلى أكسفورد، تاركًا وراءه ذكرى طيبة بين طلبة كلية «بليول».
ذكرت كل هذا وعبد ذلك الإخواني منتظر، ولكني لم يسعني أن أبطئ في إعطائه ما طلب إلى سيده، وأتيحت لي فكرة للخروج من هذا المأزق، فأعطيت الخادم نصف زجاجة أقراص اللبن المركز، وأمرته أن يجعل السيدة تتناول ثلاث حبات منها حتى تنفرج الأزمة وانصرف الخادم؛ ففكرت في المقابلة الغريبة بين هاتين الحادثتين، فهناك في أكسفورد أهاب علم الغرب بقوة الشرق الروحية، وقد أعوزت تجاريبه السبل في إيجاد دواء للحمل. وهنا في الجغبوب طلب الشرق مساعدة العلم الغربي بعد أن ضاقت به الحيل في العلوم الروحانية، وهكذا يظل الشرق والغرب معتقدين في قوة المجهول العجيبة.
وطالت عليَّ الإقامة في الجغبوب، ولكن عيشتي الهادئة وتمتعي بلطف البدو وبشاشتهم لم يُنسياني التفكير في أمر الإبل؛ فبعثت الرسل إلى جميع النواحي المجاورة في طلبها وزدت مبلغ الأجر لأصحابها، ولكني لم أظفر بطائل، وسألت السيد حسينًا مساعدته، ولكنه أقر لي بعجزه عن عمل أي خدمة لي، وأرسلت رسولًا إلى سيده يحمل إشارة برقية إلى السيد إدريس في مصر أعلمه فيه بحيرتي، وأسأله المساعدة؛ فجاءني الرد منه بأسرع مما كنت أنتظر طالبًا إلى السيد حسين أن يقدِّم لي ما في طوقه من المساعدة، ولكن السبل كانت مسدودة. وأخيرًا وقد سدت منافذ الأمل، وصلت قافلة من قبيلة «زوي» كانت قد تركت جالو إلى سيوة في طلب البلح، فأردت تأجير إبل القافلة، ولكن أصحابها لم يرغبوا في العودة بدون البلح الذي قصدوا استجلابه، غير أني وجدت في آخر الأمر طريقة لحملهم على النزول عن جمالهم، فأعلمتهم بواسطة سيدي حسين أن الأوامر صدرت من الحكومة المصرية بمنع رجال قبيلة زوي من الدخول في الأراضي المصرية حتى ينحسم النزاع بينهم وبين أولاد علي المقيمين في مصر، ذلك النزاع الذي نشأ عن ثأر متحكم بين رجال القبيلتين منذ بضع سنين.
ورأى رجال القافلة أن التقدم إلى مصر غير ميسور خوف العقاب، فلم يبقَ أمامهم وقد حُجِزوا في الجغبوب إلا العودة من حيث أتوا فكان ذلك ما قصدت، وساعدني على رضائهم بتأجير إبلهم إخبارهم بأوامر الحكومة المصرية وكتاب السيد إدريس واستمالة السيد حسين لهم، ووعدي بإعطاء أجر باهظ جروني إليه لاحتياجي إلى جمالهم، وانتهت تلك الأيام السعيدة التي قضيتها تحت ظلال القبة البيضاء.
وانقضت كذلك أيام الهدوء والتفكير والتأمل في ظل القبة البيضاء، وأيام القلق للرغبة في السفر والبحث عن ممهداته، فأدرت وجهي إلى الغرب قاصدًا جالو في ٢٢ فبراير بعد أن أقمت في الجغبوب ٣٤ يومًا كاملة.