زوابع الرمال في طريق «جالو»
تركت الجغبوب في يوم من خير الأيام التي جرت عادة البدو أن يتفاءلوا بها.
كان ذلك يومًا عاصفًا تُسفِي فيه الريح الرمال، والعرب يقولون: إن القافلة التي تبدأ رحلة في عاصفة يكون نصيبها التوفيق وتصيب حظًّا طيبًا.
وأكبر ظني أن العرب ابتدعوا هذه الفكرة قديمًا للرضا بما هم واقعون فيه كل يوم، والنزول على ما تضطرهم إليه طبيعة الصحراء، وإلا فإن البدوي في هذا يكون كالمصري أو السوداني إذا قال: إن السفر محبوب في يوم مشمس، أو الإيقوسي إذا تمنى اليوم الممطر لسفره؛ إذ زوابع الرمال في الصحراء أمر عادي قد يلقاه مجتازها، في أي مكان وآونة، على أنها تجربة شاقة ومحنة قاسية يعاني الإنسان هولًا شديدًا في احتمالها.
يُصبح والسماء صافية والجو خالٍ مما يُنذر بعاصفة أو يُشعر بريح، وتبسم الصحراء لنا ونحن نهم بالرحيل، فتتحرك القافلة فرحة مبتهجة وتسير فرحة طروبة، وما هو إلا قليل زمن حتى يهب نسيم بليل، لا يُعرف مأتاه يمضي همسًا فوق الرمال، ثم يشتد دون أن نشعر بذلك، وإلى هذا الحد لا نلقى من هبوبه ما يضايقنا.
ثم ينظر الإنسان إلى وجه الصحراء فإذا سطح الأرض قد تغير تغيرًا غريبًا، وإذا ذرات الرمال ترتفع قليلًا، وتنبجس وتدور كأنها بخار يتصاعد من ثقوب لا عدَّ لها، في أنابيب مُدَّت تحت ذلك السطح، وتزيد ثورة الرمال شيئًا فشيئًا كلما ازدادت الريح قوة، حتى يُخيَّل للإنسان أن سطح الصحراء كله يرتفع إطاعة لقوة دافعة رافعة تحته.
ويتطاير الحصى ويتناثر فيصيب قصب الأرجل والركب والأفخاذ، ويتصاعد رشاش حبات الرمال الراقصة على الأجسام، حتى يلطم الوجه ويدوم فوق الرءوس.
ثم تغيم السماء فلا يرى البصر إلا أشباح الجمال القريبة منه وتثور الطبيعة، فكأن في الجو قُوًى خفية تصيب العذاب لطمًا وقذفًا ولدغًا.
وخير لِمَنْ تدهمه الزوبعة أن تهب الريح من ورائه؛ لأن لطم الرمال وجهه عذاب أليم، وفوق هذا، فليس في وسعه أن يبقى مفتوح العينين، ولا هو يجسر أن يغمضهما، فلئن كان لدغ حبات الرمال شرًّا وبلاءً ففَقْدُ الطريق شرٌّ أعظم وبلاء كبير.
ولحسن الحظ أن الريح تهب في عصفات متلاحقة تتراوح بين الثلاث والأربع، وتعقب كل طائفة منها ثوانٍ قليلة، تسكن فيها الريح فتريح النفوس؛ ذلك أن الإنسان عند عصفها يدير وجهه ويتقي الرمال بطرف «كوفيته»، ويكاد يمسك عن التنفس حتى تجيء فترة السكون، فيكشف عن وجهه ويلقي نظرة سريعة يتبين الطريق ويعجل بالتأهب للهبَّة الثانية. وكأن هنالك شيطانًا هائلًا عاتيًا ينفخ تلك العصفات، والهبات الداوية في الرمال فيسفيها فوق رءوس المسافرين ويدوي في الفضاء صوت يصم الآذان، وكأن هذا الصوت من يد ذلك الشيطان، تضرب بأصابع قوية خشنة، ضربات متناسقة على أوتار مشدودة من الحرير.
متى بدأت زوبعة الرمال لم يكن للمسافر إلا أن يندفع في سيره غير وانٍ؛ فإن الرمال إذا أصابت شيئًا ثابتًا سواء أكان ذلك الشيء عامودًا أم جملًا أم رجلًا تكدست حوله حتى تصبح ركامًا، وهكذا إذا كان في السير عذاب وأهوال، ففي الوقوف الموت الزؤام.
وقد تظل زوبعة الرمال على أشدها «خمس أو ست ساعات»، وليس في ميسور القافلة أن تتابع التقدم حينئذ إلا مع الحرص الشديد على تبين الطريق حتى لا تخطئه.
وإذا تمردت العاصفة واشتدت، فإن الإبل تكاد لا تتقدم، ولكن غريزتها تجعلها تتوقع الموت إذا وقفت في السير، ويتجلى ذكاؤها الغريزي فيها عندما يبدأ نزول المطر؛ إذ لا تحس خطرًا فتقف بغتة أو ترقد.
وتدفع العاصفة ذرات الرمل فتخترق كل شيء يحمله الإنسان، تملأ ثيابه وطعامه، تملأ حوائجه وآلاته العلمية، تبحث عن موضع الضعف فيما يذروها فتنفذ إليه منه حتى يحس بها ويتنفسها ويأكلها ويشربها، وربما نفذت ذرات الرمال الدقيقة في مسام جلده فآذته كثيرًا.
ويعرف البدوي خصائص هذه العواصف، فيحيط بها علمًا كل غريب عن الصحراء، يقول البدوي: إن الريح التي تنذر بالعاصفة تهب مع النهار أو تقر مع غروب الشمس، ولا تقوم العاصفة في ليلة مقمرة ولا تثور بين العصر والمساء، ولكن كل هذه القواعد الطيبة اختلَّت في رحلتنا إلى «جالو»؛ فقد ثارت العواصف والقمر مشرق، وثارت والليل بهيم، وأصابتنا زوابع بدأت قبل الفجر وأخرى ظلت إلى ما بعد الغروب بزمن طويل، ودهتنا عواصف جمعت بين العصر والمغرب حتى ما أحسسنا لضوء النهار بين هذين فارقًا.
واختلفت أنواع العواصف التي أصابتنا، فكان منها الضعيف والقوي، والقصير الأمد والطويل الهبوب، والثائر بالنهار والقائم بالليل.
هذا حال الصحراء في شدتها وقسوتها، في غضبها وثورتها، على أنها لا تلبث أن تكشف لنا عن وجهها الجميل، وتطلع علينا بصحيفة جديدة من صحف سحرها، فقد يحدث في المساء أن نكون في صراع هائل مع كتائب الرمال السافية، فتسكن الريح فجأة، كأنها أُمِرتْ فامتثلت، ثم تقر حبات الرمل الدقيقة، كأنها ضباب يستقر، ويُشرق القمر فتأخذ الصحراء شكلًا جديدًا تحت ضوئه السحري الباهت الذي يغمر نواحيها …
أكانت هناك منذ هنية زوبعة ثائرة كادت تودي بحياة القافلة؟ مَنْ يستطيع أن يذكر ذلك؟ هل يُعقَل أن هذا الفضاء الهادئ البديع كان قاسيًا قط؟! مَنْ يستطيع أن يُصدق هذا؟!
وهكذا لم تكن رحلتنا إلى جالو بالسهلة؛ فقد كانت زوابع الرمال تضايقنا باستمرار، وبلغت في بعض الأحايين حد الخطر، وكان الشق الثاني من الطريق مملوءًا بغرود من الرمل اضطرت القافلة إلى تجنبها بالسير حولها، مع ما في هذا التعرج من إجهاد للفكر ومشقة كبرى في تتبع البوصلة.
وقد زاد هذا الواجب من جراء ثورة الزوابع، وسفيها الرمال في أبصار رجال القافلة ورغمًا من هذا تابعنا السير مجدين.
وكان لنا ساعات لهو وسرور أثناء هذه المرحلة، رغم ما لاقينا من أذى الرمال؛ فإن الذاكرة لا تنسى الليالي البهيجة، التي كنا نجتمع فيها حول نار الحطب نتناول كئوس الشاي بعد العشاء، فيبدأ الحديث رفيقنا مغَيِّب الشيخ الكبير وألسنة النيران الراقصة تنعكس على لحيته الشعثاء التي وخطها الشيب، ويقص علينا فصولًا من تاريخ قبيلة زوي، أيام كان جدُّه يقصد واداي لمحاربة قبائل السود ويغنم الجمال والعبيد.
ويتبعه الرفيق صالح فيطرفنا بأخبار الربح الطائل الذي جناه ابن عمه حين سافر سفرته الأخيرة إلى واداي، فلم يحارب أحدًا، وإنما جاء منها بالجلود وريش النعام والعاج وباع كل ذلك في أسواق برقة.
وكانت تميل نفسي إلى سماع أغنية من أغاني العرب فأطلب ذلك من عليٍّ، وكان شاعرًا أو خطيبًا لأخت حسين الذي تنم صباحة وجهه عن جمال أخته. وهنا تتجه أنظار عليٍّ إلى عمه مغيب كأنما يسأله أن يأذن له إجابة طلبي، وهو مشغول عنا بسبحته متعمدًا عدم الالتفات إلى مجرى الأمور الجديد؛ لأن الشيخ البدوي لا يليق لوقاره أن يستمع أغاني الحب من صغار الشبان، ولكن احترامه لي يدعوه إلى الرضا بذلك وعدم ترك المجلس، فيقول لعلي بصوت خافت: «غَنِّ البك ما دام يحب أغاني البدو.» فيبدأ علي الغناء بصوته الرخيم الذي تحمله أجنحة نسيم الليل البليل، بينما تتهالك حبات سبحة مغيب بين أصابعه منتظمة متوافقة كأنما لا يشغله شاغل عن الانقطاع لأداء فروض تعبده، ويغني عليٌّ فيقول:
ويسكن صوت علي فلا أدري أي الشيئين أسرع انحدارًا، أخيالي في مسراه البعيد أم حبات سبحة مغيب بين أصابعه؟ ثم يغني علي:
حتى إذا انتهى من غنائه غشي القافلة سكينة شاملة اللهم إلا أزيز النار الخامدة، والصوت المتناسق، المنبعث من حبات السبحة التي تغير هزجها تغييرًا محسوسًا؛ لأن أصابع مغيب وقفت بغتة ثم أسرعت في إطلاق الحبات كأنما أراد ذلك الشيخ، أن لا يشعرنا بوقوفه عن التسبيح، وإنما ألهاه عن الاضطراد في تسبيحه تحليق خياله في سماء الماضي الذي كان فيه شابًّا محبًّا، والذي هاج ذكرياته غناء عليٍّ، وَمَنْ يدري إذا كان كل جالس معنا عاشقًا، وكان من حسن حظه أنه لم يمسك سبحة تفضح سره.
واجتزنا بئر سلامة، وهي عبد الجغبوب بسفر يوم، فاخترقنا ناحية بها بقايا غابة متحجرة، وكنا نمر في سيرنا بقطع كبيرة من الأحجار قائمة، كأنها أعلام في الطريق، وقد كانت هذه الصخور منذ أجيال بعيدة أشجارًا نامية، ولكن عوامل الطبيعة نقلتها من مملكة النبات إلى مملكة الجماد، وكان هناك قطع قليلة متناثرة من الأخشاب المتحجرة، ولكن أغلبها كان مدفونًا تحت الرمال، وإنما بقيت القطع الكبيرة ظاهرة؛ لأن عوائد الصحراء تقضي على مَنْ يمر بعلم ساقط من هذه الأعلام أن يقيمه. ومن العادات أيضًا أن تُوضَع في الدروب الجديدة أكداس من الصخر متقطعات تدل القوافل على تلك الدروب.
وقد يحدث أن يمر الإنسان بشجرة أو شجيرة قد علق بها خرق من الأثواب، ويتعين عليه أن يضيف إليها شيئًا من حوائجه فيكون تكدس هذه الأشياء دليلًا على وجود الشجرة في درب مطروق، يشجع التابعين على مواصلة السير فيه؛ لأن الشعور بمرور زميل سابق أمر ينعش قاطع الصحراء، في ذلك السكون الشامل والفضاء الممل بتشابه مناظره. وإن رؤية روث الجمل وعظامه المبيضة، بل العثور بهيكل عظمي لمسافر قضى في الطريق يسرُّ عَيْنَ المارِّ بها؛ لأنها تؤكد له مرور قافلة في تلك الطريق من قبل.
وبعد تركنا الجغبوب بقليل عثرنا بعلم مغاير لأعلام الطريق المألوفة، وكان ذلك أكوامًا صغيرة من الرمل، كأنها بيوت النمل ممتدة تعترض السبيل، وَيُسَمَّى هذا العلم علم «بو الظفر» وهو في الحقيقة رمز لعادة بدوية ظريفة، فإن المتعارف أنه إذا مرت قافلة بهذا العلم، وكان فيها مَنْ مرَّ به لأول مرة، فعلى المسافرين الجدد أن ينحروا شاة للمسافرين القدماء الذين مروا به من قبل. وهذه العادة مشهورة بعادة بو ظفر، فإذا لم ينتبه سالكو هذه الطريق لأول مرة إلى أداء هذا الواجب، نبههم إليه مَنْ سبقهم إلى قطعها، بأن يتقدموا القافلة ويهيلوا أكوام الرمل في سبيلها حتى إذا أوشكت القافلة أن تجتازها صرخوا قائلين «بو ظفر» … «بو ظفر»، فانتبه رفقاؤهم ونحروا الشاة وأُقِيمت المأدبة المألوفة.
وكان في قافلتنا كثيرون لم يعبروا تلك الطريق من قبل، وكنت بين هؤلاء، وأعددت العدة قبل تركي الجغبوب فاشتريت شاة أنحرها لِمَنْ تقدمني في اجتياز تلك الطريق من أفراد القافلة، ولذلك لم يكن رفقائي في حاجة إلى تكديس أكوام الرمل في سبيلي، وتنبيهي إلى هذه العادة الطريفة.
وقد أسعدنا الحظ في هذه الرحلة، فوجدنا مراعي لجمالنا على طول الطريق، حتى وصلنا جالو، وقد وقع لنا أحيانًا أننا حدنا عن الطريق السوي للوصول إلى البقاع العشبية، ولكنا كنا موفقين دائمًا إلى إيجاد ما ترعاه إبلنا.
وتنمو في هذه النواحي ثلاثة أنواع من الأعشاب، فالبلبال عوسجة ذات أوراق لا تصلح طعامًا للجِمال، وهي لا تنمو إلا على مقربة من الآبار، ولا تمسها الإبل عادة إلا إذا أحست بجوع شديد، وهنا يُخشى عليها من المرض إذا لم يراقبها أصحابها مراقبة شديدة، والضمران عوسجة أخرى تشبه البلبال، ولكن أوراقها أشد سوادًا وسيقانها سمراء تصلح وقودًا وهي جافة، وهذه الشجيرة طعام جيد للجمال التي تُقبل على أكلها بشهية، أما النوع الثالث من هذه الشجيرات فاسمه النشا، وهي شجيرة ذات أوراق رقيقة متوشجة يصل ارتفاعها إلى علو قدم، وهي صالحة لأكل الجمال، وإنما تنمو هذه الشجيرات في فصل الشتاء حيث يسقط المطر القليل؛ ولذلك لا يقوى البدوي على قطع المسافة بين الجغبوب وجالو في فصل الصيف ما لم يكن قد حمل معه علف إبله.
ووصلنا بئر عزيلة — وهي أول بئر أبي سلامة في اليوم العاشر من رحيلنا عن الجغبوب، وعلم هذه البئر قليل من الشجر والأدغال الصغيرة المخضرة، وقد أمكننا أن نصل إلى الماء العذب بعد أن جرفنا الرمالة الهديلة على جوانب البئر، ولكنا لم نصل منه كثيرًا؛ لأن مذاق ما وصلنا إليه بعد ذلك لم يكن في عذوبة ما وصلنا إليه أول الأمر.
وبعد ذلك بيومين أشرفنا على ظاهر واحة جالو، ولم نكد نقرب الواحة حتى اندفع إلينا رسول جاء لمقابلتنا حاملًا خطابًا من سيدي محمد الزروالي — وهو من الإخوان السنوسيين — الذي أمره السيد إدريس أن يرافقنا إلى الكفرة، وطلب مني الرسول أن أحط رحالي حتى يَتَهَيَّأ القوم لمقابلتنا بِمَا يجب من الحفاوة والإكرام.
وكان السيد إدريس قد أخبر رجال جالو عند تركه جالو قبل ذلك بشهرين أني قادم إليهم، وأمرهم أن يتلطفوا في لقائنا، وقد توقع أهل المدينة وصولنا مدة طويلة حتى إذا أبطأنا عنهم ظنوا أننا غيرنا الطريق إلى الكفرة.
ونصبنا الخيام على مقربة من المدينة، وبعد ذلك بساعات قليلة جاءنا جمع من البدو ووقفوا صفًّا طويلًا مهيب الهيئة على طول طريق قرية «اللبة»، وهي إحدى القريتين اللتين تكونان جالو، وتقدمنا إليهم ونحن في أجمل لباس وأصلحه لذلك اللقاء الرسمي، وكان مع رجالي من الذخيرة ما يكفيهم لطلقات الترحيب.
واقتربت منهم فصافحت سيدي السنوسي قد ربوه، وهو قائمقام تلك الناحية، وصافحت كذلك أعضاء مجلس جالو وأشرافها، وخطبنا القائمقام مرحبًا، فرددت عليه وأطلق رجالي النار مرحبين، ثم دخلنا المدينة فقصدت الدار التي وُضِعت تحت تصرفي، واستقبلت أعضاء مجلس جالو وسيدي الفضيل عم السيد إدريس، وتناولت العشاء مع سيدي قد ربوه السنوسي وقضيت المساء أناقش سيدي زروالي في وضع الخطط لرحلتنا إلى الكفرة.