الشاعر القديم
وصف بعض الأقدمين سافو فقالوا إنها «شيء معجز». وجاء المحدَثون فعبروا عن دهشتهم إزاء أغانيها الساحرة البسيطة الصادقة ووقفوا أمامها كما يقفون أمام لغز محير مجهول. وتقدمت البحوث اللُّغوية والتاريخية فلم يعد أحد يتحدث عن لغز ولا مجهول، وتحررتْ شخصية هذه الشاعرة اليونانية القديمة من كثير مما علق بها من خرافات وأساطير، وتبينتْ ملامحها من خلال الشذرات القليلة الباقية من أشعارها، فإذا هي ملامح مألوفة معروفة، تُدهش القارئ حقًّا ببساطتها النادرة، ولكنها تنقُل إليه دقات قلب الإنسان في كل مكان وزمان، حين يملكه الشوق والحنين، وحين يفتنه الحب والجمال.
وإذا كان من أصعب الأمور على الإنسان أن يصف ذلك «الشيء المعجز» الذي يأسِره ببساطته، ويسعده بصدقه، ويتحدث إليه عن أقرب الأشياء إليه وأبعدها عنه فيحس كأنه يعانق الكون كله من خلال الكلمة الشاعرة، فمن الصعب أيضًا أن نطلق العِنان للحماس أو الإعجاب الرخيص بشاعرة الحب والجمال، أو نكتفي بكلمات مثل «ما أروع!» و«ما أجمل!» تزيِّف الحقيقة في الواقع بدلًا من أن توضحها. ذلك أن سافو تقول كل شيء ببساطتها المذهلة، حتى لَتوشك أن تجعل الناقد والشارح والمعلق أشياء سطحيةً وعقيمةً وضارةً. وقد تكون هذه البساطة مما يدهش القارئ الحديث الذي أصبح يتوقع من الشاعر الغنائي «لغةً جديدةً» لا يلجأ فيها إلى الكلمات العادية أو البالية، بل يغوص وراء لغة الحديث اليومية بحثًا عن إمكانيات لغوية جديدة ونافذة، لا تخطئ العينُ أثر بصماته الشخصية عليها. وقد يفتش عبثًا عن تلك الهُوة التي أخذت تتسع يومًا بعد يوم بين لغة الحديث ولغة الشعر، حتى أوشك الشعر في بعض الأذهان أن يكون مرادفًا لكل ما هو غريب وجديد وغير مألوف، وأن يكون الشعراء أول من يسبب للناس المتاعب والصدمات سواء في حياتهم أو بعد موتهم! حقًّا إن في شعر سافو كلمات جديدةً وصورًا عديدةً من التعبير لا نجدها في لغة هوميروس أو مَن أتى بعده، غير أن هذه الكلمات والصور الجديدة لم تأتِ عن رغبة في الاكتشاف والمغامرة، بل جاءت نتيجة تطور تلقائي في لغتها الشاعرة. وتعبير مثل «حلو-مر» الذي ألفناه اليوم واستخدمته سافو لأول مرة في وصف الحب (الإيروس) لم يكن هو وأمثاله إلا وليد لحظة أحستْ فيها الشاعرة بالشقاء والعذاب، وكانت فيها أبعد ما تكون عن التجريد والتجديد، أو البحث عن المدهش والعجيب.
وتظل البساطة بعد كل شيء هي الطابع المميز لأشعار سافو، وتظل تحمل الكثير من روح الأغنية الشعبية التي تؤثر فينا بصدقها المباشر، والتي لا شك في أن الشعر الغنائي المبكر عند اليونان كان يضرب بجذوره في أرضها الخصبة الأصيلة.
وليس من اليسير دائمًا أن يكون الإنسان بسيطًا حين تكون كل الظروف حوله معقدةً، فقد جربت سافو الاضطرابات السياسية من حولها والآلام الشخصية في حياتها، وعرفت كيف تعيش المتناقضات في الحياة إلى جانب بعضها بعضًا، ونُفيتْ من وطنها ولقيت الجحود من أترابها والتجنيَ من معاصريها ومن الأجيال التي عاشت بعدها. ولكنها عاشت في زمن يقدر البساطة والتواضع حق قدرهما، ويتلقى ما تعطيه يد القدر في شجاعة صامتة، ويجد عظمة الإنسان في احتمال الحياة بكل ما فيها من سعادة أو شقاء.
وعلى الرغم من كل ما قاسته سافو من آلام فلم يكن شعرها هروبًا من الحاضر إلى ماضٍ مثالي أو مستقبل حالم، ولم يكن كذلك فرارًا إلى سكون الوحدة والانفراد، فالشاعر اليوناني القديم لم يكن يقف مثل خَلَفه الرومانتيكي وِقفة الوحيد تحت خيمة السماء الواسعة، ليفتح قلبه للكون كله، أو «يفسر» لغة السماء وينطق بها، ولم يكن يتعبد «نشوة الصمت» أو يتغنى ﺑ «الطبيعة المقدسة»، ولا كان من الممكن أن تنطبق عليه أبيات هولدرلين المشهورة في وصف الشعراء:
لقد كان الشاعر القديم أتعس ما يكون وهو وحيد، وإن تغنى بالوحدة في قصائده فلم يكن غناؤه تمجيدًا لها أو دعوةً إليها، بل محاولة للخلاص منها والنجاة من فزعها وفراغها. ولم يكن شعره حديثًا وحيدًا مع نفسه، ولا حديثًا مع السحب والرياح والنجوم والأزهار، لقد كان دائمًا نوعًا من الحوار مع من يألفهم من البشر أو الآلهة. وما دام الشعر نوعًا من الحوار مع غيره من البشر فهو لا يمكن أن يكون شعرًا وجدانيًّا أو عقليًّا فحسب، كما هي الصفة الغالبة على الشعر الحديث؛ ذلك أن الشاعر القديم لا بد له من أن يعطيَ، ولا بد له من أن يقدم شيئًا من عنده للطرف الآخر الذي يتحدث إليه دائمًا، لا في صورة حكمة أو موعظة أو رأي في الكون، بل كسبيل إلى التحرر والخلاص. فما من أغنية واحدة من أغاني سافو القليلة التي بقيتْ لدينا إلا نجد فيها هذا الألم المؤثر الذي ينضح به القلب، القلب الذي يتعذب ويشارك في عذاب الغير، ويبحث عن الخلاص عن طريق الغناء، يبحث عنه إلى الحد الذي ينزف معه بعذاب الإنسان. ما من أغنية من أغانيها تنتهي باليأس، ما من أغنية تقف عند فكرة الموت أو تخاطبه كما لو كان هو الغاية الأخيرة والمصير المحتوم. إنها تختم قصيدتها دائمًا بفكرة تعبر عن العزاء، بأمل في الاتزان والاعتدال، بتذكير الإنسان بأن من نصيبه أن يُحرم من الكثير، ولكن من حقه ومن واجبه أيضًا أن يصلي للآلهة لتُنعم عليه بالحب والمشاركة والحنان. وحين كان يبدو لها في بعض مراحل حياتها وكأن الطرق جميعًا قد انسدَّت في وجهها، كانت الشاعرة لا تعدم مع ذلك طريقًا تواصل سيرها عليه. لم يكن طريقَ الفعل والتصميم والتمرد الباطني، كما كان عند صديق معاصر لها هو الشاعر «ألكايوس»، بل كان في أغلب الأحيان طريقًا أشق وأشد وعورةً، ندر أن تبخل عليه إلهة الحسن أفردويت بابتسامتها المشجعة المضيئة.
شيء آخر سيبحث عنه القارئ الحديث في شعر سافو دون أن يجده؛ إنه لن يعثر عندها على وصف للطبيعة مقصود لذاته، كما لن يعثر عليه عند غيرها من الشعراء الغنائيين المتقدمين. فعلى كثرة الأوصاف الطبيعية في شعرها، وتعدد الصور الحية على اختلاف ألوانها من ظلال وعطور، وجداول وزهور، وقمر ونجوم، وبقدر ما تعبر عنه هذه الصور من وجدان متفتح بكل طاقاته للجمال، لا، بل متفانٍ فيه بكليته، بقدر ما نفتقد فيها الإحساس الرومانتيكي بالطبيعة. وليس من العسير أن نفسر غياب هذا الإحساس عن شعر سافو، فحيثما كانت الآلهة حاضرةً في حياة الإنسان، كان من الطبيعي أن يتجه إليها لا إلى الطبيعة ليلتمس عندها العزاء عن أحزانه؛ فالطبيعة لا تصبح مقدسةً إلا حين تبتعد قداسة الآلهة عن حياة الإنسان، ويبتعد الإنسان عنها. إن العلاقة بين حياة الإنسان وبين الطبيعة علاقة ارتباط قوي لا تكاد الشاعرة هنا — مثلها في ذلك مثل الشاعر الشعبي المجهول في كل زمان — تفصح عنها أو تجد نفسها في حاجة إلى التعبير عنها. إنها تبدأ إحدى أغانيها بوصف الطبيعة فتقول «٤د»:
ولسنا ندري كيف تمضي هذه الأغنية الناقصة بعد ذلك، على الرغم من أن الجزء الوحيد الذي بقي لدينا منها بعد ذلك يصف القمر بأنه فضي. ولكننا نستطيع مع ذلك أن نقطع بأن الشاعرة لم تخترْ هذه الصورة عن جمال ليلة مقمرة من أجل الجمال الطبيعي في ذاته، بل لا بد لنا من أن نفترض أنها قد تحدثتْ في الجزء المفقود — على نحو من الأنحاء — عن حياة الإنسان، سواء أكان هذا الحديث بقصد المشابهة بينها وبين صورة من صور الطبيعة أم لم يكن كذلك. وإذا كان من الصعب أن نستخلص من هذه الأبيات شيئًا عن حياة سافو نفسها، فليس من العسير مع ذلك أن نحس بأنها لم تكن بعيدةً عن شجرة الحياة والأحياء، وأنها كانت قريبةً من قلب الطبيعة النابض، الذي لا يزال يُتم دورته الحية في صمت وهدوء. أما الطبيعة التي تتكلم مع إنسانِ ذلك العصر الذي يكشف لنا شعرُ سافو عنه، فلم تكن بالأم الرحيمة ولا بالطاغية الرهيبة، والزمن الذي عاشت في ظله لم يكن تلك القوة المعتمة التي يحس الإنسان بأنه ملقًى في خضمها بين الغرق أو النجاة. البشر والآلهة وحدهم كانوا مركز إحساسه وفكره، ومصدر عذابه وفرحه. لم يكن الإنسان يسأل عن حقيقة العالم وأصله ومصيره، كما سيفعل عندما تزدهر الفلسفة بعد ذلك بنحو قرنين من الزمان، ولم يكن كذلك في حاجة إلى السؤال عن الله أو الآلهة، فقد كان الإنسان هو شغله الشاغل، الإنسان بوجه عام وعلى نحو مطلق. كانت إنسانية ذلك العصر المبكِّر تبحث عن قدرها، فراحت تحاول أن تفهم نفسها. والحكمة المشهورة: «اعرف نفسك» التي تنسب إلى طاليس أحد الحكماء السبعة القدماء، والتي يقال إنها كانت مكتوبةً على مدخل معبد أبوللو في دلفي، كانت موضوعةً في الوقت نفسه على باب ذلك العصر الذي نسميه بالعصر الشعري. فلم يحدث أن شارك عصر من العصور من قبل أو من بعد في كل ما تفرضه هذه الحكمة على الإنسان من مشقة البحث عن الذات والتعرف على مكانها من الطبيعة والمجتمع والتاريخ. فالوجدان يبحث عن نفسه في تلك الصورة الفنية التي تعبر وحدها عن روحه، ألا وهي الشعر الغنائي، كما عبرت الملحمة عن عصر سابق، وكما ستعبر التراجيديا عن عصر لاحق، إلى أن تذبل هذه الشجرة أيضًا لتتولى الفلسفة قيادة الإنسان على الطريق. في الشعر الغنائي كان الإنسان يجد التعبير عن يأسه وأمله، عن فكره وشعوره، ولم يكن الشعر في هذه المرحلة المبكرة من الحياة اليونانية زخرفًا للتسلية أو الترويح عن النفس، لم يكن «أدبًا» كما نسميه اليوم، ولا كان بالأولى «فنًّا جميلًا»، بل كان شيئًا يجب أن يؤخذ مأخذ الجد الخالص. كان نبضَ الحياة الروحية والعقلية التي كانت تنعكس على مرآته. لعل الشعر لم يصل إلى هذه المنزلة بعد ذلك أبدًا، ولكن حسبه أنه قد وصل إليها ذات يوم.