أغاني الزفاف
وأهم ما في هذه الأغاني أنها تكشف لنا عن مشاعر سافو نحو تلميذاتها وصاحباتها، وعن حقيقة العلاقة التي كانت تربطها بهن. وتصل هذه العلاقة إلى ذروتها عندما تتأهب العذراء لمغادرة بيت سافو إلى عش الزوجية. فالشاعرة تحس عندئذٍ بألم الفراق الذي يحرك أصابعها بأرق أغانيها الذاتية، كما يفرض عليها واجبًا آخر فيه من القسوة بقدر ما فيه من القداسة، يجعلها تكتب أغنيةً تُنشَد في حفل الزفاف، وتلقيها بنفسها أو بالاشتراك مع جَوقة الفتيات.
ومن الأغنيات التي تعبر عن الحالة الأولى أغنية مشهورة يضعها بعض المفسرين في الكتاب الأول ضمن أشعارها الخالصة، ويضعها البعض الآخر بين أغاني الزفاف، وأغلب الظن أن الأغنية تصف العريس الجالس إلى جانب عروسه في حفل الزفاف:
فالأغنية إذن تعبير نادر عن عاطفة ذاتية جربتْها سافو، ليست هذه العاطفة حبًّا، على الرغم من دقة الوصف لحالتها الجسدية، وليست كذلك غَيرةً ولا حقدًا؛ لأنها تصف الرجل صراحةً بأنه شبيه بالآلهة، وليست تعبيرًا عن مرارة الفراق، فما من كلمة واحدة تذكر فيها هذا الفراق، بل هي وصف بسيط للعواطف التي جاشت في قلبها في حضرة المحبوب، وصفٌ لا نستطيع أن نحدده أو نجد له اسمًا. فهذه العواطف تعبر عن نفسها في صورة جسدية، في ارتعاش القلب، واحتباس الصوت، وتصبب العرق، وسريان النار تحت الجلد، واضطراب الرؤية أمام العينين. وتصل هذه الظواهر الجسدية إلى قمتها حين تقول في نهاية القصيدة إنها قريبة من الموت، فتضفي على اللوحة كلها نغمةً طبيعيةً صادقةً. وتشبيهها لنفسها بالميتة ليس من قبيل المبالغة أو «الكليشيه» الذي شاع في الشعر الهليني بعد ذلك، بل تعبير نستطيع أن نؤمن بصدقه وإخلاصه، تحت تأثير انفعال جارف جعلها تقول في موضع آخر:
وهو كذلك تعبير عن الضياع الذي أحست به في مثل هذا الموقف حين قالت في موضع ثالث:
هذه الرغبة في الموت تجعل لسافو مكانةً فريدةً بين شعراء الإغريق، الذين نظروا في جملتهم إلى الموت على أنه شيء بعيد وكريه. ولعل طبيعة حياتها التي كانت سلسلةً طويلةً من عذاب الفراق للأحباب هي التي أجرت على لسانها هذه النغمة اليائسة الغريبة على أبناء ذلك الزمان. وقد لا أبعد كثيرًا عن الصواب إذا قلت: إن في هذه الأغنية دليلًا على أن صدق التجربة هو وحده الذي يستطيع أن يصنع المعجزات!
كان حفل الزفاف يبدأ عادةً بمأدبة يحضرها العروسان، تقام في بيت أحدهما، وكان لهذه المأدبة طابع ديني، فوالد العروس يقدم القرابين لآلهة الزواج ومن بينهم أفروديت. وكان الحفل ينتهي عادةً باصطحاب العروس التي تجلس في عربتها إلى جانب أفضل الرجال إلى بيتها الجديد. ويصف لنا لونجوس — الذي عرف شيئًا عن العادات المنتشرة في جزيرة لِسبوس كما قرأ شعر سافو — إحدى هذه الحفلات بقوله: «حين يقبل المساء، يصطحبهما الضيوف إلى مخدع الزوجية، بعضهم يعزف على الناي والبعض الآخر على المزمار، وفريق منهم يتقدم العربة حاملين المصابيح والمشاعل في أيديهم، فإذا بلغوا عتبة غرفة الزوجية بدءوا يغنون أغنية زفاف في أنغام خشنة غليظة كأصوات المعاول والفئوس!»
وهناك نوع آخر من أغاني الزفاف لا نجده إلا في شعر سافو، كانت هذه الأغاني تقوم على حوار يدور بين العروس وشخص آخر يمثل العُذرية. ولم يبقَ لنا من الشواهد عليها سوى هذين السطرين:
ولا بد من أن هذه الأغنية كانت تستند إلى أصول شعبية، غيرتْ سافو في شكلها وأضافت إليها كما فعلت في سائر أغانيها. وهي تذكِّرنا بحوار آخر تتقدم فيه سافو وفتياتها بالشَّكاة إلى أفروديت، باكيات على موت أدونيس. ولا بد من أن العروس كانت تقوم بغناء الجزء الخاص بالعذرية.
وقد تكون هناك بقايا أخرى من هذا النوع المفقود من أغاني الزفاف، مثل الشذرة التي تقول فيها:
الذي يبدو أنه بقية كلام مفقود على لسان العروس، أو الكلمات التي تقول فيها:
والتي يبدو أنها جاءت على لسان عروس تحتج فيها على مصيرها، أو تحاول أن تحميَ تاجها الأخضر من اغتصاب الرجال. ومع ذلك فإن الشواهد الباقية على هذا النوع من أغاني الزفاف نادرة، ولا بد من انتظار اكتشافات جديدة قد تَهدينا إلى نماذج أخرى منها.
لم تبقَ لنا أغنية واحدة كاملة من أغاني الزفاف عند سافو، ولكن من المدهش حقًّا أن نجد فيها مزيجًا رقيقًا من الروح المدنية المهذبة والروح الشعبية التي تسمح لنفسها في مثل هذه المناسبات بقدر كبير من حرية التعبير، فلا شك في أن حفل العرس لم يكن يخلو من كثير من العبث الذي يتبادله أهل العروسين أو أصدقاؤهما، وأن بعض الألسنة الطويلة لم تكن تترك العريس «الفلاح» في حاله، ولا كانت تترك حارس الخدر العملاق قبل أن تتندر بقدميه الغليظتين أو بملامحه العابسة! ومع ذلك فلا بد من أن «الشهامة» كانت تقوم بدورها في مثل هذه الأفراح، وأن الروح الشعبية كانت تعبِّر عن نفسها أجمل وأصدق تعبير. وكل هذا يزيدنا حزنًا على ضياع هذه الأغاني، ولو أن أغنيةً واحدةً منها سلمتْ من الضياع لرأينا فيها ذلك الكنز الشعبي الصافيَ الذي يجمع خير ما في الشعر الغنائي على مر العصور. وتزداد الحسرة إذا نظرنا إلى إحدى هذه الأغنيات التي تشبِّه فيها سافو العروس بالتفاحة الحلوة، المتوردة بالحمرة على أعلى غصن، نسي القاطفون أن يجنوها، لا لم ينسوا — كأني بالشاعرة تستدرك حتى لا تتورط في سوء الأدب! — بل لم يستطيعوا أن يبلغوها. إن الشاعرة تبدو وكأنها تتوقف في منتصف القصيدة لتلتقط أنفاسها، ربما لتجد تعبيرًا أفضل أو لتبحث عن صورة أكثر حيوية، أو تبالغ في التصعيد بالنغمة إلى أقصى مداها: «عاليًا، على أعلى غصن». ولعل ذلك هو سر هذه الخفة والرشاقة التي تميز أغانيها في الزفاف، وتجعلنا لا نكاد نقرؤها حتى يخيل إلينا أننا نستمع معها إلى رنين قيثارة أو إيقاع صُنُوج كانت تصاحبها.