شعر سافو
كلما عشنا مع شعر سافو لم نستطع أن نتبين فيه الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال الشعري. والأغنية التي توجهها إلى صديقتها البعيدة «أريجنوتا» أو «أثيس» كما يقول بعض الشراح مَثَلٌ يوضح لنا كيف تتحول الصورة عندها إلى كِيان حاضر. إنها أغنية من تلك الأغنيات التي يمكن أن نقول عنها إنها شخصية إلى أقصى حد، تتحدث فيها الشاعرة فتكشف عن نفسها بنفسها؛ فهي أغنية فردية، شأنها شأن معظم أغانيها، وليست أغنيةً تؤديها الجَوقة، ولا يمنع هذا من أن نتصور أنها كانت تُنشَد في مناسبة من المناسبات كالاحتفال بعرس أو بعيدٍ تكرم فيه الآلهة.
إن الصورة تبدأ بتشبيه الصديقة الغائبة بالقمر الذي يفيض بنوره على كل النجوم، ثم يتكثف الوصف الطبيعي شيئًا فشيئًا وتنمو الصورة وتتشكل بالتدريج حتى نراها ماثلةً أمامنا وكأنها عيان حاضر أو واقع مشاهَد، فضوء القمر يمتد على البحر المالح ويغمر الحقول والمروج المزدانة بالورد، والندى المنعش يسقط، وأزهار اللوتس العسلي تزدهر، وكأن ألوان الطبيعة وعناصرها تتقدم خطوةً خطوةً نحو هذه الصورة لتسكب فيها النبض والأنفاس:
وبعد أن ينتهي هذا الوصف للبيئة التي تعيش فيها أريجنوتا، تظهر الصديقة الغائبة أمام سافو. إنها تراها بعين روحها قلقةً تتجول هنا وهناك، ترنو ببصرها وراء الشاطئ البعيد، ويثقل الحزن على صدرها فتُطْلق صرختها اليائسة: «تعالَيْن إليَّ!» لكن صوتها يضيع صداه دون أن تسمعه أذن؛ فليس إلا البحر الهادر بين الشاطئين:
وإذا صح أن الأغنية تتوقف هنا — إذ إن البقية الباقية منها بعد ذلك لا تكاد تضيف إلى الصورة السابقة شيئًا ذا بال — فإن هذه الأغنية تشبه أن تكون اعترافًا صارخًا بأن الطبيعة لا تكترث بالإنسان ولا تعبأ بما يجيش في قلبه، بل إنها تهزأ بأحلامه وأشواقه، وتخنقها في صدره بكل ما تملك من قوة وجبروت. وقد ظن الباحثون — قبل أن تُكتشف بقية الأغنية المهلهلة إلى الحد الذي يصعب معه ترجمتها — أنها تنتهي عند هذا الموضع، وأن سافو لا بد قد عادت إلى الموضوع الذي بدأت به، قياسًا على ذلك النوع من التكوين الدائري الشائع في أشعار اليونان. مهما يكن من شيء فإن انقطاع الأغنية عند هذا الحد شيء محزن حقًّا، ولعلها قد انتهتْ كما تنتهي معظم أغانيها البعيدة عن التهويل الدرامي — الذي نجده عند شاعر مثل ألكايوس — بتعبير عن الأمل في أن يُسمع النداء ذات يوم، وبأنه ما من نداءٍ صادق يبقى بغير صدًى. ولعل هذا التعارض بين البداية اليائسة والخاتمة المشرقة ألَّا يخلو من مغزًى؛ فالنفس البشرية التي لا تكف عن البحث لا تستطيع أن تتوقف أو ترضى بالهزيمة والانكسار، بل تصر دائمًا على أن تنشر جناحيها لتواصل طريقها من جديد، قد نتمنى لو عرفنا إلى أين تطير؟ وقد نسأل من أين ستأتي إذن باليقين المرح الذي ستواجه به المعرفة الأليمة بقسوة الطبيعة؟ لم تلجأ الشاعرة إلى الصلاة في معبد إلهتها، أو البكاء عند أقدام عرشها المزدان بالزهور، لم تهرب مغمضة العينين إلى مملكة الأحلام، لم توغل في البُعد بحثًا عن قانون أعلى، لقد بقيتْ مع نفسها أو في نفسها. تذكرتْ وعرفتْ ذلك القانون الأعلى، تلك الحقيقة البهيجة عن حرية القلب البشري، التي لا يستطيع قانون ولا حقيقة طبيعية أن تسلبها إياها.
ولكن هل تستطيع مثل هذه التفسيرات أن تقرب إلينا شيئًا مما يشير إليه الشعر بوسائله الخاصة، بالتلميح الهين، والانتقالات المفاجئة، والقلب والعكس والعَود إلى البدء … إلخ، بكل هذه الأساليب التي نحس معها بأن هناك شيئًا لم تقله القصيدة — ولا نحب أيضًا أن يقوله لنا أحد! — وبأننا نؤثر أن نُترك معه لنواصل الإحساس به والتفكير فيه؟
هناك صفة أساسية في شعر سافو لا يصح أن نسكت عنها، تلك هي الوعي المشرق المضيء، وليس معنى هذا أنه صفة ملازمة لكل قصائدها، بل معناه أن الوعي يظهر فيها في مواضع متفرقة، على نحو مفاجئ يكشِف كالبرق الخاطف عن كل ما يختبئ في ظلمات نفسها، ويسلط الضوء على أعمق أعماق حياتها، ويهديها إلى الحكمة الواحدة وراء اختلاف الآراء والأهواء في النفوس.
وطبيعي أن حكمة الأمثال الشعبية لا تكفي للتعبير عن مثل هذه الحكمة البسيطة المباشرة، كما أن الصور الشعرية لا تستطيع أن تؤديَها على الوجه الجدير بها؛ فسافو قد خرجتْ من حياتها بكل ما جربتْه فيها من سعادة وما عانتْه من شقاء بما يشبه الحكمة المطلقة. إنها لا تحاول أن تفسر لنا لماذا يحب الناس هذا الشيء وينفرون من ذاك؟ بل تقول مرةً واحدةً: إن أجمل الأشياء بالنسبة إلى كل إنسان هو ما يحبه ويشتهيه. وها هي ذي تقول في إحدى أغانيها:
لقد وهبتْ نفسها وحياتها لما أحستْ نحوه بالحب. وهي تعرف أن غيرها قد يحب شيئًا آخر ويحلم بآمال أخرى، أما هي فتجد في حبها الكفاية عن كل شيء سواه، فقيمة الحب عندها لا تقل عن أية قيم أخرى يعتز بها المعاصرون لها من الرجال. وانصرافها الإرادي إلى حياتها الخاصة عن الحياة العامة، يؤكد حرصها على استقلال المرأة في هذه الفترة المبكرة من التاريخ. وليس من قبيل المصادفة أن تقارن نفسها بهيلينا التي ضحتْ ببيتها وزوجها في سبيل حبها، وجرَّت الخراب على طروادة في الحرب الطويلة الطاحنة بينها وبين أثينا.
فقد كانت معرفتها بأن الحب والجمال هما أعظم شيء في حياتها معرفةً بالقلب والبصيرة، معرفةً واضحةً أو سرًّا مكشوفًا كما يقول «جوته» في تعبيره الجميل المشهور. وإذا كنا نحتاج اليوم إلى الشروح والتفسيرات، ونلجأ مضطرين إلى القياس والاستنتاج، فلم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى سافو ولا بالنسبة إلى روح عصرها. لقد كانت تستغنى بالقرب من الأصل والمنبع عن كل شرح أو تفسير، وكان حبها للخصب والجمال نابعًا من حبها للشمس، ولم يكن في استطاعة الشراح الأقدمين أن يفهموا ذلك، فقد كانت رؤية الشمس مرادفةً عند اليونان للحياة نفسها. ولا بد لنا من أن نفهم حبها للشمس بمعناه الحرفي، أعني بما هو حب للحياة بكل مظاهرها وألوانها وأنغامها، وبكل ما فيها كذلك من ألم وعذاب، ما أكثر ما صادفتهما في حياتها. المهم أنها لم تكن تقصد بحبها للنور والجمال أن تقرر حقيقةً فلسفيةً مطلقةً، بل كانت تعبر عن عاطفة شخصية إلى أبعد الحدود. ولقد كانت حياتها نفسها مصداقًا للحب الخالص لكل الجوانب المشرقة من الوجود الإنساني تحت الشمس.
ولا يدهشنا بعد ذلك أن يتحدث عنها أفلاطون في محاورة فايدروس (٢٣٥ب) فيقول: «سافو الجميلة»، ولا أن يصفها بأنها ربة الجمال العاشرة، فيضيفها إلى ربات الفنون التسع المشهورات، تكريمًا لها وإعجابًا.
•••
تقول سافو في إحدى أغانيها:
ونحن نعرف اليوم أنه كانت لسافو منافِسات عديدات، وأنهن ربما هزأن بها وحقدن عليها، ولكننا نعرف أيضًا أنها لم تكن تقابل الشر بالشر. ونحن لا نستنتج ذلك مما تقوله هي عن نفسها في الأبيات السابقة، بل من المواضع العديدة التي تكشف عن حقيقة العلاقة التي كانت تربط بينها وبين تلميذاتها.
فقد كانت أشعار سافو نابعةً من الحياة الجماعية التي عاشت فيها، مرتبطةً ﺑ «المعهد» الذي أنشأتْه في بيتها لتربية العذارى على عبادة الجمال وإعدادهن للحياة الزوجية. لم تكن إذن تكتب للأجيال المجهولة التي لم تولد بعد، ولا كانت تكتب ﻟ «الخلود» كما سيدَّعي بعض الشعراء في الأزمان اللاحقة، فقد كانت أشعارها مرتبطةً بمناسبات محددة، موجهةً إلى أناس محددين، وكانت تعكس مشاعرها نحو رفاقها أو نحو أفراد بعينهم. وإذا أردنا أن نفهمها فلا بد لنا من أن نحاول فهم كل المناسبات التي قيلتْ فيها. ومن حقنا بالطبع أن نعمِّمَ معانيَها أو نجد فيها تعبيرًا عن عواطفنا، ولكن من الواجب أيضًا أن نعرف دائمًا أن سافو كانت تكتب لجمهور معين، وأن هذا الجمهور كان يختلف عنا كل الاختلاف. ولْنحاول الآن أن نضرب لذلك مثلًا بأُولى قصائدها التي توجهها إلى أفروديت:
ومضمون هذه القصيدة يتضح من النظرة الأولى إليها، فسافو تدعو أفروديت أن تُعينها، على نحو ما أعانتها من قبل. ولو أن شاعرةً أخرى كتبتْها لاعتقدنا أنها أرادت أن تتخلص بها من أحزانها الذاتية، ولكننا نعرف أن سافو كانت تكتب أشعارها لتغنيها رفيقاتها وتلميذاتها، أو لتنشدها بنفسها (وليس من قبيل المصادفة أن تعنون طبعات قصائدها بكلمة أغاني «ميلي»). فالقصيدة إذن صلاة حقيقية موجهة إلى إلهة حقيقية تؤمن بها الشاعرة وتحيا لخدمتها، بل تعتقد أنها رأتْها رأي العين، أو قل رأيَ الروح فيما يشبه الرؤى الصوفية.
القصيدة إذن لا تُعد صلاةً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، فهي لا تهتم بأية احتفالات أو طقوس مما يقام عادةً للإلهة أفروديت، ومع أنها تختلف عن كل القصائد التي كان الشعراء المتأخرون يوجهونها إلى الآلهة، فهي تحتفظ مع ذلك ببعض الخصائص التي تتصف بها الترانيم الدينية. إن الشاعرة تخاطب أفروديت فتطلق عليها بعض الألقاب التي عُرفتْ بها: فعرشها بهيج الألوان؛ ربما لأنه كان مزدانًا بالذهب ومُطعَّمًا بالعاج، وهي ماكرة أو ناسجة للحيل والفتن، إشارةً إلى سلطانها، وإلى مختلِف ألوان السحر والغواية التي تلقيها في عقول محبيها، كما أن لهجة الابتهال قريبة من لهجة الترانيم الدينية، وهي تتوسل إليها في البيت الأخير أن تأتي إليها فتقف إلى جانبها وتقدم لها العون. ومع هذا كله فإن رؤية سافو للإلهة تتميز ببساطتها ووضوحها وبُعدها عن التأثر والانفعال. إن كل شيء فيها طبيعي وواقعي؛ فبيت زيوس ذهبي وكفى، والطيور التي ترفرف بأجنحتها حول عربة أفروديت مثل كل الطيور، والأرض التي تعبرها أرض سوداء، والإلهة التي كان من الممكن أن تبعث الرهبة في قلب الشاعرة «تبتسم بوجهها الخالد»، بل إنها تحس بما يجيش في صدر سافو وتنطق به بإشارة بسيطة موجزة، حتى إن الشاعرة وهي تتوسل إليها في البيت الأخير أن تحقق لها أمانيها لا تذكر شيئًا عن هذه الأماني؛ لأن الإلهة نفسها تعرف كل شيء.
القصيدة إذن صلاة من نوع خاص، كان المقصود بها أن تنشدها الفتيات اللائي وهبن حياتهن لعبادة الإلهة أفروديت، أو أن تنشدها الشاعرة بنفسها بينهن. وهذا الصدق الذي نحسه فيها والجد الذي يطبِّعها بطابعه يبيِّنان لنا كيف كانت حياة سافو ممتزجةً أشد الامتزاج بحياة فتياتها، وكيف كانت تعبِّر بهواجسها وأفكارها عما يدور في عقولهن وقلوبهن من هواجس وأفكار. إنها لا تَمضي بأحلامها وخواطرها إلى معبد أو مذبح لتقف أمامه صامتةً متأملةً، بل تمضي بها إلى صاحباتها وتلميذاتها لتطلعهن على أسرارها وتحظى بعطفهن ومشاركتهن. وهي لا تخجل من البوح بهذه الأسرار في صراحة؛ لأنها تشعر بأن رغباتها وعواطفها، مهما تكن فاشلةً ومؤلمةً، فهي مقدسة وأمينة وصادقة. ومن الصعب أن نجد قصيدةً أخرى من قصائد الحب المشهورة تدانيها في لغتها الصريحة المباشرة التي لا تحاول أن تخلق من الحب أسطورةً أو سرًّا من الأسرار. فالكلمات توائم الإيقاع الموسيقي مواءمةً طبيعيةً تجعلها أشبه بالكلمات العادية التي يتكلم بها الناس فيما بينهم، بعد أن ارتفعتْ إلى درجة عالية من الرُّوحانية وصدق التعبير، وكأن الكلمات قد جاءتْها عفوًا وبلا عناء لتصنع أغنيةً موزونةً ملحنةً، تعبر عن حب خالص يسمو بصاحبه فوق شهوات الجسد ورغباته إلى التفاني الكامل في المحبوب.
والقصيدة تنقُلنا إلى قلب الحياة التي عاشتْها سافو بين أترابها وتلميذاتها، وتصور لنا طبيعة العلاقة التي كانت تربطهن بعضهن ببعض تحت سلطان الإلهة التي وهبن أنفسهن لعبادتها وتكريمها. كانت الفتيات يعشن في جماعة واحدة، تحت سقف واحد؛ ولذلك فقد كان حب سافو لهن وحبهن لها ولبعضهن البعض شيئًا طبيعيًّا. وليس هناك دليل على أن هذا الحب كان يُقصد به المتعة الجسدية أو اللذة الحسية، كما أن العقلية اليونانية لم تكن تستنكره أو ترى فيه غضاضةً، ولذلك فلا يجوز لنا أن نحكم عليه بقوانيننا الأخلاقية، أو أن نرى فيه نوعًا من الشذوذ أو الفساد الذي كان غريبًا على ذلك العصر. لقد كان الوضع الاجتماعي آنذاك يقضي بالانفصال بين الجنسين، كما أن الارتباط العاطفي الذي كان يجمع سافو وفتياتها ونحسه من أشعارها يسمح لنا بأن نرى فيه لونًا من الارتباط الروحي الذي تقيده مجموعة من القيم الأخلاقية كما يحكمه ذوق سافو الخلقي نفسه. ولا يصح أن نستنتج من تعلقها بفتياتها وحدبها عليهن وألمها لفراقهن أنها كانت ذات علاقة شاذة معهن؛ فمثل هذا الاستنتاج الرخيص لا يؤيده سند من حياة سافو ولا شعرها، بل قد يكون عقبةً تحول بيننا وبين تذوقه التذوق الصحيح. ويكفي أن نعيد قراءة هذه القصيدة المؤثرة التي تصف فيها موقف الوداع لإحدى الفتيات قبل رحيلها إلى بيت الزوجية. فالفتاة تصرخ قائلة: حقًّا، وددتُ لو ذقت الموت! وتنشج باكيةً على صدرها وهي تودعها، ولا شك في أن سافو نفسها حزينة، بل لا نخطئ إذا قلنا إنها هي نفسها تود لو ذاقت الموت، وإن قالت ذلك على لسان تلميذتها وصديقتها الراحلة، على أننا لن نسمع بعد ذلك شيئًا عن حزنها هي، إذ ستحل محله شكوى الفتاة من حظها البائس:
ونعرف مما تقوله الأغنية أن الفتاة كانت دائمة الشكوى من قدرها، وأن سافو كانت دائمًا ما تعزيها وتحمل عنها همومها. وها هي ذي الآن تذكر الفتاة الباكية بكل ما بذلتْه نحوها من حب ورعاية، وبكل ما جرباه معًا من سعادة وجمال، ولكنها لا تقول ناصحةً أو لائمةً: «ليس من حقك أن تشكي من قدرنا القاسي، فأنتِ تعلمين بنفسك أنه لم يكن كذلك»، بل تكتفي بأن تقول: «أنتِ نفسك تعرفين.» وهي عبارة تتردد كثيرًا في أغانيها الموجهة إلى تلميذاتها. ثم تستطرد سافو وكأنها تهمس لها: أما إن كنتِ لا تعلمين ما عشناه معًا من سعادة وجمال … فها أنا ذا أصفه لك، صورةً صورةً، وأحصيه لك ذكرى بعد ذكرى، وأعيد إلى خيالكِ كل المباهج التي نعمنا بها في الأعياد والاحتفالات، وفي الأماكن المقدسة وعند الجداول والأنهار … وتصعد الشاعرة مع ذكرياتها التي جربتْها مع محبوبتها درجةً درجةً، وتزدحم صور الماضي بكل ما ذاقته من ساعات هنية، في حين تتوارى الشاعرة نفسها خلف هذه الصور، وكأن لا مكان هنا إلا للآخر وما يعانيه من ألم أو يلاقيه من هناء، وكأن لا وجود إلا للماضي بكل ذكرياته وأفراحه، فهو وحده الذي يجلب العزاء عن هذا الفراق.
وتمضي سافو فتسرد للراحلة في بساطة وصدق كل ما «عشناه من سعادة وجمال»، ناسيةً نفسها، ناسيةً حاضرها، إلى أن ينقطع النص الذي لدينا من الأغنية فجأةً، دون أن نعرف كيف انتهى بها الحديث، ومع ذلك فقد لا نبعد كثيرًا عن روح هذه القصيدة إذا قلنا إن الشاعرة قد عادتْ بعد رحلتها في الماضي إلى لحظة الوداع، إلى الحاضر الذي كان يحيط بها في تلك اللحظة، والحاضر الذي كانت تعيش فيه وهي تكتب الأغنية.
لم تقصد سافو وهي تسرد ذكرياتها الماضية أن تجمِّل لحظتها الحاضرة، وإلا كانت كمن يحاول أن يخلق لنفسه عالمًا من الوهم المسحور ليعيش فيه. لقد جفتْ دموع الفتاة، ورحلتْ في هدوء، و«الآلهة تثيب من كان بلا دموع». أما حزن سافو فلم ينطفئ، بل سكن وهدأ، واستطاع القلب أن يجد إلى جانب الألم مكانًا للأمل. لقد عادت للماضي ولذكرياته وظيفتهما الإيجابية الحقة فهما يهدئان ويعينان. ليس وهمًا ما كان؛ فالجانب المضيء منه يعود، أما الجانب المظلم فهو وحده الذي يمضي بلا عودة. وكل إنسان يستطيع أن يوقظ الجمال الراقد في نفسه بالسؤال البسيط: أما زلت تذكر؟ وعندها يعود كما كان في قوته، وكماله، وبهجته، لا بل نخطئ إن قلنا إنه يعود؛ لأنه موجود على الدوام، الأمس واليوم وغدًا.
•••
ربما يرجع السر في بقاء شعر سافو إلى فطرتها الفنية كما يرجع إلى أسلوبها، فهي تجمع الحساسية المرهفة مع البساطة والصدق وقوة العاطفة. ولقد ورثت الكثير عن الأغنية الشعبية كما تقدم، فأخذت منها الأسلوب المباشر في الكلام الذي يختلف عن الأسلوب البطولي المبالغ فيه في الملحمة. ولم تنحدر هذه البساطة عندها إلى الإسفاف، فقد أنقذها من ذلك قوة مشاعرها ومقدرتها على الرؤية الواضحة، فأغانيها إذن تنتمي إلى التراث الشعبي بما تميزتْ به من اقتصاد في معجمها اللُّغوي، وشغف بالإعادة وتكرار الافتتاحية في خاتمة القصيد. وإذا كان سحر الأغنية الشعبية يكمن في قدرتها على التعبير عن أعظم الحقائق في أبسط الكلمات والمشاعر، فقد أخذتْ سافو ذلك عنها فيما أخذتْه، فلم تلجأ حتى في أعنف المواقف العاطفية إلى المبالغة، ولم تحتَج إلى تزيينها بالصور الجميلة. لقد عرفتْ دائمًا كيف تعبر عما تحس به، فلا تزيد ولا تنقص. فالخطابية غريبة عليها، والزُّخرُف اللفظي شيء لا تحس بضرورته. لقد كانت تعبر بأغانيها عما تشاهده بعينيها وتحسه بوجدانها، وكان الإحساس الصادق عندها هو الحَكَم والمقياس، فهو أسمى لديها من كل القيم والقوانين والتقاليد. لقد أرادتْ أن تسمع أولئك الذين أحبتْهم وأحبوها، وفهمتْهم وفهموها، وكانوا في أغلب الأحيان مصدر إلهامها. ويندر أن نجد شاعرًا يقول كل هذه المعاني في هذا العدد الضئيل من الكلمات، فالبساطة لا يمكن أن تذهب إلى أبعد مما تذهب إليه في مثل هذا البيت:
أو حين تخاطب إحدى فتياتها فتقول:
والاستعارة والتشبيه ما كان في استطاعتهما أن ينقُلا إلينا كل ما عبَّرا عنه بغير استعارة ولا تشبيه. إن الأسلوب والطبيعة أو الشكل والمضمون، كما نردد كثيرًا في هذه الأيام، يندمجان إلى الحد الذي يستحيل علينا معه أن نعرف أيُّهما أعظم: الفن أم الإلهام؟ إن عذوبة الصوت تجتمع مع وضوح الرؤية، وصدق الفكرة مع دقة الشكل، وجمال اللفظ والإيقاع مع جمال الموضوع المعبر عنه لتخلق جميعًا وحدة الانطباع الجمالي التي هي سر كل فن عظيم.
•••
عرفتْ سافو أن من المستحيل أن تصبح السعادة الكاملة من نصيب الإنسان، كما عرفتْ أنه ما من طريق يوصلنا نحن البشر إلى «الأوليمب العالي»، ولكنها استطاعتْ بالمشاركة في أحزان الغير وهمومه، بل في تحمل هذه الهموم عنه إلى الحد الذي تنسى معه همومها هي، أن تخفف من وقع هذه الحقيقة الصادقة الأليمة التي تعبر عنها بقولها:
ولعلها، إن صحت نسبة هذه الشذْرة التي يرويها أرسطو في كتاب الخطابة عنها (ب٢٢، ١٣٩٨ ب٢٧)، قد عبرتْ عما نسميه اليوم بالقلق الوجودي حين قالت إنه ليس هناك ما هو أسوأ من الموت، وإن الآلهة هم الذين شاءوا ذلك، وأنهم ربما كانوا اختاروا الموت لأنفسهم لو أن الموت كان شيئًا جميلًا. لقد أحستْ فيما يبدو بما نحسه اليوم من تناهي الحياة وزوالها، ولكنها تعلمتْ سر القلب البشري وعلمتْه لتلميذاتها وصاحباتها حين علمتْهن أن يتمتعن باللحظة الفانية، وأن يستنفدن ما فيها من بهجة وجمال، قبل أن تسقط في خضم الماضي، وتصبح جزءًا مما نسميه بالتاريخ. ولعلها قد علمتهن أيضًا كيف يعبر الإنسان عن اعترافه بالجميل للمحبوب وعن شكره له على اللحظة السعيدة التي قدر له أن يقضيَها معه، إن كانت قد قُدرت له على الإطلاق.
•••
واليوم، ماذا بقي لنا من شعر سافو؟
لم تتصور سافو — على الرغم من كل ما في الشعراء من كبرياء حزينة أو من حزن متكبر! — أن مجدها يمكن أن يصل يومًا إلى السماء:
بل كان أقصى طموحها أن يذكرها الناس ذات يوم، في زمن من الأزمان المقبلة:
ولم يخيِّب الزمن هذا الأمل الطيب المتواضع — على الرغم من ضياع الجانب الأكبر من أشعارها — فلم يزل لأغانيها ألوف الأصدقاء والمحبين، لا من بين العلماء والباحثين وحدهم، بل كذلك من بسطاء الناس الذين يعرفون دائمًا — لحسن الحظ — قيمة الكلمة الشاعرة البسيطة.
ومع أن الشعر مرتبط باللفظ ارتباط الروح بالجسد، ومع أننا لن نستطيع أن نتذوق شعر سافو تذوقًا كاملًا حتى نقرأه في لفظه ووزنه ونغمه الأصلي، فإن الترجمات — على الرغم من عجزها الضروري — لن تحرمنا حلاوة أغانيها.
فلم يزل وهج أحاسيسها حيًّا يلذع كل من لديه إحساس، ولم يزل سحر أغانيها (أو «الخاريس» كما كانت تسميه) يأسر القلوب، ويرسل عليها من هذا الزمن البعيد أنفاسه الدافئة الندية.
إن ضجيج العصر الحديث لم يستطع أن يخمد الشوق الخالد الذي نرعاه في نفوسنا نحو السكينة والبهجة والجمال. وما من شاعر من شعراء اليونان الأقدمين يُشبع فينا هذا الشوق كما تفعل سافو. والحكاية التي تُروى عن المشرع اليوناني العظيم صولون لا تزال تحتفظ بدلالتها؛ فقد روي عنه أنه كان يتمنى في شيخوخته أن يتعلم أغنيةً من أغاني سافو لكي يموت بعدها مرتاح البال. ولعل هذه الأمنية أن تكون شبيهةً بتلك الأمنية التي جاشتْ في نفس أوديسيوس حين كان يطوف في أسفاره البعيدة بالبلاد والبحار، ويعذبه الشوق إلى وطنه إيثاكا، وأن تكون شبيهةً بذلك الشوق الخالد الذي عرفتْه البشرية منذ أقدم العصور، ولا يزال يحركها إلى وطن يرفرف عليه الحب والعدل والسلام. ومع أن الحكاية التي تُروى عن صولون بالغة الدلالة على شعر سافو، فإن الوقوف عندها وحدها قد يكون عاملًا على إساءة فهمها، والاكتفاء بالمتعة الجمالية التي تتيحها لنا أغانيها عن إدراك العظمة الإنسانية التي تكمن وراءها. حقًّا إن مواقف الفراق بين الأحباب كانت دائمًا هي الأوتار التي تعزف عليها الأغنية الشعبية بكل ما فيها من حلاوة ورقة وحزن وهدوء، كما كانت الحقل الخصب الذي تتفتح فيه أجمل زهرات الشعر الغنائي. وسافو من أكثر الشاعرات اللائي عرفهن الأدب العالمي هدوءًا وسكينةً، وهي لذلك أيضًا من أشدهن عمقًا. إننا نسمع قلبها يتحدث إلينا دائمًا، وهو حديث هادئ استطاعتْ صاحبته بعد كفاح طويل أن تنتصر فيه على عذابها الشخصي، وهو لذلك أيضًا حديث ذاتي إلى أبعد حدود الذاتية، ومن ثم كان شعرها هو أغنيةَ حياتها الشخصية قبل أن يكون أغنية العصر الذي عاشتْ فيه. وقد لا نخطئ إذا قلنا اليوم إنها أحستْ كما لم يحس غيرها بتلك الضرورة القاسية الجميلة التي تدفع أصحاب الفن إلى أن يصنعوا الفن. ومهما تختلف الآراء حول طبيعة العلاقة التي تربط بين الفن والحياة، فقد كانت سافو مثالًا نادرًا على الشاعر الذي يستمد من الشعر عونًا على الحياة، أو الذي يحس أنه لا بد له من أن يغنيَ لكي يستطيع أن يتنفس. ونعود فنسأل أنفسنا أو نردد سؤالًا ربما دار في خَلَد القارئ: لمَ سافو؟ هل نحس بالحاجة إلى شعرها؟ بل هل نحس اليوم بالحاجة إلى الشعر على وجه الإطلاق؟ هل بقي بيننا مَن يشعر بضرورته أو يحاول أن يستمد العون منه؟