العملية الأدبية الروسية في مائة عام
(١) البدايات والنهايات: مهام التقسيم إلى مراحل
الأدب هو جملة من القيم، تأتي في مقدمتها الأعمال التي كُتبت بصورة فنية، وباستخدام الكلمة المجازية.
إن العملية الأدبية هي وسيلة (حرة، مستقلة، أو على العكس، منظمة وموجَّهة) يستخدمها الفنان الذي يعيش في بيئة ثقافية معقدة من أجل خلق هذه الأعمال. وفي هذه البيئة تتشابك علاقات الكاتب الإبداعية المختلفة والضرورية لتأمين أعماله، بما في ذلك نظام الطبع والنشر المتخصِّص. أما القيم الأدبية التي ينتجها، فيتم قَبولها (أو رفضها) من جانب النقد الأدبي (بشكل صريح)، وكذلك من جانب رقابة الدولة (بشكل سري)، كما يتم نشر المنتج الأدبي بواسطة تجارة الكتب والمكتبات، ويتم التعرف على هذه الأعمال عن طريق وسائل الإعلام.
كثيرًا ما تكتسب نتائج العمل الأدبي — بمرور الزمن — مغزًى اجتماعيًّا وسياسيًّا، وهذه النتائج يتم استغلالها من جانب القوى الاجتماعية التي تسعى لتوظيفها لتحقيق أهدافها (ويرتبط بذلك ما يُعرف باسم «الإبداع الحزبي»)، كما أنها تشارك أيضًا في حركة النضال الاجتماعي. أما الدولة، وخاصةً الشمولية، فتعمل بنشاط على استخدام الأدب لدعم سلطتها. وأخيرًا، فإن الكتاب والنص الأدبي يمكن أن يصبحا سِلعًا في إطار علاقات السوق.
ينبغي علينا أن نأخذ ذلك كله في الاعتبار ونحن ندرس العملية الأدبية، وخاصةً في القرن العشرين.
إن الهدف النهائي من هذه العملية، التي نادرًا ما يتم التخطيط لها من جانب الفنان، هو التأثير على سير الحياة الخاصة والجماعية للناس، وإخضاع هذه الحياة لنماذج وقواعد وأنماط ثقافية عامة أيديولوجية وأخلاقية محددة.
ومع ذلك، فإن كبار الفنانين ينظرون إلى إمكانية التأثير المباشر للكتب وللكلمة على الحياة وعلى الناس، على الأخلاق الاجتماعية وعلى تطوير العالم، بقدر كبير من الشك. هؤلاء يفترضون أن هناك صلةً قائمة بطبيعة الحال، لكنها ذات طابع معقد للغاية. من المعروف أن بوشكين كانت لديه شكوك أيضًا في هذا الصدد، عبَّر عنها كثيرًا في كتاباته، أما تيوتشيف فكان متحفظًا في إصدار أحكامه:
لقد كانت هناك أيضًا آراء لدى بوشكين وثيورتشيف وآخرين، يتضح من خلالها أنهم كانوا يملكون على أي حال آمالًا عظيمة في الكلمة (بدءًا من «أشعلوا قلوب الناس بالكلمة» وصولًا إلى «أود لو أن القلم أصبح صنوًا للرمح!»).
ظل الأدب الروسي دائمًا مرتبطًا بالحياة الاجتماعية والتاريخ ومصير الشعب، فضلًا عن أنه كان ملتحمًا بهم. يمكن القول بصورة محدَّدة بأن هذا الأدب جاء نتيجةً لهذا الاتصال وهذه القرابة. يقول نيكولاي بيردياييف عن الأدب الروسي في القرن العشرين: «لم يولد هذا الأدب من فائض الإبداع السعيد، وإنما من العذاب والمصير المؤلم للإنسان وللشعب، من البحث عن السعادة الإنسانية الشاملة.» وفي هذا وذاك فإن تاريخ قرننا لم يبخل لا على هذا ولا على ذاك بالعذاب والبحث، الذي فاق نصيب التاريخ الروسي منه كل مقياس.
يمكن أن نطبِّق كلمات أنَّا أخماتوفا على الكاتب الروسي في القرن العشرين أكثر من أي واحد آخر:
المصير المشترك للشعب والفنان هو الشرط الأساسي للعملية الأدبية المثمرة. يحدث ذلك عندما تكون الحياة الأدبية في أوج حريتها و«عَفْويتها». عندما تتطوَّر وفقًا لقوانينها العضوية الداخلية. على أنه كلما ازداد «توجيهها» وإدخالها في التيار، قلَّت الفرص في أن ننتظر من الأدب شيئًا جديدًا، شيئًا مبتكرًا لا يمكن التنبؤ به. في هذه الحالات فإن الإبداع يتم استبداله ليصبح نوعًا من الأدب الوظيفي البيروقراطي.
إن العملية الأدبية الروسية للقرن العشرين تقف الآن في أكمل صورها. فبأي مقياس نقيسها؟ ألم يحن الوقت لأن نحدِّد خصائص هذه العملية، انطلاقًا من حقائقها العميقة، دون أن نُلزمها بالتطابق مع المعايير الظاهرية الغريبة على طبيعتها؟ وكما رأينا، فقد ساد لدينا ولسنوات طويلة التناول الاجتماعي المبتذل والتوضيحي، وسوف نقدم فيما يلي عددًا من الإشارات المفيدة في هذا الصدد.
في هذا «الجدول» راحت الفترات الجديدة تتوالى بمعدل ما بين ثلاث إلى خمس سنوات، في تطابق دقيق مع انعطافات وتعرُّجات «الخط العام». وهذا وحده يدلنا على أن الأدب لم يُعطِ أي مغزًى مستقل. بل إن التقسيم الزمني الشكلي على أساس العقود إنما يدل، على أقل تقدير، إما على غياب الوحدة الداخلية والتكامل في العملية الأدبية والثقافية، وعلى انهيار التطور الذاتي العضوي، وإما، وهو الأرجح، على أنه ليس لدينا حتى الأن تكامل جاد لفكرة الحركة الأدبية في القرن العشرين، وأننا ما زلنا حتى اليوم لا ندرك هذه الفكرة.
(٢) حان الوقت على أية حال لننظر إلى المشكلة على نحو أكثر تخصصًا
الأدب هو الكلمة القومية، وهو المعبِّر عن أحوال روح الشعب والنفس البشرية في خلودهما وفي المواقف العابرة. ومن الجلي أن مغزى العملية الأدبية يتلخص في إعطاء هذه الكلمة إمكانية الوجود والتعبير عن ذاتها على أكثر صورة من الاكتمال والحرية. وانطلاقًا من وجهة النظر هذه، أود أن أُلقي نظرةً على العملية الأدبية في بلادنا في القرن العشرين.
وكما ذكرنا من قبل، فقد تطورت وتفاعلت، في أعماق التاريخ والثقافة، ولمدة تزيد على ثلاثة قرون، عمليتان؛ إحداهما تمثلت في سعي جزء صغير من الشعب تميَّز برهافة الحس وامتلاك زمام الكلمة، اندمج في الحياة العامة ليحوِّلها على طريقته ودون عمد لصالحه. وعلى الجانب الآخر فقد عبَّر الانسجام الروحي للعالم القومي عن ذاته من خلال الكلمة؛ فالفنانون الذين أحسوا بهذا الانسجام حذَّروا من التدخل في الحياة الموحَّدة والمتصلة للعالم، ومن المساس بعَفْويته وتحقُّقه الذاتي.
وعلى امتداد هذه القرون شكَّلت هاتان القوتان — كل منهما على طريقتها — وجمعتا طاقة الكلمة، ولكنهما للأسف، نزعتا عنها على نحو إرادي أو عَفْوي، وجودها الطبيعي وحركتها الذاتية في الثقافة.
إذا ما أردنا التحدث على نحو أكثر تحديدًا، فإن علينا أن نتحدث بالدرجة الأولى عن حركة «ترييف» الثقافية الروسية المتصاعدة، التي ظلت لقرون عديدة مرتبطةً على نحو تقليدي ﺑ «الأرض»، بينما آلت حركة التمدين، التي استرشدت بالنماذج الأوروبية، بدءًا من عصر بتروف على وجه الخصوص، إلى الانهيار في القرن العشرين؛ ممَّا أدَّى في وقت ما، إلى انهيار الفضاء الثقافي القومي الموحَّد. وهنا بدأ تقسيم الثقافة إلى طبقات، إلى طبقتين تحديدًا، الأولى منتجة، والأخرى مستهلكة.
منذ اللحظة التي اندلعت فيها أحداث أكتوبر (١٩١٧م (المترجم)) انشطرت الكلمة تحديدًا على نحو ملحوظ ومبتذل بطرق مختلفة؛ فهناك الكلمة «المجنِّدة» والمدعوة إلى العمل، وهذه وصلت إلى الحد الأقصى في السعي نحو الخضوع للسياق التاريخي؛ لتنفصل عن الحياة أكثر فأكثر، لفترة ما، ثم لتتمزق وتفقد روحها. يحدث ذلك تمامًا (وقد حدث!) مع الأدب الحكومي في زمننا الحالي. كلمة أخرى هبت لمدة ثلاثة أرباع قرن مضت، دفاعًا عن الوجود المستقل وعن التطور الذاتي للشعب وللفرد، عن روحه وارتباطه بالكون الثقافي، ولكنها أيضًا لم تتمكن من ذلك؛ إذ بدا أنه بفضل جهود الدولة الشمولية قد ظلت في كثير من جوانبها معزولةً ومفتقدة لحرية المشاركة في الثقافة.
علينا هنا أن نتابع هذين الطريقين في نقاط التشابك الأساسية بينهما فيما يتعلق بمسار الحروب والثورات التي نشبت في القرن العشرين، فقد أصبحت جميعها مراحل لحدوث الطفرات والهزات، التي لم تفعل شيئًا سوى أنها حرَّرت فقط القُوى، التي قادت التوتر في أعماق التاريخ الشعبي والثقافة القومية إلى الحد الأقصى لها. وقد كانت هذه الأحداث نفسها بمثابة نتيجة لحركات «إعادة البناء» الجبارة لهذه القوى، تلك الحركات التي بدأت قبل ذلك في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، وكانت بدايتها إبَّان الحكم المطلق للقيصر إيفان الرهيب، ثم ظهرت بعدها في نعرة الانشقاق، وفي المراسيم الصارمة التي أصدرها بطرس الأكبر، التي «كُتبت بالسوط»، على حد تعبير بوشكين، والتي جعلت روسيا كلها تتأرجح فوق الهاوية، واستمر الأمر على هذا النحو إلى إلغاء قانون القنانة، وانهيار النظام الطبقي، وظهور التوجه إلى التمدين، وانطلاق روسيا نحو الدخول إلى الفضاء الجيوبولوتيكي العالمي في القرن العشرين.
(٣) نظرة عامة: الأدب الروسي في القرن العشرين من ١٨٩٠م إلى ١٩٩٠م
قرن تاريخي يتسم بالاتساع والوحدة.
سنجد في داخل المائة عام الأدبية الأخيرة عددًا من المراكز والمراحل، تميَّز كل منها بسمات خاصة. وقد تحدَّد المضمون التاريخي لكل منها، باقتراب الأدب في تلك المراحل، بدرجة تزيد أو تقل، من الواقع ومدى تفاعله مع الظروف الخارجية والداخلية للحياة، مع الإمكانات المتاحة للكلمة.
يمكننا أن نشير أيضًا إلى المراحل التي مر بها هذا البناء المتجانس على الإطلاق للعملية الأدبية لنُبرز المنعطفات الحادة ونقاط الانطلاق والصدمات و«الفواصل» التحوُّلية فيه، والتي تميَّزت بالاستقرار النسبي، وكذلك الأوقات التي جرت فيها الطفرات والفترات الانتقالية. تشِّكل السنوات التالية هذه المراحل: ١٩٠٥–١٩٠٧م، ١٩١٧–١٩٢١م، ١٩٢٩–١٩٣٢م، ١٩٤٦، ١٩٨٨–١٩٩١م. في هذه الفترات الزمنية القصيرة نسبيًّا اكتسبت أحداث الحياة الأدبية طابع «الانفجارات» والتغيرات النوعية الحادة.
وكذلك كانت هناك فترات أخرى أكثر استمرارية، وهي السنوات: ١٨٩٢–١٩٠٥م، ١٩٠٧–١٩١٧م، ١٩٢١–١٩٢٩م، ١٩٣٢–١٩٤١م، ١٩٤١–١٩٤٥م، ١٩٤٦–١٩٥٥م، ١٩٥٦–١٩٦٨م، ١٩٦٩–١٩٨٨م، وفيها توسُّع وتطور وتأكد هذا النمط من الحياة الأدبية، الذي جاء انتصاره نتيجةً ﻟ «الانفجار» الذي سبقه؛ إذ حدث تفاعل «سهل» لأساليب التناول واختلاف الاتجاهات، كما ظهرت إمكانية «التعددية» الثقافية.
من الضروري أن نأخذ في الاعتبار أيضًا أن كل عصر أدبي كانت لديه دوافعه أو معوِّقاته، ومن السهل تحديد كل منها. على سبيل المثال الحماية التي ترفضها الدولة، عندما يدخل الأدب بشكل صريح ضمن ملكية السلطة ويعمل على خدمتها ﺑ «الإيمان والحقيقة». على هذا النحو كان الأدب «السوفييتي» الأرثوذوكسي. وقد كان للنضال السياسي والاجتماعي أثر ملحوظ على حركة الحياة الأدبية، وخاصةً إبَّان المنعطفات التاريخية الحادة. وأخيرًا، فقد كان لاتخاذ الإجراءات المنظمة للكلمة، ونعني بها على سبيل المثال، فرض الرقابة عليها، نفوذ كبير في سياق الأحداث. وعلى امتداد القرن تركت الرقابة الدينية تارة، والمدنية تارةً أخرى، فضلًا عن الرقابة الأيديولوجية الحكومية (والأخيرة تم توظيفها على نحو لم يسبق له مثيل في العصر السوفييتي) أثرًا واضحًا، على نحو أو آخر، على طابع الحياة الأدبية الروسية.
على أنه كانت هناك أيضًا، كما نعلم، «آليات» أخرى داخلية عميقة، كانت حركتها أكثر أهميةً على نحو لا يقاس بغيرها.
وفي بعض الأحيان كان الأدب يبدو وكأنه يحلِّق عاليًا بجناحين وفي ظروف هي الأكثر سوءًا (في سنوات الحرب الوطنية العظمى على سبيل المثال). وفي أحيان أخرى كانت الحياة الأدبية تبدو عقيمةً لسنوات بأكملها على الرغم من غياب أي عوائق خارجية.
وعن ذلك سوف نتحدث لاحقًا، عندما نتطرق بالبحث في سياق تاريخ الأدب في القرن العشرين، منذ سنواته المبكرة.
إذن، فإن الأدب الروسي في القرن الأخير، والذي تشكَّل في خِضم تناقضاته العميقة كافة، يمثِّل لنا عصرًا بأكمله.
فيما يلي نلقي نظرةً عامة على هذا العصر.
مرت مائة عام منذ بداية «الانطلاق النشيط» الهائل، الذي أخلَّ بتوازن الحياة القومية بأسرها، بما فيها الحياة الثقافية أيضًا. ويعود السبب في ذلك، دون أدنى شك، إلى «الإحماء» الشديد النابع من أعماق التاريخ الثقافي والاجتماعي الوطني. لقد انعكست طاقة التحولات بالدرجة الأولى في حركة الحياة الروسية غير العادية (التي انقلب كل شيء فيها «رأسًا على عقب»)، في دخول تجارب واكتشافات جديدة في الوعي القومي وفي تغيير المصائر بالنسبة للشعب وللأفراد. وقد انعكست فيها أيضًا هذه التأثيرات القادمة من المحيط الثقافي العالمي.
أدَّى ذلك كله إلى تنوع فني لم يسبق له مثيل في الأدب الروسي الجديد، تمثَّل في تعدُّد الأصوات وفي طرح وحل القضايا «اللعينة» الجديدة.
وهنا ظهر ما اصطُلح على تسميته ﺑ «العصر الفضي».
لقد راكم هذا الأدب خبرته، على نحو مستقل نسبيًّا، وكشف عنها على مدى ربع قرن بأكمله — من تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى عام ١٩١٧م — متكيفًا مع هذا القرن، مارًّا بمراحله المعقدة، معانيًا من الآثار الشديدة للحرب والثورة. ومنذ هذا التاريخ استقر نظام الدولة ليقوم بسرعة فائقة بتغيير الظروف السابقة كافةً لوجود الأدب الروسي. كان الأدب فيما سبق «مقسَّمًا» وفقًا للسمات الطبقية، جزء كبير منه خرج إلى المنفى. الحقيقة أن آمالًا كبيرة ظهرت فور انتهاء الحرب الأهلية، وخاصةً لدى الأدباء الشباب، في الإبداع الحر في ظروف روسيا الشيوعية، لكن زمن هؤلاء لم يستمرَّ طويلًا. وبعد الانتعاش القصير، الذي حدث في العشرينيات راح النظام السياسي المنتصر وعلى نحو مطرد وأكثر قسوة يقوم بإخضاع الأدب لمعايير أيديولوجية قسرية وحتمية. لا بد لنا في هذا السياق أن نشير إلى أن هذا التبسيط كان مدعومًا من الأوساط الشعبية «الدنيا»، التي كانت بحاجة إلى علامات إرشادية بسيطة، تُعينها على فهم الواقع الذي راح يتغير أمامها بصورة حادة.
وعلى عكس هذا الإلزام المزدوج، أمكن في تلك السنوات خروج أعمال عظيمة للنور، انعكست فيها المأساة الحقيقية للمصائر الجديدة للإنسان وللشعب.
استمر وجود هذا الأدب قرنًا آخر، ويومًا بعد الآخر راح يميل نحو الصمت أو نحو المعايير الدعائية المتفائلة. كانت الحرب تذكِّرنا أحيانًا، بالهدف القومي الأهم — إنقاذ الوطن، روحه — «الكلمة الروسية العظيمة»، ومن جديد، عاد الأدب — كما بدا — إلى الحياة. أما القوى السياسية التي كانت موجودةً في السلطة فقد سعت ألَّا تسمح بهذه العودة. مرت بضع سنين أخرى بعد الحرب، بينما ظل القسر الأيديولوجي مستمرًّا في قتل الإحساس بالحياة في الأدب.
في منتصف الخمسينيات أثار تغيُّر النظام السياسي توابع عديدة، وقد ظلت آثارها باقيةً حتى الآن، الأمر الذي أعطى ذلك للأدب فرصًا حقيقية؛ فقد انتفضت الذاكرة ودفعت الحياة بكتاب جُدد، وأعادت من أُسدل عليهم النسيان. كانت سنوات «ذوبان الجليد»، التي حلَّت، وجاء على أثرها سنوات «الركود»، بكل ما فيهما من تناقضات كل منها على طريقته؛ فقد خفَّت فيها وطأة الضغوط على الأدب من جانب السلطة. ومرةً أخرى وعلى مدى ربع قرن بأكمله، خلقت هذه السنوات قدرًا من التسامح أتاح الفرصة لظهور وجهات نظر متعدِّدة، وفتحت إمكانيةً للجدل ولظهور الحقيقة. في تلك الفترة تم التعبير بحرية وعلى نحو أصيل نسبيًّا عن «النماذج» الحية التي جرى تجسيدها فيما عُرف ﺑ «نثر الحرب»، في أعماق الوعي الثقافي والاجتماعي ظلت على حالتها الجنينية، مؤجَّلةً ومحظورة، بما فيها المُناخ السياسي والأيديولوجي غير الملائم بدرجة كبيرة (كان «ذوبان الجليد» يتحوَّل من وقت لآخر إلى «صقيع»)، وكذلك المقاومة من جانب القيادة الأدبية، التي راحت تصارع من أجل الاحتفاظ بنظام راسخ لا يتغيَّر (نرى ذلك في الحملة التي أُديرت ضد بوريس باسترناك وألكسندر سولجينتسين وغيرهم كثير).
بحلول زمن «البيريسترويكا» (إعادة البناء)، لم تعد المشكلات أمرًا خفيًّا (وهو ما يدل عليه كل مطبوعات اﻟ «ساميزدات» واﻟ «تاميزدات» اللذين زاد انتشارهما). ومنذ زمن غير بعيد تبيَّن أن الاتجاهات الحيوية والإبداعية (راجع ما تقدم) قد استنفدت أغراضها، وأن المستقبل لا تزال معالمه غير واضحة.
وها قد حلَّت الأوقات الصعبة.
لقد كانت «البيريسترويكا»، التي ظهرت في النصف الثاني من الثمانينيات مدعومةً بحماس، بالدرجة الأولى، من جانب «الديمقراطيين» و«الليبراليين» وفي الدوائر الأدبية، سواء في روسيا أو في الخارج، وهؤلاء غالبًا ما كانوا يقدِّمون لها معالم التوجُّهات «الغربية»، الأمر الذي دفع القوى القومية للوقوف في مواجهتها.
لعل أبرز ما حدث في الحياة الأدبية في تلك الفترة القصيرة، هي تلك الإصدارات التي تُوجت بالانتصار، والعودة لقراءة ما اصطُلح على تسميته ﺑ «الأدب العائد» و«الممنوع» دون أي قيود.
من بين العديد من الاتجاهات المتناقضة في الحياة الأدبية في السنوات التي تلت ذلك، وخاصةً في بداية التسعينيات ومنتصفها، ظهر أن أكثرها نشاطًا هي تلك التيارات والاتجاهات التي عُرفت باسم «الأندرجراوند» و«ما بعد الحداثة»، وكلاهما كان بعيدًا عن «القارئ العام»، الذي كان يدور في فلك تأكيد الذات والجدل الحاد فيما يتعلق بخبرة نصف قرن بأكمله من الأدب «السوفييتي» الأرثوذوكسي، أو بالنسبة للوسط الأدبي المباشر الذي عايشه.
لقد نشأ هنا وضع أدبي متناقض، تجاوب إلى حد ما وعلى نحو مفارق مع الأحداث التي وقعت في المائة عام السابقة. ظهر «أدب جيد» بدا وكأنه قد تغطَّى بسبيكة من «العصر الفضي».
وهكذا ظهر أمامنا — من الناحية التخطيطية — قرن كامل من الأدب الروسي، قرننا العشرين وقد تم التعبير عنه أدبيًّا.
والآن سأتحدث عن هذا الأمر على نحو أكثر إيجازًا ومن وجهة نظر أخرى.
لقد كان الصراع المستمر بين مبدأَي تعقيد وتبسيط «النماذج» الأدبية هو المحرك الداخلي للعملية الأدبية في القرن العشرين، وقد وقفت الشريحة العليا من رجالات الثقافة الروسية ومن «نُخبتها» في صف «التعقيد»، بينما وقفت الأقلية، في حالات كثيرة، كما ذكرنا من قبل، بعيدًا للغاية عن مصائر أولئك الذين كانوا يمثِّلون الغالبية الساحقة للأمة.
هذه الأغلبية هي الجمهور صاحب «الذهنية» الشعبية، الذي كان في أمَس الحاجة، في قرن الانقلابات المستمرة، البالغة السوء بالمناسبة، إلى «مشروعات» بسيطة وواضحة. وهذه الأغلبية هي التي سارت وراء هؤلاء الذين وفَّروا لها هذه «المشروعات»؛ أي وراء البلاشفة. ينبغي القول بأن «النماذج» الشعبية المبتكرَة (التي لم يعرفها الزعماء الجدد على الإطلاق!) لم تكن على هذا النحو من البساطة؛ ذلك لأنها جاءت من عمق القرون. لقد كانت «نماذج» تتسم بالعمق والحكمة؛ لأنها كانت تحوي العالم بأسره، ولكن هذا العالم تحديدًا هو عالم متكامل، وليس عالمًا «متشظيًا»، «منكفئًا على ذاته»، وهو غير ذلك العالم الذي صنعه تاريخ روسيا في القرن العشرين. ولهذا، فإن الحقائق التقليدية البسيطة والحكيمة، لم يكن بإمكانها أن تقدِّم المساعدة للشعب الروسي في المِحَن التي خاض غمارها في القرن العشرين. فضلًا عن ذلك، فإن النماذج «المعقَّدة» ﻟ «الصفوة» وﻟ «النخبة»، والتي قدَّمها «العصر الفضي»، والتي لم تتلقَّ دعمًا من «أسفل»؛ وذلك تحديدًا لأنها «جزَّأت» و«قسَّمت» الحياة، ولأنه جرى تدمير الانسجام العظيم والحكيم للبساطة، التي تم إنجازها بخبرة ألف عام. ناهيك عن أن النماذج «المعقدة» كانت تتطلَّب إعدادًا ثقافيًّا جادًّا من أجل استيعابها.
والآن علينا أن نتتبَّع سياق العملية الأدبية ذاتها على نحو أكثر يقظة، متأملين «مكوِّناتها»، محاولين أن نفهم منطق الحقائق فيه، والمغزى الداخلي لتواصله.
(٤) تسعينيات القرن التاسع عشر: تجاوز الدوجما والبحث عن صلة إبداعية جديدة مع العالم
ظل الأدب الروسي طوال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر مقيدًا بظروف عديدة لا تمت للأدب بصلة. كان المجتمع يتلقى هذا الأدب بصورة أساسية باعتباره أداةً للدعاية «المدنية» وتعبيرًا عن الأفكار «التحررية». وهكذا بدا كما لو أنه توقف عن تطوره داخليًّا. أخمدت سنوات السبعينيات والثمانينيات الصعبة (زمن الركود) قوته، وحدَّت من حيويته، وصارت روحه مملةً خافتة. لم تستطِع بعض الشخصيات الأدبية البارزة (ليسكوف، وجارشين، وج. أوسبينسكي) أن تغيِّر من الانطباع العام لهذا الأدب «الراكد» الباهت. بينما ظلت تلوح في الأفق شخصية تشيخوف الكبير والضروري، وفي الثمانينيات تراجَع الإبداع الأدبي للِيف تولستوي.
كان الفكر الأدبي والإبداع بحاجة إلى التخلص من الكثير مما يعوق التعبير الذاتي الحر، وهو ما حدَّد على نحو كبير مسار العملية الأدبية في التسعينيات.
كانت الثغرة الأولى هي التحرُّر من الدوجمات المعيارية لهذا الأدب، والممثَّلة في «الخدمة الاجتماعية» و«إنكار الذات»، اللذين سادا فيه بدءًا من الستينيات. لقد خلقت هذه الدوجمات صفًّا كاملًا من الأمزجة والميول الاجتماعية، والتي بدأت مخلصةً وقوية، لتئول إلى حالة من الانحطاط في شعاراتها الميتة في التسعينيات؛ زمن إعادة تقييم القيم السائدة آنذاك كافة. وفي هذا الوقت تحديدًا كان هناك شعور بالجدل الحاد القائم مع ما كان يسمَّى ﺑ «الوصايا»، انعكس في الحياة الأدبية؛ إذ إن الجيل التسعيني الأول، «الانحطاطيون» منهم و«ما بعد الحداثيون»: د. ميريجكوفسكي، وز. جيبيوس، ون. مينسكي، وف. سولوجوب وغيرهم ساروا هم أنفسهم في شبابهم الأدبي، بدرجة كبرت أم صغرت، عبر العديد من الميول والأذواق التي كانت سائدةً في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات (راجع علاقة الصداقة بين ميريجكوفسكي، وس. نادسون و«رحلة إلى الشعب»، والطموحات الشعبية والتقدمية لدى ن. مينسكي، وأخيرًا رواية ف. سولوجوب، التي تنتمي إلى المذهب «الطبيعي»، «أحلام ثقيلة»، وهلم جرًّا).
يعود الفضل للتسعينيات في أنه قد جرى فيها للمرة الأولى فقدان النظريات «التقدمية» السطحية والرتيبة، والأوهام الشعبية والأفكار العدمية والإلحاد، سلطانها على العقول والأرواح. إن الأدب الروسي في التسعينيات وفي العقد الأول من القرن قد فتح لنفسه طريقًا مستقلًّا نحو التجربة العالمية والقومية، الدينية والفلسفية. كان اسم مجلة «نوفي بوت» (الطريق الجديد)، التي أصدرها د. ميريجكوفسكي وج. تشولكوف، قد أثار جدلًا كبيرًا بالنسبة للطريق «القديم» المرفوض، الذي طرحه من قبلُ «الديمقراطيون الثوريون» هم ومن نحا نحوهم.
ينبغي أن نضيف هنا أنه في تلك الفترة تعمَّقت الخلافات مع الكنيسة الرسمية وعقائدها الجامدة، وفي بطرسبورج وموسكو ظهرت الجمعيات الفلسفية الدينية «غير الرسمية».
أصبح الاعتراف بالقوانين الداخلية وإمكانات الناس؛ سواءً الشاعر أو الفنان أو الفرد بصفة عامة، مع الإحساس الحاد ﺑ «النزعة الفردية» باعتبارها قيمة، من المظاهر المهمة في التسعينيات، زد على ذلك الميول الشيطانية التي أخذت جميعها في «التحرُّر» في وقت واحد، كما ذكرنا من قبل، مما عُرف ﺑ «الواجب تجاه الشعب». وعلى الرغم من أن هذه الفكرة قد تجسَّدت في قالب شعبي دعائي بعد ذلك، فإنه كان لها مغزًى حيوي بالنسبة للكاتب الروسي، وقد أثار طرحها نتائج هدامةً خطيرة على مصائر ثقافة «العصر الفضي».
جدير بالذكر أنه بدءًا من التسعينيات راح فن الكلمة بشكل خاص، ومعه الحرفية الإبداعية والمقدرة الفنية الرفيعة والمواهب وصقلها في اكتساب أهمية كبرى على نحو تدريجي عامًا بعد الآخر.
يمكن اعتبار بداية التسعينيات ومنتصفها هو زمن وصول القوى الأدبية الجديدة؛ فبحلول هذا الزمن، وكما ذكرنا من قبل، ظهرت بشائر «العصر الفضي»، آنذاك ظهر مقال ديمتري ميريجكوفسكي حول أسباب الانهيار وحول الاتجاهات الجديدة في الأدب الروسي المعاصر، وكذلك ظهور ديوانه «الرموز» (وكلاهما صدر في عام ١٨٩٢م)، وفي العام نفسه ١٨٩٢م ظهرت قصة «ماكار تشودرا» وغيرها من قصص ألكسي بيشكوف، التي صدرت في المشهد الأدبي في عام ١٩٢٤م. وبيشكوف هو الأديب الذي اختار لنفسه اسمًا مستعارًا، مكسيم جوركي. ليبدأ بعدها في الظهور، منتخب في إثر آخر لبريوسوف تحت عنوان «الرمزيون الروس» (١٨٩٤-١٨٩٥م) جذبت جميعها الاهتمام لِما احتوت عليه من نزعة صوفية أدبية. وتُعد بداية التسعينيات ومنتصفها أيضًا هي سنوات الظهور الأول والواضح للكُتاب الشباب إ. بونين، وف. فيرسايف، وأ. سيرافيموفيتش، وأ. كوبرين، وغيرهم من الأدباء الذين صدرت أعمالهم بعد ذلك.
أما الصحافة الأدبية في هذه الفترة فتميَّزت بالتنوع والابتكار.
لقد ظهرت الصحف، بدرجة أو أخرى، منذ بداية ومنتصف التسعينيات، وهي التي واصلت تقاليد القصص الشعبي والمقالات الصحفية (روسكوي)، «بوجاتشستفو» (الثروة الروسية)، «ميربوجي» (دنيا الله) «جيزن» (الحياة)، «جورنال دليا فسيخ» (مجلة كل الناس). ومع نهاية التسعينيات حيث ساد التوجه نحو الوضع الذي تغيَّر، من إعجاب بالماركسية إلى دعم الاتجاه الأدبي، المرتبط بأسماء م. جوركي، جارين-ميخايلوفسكي، كوبرين، فيريسايف …
في تلك الفترة ظهرت أيضًا إصدارات ذات صبغة «انحطاطية» حداثية؛ كان من أولها «سيفيرني فيستنيك» (بشير الشمال) تلاها «مير إيسكوستف» (عالم الفنون)، مجلة «ريليجيوزنو-فيلوسوفسكيخ سوبراني» المنتخب الديني الفلسفي، التي سبق أن تحدَّثنا عنها من قبل، و«نوفي بوت» (الطريق الجديد). وقد ارتبطت جميعها بالتيارات الجديدة في فن هذا العصر بمجلات أخرى أدبية وفنية مثل «فيسي» (الميزان)، «أبوللون» (أبوللو)، و«زولوتوي رونو» (الصوف الذهبي)، كما ارتبطت بالأحداث الرئيسية في الحياة، والتي وقعت في العقد الأول من القرن العشرين.
(٥) نموذج روسيا زمن الاضطراب: الثورة الروسية الأولى والأدب
لعل الحدث الأكبر الذي وقع في الحياة الأدبية، في الثقافة الروسية عمومًا في نهاية التسعينيات وبداية القرن العشرين، والذي ارتبط بتطور الرمزية تمثَّل في وصول الجيل الجديد من الرمزيين «الموجة الثانية»، «إذا جاز القول»: أ. بلوك، وأندريي بيلي، وم. فولوشين، وفيتشيسلاف إيفانوف، والشعراء والفنانين القريبين منهم. وهؤلاء حملوا معهم الإحساس بالروح الصوفية العميقة، والمعاناة العميقة بمصائرهم المشتركة معهم.
ينبغي هنا أن نتحدَّث على نحو مستقل عن كيف تركت أحداث الحياة الاجتماعية أثرها على الحياة الأدبية بداية القرن. لقد أصبحت الحرب الروسية اليابانية، ثم ثورة ١٩٠٥م على وجه الخصوص، هما الدافع القوي نحو اشتداد حدة العمليات الداخلية كافةً في الأدب، وإذا كان من الممكن الحديث قبل ذلك عن أدباء غير مسيَّسين، كانوا منهمكين في مشكلاتهم الخاصة، وعن نظرتهم الجمالية ونزعتهم الفردية، فإن الحرب القاسية في الشرق، ثم الثورة الروسية الأولى قلبت نظرتهم رأسًا على عقب تجاه مصائر روسيا. إن النزعة الفردية، التي استولت على العديد من الكتَّاب في التسعينيات قد تم تجاوزها من خلال «الجماعة»، والاندماج في التربة الثقافية القومية (بحلول هذه الفترة عاد الاهتمام بالفلكلور الروسي من جديد على نحو أكثر عمقًا ومعه السعي الروحي للشعب)، كما أصبح دخول «أدباء الشعب» إلى المشهد الأدبي حدثًا مهمًّا (ن. كليويف)، وعلى هذا النحو كان التوجه الأدبي العام.
في تلك السنوات الْتحم أدب «العصر الفضي» الروسي بمشكلات الحياة القومية، وفتح هذا الأدب أمام روسيا، ليس فقط باعتبارها كِيانًا صوفيًّا غامضًا وعميقًا، وإنما باعتبارها أيضًا مشكلةً ثقافية، اقتصادية ونفسية واجتماعية حيوية ومكثفة. لقد دخلت روسيا إلى عصر الحروب والثورات، ومن ثم فقد تأثر الأدب بشدة من جرَّاء الجو الكارثي المفاجئ للحياة الفردية على المستوى العام والخاص؛ ولهذا فإن معاناة مصائر روسيا الوطن، والمعرفة الجديدة المفجعة بمدى ما أصابه وبالانهيار الجارف المرعب الذي بدا الوطن بأكمله في مواجهته؛ كل ذلك أصبح موضوعًا، جديدًا في كثير من جوانبه بالنسبة للأدب الروسي في مطلع القرن. ويعود ذلك إلى الأعوام من ١٩٠٥م إلى ١٩٠٩م، عندما كتب بلوك دواوينه: «أشعار عن السيدة الجميلة»، و«مفترق الطرق»، وصولًا إلى «أفكار بلا قيود»، و«القناع الجليدي»، ثم منها جميعًا إلى «يامبا» و«الشيطان الصغير»، وعندما كتب أ. كوبرين «الوحيد»، وإ. بونين «شئون ريفية»، ل. أندرييف «ضحك الحكيم» و«السبعة المحكوم عليهم بالإعدام»، آنذاك كتب م. بريشفين سلسلةً من كتب الرحلات، بينما أُعجِب أ. رميزيوف ﺑ «الفلكلور» الروسي وهلم جرًّا. أما م. جوركي فقد عبَّر عن رؤيته للعصر في روايته الدعائية «الأم»، وفي مسرحياته السياسية «أبناء الشمس» و«الأعداء» …
بعد عامي ١٩٠٦-١٩٠٧م أصبح الأدب الروسي أدبًا مختلفًا. لقد بات هذا الأدب يشعر بتأثيره على مسار الأحداث في المجتمع، وفي هذا المسار راح يتدخل، وعلى نحو أكثر حيويةً عمَّا كان من قبل (وحتى أكثر المؤيدين النشطين القدماء ﻟ «الدور الاجتماعي»: تشيرنيشيفسكي، وبيساريف، ودوبروليوبوف، ونكراسوف، وشيدرين، لم يستطيعوا أن يتنبَّئوا بهذا التأثير للأدب على الميول الاجتماعية وعلى مسيرة الحياة بأسرها). لقد أصبح الكاتب في تلك السنوات شخصيةً اجتماعية مهمة، وراح يؤدِّي دورًا سياسيًّا بارزًا، كما ظهر وسطٌ واسع من عموم القراء. لكن هذا الوضع كان مزدوجًا، صحيح أن زيادة قوة الوظيفة الاجتماعية للأدب قد دفعت به إلى الاقتراب أكثر من الحياة، وفتحت أمامه «أسئلته» المُلِحة، وأثْرت معرفته وخبرته بمادة «معاصرة» جديدة. ولكنه، من جانب آخر، أبعد الأدب عن مغزاه الخصوصي ليدخله في نظام آخر. ليس من قبيل الصدفة أنه في هذه الفترة تحديدًا (في عام ١٩٠٧م) كتب فلاديمير إيليتش لينين مقاله الشهير «المنظمة الحزبية والمنظمة الأدبية»، التي أشار فيها مباشرةً إلى أن على الأدب أن يصبح عجلةً ومسمارًا في الآلة الموحدة للبروليتارية المشتركة. الآن أصبح باستطاعة الأدب، بعد أن شعر بتأثيره وسلطته الروحية، أن يخطو خطوةً جادة نحو تحويل النفوذ الروحي إلى نفوذ إرشادي، خدمي إذا جاز التعبير، كما يمكن ﻟ «الحزبي» و«الحكومي» أن يتحوَّل إلى أدب. وفي هذه السنوات وقعت البروفة الأولى من نوعها، إذا جاز التعبير، لهذا الأدب، الذي بات بعد مرور عقدين من الزمان، في نهاية العشرينيات، بالأدب السوفييتي.
ينبغي هنا أن نوفِّي أدب «العصر الفضي» الروسي حقَّه؛ فقد استطاع أن يُشرك هذا الإغراء في التغيير «الثوري» الجديد للحياة، وأن يلاحظ وأن يدرك خطورة هذا الإغراء.
(٦) (١٩٠٧–١٩١٧م): «سنوات العار» أم الطريق الرئيسي الشاق؟
أصبح الأدب الخاص بالسنوات العشر التالية (١٩٠٧–١٩١٧م) شاهدًا على الصعود الجديد عبر هذا الطريق الذي قطعه هذا الأدب، مستجمعًا قواه الروحية بدءًا من التسعينيات. وفي هذا العقد الأخير من القرن التاسع عشر تحديدًا، وقع العديد من الأحداث الأساسية في حياة الأدب الروسي.
كانت سنوات العقدين الأول والثاني من القرن العشرين هي سنوات تأثير أدب «العصر الفضي»، الذي أذهل الجميع بتطوره الجارف نحو التمدين وظهور بيئة جديدة لمدينة نشطة على نحو كيميائي: شوارع، جمهور غفير عدواني لا مبالٍ يئن فيه الإنسان، الذي يعاني من الوحدة، مهمَّشًا وعدوانيًّا. نتذكر هنا أيضًا قصة «الحصان الشاحب» وغيرها، كما نتذكر أعمال ف. بريوسوف وبلوك في كلٍّ من «باميا» و«عالم مرعب» و«قصيدة الانتقام»، وانسياب أشعار ماياكوفسكي العاطفية المبكرة، و«الأشعار الأخيرة» لجيبيوس، و«الحفرة» لكوبرين، و«بطرسبورج» لأندريه بيلي …
أما أعظم شخصيات الحياة الأدبية في تلك السنوات من الكتَّاب، الذين بلغوا ذروة الإبداع، فهم: ل. أندرييف، وأ. أخماتوفا، وأ. بلوك، وأندرييه بيلي، ف. بريوسوف، وإ. بونين، وز. جيبيوس، وم. جوركي، ون. جوميلوف، وي. زامياتين، وف. ماياكوفسكي، ود. ميريجكوفسكي، وم. تشوكوفسكي …
وقد دخل إلى المشهد الأدبي عدد من الكتَّاب الموهوبين الجدد لفتوا إليهم الأنظار بشدة، وهم: ج. إيفانوف، وأ. ماندلشتام، وب. باسترناك، وف. خوداسيفيتش، وم. تسفيتايفا …
ومن بين المجلات الأدبية الجديدة لعبت مجلة «ليتوبيس» (المدونة التاريخية)، التي أسَّسها م. جوركي، دورًا كبيرًا.
والآن نقدِّم بضع كلمات عن الأهم بالنسبة للأدب والحياة في تلك السنوات.
على أن العديد من الكتَّاب، الذين أدركوا حتمية التحولات العميقة والصعبة، راحوا يومًا بعد الآخر يرفضون فكرة دفع عجلة الثورة وتسريع مسيرة التاريخ بالعنف. في تلك السنوات حدث ترسيم للحدود بين الثوريين المتطرفين من الاشتراكيين الثوريين والبلاشفة وبين المثقفين الروس، الذين اختاروا طريق التطور الثقافي (وهو الطريق، نقول ذلك بصفة عامة، الذي لم يكن يحظى دائمًا بالقَبول الجماهيري من وجهة نظر الغيورين المتعجِّلين ﻟ «الصالح العام» الطوباوي). يحضرنا هنا بالمناسبة رد فعل منتخب «فيخي» (١٩٠٩م) الذي أحدث صدوره جلبةً وجدلًا واسعَين، حيث ذكر فيه كل من ن. أ. بيردياييف، وب. ب. ستروفي، وم. جيرشينزون، وس. ن. بولجاكوف، وغيرهم من المفكرين والكتَّاب علانية، التنافر بين العنف الثوري والقيم الروحية للثقافة القومية. على أنه، وكما كان متوقعًا، فإن هذا التوجه لم يجد له أنصارًا كثيرين لدى الدوائر الثقافية الجماهيرية وفي المجتمعات شبه المثقفة (التي كانت تميل دائمًا نحو اتخاذ الحلول الراديكالية المتعجلة). وقد وسم فلاديمير إيليتش لينين المنتخب المذكور بكلمات ساحقة؛ إذ أسماه «موسوعة الردة الليبرالية»، أما جوركي فأدان «أتباع الاتجاه المعاكس» ودائرتهم. كانت أفكار «أتباع الاتجاه المعاكس» غريبةً بطبيعتها على ماياكوفسكي وعلى المستقبليين جميعًا، وكذلك على الكتَّاب «البروليتاريين». «لقد فشل القضاء على الثورة» على حد تعبير واحد من الكتَّاب البلاشفة وهو ف. ف. فوروفسكي، الذي دخل في جدل مع هذا الاتجاه منذ بداياته «الأولى». أما الكتَّاب الذين حذَّروا من مغبَّة الطريق الثوري لروسيا، فقد أطلق عليهم فوروفسكي اسم «النهَّابون» (وكان يقصد بهم، على سبيل المثال، ل. أندرييف، وف. سولوجوب، وأ. كوبرين، وم. أرتسيباشيف وآخرين). وكما هو معروف فقد أطلق مكسيم جوركي تحديدًا على السنوات العشر التي سبقت الثورة «أكثر السنوات خِزيًا في تاريخ الإنتليجينسيا الروسية».
لا يمكن الاتفاق مع هذا التقييم بأي حال، على الرغم من أن هذه الحقبة كانت في واقع الأمر حقبةً شديدة الصعوبة والتوتر. لقد بدأ هذا في عام ١٩١٠م لينتهي في عام ١٩١٤م، عندما اندلعت الحرب ضد ألمانيا. كان زمنًا عاصفًا تسوده الفوضى في كثير من جوانبه، زمنًا شديد الاضطراب وكأنه الازدهار الذي يسبق الفناء، انفجرت فيه كل قوى الإبداع قُبيل انطفائها وهلاكها. تكتب أنَّا أخماتوفا في «قصيدة بلا بطل» (كما كتب قنسطنطين تشوكوفسكي أيضًا وهو يتذكر أيضًا هذا الزمن) «ندينه بقسوة، ونسمِّيه زمنًا «تلبسته الشياطين»، مدَّعي النبوة والسحرة». على أنه قد يكون من الأنسب هنا أن نتذكر هذا التشبيه من الكتاب المقدس: «الفأس عند أصل الشجرة»، هذا المثال الذي يجري استدعاؤه من استشراف الانهيار المهدِّد لاجتثاث شجرة الثقافة، التي جرت رعايتها على امتداد قرون طويلة والتي سوف تتم إزالتها بعد بضع سنوات فقط، عندما يحل الزمن «السوفييتي» غير بعيد.
لنعد من جديد إلى وضع الأدب الروسي إبَّان سنوات الحرب، التي اندلعت في أغسطس ١٩١٤م. كان وضعًا ترك انطباعًا معقدًا ومزدوجًا، لم يكن في كثير من جوانبه على الإطلاق مثل، لنقل، وضع الأدب السوفييتي في سنوات الحرب الوطنية العظمى. كانت هناك، بطبيعة الحال، نفحة من المشاعر القومية والوطنية، ولكنها كانت سطحيةً تمامًا ولم تستمرَّ طويلًا. وسرعان ما انقضى أيضًا مزاج الانتصار في الحرب. لقد تمثَّل في هذا الإحساس الأكبر المتنامي بالرعب أمام المجزرة الجماهرية التي لم يسبق لها مثيل (أذكِّر أن هذه كانت الحرب العالمية الأولى، التي انطلقت فيها للمرة الأولى في سياق هذه الحرب تلك الأدوات الجديدة والجبارة لإبادة البشر؛ مثل الطائرات والدبابات وحتى الغازات). راحت الحرب يومًا بعد الآخر تلتهم عشرات الآلاف من البشر، الأمر الذي لم يحدث مثيل له على الإطلاق في الحروب السابقة، وقد تأثر الأدب ببساطة بهذه الصدمة التي أفرزها هذا الواقع. وباستثناء عدد قليل من المقالات التي تناولت الموضوع «البطولي» و«الوطني»، التي نُشرت في الصحافة بالدرجة الأولى، فقد خرج الأدب الروسي في تلك السنوات بالإحساس بالتهديد للقيم الأساسية للثقافة، مهتزًّا أمام هذه الحرب الدموية التي «لا حدود لها»، هنا يمكن أن نتذكر قصيدة ف. ماياكوفسكي «الحرب والسلام» و«الأشعار الأخيرة» لزيناييدا جيبيوس («الكل في واحد، الكل واحد،/وسواء كنا نحن .. وسواء كانوا هم .. فالموت واحد./الآلة تعمل، الآلة تزمجر، فتزمجر الحرب.» من أشعارها عام ١٩١٤م.) نتذكر أيضًا كتاب س. فيدورتشينكو «الشعب في الحرب».
وقبل أن نصل إلى الختام، نقول إن الحرب الروسية الألمانية استمرت وعلى نحو أكثر رعبًا إبَّان الحرب الوطنية، التي تم إدراكها على نحو مُسيس لم يسبق له نظير من جانب طرفين متنازعين؛ «البيض» و«الحمر» (على الرغم من بعض الاستثناءات النادرة تجلَّت في بعض أشعار م. تسفيتايفا، وم. فولوشين).
لكن كل ذلك وقع هناك خارج حدود أدب «العصر الفضي».
لقد استنفد هذا الأدب زمنه في تلك اللحظة، التي ظهرت فيها في الأدب تلك المتاريس التي لا يمكن تجاوزها، وذلك عندما أدَّت الخلافات السياسية إلى ضياع لغة الثقافة المشتركة.
(٧) الأدب المشطور بعنف التاريخ
مَن مِن الكتَّاب قبِل بهذا الأدب؟ ومَن الذي لم يقبل بالنظام الجديد الذي حلَّ زمنه؟ ولماذا؟ بالنسبة لمكسيم جوركي، على سبيل المثال، فقد بدأ يُدرك، وإن فعل ذلك بتردُّد كبير (انظر «أفكار في غير أوانها») أنه عليه التخلص من الأزمة، من «عار» السنوات العشر السابقة، فضلًا عن التخلص من «الرذائل القاتمة للحياة الروسية» كافة، وفي الوقت نفسه من بنائها البالغ من العمر ألف سنة بأكملها. أما بالنسبة لأخماتوفا، فقد كان حلول هذا الزمن هو الغروب التراجيدي للثقافة ونهاية الكون («لا تزال شمس الدنيا تسطع/وأسقف المدن تلتمع تحت أشعتها،/أما هنا فالبيوت سوداء موسومة بالصلبان./تنادي الغربان، والغربان تحلِّق»). لماذا إذن انتهت مسيرة الأحداث على هذا النحو من السرعة بهذا الخروج الحاشد للكتَّاب نحو الغربة؟ من بين وسائل «تصنيف» الكتَّاب كافة، الذين «قبلوا» أو «الذين لم يقبلوا» الثورة، فإن الاختلاف الذي يبدو مناسبًا من وجهة نظري للتمييز بينهم، ينحصر بالدرجة الأولى في درجة «هامشيتهم». إن الفنانين المخلصين للنظام التقليدي الراسخ للقيم الروحية: أخماتوفا، بونين، بولجاكوف الشاب، جيبيوس، زايتسيف، زامياتين، ج. إيفانوف، كوزمين، ميريجكوفسكي، ريميزوف، سولوجوب، خوداسيفيتش، شميليف، مانلشتام وغيرهم، لم يستطيعوا سواءً أصبحوا من المنفيين أو بقوا في روسيا، قَبول الثورة التي ظلت، من وجهة نظرهم، تدميرًا وفناءً للوطن ولثقافته.
أما الكتَّاب الهامشيون، الباحثون عن قيم غير تقليدية، عن مكان تحت شمس جديدة، وخاصةً أولئك الذين «ألقَوا» منذ زمن بعيد روسيا القديمة وثقافتها من «مركب الحداثة»، فقد انتظروا من التغيرات التي داهمتهم أن تُحل مشكلاتهم. ماياكوفسكي، وجوركي، وسيرافيموفيتش، وبريوسوف، وجزء من الأدباء الشباب، هؤلاء هم المشاركون النموذجيون، من وجهة النظر هذه، في الحياة الأدبية. يمكن أن نضيف إليهم، ولكن بصعوبة بالغة، كلًّا من بلوك وأندريه بيلي. أما كوكبة كتَّاب «الريف الجدد» فهؤلاء كان من المستحيل أن يهجروا أرضهم، وقد بقوا جميعًا على ترابها (يسينين، وكليويف، وكليتشكوف، ودروجينين، وألكسي جانين وآخرون) معرِّضين أنفسهم للعذاب متمثِّلًا في رؤية «تفكيك الريف الروسي». أكرِّر مجددًا أن شباب الأدباء لم يكن بإمكانهم الهروب منفصلين عن منبع إبداعهم، عن أرضهم الحبيبة. ما الذي كان من الممكن أن يصطحبوه معهم إلى الغربة؟ وهل كان لديهم مخزون روحي وإبداعي ليحملوه معهم؟ أي «تراب» كان من الممكن أن يعلق ﺑ «باطن أقدامهم»؟ ما الذي كان بانتظارهم في الغربة وهم الذين كانوا لا يزالون يجرِّبون بالكاد أصواتهم؟ من الواضح على أي حال أنهم بقوا جميعًا في الوطن: أرتيوم فيسيولي، وبابل، وباجريتسكي، وبولجاكوف، وفاجينوف، وزوشينكو، وف. كاتايف، وإ. كاتايف، وليونوف، وأوليشا، وبلاتونوف، وتيخونوف، وفيدين، ود. خارمس … لقد تشكَّل مصير كل منهم وعلى نحو درامي في الازدهار الظاهري أحيانًا (وقد جرى تصعيد بعضهم بالفعل إلى قمة الأوليمب الأدبي السوفييتي). لقد بدت حياة العديد منهم منقوصة، الأرجح أن أحدًا منهم لم يستطع أن يعبِّر بشكل كامل عن نفسه. وقد تحدَّثنا سابقًا مرارًا عن وضع بلوك، ولعل من المستحيل أن نرى على أي حال تبريرًا لِما جرى في أكتوبر في قصيدته «الاثني عشر».
هذا هو الأمر الرئيسي الذي حدَّد توزيع القوى عند لحظة الاختيار.
الأمر الثاني هو أن لحظة أكتوبر ١٩١٧م، كانت تعني على الفور الاتجاه المتصاعد بحدة لم يسبق لها مثيل نحو الهيمنة الحقيقية للدولة على الأدب.
بعد عدة شهور فقط تم إغلاق مطبوعات المعارضة كافةً ومعها الصحف «البرجوازية»، وحتى مجلة «الحياة الجديدة» التي كان جوركي يُصدرها بموجب مراسيم أصدرتها السلطة السوفييتية. وأوقفت هذه المراسيم أيضًا عمل دُور النشر والمطابع (أي مصادرتها لتخضع لرقابة قوية من جانب السلطة الجديدة، ولم تكن هناك كلمة واحدة بإمكانها أن تخرج إلى النور إلا بموافقتها على خدمة الدولة «البروليتارية»).
(٨) الأدب بين التطور والثورة ١٩١٧–١٩٢٢م
عانى الكتَّاب ذوو النزعة القومية بشدة من جرَّاء هذه الطفرة؛ مثل أ. ريميزوف («كلمة عن هلاك الأرض الروسية»)، وف. روزانوف («سفر رؤيا عصرنا»). وقد أعطى جوركي تقييمات حادةً للتطرف البلشفي («أفكار في غير أوانها»)، وكذلك فعل أيضًا ف. كورولنكو (في خطاباته الستة إلى أ. لونا تشارسكي في عام ١٩٢٠م). أما لونا تشارسكي فلم يُجب على خطابات الكاتب العجوز، بينما تعدَّدت ردود الفعل على ملاحظات جوركي. واحد منها هدَّد فيها ستالين الكاتب مباشرة قائلًا: «لقد أطاحت الثورة الروسية بالعديد من ذوي النفوذ … ونحن نخشى أن يلحق جوركي بهم في الأرشيف» (يوسف ستالين، الأعمال الكاملة في ثلاثة عشر مجلدًا، موسكو، المجلد ٣، ص٣٨٦). وفي تلك الأيام بدأ المنفي إيفان بونين طريق الكدح، مُراكمًا ملاحظاته من أجل كتابة روايته «الأيام الملعونة».
لقد انعكس الطابع التحولي الحاد للعملية الثقافية والأدبية، والذي تصادم فيه الاتجاه التقليدي القومي النهضوي والاتجاهات الأممية «المتطرفة» نحو تبسيط الثقافة وتدميرها بوضوح تام. وقد أعطى التعصُّب البلشفي كل المبررات لذلك؛ ففي مطلع عام ١٩١٨م تبيَّن أن الإصدارات غير البلشفية كافةً في موسكو وبتروجراد قد أُغلقت أو أُوقفت عن العمل، تم حل الجمعية التأسيسية وسرعان ما أُقيمت حكومة بلشفية ذات حزب واحد.
ومع ذلك، ففي سياق الإشارات الأولى لتراجع التوتر السياسي، راحت القوى الثقافية «القديمة» تبحث بطريقة أو أخرى عن إمكانية إقامة تعاون جاد مع السلطة الجديدة، وقد اتخذت السلطة الجديدة في بعض الأحيان خطوات للتعاون مع هذه القوى، وكان لجوركي ولوناتشارسكي، على وجه الخصوص، دور عظيم بنَّاء في تلك السنوات لا يمكن إنكاره. وقد اجتمعت قوى الأدب القديم والإنتليجنسيا العلمية حول تلك المراكز؛ مثل دار العلماء ودار الأدباء ودار الفنون في بتروجراد، ودار الصحافة في موسكو … قامت دار نشر «الأدب العالمي» بدور مهم، وكان لعملها أهمية ثقافية كبرى (ليس فقط لكونها أصدرت روائع الأدب العالمي، التي لم يصدر منها للأسف سوى أعداد قليلة، وإنما لأنها حافظت على بقاء أعلام الثقافة الروسية من علماء وكتَّاب ومترجمين، الذين فتحت لهم الدار فرصة العمل والحصول على لقمة العيش). كتب جوركي فيما بعدُ عن هذه الفترة قائلًا: «لقد لاحظت على أي نحو من البطولة المتواضعة، والرجولة الصلبة، عانى مبدعو العلم الروسي أيام البرد والجوع القاسيَين … لقد أعطى العلماء الروس حياتهم وعملهم إبَّان سنوات التدخذُل الأجنبي والحصار ليُعطوا للعالم درسًا عظيمًا في رباطة الجأش …» (١٩٢٥م، من خطابه إلى الأكاديمي س. ف. أولدنبورج). يمكن أن نضيف هنا، للأسف، أنه بعد عدة سنوات، إبَّان عمليات التزييف، التي جرت في مطلع الثلاثينيات، تحوَّلت رؤية جوركي بشكل حاد تجاه الحياة وتجاه كفاح العلماء في تلك السنوات.
على أي حال، فقد بات من الواضح أن تقديره الأول كان أقرب إلى الحقيقة. إجمالًا، فإنه في سنوات الثورة والحرب الأهلية، في العصر القاسي ﻟ «الشيوعية العسكرية»، هيمنت قوى الهدم، وجرى اضطهاد أهل الثقافة، وجرى تدمير قيمها بلا رحمة. كانت فترة قصيرة تلك التي ظهرت فيها «نماذج» المجتمع الشمولي العامل بنشاط، والتي وجدت توظيفًا مدعومًا لها أيضًا في الأدب («نحن»، ف. كيريللوف، «١٥٠٠٠٠٠٠٠»، ف. ماياكوفسكي «إيتونيا»، س. يسينين «على طريقته»)، واستقبلت رواية «نحن» ليفجيني زامياتين (١٩٢٠م) ببصيرة غير عادية باعتبارها أول عمل عظيم نقيض لليوتوبيا في القرن العشرين. ومع ذلك فالتقييمات المملوءة بالحماس لتحوُّلات س. يسينين، الذي افترض أن الحرية التامة سوف تحل بالريف الروسي (أيتونيا)، سرعان ما حل مكانها الإحساس بالخوف على مستقبل القرية، التي تبيَّن أنها وقعت تحت ضغط شديد من جانب مبادئ دخيلة عليها (الصلاة الأربعينية). وفي هذه القصيدة التراجيدية يعلن الشاعر للمرة الأولى عن تمدُّد الكلمة الشعرية على العنف الظاهري:
لم يكن هناك أدنى شك في سعي الإنتليجنسيا القديمة نحو المشاركة في تأسيس ثقافة جديدة بعد الثورة، على أن هذا السعي لم يجد دائمًا دعمًا من السلطة. إجمالًا، فقد ظلت دار الفنون ودار الأدباء هما ومجلتاهما «دار الفنون» و«السجلات الثقافية» جُزرًا منعزلة، على الرغم من أن العديد من البدايات كانت مبشرةً بالأمل. آفاقًا أدبية جديدة فتحها نشاط مجموعة «الإخوة سيرابيون» المرتبطة بدار الفنون، والتي وحَّدت أدب الشباب (م. زوشينكو، وق. فيدين، ون. تيخونوف، ون. نيكيتين، وف. إيفانوف، وف. كافيرين وغيرهم)، وكذلك «ورشة الشعراء» و«الورشة الجديدة» بقيادة ن. جوميلوف. وقد حاول أ. ق. فورونسكي هو ومجلة «كراسني نوف» عقد الصلات بين الشباب الأدبي الموهوب والكتَّاب «القدامى» والجدد وبين الحركة الأدبية الشيوعية.
في هذا السياق كان عام ١٩٢١م، بأكمله والنصف الأول من عام ١٩٢٢م زمنًا للتوقعات والجهود؛ أنهى يفجيني زامياتين العمل في روايته «نحن» (وكانت هناك آمال كبيرة في نشرها)، كما صدرت روايات «عالم عارٍ» لبيلنياك و«عالَمان» لزازوبرين، وقامت مجلة «كراسني نوف» بتعريف القارئ بالنثر الشيق الجديد، كما صدر التقويمان الأدبيان «الإخوة سيرابيون» و«منتخب بطرسبورج»، وراحت تتردَّد بصوت جلي أصوات موهوبة متنوعة في الشعر «ن. كليويف، وإ. باجريتسكي، وب. باسترناك، وأ. ماندلشتام، ون. تيخونوف، وف. كازين وغيرهم»؛ وفي النثر «ل. ليونوف، وف. إيفانوف، وم. زوشينكو، وب. بيلنياك». وهكذا سارت عملية تجميع القوى الإبداعية للأدب الروسي، وظهر اصطلاح «الأدب السوفييتي» الذي ضم بين جنباته مختلِف التيارات الأدبية.
لقد بدا أن تطور هذا التيار المثمر، المدين بأفضل منتجاته في تلك السنوات للأدب الروسي، كان قصير الأجل؛ فقد استمر التقييد للحريات الأدبية على نحو كبير أو صغير أمرًا متواصلًا. وقد تجلَّى ذلك أيضًا في التعصُّب الأيديولوجي، وفي الاضطهاد وأعمال القمع المباشر. في منتصف عام ١٩٢١م تُوفي أ. بلوك، وتم إطلاق الرصاص على ن. جوميلوف، وجرى حظر إصدار «ليتيراتورنايا جازتيا» (الصحيفة الأدبية) تبعها إغلاق بيت الفنون (وكان ي. زامياتين، وق. تشوكوفسكي، وف. سولوجوب، وآخرون يشاركون في إصدارها). بحلول منتصف عام ١٩٢٢م، ومن أجل تنظيم الحياة الأدبية ضمن نظام ج. ب. أو «الإدارة السياسية الحكومية»، تم تأسيس الإدارة الرئيسية لشئون الأدب والفن (جلافليت). وقد تجلَّت قوة الديكتاتورية الأيديولوجية أيضًا في هذا الحدث الانعطافي، الذي حدَّد ولسنوات طويلة الوضع الثقافي في روسيا السوفييتية مثل إبعاد ونفي «المخالفين في الفكر»، والذي وقع في الفترة من أغسطس إلى نوفمبر من عام ١٩٢٢م.
وبطريقة غير قانونية «بناءً على قرار الإدارة السياسية الحكومية — كما ورد في المقال المنشور في صحيفة «البرافدا» تحت عنوان فصيح «التحذير الأول» — يتم إبعاد أكثر العناصر النشطة المضادة للثورة من أوساط أساتذة الجامعات، والأطباء، والمهندسين الزراعيين، والأدباء، ويُنفى جزء إلى محافظات روسيا الشمالية، وجزء إلى الخارج …» وأكَّد الخبر على أنه لم تكن هناك أسماء ذات شأن من بين المنفيين. في الواقع، فإن الحديث هنا يدور حول ن. أ. بيردياييف، وس. ن. بولجاكوف، وإ. أ. إيلين، ول. ب. كارسافين، وس. ل. فرانك، وب. أ. سوروكين وآخرين. وعلى قائمة الأدباء المرشحين للنفي نجد هناك ي. زامياتين، وف. خوداسيفيتش (الأول تم «تعذيبه» والثاني سافر قبل ذلك بوقت قليل)، وم. أ. أستروجين، وي. إ. أيخنفالد وكثير غيرهم. هؤلاء المنفيون لم يرتكبوا أي جرم، وإنما كان ذنبهم الوحيد الذي ارتكبوه هو أنهم لم يفكِّروا على النحو الذي فرضته السلطة (بيردياييف: «لقد نُفيت من وطني لا لأسباب سياسية، وإنما لأسباب أيديولوجية … لم أرغب في الهجرة، وكان لديَّ إحساس بالاشمئزاز تجاهها»).
كانت عمليات النفي التي جرت في عام ١٩٢١م، واحدةً من أكبر الهزائم الثقافية التي نزلت بروسيا في القرن العشرين. صحيح أنها في جوانب كثيرة منها قوَّت من الإمكانيات الروحية للمهجر، ولأدب المهجر الروسي، وقد تبيَّن أن المنفيين يمثِّلون قوةً علمية عالمية مهمة.
لقد أصبحت عملية أغسطس ١٩٢٢م، المناهِضة للثقافة، نذيرًا لبدء الاضطهاد للجماهير ولحرية الأدب وللفكر الحر. راحت المجلات تغلق أبوابها الواحدة تلو الأخرى بما فيها «دار الفنون»، «سجلات الحالمين»، «الثقافة والحياة»، «المُدونة التاريخية لبيت الأدباء»، «السجلات الأدبية»، «البداية»، «المعبر»، «حفلات الصباح»، «النشرة السنوية»، «التقويم الأدبي»، «شجرة العليق» (من الشيق هنا بالمناسبة أن نعرف أن هذا التقويم قرَّب بين الكتَّاب الشباب وبين الثقافة القديمة: كان المنفي ف. ستيبون هو رئيس التحرير، بينما كان الكتَّاب هم أنَّا أخماتوفا، وف. سولوجوب، ون. بيردياييف؛ ومن «الشباب» ل. ليونوف، ون. نيكيتين، وب. باسترناك. وقد تم إغلاق التقويم الأدبي المسمى «الروسي المعاصر»، وهلم جرًّا.
على هذا النحو الدراماتيكي انتهت السنوات الخمس الأولى بعد أكتوبر. في هذا السياق واكب هذا المغزى الرمزي ظهور جمعية «أكتوبر» في نهاية عام ١٩٢٢م، وهي الجمعية التي تميَّزت بالتوجُّه الأدبي المتطرِّف والمبتذَل، والذي وجد دعمًا له من القيادات الحزبية العليا، وقد أظهرت الجمعية عدم رضائها تجاه القيادة «البروليتارية» الأيديولوجية التي تقود العملية الأدبية. جمعية أكتوبر هذه بدأت في إصدار مجلة تحمل اسمًا يحمل في مضمونه معنًى تحذيريًّا هو «في نوبة الحراسة»، لتصبح نقطة انطلاق لِما عُرف باسم الحركة الأدبية «البروليتارية»، ومن بينها على وجه الخصوص الجمعية الروسية للكتَّاب البروليتاريين (راب).
أصبحت السنوات ١٩٢٢-١٩٢٣م، هي فترة التشكيل النهائي لأدب المهجر الروسي. في هذه الفترة ازداد نشاط دوريات المهجر (صحف «بوسليدنيي نوفوستي» (آخر الأنباء)، «فوزروجدينيا» (النهضة)، «دني» (الأيام)، «رول» (المِقود)، «ناكانوني» (العشية)، ومجلات «السجلات المعاصرة»، و«إرادة روسيا»، وغيرها). وفي عام ١٩٢١م، وعقب إلغاء «الشيوعية العسكرية»، عندما لوحظت بعض الطفرات المبشِّرة بالأمل في سياسة البلاشفة، ظهر في المهجر اتجاه «داعم للنظام السوفييتي»، صدر منتخب «أصحاب الاتجاه المعاكس»، الذي راح كُتَّابه يأملون في أن تكون التربة ذات النزعة البلشفية في روسيا قد بدأت في الزوال، وأن الطريق إلى تطوُّر الثورة قد بدأ العمل. نذكر من بين أصحاب الاتجاه المعاكس: ن. أوستريالوف، وي. كليوتشنيكوف، وس. لوكيانوف، وي. بوتيخين وغيرهم. كما حدثت انعطافة خاصة في علاقتهم بالاتحاد السوفييتي انعكست فيما عُرف ﺑ «الأوراسية» (منتخب «الخروج إلى الشرق»، الذي أعلن كتَّابه عن أنفسهم بقولهم: «سنكون أنفسنا، ولتكن روسيا هي روسيا، وليست محاكاةً للرب أو مكانًا لتجارب النظريات الغربية …»). من بين الأوراسيين: ن. تروبيتسكوي، وب. سافيتسكي، وج. سوفتشينسكي، وج. فلوروفسكي.»
ظل المهجر الروسي حتى عام ١٩٢٣م، مرتبطًا بشكل أساسي ببرلين، حيث كانت تصدر مجلة «ناكانوني» الأسبوعية، والتي عمل فيها كتَّاب لم يفقدوا الأمل في قيام علاقات جيدة مع الوطن. لكن أحداث عامَي ١٩٢٢ و١٩٢٣م أظهرت حماقة أنصار «الاتجاه المعاكس» و«الأوراسيين»؛ إذ توقفت السلطة السوفييتية عن تلبية رغبة المهجر في التطوير، وعندئذٍ بدأ الخروج الثاني للمهجر من برلين غربًا. بدءًا من عام ١٩٢٣م أصبحت باريس هي المركز الأكبر للهجرة، ومنذ تلك اللحظة تحوَّلت المهجر «المؤقت» إلى هجرة إلى أجل غير مسمًّى، هجرة إلى الأبد.
ومع ذلك فينبغي القول بأن جزءًا صغيرًا من المهاجرين أخذ في العودة على امتداد العشرينيات، بل حتى الثلاثينيات في العامين ١٩٢٢-١٩٢٣م، عاد كل من أ. تولستوي، وإ. سوكولوف-ميكينوف، وف. شكلوفسكي، وأندريه بيلي، وإ. إهرنبورج … يقول أ. تولستوي في خطابه الشهير «إلى ن. ف. تشايكوفسكي» (أحد زعماء المهجر الروسي) حول سبب عودته: «عليَّ الاعتراف بواقعية وجود حكومة في روسيا تُسمَّى الحكومة البلشفية، التي أعترف أنني سأقدِّم لها كل الدعم حتى المرحلة الأخيرة من الثورة الروسية من أجل إثراء الحياة الروسية.»
هكذا تحدَّدت بشكل نهائي حركة تاريخ الأدب الروسي في اتجاهين متناقضين إلى حد كبير.
(٩) أدب الفترة الفاصلة الأولى: عصر النهضة العابر
بعد أن حقَّقت السلطة السوفييتية هذا الانتصار الفكري الضخم، الذي ضمن لها غياب المعارضة الثقافية النشيطة، لفترة مؤقتة، إذا بها تترك الأدب دون رعاية يومية مستمرة (وهو ما أثار لدى أتباع جماعتَي «في نوبة الحراسة» و«الجمعية الروسية للأدباء البروليتاريين» الغاضبين، اللوم لغياب التوجيه الحزبي للأدب). أما المهجر، الذي بان جليًّا أنه فقد الأمل في العودة، فقد توقَّف عن إثارة القلق لدى القيادة الحزبية، وعلى امتداد بضع سنين أصبحت القضايا الداخلية للحزب والصراع من أجل السلطة بين الجماعات والتيارات بداخله هي الشغل الشاغل.
في هذه الظروف ولمدة ست أو سبع سنوات عانى الأدب «السوفييتي» أوقاتًا عصيبة ومعقَّدة في تاريخه، وخاصةً من الناحية الإبداعية. وإلى جانب «كراسني نوف» ظهرت مجلات أخرى عديدة، سواء «العارض» منها و«البروليتاري» و«الريفي»: «نوفي مير»، «زفيوزدا»، «أوكتيابر»، «زمليا سوفييتسكايا»، «مولودايا جفارديا»، «ليف»، «كراسنايا بانوراما»، «ريزيتس»، وغيرها؛ كما صدرت التقاويم الأدبية والمنتخبات الأدبية مثل: «نيدرا»، «بيريفال»، «كروج»، وغيرها. كان هذا زمن الجدل الأدبي الجمالي النشيط والمثمر بين مختلِف التيارات والاتجاهات، بين الجماعات والجمعيات («ليف»، «راب»، «كوزنيتس»، «بيريفال»، «كروج»، «إل تسي كا» (المركز الأدبي للبنائين)، جماعة «أوبيرويو»). وقد انضم إلى هذا الجدل أيضًا الحزب الشيوعي الروسي (البلاشفة) في الاجتماعات التي عقدها عامَي ١٩٢٤ و١٩٢٥م رغم التناول الاشتراكي المبتذل لطرح قضايا «مضمون» الأدب وحلولها، فإن الاستنتاج الخاص ﺑ «التعدُّدية الفنية» ظل ليبراليًّا إلى حد ما، «رغم التشخيص الصحيح (!) للمضمون الطبقي الاجتماعي للتيارات الأدبية، فإن الحزب لا يمكن إطلاقًا أن يرتبط بأي اتجاه في مجال الشكل الأدبي … لذلك يجب على الحزب أن يؤيد التنافس الحر بين الجماعات والتيارات المختلفة في هذا المجال» («حول سياسة الحزب في مجال الأدب» قرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي (البلاشفة) المؤرَّخ الثامن عشر من يونيو ١٩٢٥م).
لقد تميَّزت العملية الأدبية لهذه الفترة القصيرة ما قبل الستالينية بالاضطراب الشديد والتوتُّر سواء لدينا أو في الخارج.
بعد أن خسر المهجر غالبية كتَّابه الكبار (نذكِّر هنا أن جوركي حتى عام ١٩٢٨م كان واحدًا من كتَّاب المهجر، وقد قاد عدد من الكتَّاب، الذين تشكَّلوا قبل الثورة، الحركة الأدبية على نحو نشيط بشكل أو بآخر، ومن هؤلاء: سيرافيموفيتش، وف. فيريسايف، وبريشفين، وشاجينيان، وبطبيعة الحال، يسينين وماياكوفسكي). وقد دفع العديد من الكتَّاب الشباب الموهوبين بالدرجة الأولى العملية الأدبية، وهؤلاء ذكرنا منهم آنفًا ليونوف، وزوشينكو، وباسترناك، وباجريتسكي، وتيخونوف، وإيفانوف، وفيدين، ينبغي أن نضيف إليهم: إ. بابل، وي. أوليشا، وإ. كاتايف، وف. كاتايف، ون. زابولوتسكي، ود. فورمانوف، وأ. فادييف، وغيرهم كثير. في هذه الفترة قدَّم ميخائيل شولوخوف عمله الأول «حكايات نهر الدون»، وهي فترة الصعود الجامح أيضًا والجلي لكل من أندريه بلاتونوف وميخائيل بولجاكوف، اللذين ظهرت أعمالهما للمرة الأولى بالمناسبة في هذه السنوات (وهي السنوات التي ظهرت فيها كذلك أعمال بولجاكوف الأخيرة إبَّان حياته) وفيها تحديدًا وضعا أعمالهما التي جعلت منهما وعلى نصف قرن كاتبين بارزين. عند بلاتونوف: «الحفرة»، و«تشفينجور»، وأعمال كثيرة أخرى؛ وعند بولجاكوف: «البيضات المميتة»، و«قلب كلب»، ومسرحيات «أيام آل توربين»، و«العدو»، و«الجزيرة القرمزية»، و«شقة زويكين»، والصياغة الأولى ﻟ «رواية عن الشيطان» … ينبغي القول، إحقاقًا للحق، إنه بالنسبة لجميع من ذكرناهم، كانت هذه السنوات هي «ساعة الحظ»؛ فالعديد منهم، الذين بلغوا أرذل العمل، لم يبدعوا أعمالًا تضاهي أعمالهم المبكرة، وينطبق ذلك على: ن. تيخونوف («القبيلة الذهبية»، و«براجا»)، وف. فيدين («سنوات ومدن»)، وي. أوليشا («الحسد»)، وإ. بابل («سلاح الفرسان»)، وأ. فادييف («الهزيمة») …
وإذا كان من الصعب علينا أن نذكر واحدًا من «المسنين» النشطين من الناحية الإبداعية، الذين لم يغادروا روسيا السوفييتية (على أي حال فقد كتب أ. سيرافيموفيتش «التيار الحديدي»، بينما كتب فيريسايف روايته عن الحرب الأهلية في القرم و«المأزق»)، فقد قام كتَّاب الجيل القديم بتقديم أعمالهم على نحو كامل من التألق والروعة من خلال أدب المهجر الروسي، وإن جرى ذلك على نحو مأساوي. على وجه العموم، فهذه السنوات كانت في المهجر مُفعَمةً بحياة متوترة، ولكنها كانت منظمةً في الوقت نفسه؛ إذ ظهرت «اتحادات الكتَّاب الروس» في باريس وبرلين وبلجراد، وتم تأسيس اتحاد كتَّاب المهجر والصحفيين رأسه إيفان بونين. وفي بلجراد عُقد في عام ١٩٢٨م الاجتماع العام الأول والوحيد للمهجر، وبموجب أحد القرارات التي اتخذت فيه، بدأ إصدار مجلة «المكتبة الروسية»، التي نشرت على صفحاتها أعمال الكتَّاب «المهاجرين». وفي باريس، وفي بيت آل ميريجكوفسكي، انتظم الصالون الأدبي الفلسفي، الذي حمل اسم «المصباح الأخضر». كان من بين المشاركين النشطاء فيه: ن. بيردياييف، وف. خوراسيفيتش، وإ. بونين، وم. ألدانوف، وفي التقويم الأدبي «كوتشيفيي» («الرُّحل»)، تشكَّلت مجموعة الكتَّاب المهجريين الشباب (ج. جازدانوف، وب. بوبلافسكي، ون. أوتسوب، ون. بربروفا، وإ. أودويفتسوفا وغيرهم).
لكن أدب المهجر الروسي يدين بازدهاره، بطبيعة الحال، للكتب الرائعة لكتَّاب الجيل القديم.
في تلك السنوات نشر إيفان بونين «الأيام الملعونة» على أجزاء (١٩٢٥-١٩٢٦م)، وفي عام كتب «حياة أسينيف»، أما ز. جيبيوس فقد نشرت في عام ١٩٢٥م مذكراتها «وجوه حية»، ونشر إ. شميليف «شمس الموتى» (١٩٢٣م)، وأصدر ف. خوراسيفيتش ديوانَيه الشعريَّين «القيثارة الثقيلة» و«ليلة أوروبية» (١٩٢٧م)، وقد عاش ج. إيفانوف، وم. تسفيتايفا، وم. ألدانوف أفضل زمن لإبداعهم آنذاك. لقد تطوَّرت العملية الأدبية، سواء في الوطن أو في المهجر في هذه الست أو السبع السنوات في ظروف حياة مستقرة ظاهريًّا، حياة لم تطرأ عليها سوى تغييرات طفيفة. وقد أتاحت هذه الظروف الفرصة أمام الكاتب لتحقيق ذاته بأكبر قدر من الإبداع. وعلى الرغم من الإرهاق الذي عاشه، فقد راح الكتَّاب الروس عندنا وفي الخارج يبذلون جهدًا كبيرًا بصورة خاصة، مستشرفين وقوع هزات جديدة في المستقبل. عمومًا فإن الأزمنة «الهادئة» وحتى «الراكدة» منها بدت في كثير من الأحيان، بالنسبة للإبداع الأدبي، أزمنة مبشِّرة (إذا اعتبرنا أن هذا الهدوء هو هدوء الخوف المتجمد والنظام غير المستقر للأفكار أو للفكرة الواحدة).
اقترب الآن زمن الرعب، الذي سبقه زمن قصير متفجر، يمكن أن نسميه زمن أدب «الانعطافة الكبرى»، إنها الأعوام ١٩٢٩–١٩٣٢م.
(١٠) أدب «الانعطافة الكبرى» ١٩٢٩–١٩٣٢م
ليس من الممكن دائمًا أن يُؤرَّخ بشكل صادم لفترة أدبية، وفي حالتنا فإن استشراف «الانعطافة» قد جرى تلمُّسه قبل وقوعها بفترة وجيزة.
في يناير من عام ١٩٢٧م، نشر محرِّر صحيفة «البرافدا» ن. إ. بوخارين في صحيفة بعنوان «ملاحظات غاضبة» موجَّهةً ظاهريًّا ضد ظاهرة «يسينين»، نقتبس هنا من ن. إ. بوخارين: «إن أكثر السمات سلبيةً للريف الروسي، وما يسمَّى ﺑ «الطابع القومي» هي: الشجار، والفوضى الداخلية الهائلة، وتأليه أكثر صور الحياة الاجتماعية تخلُّفًا بشكل عام.» في الواقع، فإن هذه السمات موجهة ضد الخبرة التراجيدية الشعبية الريفية الممزَّقة، التي تم التعبير عنها في أشعار يسينين وفي الشعر الريفي بصفة عامة في تلك السنوات. وقد كان لهذه الضربة، التي وجَّهها بوخارين إلى الفرع الريفي كله من الأدب الروسي، القوي والموهوب، نتائج واسعة، بعد أن أدَّت إلى تغيُّرات كثيرة في مصائر «موضوعات القرية» في المستقبل.
لقد بات من الصعب على أنصار يسينين الشعراء: ن. كليويف، س، وكليتشيكوف، وب. دروجينين، وف. ناسيدكين، والروائي كاساتكين، وغيرهم أن يستمروا في المشهد الأدبي، فراحوا يرثون القيم الروحية ﻟ «الأرض» الروسية. وفي هذا الوقت كتب كليويف قصيدة «الحريق» دون أدنى أمل في نشرها.
جدير بالملاحظة في هذا الصدد، أنه كان في إنتاج من يسمَّون بالكتَّاب «البروليتاريين» المدعوم بقوة «من أعلى» هجوم متواصل على القيم الأخلاقية «القديمة»، التي صنعتها الثقافة، وعلى عالم الروح والنفس الإنسانية (وهو ما عبَّر عنه بصدق أ. بيزيمسكي قائلًا: «كمَنَ في النفس إحساس البرجوازية الصغيرة، إحساس المنشقين»). ويعبِّر ل. أفيرباخ عن فخره بأنه «ليس هناك أروع من الكراهية البروليتارية.» وتسيطر على الجميع نبرة ستالين الذي يقول: «فليشعر بالحسرة المُحتَضرون، والذين ولَّى زمانهم.» وعلى المنوال نفسه تصف المسرحيات الانتهازية العلاقات الإنسانية المتبادلة في «الحب الربيعي» لقنسطنطين ترينيف و«الكسر» ﻟ «ب. لافرينيف»، وغيرها. أما الأعمال التي أولت اهتمامها بتعقيدات العالم الداخلي للإنسان فقد تمت إدانتها (على هذا النحو كان رد فعل النقد الرسمي تجاه رواية «سر الأسرار» ﻟ «ف. إيفانوف»، «الحكايات الغريبة عن أولاد البلد» ل. ليونوف، وغيرها).
وفي عام ١٩٢٧م، وبمناسبة مرور عشر سنوات على أكتوبر، نجح أعضاء الجمعية الروسية للأدب البروليتاري «راب» في إبعاد أقوى منافس لهم في الحركة الأدبية وهو أ. ق. فورونسكي، من رئاسة مجلة «كراسنايا نوف» ذات النفوذ الواسع، والتي على حد قول محرِّرها، «كانت تتحرَّك وتعمل طوال الوقت على نحو فعَّال، بحيث شدَّت انتباه القارئ نحو «القضايا الروسية»». وقبل ذلك التاريخ، في مايو من عام ١٩٢٦م، فترة ازدهار «التعدُّدية» الأدبية البلشفية، جرت واقعة لم يحدث لها مثيل من قبل؛ فبعد نشر رواية «قمر لا ينطفئ» لبوريس بيلنياك (والتي ربما رأى فيها البعض، دون مبرِّر يُذكر، تعريضًا بصورة ستالين، فضلًا عن وضع صورة الزعيم البلشفي عمومًا من هذا الطراز)، تمَّت مصادرة النسخ كافةً وإعادة طبعها. يمكن الإشارة أيضًا إلى الجدل الحاد الذي أثاره أعضاء راب مع مجلة «بيريفال»، التي طالبت الكاتب أن يكون مخلصًا، وأن يراعي عضوية الإبداع، لكن كل ذلك لم يكن سوى بضع مشاهد على خلفية الأدب الناشط المزدهر على نحو واسع نسبيًّا.
والآن إلى عام ١٩٢٩م.
وحتى ينجو بحياته انفصل باجريتسكي عن مجلة «بيريفال» والْتحق بجماعة راب، وهو طريق الانفصال عن الذات نفسه الذي سار عليه ماياكوفسكي وبعض الأدباء الآخرين. وبالنسبة لماياكوفسكي بدا هذا الطريق نفسه هو الذي قاده إلى التدمير البدني الذاتي؛ أي إلى الانتحار. أما «اليساريون» العابرون: ل. ليونوف، وإ. إهرنبورج، وف. كاتايف، وم. شاجينيان، فقد كتبوا روايات عن التصنيع، تراجعت فيها حقيقة الزمن بشكل واضح أمام الأساطير التي بثَّها شعار «مغيِّرو العالم».
انتهت هذه «الانعطافة الكبرى» في الأدب بحدثٍ قامت عليه بكل وضوح صحافة ثقافة التلاعب الشمولي؛ ففي أبريل من عام ١٩٣٢م، صدر قرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي لعموم الاتحاد السوفييتي (البلشفي) «بشأن إعادة بناء المنظمات الأدبية الفنية»، والذي قضى بضربة إدارية واحدة على التيارات والجماعات الأدبية كافة، وعلى جميع صور التعددية في الأدب والفن. لقد تم القضاء حتى على راب، التي رغم ما بدا من أنها مخلصة لستالين وذراع لإدارة الأدب، فإنها كانت تمتلك على أي حال بعضًا من الاستقلال في تصرُّفاتها.
تم إعلان الواقعية الاشتراكية الإرشادية باعتبارها المنهج الأساسي للأدب السوفييتي. بدأ الإعداد لإنشاء اتحاد الكتَّاب السوفييت واتخاذ الإجراءات الضرورية لعقد المؤتمر الأول للكتَّاب. جدير بالذكر أن هذا العمل لم يكن هو الإجراء الوحيد، فمن بين الضربات التي أصابت الثقافة حلول الأيديولوجية الجماهيرية الشمولية، وفي هذه الفترة، في مايو من عام ١٩٣٢م، جرى الإعلان عن «الخطة الخمسية لمناهضة الدين»، التي قرَّرت القضاء، حتى الأول من مايو عام ١٩٣٧م، على «جميع دُور العبادة» في الاتحاد السوفييتي، و«نفي مفهوم الإله نفسه». وترتبط هذه السنوات بالتدمير البشع غير المسبوق للآثار القديمة من هدم للكنائس واعتقال ونفي وإطلاق الرصاص على القساوسة. هذا التدمير للثقافة بهذا القدر فاق حتى تلك المصائب، التي حاقت بها في سنوات الحرب الأهلية.
لقد كشفت «الانعطافة الكبرى» عن خطورة أخرى أحاطت بالثقافة، تمثَّلت في تهميش المشاركين في العملية الإبداعية. في تلك الفترة وصل تدمير القيم الثقافية والاجتماعية الروسية إلى ذروته. وحدثت عملية «خلط» بين الفئات الثقافية، ووقع «الانتقال إلى مواقع البروليتاريا» بشكل يصعب التحكم فيه. في الواقع فإن «الخارجين» من الفئات الثقافية الأخرى قد قاموا بعملية خيانة ثقافية، لقد استولت عليهم فطرة التأقلم والخضوع للمبادئ السائدة وعدم الانتماء الروحي المتزايد.
لقد أدَّى الانفصال عن النظام الجذري للثقافة إلى فقدان معالم الشخصية الحقيقية وإلى التبعية دونما تفكير في «الحقائق» التي تم تخليقها حديثًا، كما خلق هذا الانفصال عديدًا من الناس، من بينهم موهوبون، سلَّموا زمام أمورهم، وتم التلاعب بهم، وأصبحوا خاضعين للتوجيهات والإرشادات الدورية. هذا المَيل الحاد إلى اليسار، الذي ظهر في أوساط الكتَّاب والالتحاق بصورة «جماهيرية» متكرِّرة بجمعية راب، والذي ساد الأدب السوفييتي في نهاية العشرينيات ومطلع الثلاثينيات في ركابه، كان علامةً على ضعف الإرادة الثقافية وعلى ارتدادها وتهميشها.
وقد عانى هذه المأساة، بدرجة أو أخرى، كتَّاب كثيرون من ذوي الأصول «غير الروسية»: ف. ماياكوفسكي، وق. فيدين، وف. كاتايف، وأ. جايدار، وم. سفيتلوف، وأ. تولستوي، وي. أوليفا، ول. أفيرباخ، ون. تيخونوف، ول. ليونوف، وف. فيشنيفيسكي، وف. لوجوفسكي، ول. سوبوليف، وب. لافرينيف، وإ. باجريتسكي، وق. ترينيف وكثير غيرهم.
كان «نزع ممتلكات الكولاك» أمرًا شديد القسوة روحيًّا.
وبصلابة وعناد أكبر في مواجهة اتسمت بالمأساوي للانهيار الحادث، وقف كل من: م. بولجاكوف، وأ. أخماتوفا، وأ. ماندلشتام، وب. باسترناك، وم. بريشيفين، وأ. بلاتونوف، د. خارمس، ون. زابولوتسكي، ن. كليويف، وس. كليتشيكوف، ق. فاجينوف، وم. زوشينكو، في الدفاع عن شخصياتهم.
في عام ١٩٣٠م كتب باسترناك قائلًا:
كان ذلك هو الوضع الذي دخل فيه الأدب عصرًا جديدًا من تاريخه.
(١١) صعود الأدب وانحطاطه في ظروف النظام الإداري الحاكم ١٩٣٢–١٩٤١م
الثلاثينيات، عصر مركَّب ذو وجهين ينتصب أمامنا. وجه منهما خلقته الأساطير عن حلول انتصار الاشتراكية، عن السعادة الكبرى في «العيش وبناء» عالم جديد، عن «الإنسان السوفييتي البسيط»، الذي يمضي باعتباره سيدًا لوطنه «المترامي الأطراف»، عن أنه ليس هناك وجود ﻟ «بلد آخر» «يتنفَّس فيه الإنسان بمثل هذه الحرية»، الحدود مؤمَّنة جيدًا وأننا سنهزم أي عدو «بدم أقل وبضربة ماحقة»، وهلم جرًّا (كل هذه الموضوعات الأسطورية مقتبسة من الأغاني الشعبية والجماهيرية التي انتشرت في الثلاثينيات).
الوجه الآخر لهذا الزمن يمكن أن نسترجعه من خلال أشعار أ. ماندلشتام («نعيش تحت وطأة الزمن فلا نشعر بالوطن، ولا تُسمع أصواتنا على مسافة عشر خطوات»)، وس. كليتشيكوف («في هذه العتمة، في هذا الظلام/يصبح من المرعب أن تنظر خلف الباب/هناك يتحرك الزمن قلقًا/كما يتحرك وحش في عرينه»)، إلى آخره. يمكن أن نتذكر أيضًا «القداس الجنائزي» لأنَّا أخماتوفا، وقصائد مارينا تسفيتايفا الأخيرة، وغيرها من قصائد.
هاكم الوجه الآخر ﻟ «العصر الستاليني العظيم».
الأمر الأول الذي ينبغي علينا أن نؤكِّد عليه ونحن نتأمل العملية الأدبية في تلك السنوات، هو، على أي حال، هذه المواجهة العميقة المستمرة بين الأدب والعنف الإداري أنواع القهر الروحي الآخر كافة. في البداية علينا أن نأخذ في الاعتبار بضع حقائق. لقد تم التفكير في إبداع كتابين في اللحظة نفسها، التي جرى الإعداد فيها للقيام بالتدمير النهائي للحياة الشعبية والثقافة القومية. كان الكتاب الأول هو «الدون الهادئ» لميخائيل شولوخوف، الذي بدأ الكاتب في الإعداد له منذ العشرينيات، لتنتهي الرواية بأكملها بحلول عام ١٩٤٠م. وفي تلك السنوات نفسها انتهى ميخائيل بولجاكوف من رواية «الأستاذ ومرجريتا». كان من الممكن أن تكون هاتان الروايتان كافيتَين تمامًا لكي تؤكِّدا لنا الفشل المحتوم للمحاولة الطوباوية للقضاء على الكلمة الحرة، وإخضاع القوة الروحية للثقافة القومية.
على أنه من الجدير بالذكر أيضًا أن رواية بولجاكوف لم تنشر في حياة الكاتب، أما رواية شولوخوف «الدون الهادئ» فقد نُشرت بصعوبة بالغة، وجرت قراءتها ومناقشتها من جانب النقاد بصوت مكتوم تقريبًا، حتى تطغى عليها أعمال كثيرة أخرى الْتزمت بالذوق السائد في هذا العصر. ومع ذلك فقد نالت أعمال أخرى ظهرت آنذاك شهرة واسعة، أعمال لم تكن تفتقر في كثير من الأحيان لا إلى الموهبة ولا إلى الإخلاص («والفولاذ سقيناه» لأستروفسكي، «قصيدة تربوية» لماكارينكو، على سبيل المثال، وهما الأفضل من بين تلك الأعمال) لم تصمد أمام الزمن، ولكنها ظلت وثيقةً واضحة على الأوهام الاجتماعية والفردية والآمال الخادعة.
سرعان ما حل زمن الاستقرار الجديد تحت القيادة الدائمة والحذرة للحزب والحكومة. إنه استقرار الخوف والمراقبة. في أغسطس عام ١٩٣٤م، عُقد المؤتمر الأول للكتَّاب، وقد كان على هؤلاء الكتَّاب أن ينتظروا لمدة عشرين عامًا حتى يعقدوا مؤتمرهم الثاني. لقد بدأ جهاز الدولة في تشغيل آلية خاصة لإدارة الحياة الروحية للمجتمع.
أصبح تقييم أي ظواهر ثقافية أمرًا نهائيًّا ولا يجوز الطعن عليه. إليكم بعض ما ورد في المقالات التوجيهية التي نشرتها «البرافدا»: «تشويش بدلًا من الموسيقى» عن شوستاكوفيتش، «باليه زائف» عنه أيضًا، «بريق ظاهري ومضمون زائف» عن مسرحية «موليير» لبولجاكوف، «عن اللطخ المسمَّون فنانين»؛ صدرت هذه المقالات في عام ١٩٣٦م وحده). وبناءً على هذا التقييم كان من الضروري إعادة بناء الثقافة بأكملها، وأن تطوف فِرق الكتَّاب بالمشروعات والكولخوزات والقنوات المائية النموذجية، وأن تقدِّم تقاريرها عمَّا شاهدته بالنبرة الزاعقة المطلوبة (ظهرت كتب عن آسيا الصغرى ومقالات جماعية عن بناء قناة بيلامور وروايات عن أولويات الخطة الخمسية الأولى: «الزمن، إلى الأمام!» لكاتاييف، «اليوم الثاني» لإهرنبورج، «المركز المائي» لشاجينيان، «الطاقة» لجلادكوف، إلى جانب عدد كبير للغاية من الروايات التي تناولت القضايا والأحداث الراهنة) (الروايات التي ذكرناها آنفًا كانت الأفضل من غيرها، ولكننا لا نستطيع اليوم قراءتها). في تلك الفترة بدأ ف. بانفيروف في كتابة روايته «أحجار الجلخ»، التي تتحدث عن الفلاحين، وكلما انتقل فيها من جزء إلى آخر، راح يحوِّلها أكثر فأكثر إلى مجرَّد تعليقات قصصية على المقالات الصحفية الدعائية. ومن بين كل الأعمال المنشورة في تلك السنوات، تميَّزت رواية شولوخوف «الأرض البكر»، و«بلد موارافيا» لتفاردوفسكي، والنثر الجديد الذي كتبه بلاتونوف، وقصائد زابولوتسكي، وبعض، وليس كل، للأسف، أعمال زوشينكو، ودواوين باسترناك الشعرية، التي صدرت في مطلع الثلاثينيات (إلى جانب روايتَي شولوخوف وبولجاكوف اللتين سبق ذكرهما). أما باقي الروايات فقد ذهبت إلى الأدب السري الإجباري، وبقيت غير منشورة. ومن بين هذه الأعمال المرفوضة كانت هناك أعمال لبولجاكوف وزامياتين وماندلشتام وبلاتونوف و«القداس الجنائزي» لأخماتوفا، ويوميات بريشفين، وأشعار كليويف وكليتشيكوف، والمؤلفات العجيبة للعبثيين من جماعة أوبيريو: أ. فيدينيسكي وخارمس وآخرين، والنثر الاستثنائي لفاجينوف ودوبيتشين وقصائد كوزمين، آخر الذرويين، الذي خمد إبداعه في هدوء في ليننجراد في أواخر الثلاثينيات. ينبغي تغطية هذا الأدب، الذي يتعرَّض جزء كبير منه لخطر الصمت عنه. وكلما زاد الصمت والألم هناك في كواليس الأدب السوفييتي، ازداد بناء الديكور المبهر والضخم على خشبة المسرح.
ولكن، لنلقِ بضع نظرات أخرى «على الكواليس»: لقد راح ماندلشتام ينتقل من معتقَل إلى آخر، وفي النهاية لقي حتفه في السجن، ومن المنفى عاد كليويف ليُسجَن ثم يتم إعدامه. كان هناك ما يقرب من ألفين من الكتَّاب تم قمعهم. كما جرى قمع واضطهاد ما يزيد على مائتي كاتب من بين حوالي ستمائة عضو شاركوا في المؤتمر الأول للكتَّاب. ومن بين الذين لم يرجعوا من السجون ومعسكرات الاعتقال نذكر: أ. فورونسكي، وإسحاق بابل، وأرتيوم فسيولي، وإيفان كاتايف، وبوريس بيلنياك، وسيرجي كليتشيكوف، وأ. جاستيف، وم. جيراسيموف، وف. كيريللوف، وف. زازوبرين، وب. فاسيسلييف، وف. كورنيلوف، وأ. فيدينسكي، ود. خارمس … ومن الذين خاضوا تجربة السجن: ن. زابولوتسكي، وأ. بيرجولتس وغيرهم. وقد ترك كل من أخماتوفا وباسترناك وتاركوفسكي وزابولوتسكي وتسيفتايفا كتابة الشعر ليمارسوا الترجمة. أما العملية الأدبية المنتظمة فقد أنتجت الكمية الضرورية المطلوبة من الروايات والمسرحيات وسيناريوهات الأفلام بمختلِف الأذواق. أخذت الثقافة في التحوُّل أكثر فأكثر باتجاه مسرح عبثي متفائل، وإن كان مضمونه مأساويًّا.
ومع ذلك فقد كان هناك حلفان قصصيان ينبغي الحديث عنهما بإحساس بعيد بعض الشيء عن انطباعات القراء المخدوعين.
الأول: حلف الرواية التاريخية. لقد أصبح من الممكن وبعد انتهاء العدمية القومية، التي ظلت سائدةً بعد الثورة ولمدة خمسة عشر عامًا، الالتفات إلى الماضي، دون توجيه اللعنات له أو التشهير به. وعلى الرغم من أن «الطلب الاجتماعي» وضع بصمته على النثر التاريخي (كانت السلطة بحاجة إلى ماضٍ مشرف تنتسب إليه») روايات: أ. تولستوي «بطرس الأول»، وف. يان عن روسيا الغابرة في عصر الغزو التتري المغولي، وس. بورودين الذي كتب رواية «ديمتري دونوسكوي» التاريخية، إلى جانب بعض الأعمال الأدبية الأخرى.
الحلف الثاني: هو الظاهرة الخاصة والمميزة للأدب في تلك السنوات، والتي أصبحت تُعرف باسم «الأغنية الجماهيرية»، وقد تحدَّثنا عنها في بداية هذا الفصل. وتتلخَّص المفارقة في «الأغنية الجماهيرية» في أنها كانت تتمتَّع بالانتشار الشعبي بالفعل، على الرغم من أنها قدَّمت صورةً ليس بها ما ينطبق تمامًا مع الواقع. كانت هذه الأغنية بوقًا للأيديولوجية الرسمية المتفائلة، وكانت تفرض حالةً مزاجية واحدة فقط: «في الماضي كانت أغنيتنا حزينة، أما الآن فسعادتنا هي التي تغني»، أو «اصعد لأعلى أيها الدخان الذهبي المتعرِّج، على جانب الطريق، يا لها من سعادة فتية مستحيلة! …» وغيرها من الأغاني. هذا هو المشروع المتفائل الرنان السعيد سعادةً مستحيلة، خصوصًا عند ف. ليبيريف-كوماتش. لقد جرى إدراك هذه الأغنية كإنقاذ من الإجهاد العصبي الحقيقي الذي لا يُحتمل، كما أنها كانت شعبيةً بشكل خاص مع نهاية الثلاثينيات، بعدما باتت ذروة الإرهاب من الماضي. من بين مؤلفي «الأغاني الجماهيرية» ينبغي أن نذكر أيضًا: م. إيسكاوفسكي، وف. جوسيف، وأ. سوروكوف وآخرين.
من المستبعد أن نتصوَّر أن أدب المهجر الروسي في تلك السنوات كان بمعزل عن العمليات، التي كانت تجري في الأدب الوطني، وإن بدا «الستار الحديدي» غير قابل للاختراق. يبدو أن الأمر كان على العكس تمامًا. كان التعاطف ما مع يحدث في الوطن يزيد من حدة اهتمام المهجر بروسيا القديمة، روسيا الحية التي لم تنكسر، وقد استردَّ المهجر ذلك الشعور ليظهر على صفحات «حياة أسينييف» لبونين، وليعيش في روايته «الدروب المظلمة»، وتفتَّح الحب العميق للطبيعة المركَّبة الرائعة على نحو مأساوي للإنسان الروسي ولقَدَره، وأعماقه الروحية التي لا تنضب، وذاكرته النبيلة لكل ما هو غالٍ وخالد في أفضل أعمال كتَّاب المهجر: إ. شميليف «الصيف الرباني» (١٩٣٣م)، و«الحج» (١٩٣٥م). وأصبح حصول إيفان بونين على جائزة نوبل في عام ١٩٣٣م حدثًا كبيرًا في مصائر أدب المهجر.
بالإضافة إلى ذلك، فإن أدب المهجر وأدباءه واصلوا حياتهم المتوترة العصبية. لم يكن للأمور في المهجر أن تسير دون أن تقع فيها انشقاقات مؤلمة. تم إنشاء «اتحاد العودة إلى الوطن»، الذي ارتبط به مصير مارينا تسفيتايفا (عادت تسفيتايفا إلى الوطن عام ١٩٣٩م) هي وزوجها س. إيفرون. عاد بعض الأدباء المهجَّرين ليواجهوا أيضًا مصيرًا تعيسًا. لقد تعرَّض د. سيفاتوبولسك-ميرسكي للاضطهاد، وتم إعدام س. إيفيرون نفسه، وغابت أريادنا ابنة تسفيتايفا في معسكرات الاعتقال.
ولكن لعل الدراما الكبرى للمهجر تمثَّلت في دراما «نهاية» الطريق. لم يترك الكتَّاب الروس الكبار من الجيل القديم للمهاجرين في الواقع ورثةً لهم، لا لعدم وجود موهوبين؛ وإنما لأنه لا يمكن، ببساطة، أن تكون هناك موهبة دون وطن ولا «تربة»، وقد راحت هذه الصلات تزداد استحالة.
هكذا انتهى هذا الزمن الصعب ليحل زمن آخر أكثر صعوبة (وإن ظل واعدًا بالأمل لعدد كبير من الأسباب).
(١٢) الحرب وأدب الإنقاذ القومي (١٩٤١–١٩٤٦م)٨
بدأت الحرب بدم غزير، بمأساة الانسحاب الصادم وبخسائر بشرية هائلة. لقد بات من الواضح أن إنقاذ الوطن وتحقيق النصر يتوقَّف على استدعاء مآثر التاريخ الوطني، وإلى اللجوء لقوى الدفاع الذاتي الشعبي وحفز الشعور الوطني الممتد لألف سنة في التاريخ.
ومن ثم فإنه يمكننا أن نسمِّي أدب تلك السنوات بأدب الإنقاذ الشعبي.
أصبح تاريخ الأغنية الشهيرة التي ظهرت إبَّان سنوات الحرب «انهض أيها الوطن الكبير»، واحدًا من مفارقات «ترميم» الشعور القومي. وكما اتضح منذ زمن غير بعيد، فقد كُتبت هذه الأغنية في أثناء الحرب الروسية الألمانية، وقد كتب كلماتها مدرِّس الأرياف ألكسندر أدولوفيتش بودي، وقد ظل محتفظًا بها لمدة ربع قرن، دون أن يجد الفرصة لينشرها باسمه، وقد أعطاها في الأيام الأولى للحرب للشاعر الغنائي الأشهر ليبيريف-كوماتش، وسرعان ما ذاع صيتها في البلاد (انظر في هذا الشأن مجلة «ستوليتسا» (العاصمة)).
لقد وصل الاندفاع نحو إنقاذ الوطن في نواحٍ عديدة ما قطعه النظام البلشفي، بدايةً من أنَّا أخماتوفا، التي نشرت قصيدتها «الشجاعة» في صحيفة «البرافدا» (!)، والشاعر بوريس روتشيوف قبل نفيه إلى معسكر الاعتقال في كوليما، وهو الذي كتب في هذا المعسكر في أثناء الحرب ديوان «شمس صغيرة حمراء». خفَّت وطأة الرقابة في سنوات الحرب، وسرعان ما تخلَّص هذا الأدب من الوعود الزائفة، ومن القوالب الدعائية النمطية التي كانت سائدةً قبل الحرب. لم يتسامح النظام مع الأدب فقط، وإنما أعاد من المعسكرات، جزئيًّا، القساوسة وفتح بعض الكنائس، وفي عام ١٩٤٣م سُمح للبطريركية بممارسة نشاطها.
إن أفضل ما أنجزه الأدب في سنوات الحرب هو ما ظهر في العام ونصف والعامين الأولين، عندما كان الوطن مهدَّدًا بوقوع مصيبة كبرى، وأصبحت آلام هزائمه أشد حدة. في هذا الزمن ظهرت قصيدة «فاسيلي تيوركين» لتفاردوفسكي، ومسرحية ليونوف «الغزو»، والأشعار الغنائية لأخماتوفا وباسترناك والشاعر الشاب قنسطنطين سيمونوف وسوركوف، والكتَّاب الذين عادوا: ن. تيخونوف، وأ. بروكوفييف. ويرتبط نثر الحرب الذي كتبه أ. بلاتونوف بهذه السنوات تحديدًا، هذا النثر الذي تميَّز بالعمق الجديد في تأملاته للإنسان وارتباطه بأرضه الغالية. لقد تجسَّدت الحقيقة الشعبية الشاملة، على حد تعبير أ. بلاتونوف، في «الجبهة الداخلية» الروحية للحرب والنصر. وقد أضاف أ. تفاردوفسكي إلى هذا التعبير قوله: «نعم لقد كانت أكثر غلظة، كما كانت أكثر مرارة.» بهذا الإحساس خاض فاسيلي تيوركين الحرب جنبًا إلى جنب مع الشاعر، الذي تخلَّى عن الادِّعاء بالانتساب إلى «الاشتراكية» المتغطرسة، والذي يعلم أن «المعركة تمضي لا من أجل المجد، وإنما من أجل الحياة على الأرض»، إنها تدور عبر كل ويلات الحرب دون شعارات زاعقة، ولا ذكر لاسم ستالين ولو لمرة واحدة. وفي مسرحية «الغزو» لليونوف، يجترح البريء، فيودور طالانوف العائد من السجن، مأثرة التضحية بالنفس؛ ينتقم لشرف الفتاة الريفية آنيسكا؛ إذ يرى فيها وفي مُصابها ما جرى من تدنيس لعِرض الوطن. ويرى أن نجاته هو شخصيًّا تتمثل في العودة إلى هذا الوطن وفي عودة الوطن إليه، وفي مصيرهما المشترك من الآن فصاعدًا. إن معجزة التلاحم هذه قد أعادت في هذه السنوات كثيرًا من العافية بصورة متينة للروح الوطنية، وهو ما مثَّل أيضًا خطوةً نحو إنقاذ أدب «الكلمة الروسية العظيمة» (أ. أخماتوفا).
يرتبط بذلك أيضًا المغزى التثقيفي الروحي الخاص لأدب تلك السنوات؛ فمهما كان «مستوى الحقيقة» مريرًا، فقد كان في أنواعه كافة، أكثر سموًّا ممَّا في تلك «السعادة المستحيلة»، التي ظلت القصص الدعائية الموجَّهة تنشرها طوال سنوات ما قبل الحرب. ينطبق ذلك على نثر كل من: ق. سيمونوف، وأ. بيك، وف. جروسمان؛ وعلى شعر: م. إيساكوفسكي، وب. أنطوكولسكي، وم. أليجير؛ ومقالات: إ. إهرنبروج، وأ. تولستوي، وليونوف وجايدار …
لقد أصبحت الحرب، سواء في هذه السنوات أو في العقود العديدة التي تلتها، موضوعًا للوعي القومي والفردي المأساوي في الأدب (وخاصةً ابتداءً من «مصير إنسان» لميخائيل شولوخوف). كانت تجربة الحرب كافيةً فيما بعد، في سنوات «ذوبان الجليد» لوضع «أدب تعويضي». لقد دخلت الحرب إلى موضوعات «النثر الريفي»، وانعكست بقوة وبعمق كبيرَين في عدد هائل من الأعمال؛ مثل: «الحياة والقدر» لجروسمان (في الستينيات)، في «لحظة الحقيقة» لبوجومولوف (في السبعينيات)، في «الجنرال وجيشه» لفلاديموف (في الثمانينيات)، وفي «ملعونون ومقتولون» لأسطافييف (في السبعينيات) …
اعتُبرت غالبية هذه الأعمال أدبًا «ممنوعًا»، أمَّا آليات «المنع» وتبديل الحقيقة فقد دخلت إلى المشهد الثقافي قبل ذلك في النصف الثاني من الحرب، عندما اقتنع النظام أنه لا يزال على قيد الحياة. وعلى تخوم عامَي ١٩٤٢ و١٩٤٣م بدأ التراجع عن تلك الآمال وعن تلك الحقيقة، عن حرية الكلمة التي كانت ممكنةً في أكثر الأوقات صعوبة («لا تسعفنا أفضل الكلمات، حتى في أفضل أوقات الاحتفال بهجة.» هذا ما كتبه تفاردوفسكي بإحساس شديد بالمرارة).
لم يؤدِّ النصر، الذي كانت تكلفته باهظةً من الآلام والدم، إلى التحرر من القهر الداخلي، بل على العكس من ذلك، اشتدَّت قبضة النظام على هذه الأرض التي أنهكتها الحرب. وسرعان ما أُسدل الستار الحديدي مصلصلًا بين «الواقع السوفييتي» وما يجري في العالم بأسره.
لم يدرك الجميع ما حدث على الفور. في عام ١٩٤٦م، بعد الحرب مباشرة، نُشرت رواية أ. بلاتونوف «عائلة إيفانوف (العودة)»، وكتب م. إيساكوفسكي قصيدة «الأعداء يحرقون البيت العزيز …» و«العربة الذهبية» لليونوف … هؤلاء عانَوا من شعور الألم البالغ الحاد الذي لا براء منه. لقد بدت روح الجندي المنتصر فجأةً في حالة من الإحباط العميق من السلطة، ولم يكن الأمر محض صدفة.
لقد جاءت معظم نتائج الحرب خادعةً للشعب في كثير من الأمور الأساسية. لقد خرج منها متوقِّعًا حدوث تغيُّرات عليه وعلى أرضه العزيزة. لقد انتظر أن يتحرَّر من الأمور التي ظلت دائمًا غير قابلة للإدراك، لكنه راح يشعر أكثر بوطأة العبودية الاجتماعية والروحية. على أي حال، لم تستطع الحرب أن تزيد من سرعة انهيار الوعي الاشتراكي البطريركي السابق، الذي ظل النظام متمسكًا به نفسيًّا. لقد شعرت السلطة بالخطر المُلح لليقظة الروحية للشعب والأدب، فراحت تعمل على إخمادها.
أثبتت أحداث النصف الثاني من عام ١٩٤٦م أن الأمل في إضفاء صبغة ليبرالية على الستالينية أمر لا يستند على أي أساس؛ فعلى مدى سنوات عشر تم فرض الحظر على أفضل ما كتب إيساكوفسكي من شعر، وتعرَّض كل إبداع بلاتونوف للسُّباب. أُقيمت مذبحة حزبية أيديولوجية دورية بسبب أشعار أخماتوفا ونثر زوشينكو … كان شهر أغسطس الثقيل والكئيب عام ١٩٤٦م، نهاية تلك المرحلة من الأدب، والتي كان من الممكن أن تُصبح مرحلةً فاصلة في مصائر أدبنا (ووطننا كله).
في سنوات الحرب لوحظ بعض التقارب بين اتحاد الكتَّاب السوفييت والأدب الروسي في المهجر، على أنه سرعان ما حدث ارتداد في هذا الأمر أيضًا؛ فما إن وضعت الحرب أوزارها حتى راح النظام يلاحق وبقسوة مَن أسماهم بالأشخاص «المتنقِّلين» حتى وصل التفكيك إلى مهاجري «الموجة الأولى». ومع ذلك فقد شارك أغلبية المهاجرين — حتى الذين بقوا في الغرب — ضد الفاشية يقودهم شعورهم الوطني. في بداية الحرب العالمية الثانية تطوَّع شباب المهاجرين، بمن فيهم الأدباء، للخدمة بالجيوش، التي كانت تقود الحرب ضد النازية الهتلرية. كما شارك الجيل الأقدم من الكتَّاب أيضًا بقوة في حركة المقاومة (وقد لقي كثير منهم حتفهم في معسكرات الاعتقال النازية، ومن بينهم الأم ماريا (كوزيمينا-كارافايفا)، وإ. فوندامينيسكي، وغيرهم). ولكن، وبعد انتهاء الحرب، تبيَّن أن عددًا من الروس، الذين تم ترحيلهم، كانوا لا يزالون رهن الاعتقال في هذه المعسكرات. وبعد عام ١٩٤٦م، راحت الكلمة الروسية تسبح في ظلام شديد الحلكة.
(١٣) أدب الستالينية المتأخرة (١٩٤٦–١٩٥٣م)
تُعد هذه الفترة من أكثر الفترات انتصارًا وغلبة من الناحية الظاهرية والأكثر صعوبةً وفراغًا من ناحية المضمون بالنسبة لمصائر الأدب الروسي. في الحقيقة كانت فترة بريق من الخارج مع زيف في المضمون. وقد جاءت عملية توزيع جوائز ستالين تعبيرًا واضحًا عن ذلك؛ ففي الفترة من ١٩٤٧م وحتى ١٩٥٢م فقط، تم منح حوالي مائتَي جائزة، من بينها حوالي مائة وعشرين جائزةً تم منحها لأعمال أدبية روسية. تُرى أيٌّ من هذه الروائع الفائزة بالجائزة ظلت حيةً على مدى نصف قرن؟ من ناحية الكم، قليلة للغاية هي تلك الأعمال. الأغلبية الساحقة من بين الكتب الحاصلة على جوائز كانت ببساطة أعمالًا دعائية عاشت ليوم واحد ليتم دفنها في أطلال «عصر ستالين العظيم»، وقليل جدًّا من الأعمال الحاصلة على «جوائز»، الأفضل من الناحية النوعية، هي التي أُعيد طبعها أحيانًا، دون أن يُضفي ذلك على مؤلِّفيها أي شهرة أو مجد. بضع أعمال فقط تُعد على الأصابع هي التي كانت لها قيمة أدبية، والتي دخلت في عداد إنجازات مؤلفيها واعتُبرت أحداثًا أدبية. وهذه الأعمال يمكن تسميتها بشكل حصري: «منزل على الطريق» لتفاردوفسكي، «في خنادق ستالينجراد» ف. نكراسوف، «رفاق الطريق» أ. بانوفا، «النجم» إ. كازاكيفيتش. جميعها أربعة أعمال من بين مائة وعشرين عملًا، وجميعها كُتب لها البقاء بفضل قوتها الفنية والروحية الخاصة. جدير بالذكر أن هذه الروايات «استحقَّت» جائزة ستالين في عامَي ١٩٤٧ و١٩٤٨م. فيما بعد ظهرت النعرة الأيديولوجية الكبرى وازداد التضييق، وخلال عامين أو ثلاثة لم يعد من الممكن على الأرجح كتابة مثل هذه الأعمال، أو حصولها، بطبيعة الحال، على أي جوائز.
كان الانهيار الذي حدث للثقافة والأدب في تلك السنوات انهيارًا حتميًّا لم يسبق له مثيل. لم يكن لدى الأدب القوى الإبداعية والروحية للمقاومة بشكل لم يحدث من قبل. عدد قليل من الكتَّاب الكبار من الجيل القديم غادر الحياة، هؤلاء ظلوا محتفظين بهيبتهم (في يناير ١٩٥١م تُوفي أ. بلاتونوف)، أما الأحياء، مثل أخماتوفا وزوشينكو، فقد تم عزلهم تمامًا، بينما سقط العديد من الأدباء الموهوبين من الجيل الشاب والأوسط ضحايا للحرب، أو باتوا رهن الاعتقال في السجون والمعسكرات (لنتذكر أنه بعد مرور عدة سنوات عاد من هناك قادمين للأدب: أ. سولجنيتسين، وف. شالاموف، وي. دمبروفسكي، وق. فوروبيوف، وأ. جيجولين، ور. بوجودين وغيرهم. كم من الموهوبين اختفى هناك في صمت، ودون أن يتركوا أثرًا وراءهم!) وحتى أصغر البؤر التي قاومت الدوجمات التي لا شك فيها تم إخمادها جميعًا بوحشية (على سبيل المثال، الشاعر أ. جيجولين، الذي حكى لنا ديوانه «الأحجار السوداء» عن ذلك كله).
امتلأت المراكز القيادية في بنى اتحاد الكتَّاب وفي دُور النشر وفي المجلات تدريجيًّا بمحدودي الموهبة، العدوانيين الانتهازيين، الذين راحوا ينفون باستهتار وخيانة أي «طلب اجتماعي» تقدِّمه قائمة أسماء هؤلاء الذين وضعوا صورة الحياة الأدبية، والتي لا تتفق في شيء مع الواقع، وفقًا لأهوائهم. لقد حدث تضليل للاتجاه وإفساد روحي للكتَّاب الشباب، الذين تم جذبهم إلى خدمة الستالينية وأساطيرها. كتَّاب آخرون اضطُروا فيما بعدُ لأن يعضُّوا إصبع الندم على ذلك (ي. تريفونوف، وأ. ياشين على سبيل المثال). لبضع سنوات في الحقيقة، خرج من العمل الفني م. شولوخوف، ول. ليونوف ومعهم نفر آخر. في الوقت نفسه استسلم آخرون من كتَّاب الجيل القديم، الذين لا يتطرَّق الشك إلى موهبتهم الكبيرة، والتي كانت واعدةً في وقت ما، أمام «المنتصرين» ليلحقوا بأدب المؤسسة (ن. تيخونوف، وق. فيدين).
وفي الحقيقة فقد تدنَّى مستوى الجودة الأدبية للكتب على نحو لم يحدث من قبل، وفي هذا الصدد لا يمكن ألَّا يتطرَّق الشك إلى العلاقة بين العنف الشمولي الذي مورس على الكاتب ومن ثم خسارته لحرفيته. يتحدَّث م. زوشينكو بكبرياء ومرارة في معمعة الاضطهاد الرهيب، الذي راح يتحمَّل آلامه بشكل استثنائي، قائلًا: «إن الكاتب الذي تعاني روحه من الرعب يفقد مهارته في الكتابة.»
وحتى تتم إخافة وإرهاب العاملين بالثقافة والإنتليجينسيا، الفنية والعلمية، المرة تلو الأخرى، بدأت منذ النصف الثاني من الأربعينيات ومطلع الخمسينيات، بلا انقطاع، الحملات الدورية بأنواعها كافةً «لفضح» كل العصاة وأصحاب الفكر الحر (مهما بلغت صور تعبيرهم من التواضع والخوف). الحملات ضد «الكوزموبوليتانية»، ضد «النقاد المعادين للوطنية»، ضد «الدراسات المقارنة» … وهلم جرًّا. كانت المرجعيات الحزبية العليا وستالين شخصيًّا هم أصحاب المبادرة لكل هذه الحملات دائمًا. أصدرت اللجنة المركزية مراسيمها تباعًا بشأن مجلتَي «زفيوزدا» و«ليننجراد» (الاضطهاد المشين لأخماتوفا وزوشينكو)، وريبيرتوار المسارح الدرامية، وعن الفيلم السينمائي «الحياة الكبيرة» (واضطهاد المخرجين السينمائين بودوفكين وأيزنشتاين وآخرين)، وعن أوبرا «الصداقة العظيمة» (واضطهاد المؤلفَين الموسيقيَّين بروكوفييف وشوستاكوفيتش وآخرين)، وهلم جرًّا.
ونتيجةً لكل هذه الممارسات لم يتبقَّ من الدوريات الأدبية سوى عدد قليل من المجلات والصحف: «زفيوزدا» في ليننجراد، و«نوفي مير»، و«زناميا»، و«أوكتابر»، وإلى جانبهم «ليتيراتورنايا جازيتا» في موسكو. إذن، أربع مجلات وصحيفة واحدة وحيدة؛ هكذا كان المشهد الختامي للسياسة الأدبية التي انتهجها ستالين!
بينما بلغت أعداد المطبوعات في سنوات ما قبل الحرب في موسكو وبطرسبورج حوالي أربعين مطبوعةً أدبية، وحتى بعد الثورة إبَّان سنوات ما قبل الحرب، فقد تخطَّت العشر مطبوعات على أي حال.
في تلك السنوات بلغت النظرة الجمالية الحكومية العديمة الشخصية ذات الأفكار البدائية «اللوغاريتمية»، التي دخلت إلى «العملية الأدبية»، ذروتها، وفي وجود كل هذا التعظيم الديماجوجي لخدمات الشعب الروسي و«الدور الرئيسي» ﻟ «الأخ الأكبر»، فإن الطابع المعادي للقومية وللثقافة والأدب في هذه السنوات قد ازدادا عمقًا، وقد ازداد الانقسام أيضًا على نحو دوجمائي بين ما هو «سوفييتي» وما هو شعبي حقيقي وما هو قومي بصورة جوهرية، وجرى إخماد الأدب الروسي واضطهاده أكثر من كل الآداب السوفييتية الأخرى. وفي النهاية، فقد أُرغم الأدب بالكامل على الابتعاد عن العلاقات الجادة مع الحياة الشعبية والخبرة الشعبية. فقدَ الأدب صِلاته بالعالم الداخلي للفنان ذاته. ليس من قبيل الصدفة أن يطالِب الأديب نفسه ﺑ «الإخلاص» و«التعبير الذاتي»، وهو ما تمَّت الإشارة إليه في واحدة من المقالات التي ظهرت في عام ١٩٥٤م، والتي قوبلت في البداية بسخط أيديولوجي بالغ. أي إخلاص يمكن أن يكون، وأي تعبير ذاتي، إذا كان على الكاتب أن يعبِّر عن مصالح الحزب والشعب (كانت كلمة «شعبي» تعني آنذاك «حزبي»؛ إذ كان منظِّرو الواقعية الاشتراكية في ذلك الوقت، إبَّان السلطة السوفييتية، يؤكِّدون أن الشعبي والحزبي متطابقان تمامًا).
كان هذا الأدب هو أدب «نهاية التاريخ»؛ حيث «توقف الزمن»، الأدب الذي يرسم صورة الشيوعية العالمية الكونية (التي أسَّسها في الواقع العمل العبودي من أجل تعظيم فرد واحد، والتي جرى توجيهها بكل ما تملكه القوى العليا لأيديولوجيا قاسية من موارد).
خلاصة القول، فقد عانى الأدب من أصعب أشكال كتم الأنفاس «إعلاميًّا» وأخلاقيًّا، ومنع وصول الهواء إليه كُلية. هكذا راح الأدب يُحتضر من جرَّاء تدهور الروح.
وبينما كانت الأصوات العنيفة الغاضبة تتعالى بالحديث عن الجديد في الأدب وعن ازدهاره الكبير، وفي حِمى وطيس اقتسام غنائم الجوائز «الاحتفالية» وإصدار الكتب وتوزيع المقاعد القيادية، تعالى من بين الصمت الرهيب الذي خيَّم على الشعب صوتٌ واحد مُفعم بالقلق والاكتئاب، متحدِّثًا عن المصيبة التي أحدقت بالفنان:
الأرجح أن الأدب الروسي في هذه السنوات كان يعاني واحدةً من أصعب الأزمات التي مرَّ بها على مدى تاريخه كله.
ومع ذلك فلم يكن أدبًا ميتًا حتى في تلك السنوات الرهيبة، والدليل على ذلك نجده حتى ولو في الأبيات التي استشهدنا بها لتوِّنا من تفاردوفسكي؛ الحقائق الكاملة «مهما كانت مريرة». كُتبت هذه القصيدة في نهاية عام ١٩٥٠م، قبلها بعام في عام ١٩٤٩م شرع ل. ليونوف في العمل على رواية بالغة التعقيد، رواية كما يقولون، متعدِّدة المعاني، هي رواية «الغابة الروسية». وفي عام ١٩٥٢م يأتي ف. أفتشكين حاملًا مقاله المسمَّى «أيام العمل في الأحياء» إلى تفارودوفسكي، الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس تحرير مجلة «نوفي مير». وفي هذا الوقت كان باسترناك يعمل سرًّا في بيته الصيفي في ضاحية بيريديلكينو على كتابة روايته «دكتور جيفاجو». سرعان ما ظهرت في هذه الكتلة الجبارة الصلبة للشمولية شروخٌ مدمرة، لم يكن من الممكن رؤيتها من النظرة الأولى، لكن مثل هذه الاختراقات كانت قليلةً على أي حال، لقد بدا أن الحياة الأدبية الحقيقية آخذة في الاضمحلال، أو على الأقل، تعاني من غيبوبة عميقة.
وفي هذه السنوات أيضًا كان الوضع الأدبي للمهجر شديد الصعوبة.
لقد وصل كتَّاب الجيل الأقدم إلى نهاية الطريق؛ فارق الحياة كل من: ز. جيبيوس (تُوفيت عام ١٩٤٥م)، وف. خوداسيفيتش (تُوفي عام ١٩٣٩م)، ود. ميريجكوفسكي (تُوفي عام ١٩٤١م)، وفي عام ١٩٥٣م تُوفي «إيفان العظيم» إيفان بونين، الذي آثار كتابُه الأخير «المذكرات» (١٩٥٠م) حتى لدى المهجريين إحساسًا لا أساس له، يفتقر إلى اللياقة، وغلظةً في التقدير، وخاصةً من جانب هؤلاء الكتَّاب، الذين قبلوا الثورة ووقفوا في صف البلاشفة، أو من الذين عادوا إلى الاتحاد السوفييتي. هؤلاء كانت تقديراتهم، في حقيقة الأمر، شديدة الحِدة، وكثيرًا ما كانت حقودةً ظالمة. أظن أنه من الممكن ربطها بتلك الظروف التي كُتبت في سياقها هذه المذكرات. وحتى لو كان بها قدر من الغموض، فقد جاء ذلك نتيجةً للإحباط العميق، الذي عانى منه بونين بسبب تطوُّر الأحداث التي وقعت في الاتحاد السوفييتي في سنوات ما بعد الحرب؛ تعاظم الستالينية؛ تراجع الثقافة؛ والأهم، السلوك غير اللائق من جانب الأدباء، الذين قدموا في الأغلب، خدماتٍ للسلطة الاستبدادية الهدَّامة. لم يكن من الممكن ألَّا يؤثِّر ذلك على «الملاحظات الغاضبة» التي أبداها إيفان بونين، والتي جعل منها ملاحظات ذاتيةً حادة، لا يمكن قراءتها خارج سياق ذلك الزمن، زمن اليأس والقنوط.
وهناك ملحوظة أخرى بشأن أدب المهجر الروسي. لقد أُطلق على الجيل الثاني من كتَّاب المهجر الروسي اسم الجيل «المُهمَل»، «الغائب»، وهؤلاء كان من بينهم كتَّاب متوسطو الموهبة مثل الروائي ج. جازدانوف، والشاعر ب. بويلافسكي. افتقدوا جميعًا الصلة بالوطن باعتباره مصدرًا للإبداع، وهو ما كان يمثِّل مأساتهم الشخصية.
لكن الوضع في الوطن لم يكن أفضل. لقد أضاع الأدباء، الذين لم يفقدوا في كثير من الأحيان موهبتهم، أضاعوا بأنفسهم مصدر إبداعهم، من فيدين وتيخونوف، حتى ص. بايايفسكي، وب. بافلينكو، وج. نيكولايف، وف. أجايف. هؤلاء قطعوا بأيديهم هذه العلاقات الصعبة، وإن تكن خصبة، بعد أن راحوا يكسبون عيشهم من النظام الإدراي الرئاسي الستاليني.
هذا ما وصل إليه الأدب الروسي مع بداية الخمسينيات. لقد اختفى المستقبل لأسباب متعدِّدة، سواء هنا أو هناك في الخارج؛ نتيجة ثقيلة متشائمة. لم يبقَ أمامنا إلا أن نعيد كلمات يفجيني زامياتين القديمة: «مستقبل واحد فحسب ينتظر الأدب الروسي هو ماضيه.»
ولكن في مارس من عام ١٩٥٣م يموت ستالين.
وهنا يعود تاريخ الأدب الروسي ليستأنف مساره من جديد.
(١٤) أدب زمن «ذوبان الجليد» (١٩٥٦–١٩٦٨م)
في بداية الأمر راحت الأحداث تتطوَّر على نحو خامل تمامًا. كان القصور الذاتي للركود والرعب اللذين سادا السنوات الأخيرة لحكم ستالين هائلًا. «ذوبان الجليد» هو ذوبان الجليد، ارتفاع في درجات الحرارة وسط البرد القارس. في بدايته لم يقدِّم «ذوبان الجليد» جديرًا يُذكر، وإنما راح يحطِّم «القديم».
لم يكن لبِنية البيروقراطية أن تتخلَّى عن قمة السلطة. في منتصف عام ١٩٥٤م، نشرت «نوفي مير» (التي كان يرأس تحريرها آنذاك أ. تفاردوفسكي) عددًا من المقالات (بأقلام كل من: ف. أبراموف، وم. ليفشين، وف. بوميرانتسيف، وم. شيجلوف)، عرضت فيها المجلة بشكل غير مألوف تقديرات مباشرةً وتحليلية خالية من الابتذال لعدد من الظواهر الأدبية. وعلى الفور نجح أصحاب المقامات الأدبية الرفيعة في إدانة المقالات حزبيًّا ومؤسسيًّا (القرار الختامي للجنة المركزية)، عندئذٍ اضطُر تفارودفسكي للابتعاد مؤقتًا عن المجلة.
على أنه بحلول نهاية العام، وفي المؤتمر الثاني للكتَّاب (بعد مرور عشرين عامًا على المؤتمر الأول) نال «توجُّه» «العالم الجديد» في الواقع تأييدًا كبيرًا. تمَّت إزاحة القوى المحافظة التي شغلت أماكنها بالتعيين في اتحاد الكتَّاب، وتراجعت الشخصيات المقيتة إلى الصف الثاني، لتصعد إلى القيادة الشخصيات الأقل سوءًا: ق. فيدين، ون. تيخونوف، وس. شيباتشيف. وفي عام ١٩٥٩م يعود أ. تفارودفسكي لرئاسة تحرير «العالم الجديد».
شيئًا فشيئًا استعادت البِنية التحتية للحياة الأدبية عافيتها، وبدءًا من عام ١٩٥٥م، وعلى مدى الخمسة عشر عامًا التالية ظهر العديد، نسبيًّا، من المجلات الجديدة: «يونوست» (الشباب)، و«نيفا» (١٩٥٥م)، «إينوسترانا يا ليتيراتورا» (الأدب الأجنبي) (١٩٥٥م)، «فوبروسي ليتيراتوري» (قضايا الأدب) (١٩٥٧م)، «ناش سوفريمينيك» (معاصرنا)، و«مولودايا جفارديا» (الحرس الفتي) (بدأَت في استئناف صدورها منذ عام ١٩٥٦م)، «موسكفا» (موسكو) (١٩٥٧م)، «أفرورا» (الفجر)، صحيفة «ليتيراتورنايا راسييا» (روسيا الأدبية)؛ كما بدأت في الظهور دُور نشر جديدة: «سوفييتسكايا راسييا» (روسيا السوفييتية)، «سوفريمينيك» (المعاصر)، «مولودايا جفارديا»، بينما أخذت دُور النشر الثلاث: «بروجرس» (التقدُّم)، «مير» (العالم)، «رادوجا» (قوس قزح) في نشر الأعمال المترجمة.
أحدث ظهور التقويم الأدبي «ليتيراتورنايا موسكفا» (موسكو الأدبية) في عام ١٩٥٦م، وخاصةً الإصدار الثاني (الذي ضمَّ قصائد لكلٍّ من مارينا تسفيتايفا ونيكولاي زابولوتسكي، وقصة قصيرة ﻟ «أ. ياشين» «العتلات»، بالإضافة إلى المقال الذي كتبه أ. كرون)، أثرًا قويًّا. أما التقويم الأدبي «طاروسكي سترانيتسي» (صفحات طاروس) (١٩٦١م) فقد أثار ضجةً واسعة، على الرغم من أنه صدر في الريف، كما أثار احتجاب التقويم الأدبي «متروبول» (١٩٧٩م) عن الصدور ضجةً أكبر وأوسع انتشارًا؛ حدث ذلك على تخوم «البيريسترويكا»، وبالتدريج راح «الحصار» الإعلامي يضعف لتعود الذاكرة الأدبية على وجَل وبالتدريج لتبدأ على أي حال أصوات جديدة شابة في الارتفاع. راحت أسماء: م. بولجاكوف، وأ. بلاتونوف، وإ. بونين، وأ. أخماتوفا، وم. زوشينكو، وت. باسترناك تتردَّد بقوة.
كانت العلاقة الموصى بها تجاه الستالينية تشكِّل قاسمًا مشتركًا بين القوى «التقدمية» «الجديدة» والقوى «الرجعية» «المحافظة» في الأدب. وتحت راية «التجديد» و«تطهير الأفكار الثورية» عملت مجموعة كبيرة من الأدباء الشباب آنذاك وعلى نحو صاخب وملحوظ، وأُطلق عليهم فيما بعدُ «الستينيون»، أما هم فقد أطلقوا على أنفسهم ببساطة اسم «نحن الشباب» (ف. أكسيونوف، وب. أخمدولينا، وأ. فوزنيسينسكي، وف. فوينوفيتش، وأ. جلاديلين، وف. جورينشتاين، وج. جوريشين، وي. يفتوشينكو، وف. إسكندر، وف. كونيتسكي، وأ. كوزنيتسوف، وب. أكودجافا، ر. روجديستفينسكي، والأخوان ستروجاتي (أ وب)، وأ. سينيافسكي …).
تعرَّض هذا الجيل الذي دخل إلى مجال الأدب في آنٍ واحد إلى مصير دراماتيكي تمامًا بعد حين (نؤكِّد هنا على أن واحدًا من بين كل اثنين ممن ذكرناهم اعتُبر بمرور السنين من «المنشقين»). البعض تم نفيه والبعض الآخر قدِّم للمحاكمة أو إلى «الفضح» الرسمي (إ. برودسكي، وأ. سينيافسكي وغيرهم)، والعديد منهم وصلوا إلى القارئ عبر «الساميزدات» و«التاميزدات».
كانت الطرق التي سلكها هؤلاء متعرِّجةً ومتناقضة، وبطبيعة الحال، كان هناك العديد من الأمور التي فرَّقت بينهم على المستوى الفردي. كان أكثر «الشباب» الذين وقفوا ضد الستالينية، انطلاقًا من مواقف ثورية جامحة، كانوا يُطالِبون بشكل تغلب عليه العاطفة، ببعث المُثُل الحقيقية للاشتراكية، منادين ﺑ «لينين حقيقي» و«بلاشفة متحمِّسين»، لا تشوبهم شائبة على غرار الحمر أبطال الحرب الأهلية. هذا النموذج من «الشباب» كان يشبه، من الناحية النفسية «الستينيين» في القرن الماضي، الذين بدَوا أيضًا طوباويين وحالمين على نحو أكبر من كونهم مفكرين وعمليين. وإذا كان محبو الحرية الجُدد «غير بعيدين تمامًا عن الشعب»، فإنهم لم يكونوا قريبين جدًّا منه. لقد أعمى الحماس الثوري عيونهم بشدة. سرعان ما أدركوا هم أنفسهم ذلك، في منتصف الستينيات، عندما أخذ «ذوبان الجليد» في التناقص، كتب يفتوشينكو ناقدًا ذاته بقوله:
ولكن «اقتلاع الجذور» استمر على مدًى زمني طويل وعلى نحو مؤلم، ولم ينتهِ حتى الآن. لا شك في سذاجة إدراك «الستينيين»، الذين لم تكن جذورهم ضاربةً في أعماق الأرض، بل كانت تتغذَّى في كثير من الأحيان على الأوهام الطوباوية للقرن الماضي. لكن الفضل التاريخي الذي لا يُنكَر لهذا الجيل على الثقافة يعود على الأرجح لمَا امتلكه من طابع أخلاقي، وفي كونه الجيل الأول في التاريخ السوفييتي، الذي أعلن جهارًا عن قيم الحرية الداخلية للفرد، عن الحق في الإخلاص وفي «حرية الذات».
كان هناك أيضًا سبب مهم وراء الصراع بين «الستينيين» و«الواقعية الاشتراكية» الدوجمائية؛ لقد تحدث «الستينيون» في نثرهم وشعرهم بلغة جديدة حرة مبتكرة، وبهذه اللغة ذاتها، كسروا التوصيف القانوني للأسلوب، الذي وُضع في زمن الطابوهات (من الملائم هنا أن نتذكر كلمات يوسف برودسكي حول أن الشاعر الحقيقي تتم ملاحقته لا بسبب الحرية السياسية، وإنما من أجل مطالبته بحرية اللغة). لقد كانت الأصوات الصادر عن أحاديثهم نفسها هدمًا للنظام وإهانةً للسمع.
جيل صاخب ومجدَّد، على الرغم من أنه اصطدم بهذه الموجة العكرة، التي طوَّحت به عبر أدب نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات. لقد كان الأول، الذي تلقَّى الضربة القوية من «المعيَّنين» الأدبيين ومن الحزبية الأيديولوجية، التي لم تسعَ مطلقًا إلى أن تحرِّر الأدب من قيوده. لقد أصابت هذه الضربة «الشباب» إصابةً بالغة، عدد قليل منهم فقط هو الذي استطاع أن يُبدي مقاومةً جادة لهذه الضغوط التي مورست عليه.
بانتهاء «ذوبان الجليد» عادت الستالينية إلى الحياة الاجتماعية، وعندئذٍ لم يعد أمام «الستينيين» إلا أن يقبلوا بالحلول الوسط (وهو ما حدث كثيرًا)، أو يقطعوا صلتهم بالنظام (الأمر الذي حدَّد أيضًا مصائر ومسيرة «الستينيين»، وهؤلاء تحديدًا هم الذين انضمُّوا إلى الموجة الثالثة للمهجر، بدايةً من الستينيات وحتى مجيء «البريسترويكا»).
كان لدى الأدباء الشباب أيضًا صورة روحية مختلفة في الكثير من جوانبها، وهم الأدباء الذين دخلوا إلى الأدب في سنوات «ذوبان الجليد نفسها»، ولكنهم كانوا أقل صخبًا؛ فلم يصدروا أي بيانات أو يشاركوا في مظاهرات، كما أنهم لم ينجذبوا تقريبًا لمفهوم «الجيل»، إنما الذي قارب بينهم بدرجة كبيرة هو الاهتمامات الروحية والتقارب بعيدًا عن المصير الشخصي، هذه الاهتمامات التي تتطلَّع إلى براح المصائر الشعبية. من بين هؤلاء الشباب خرج من عُرفوا ﺑ «الريفيين» (من الروائيين: ف. أبراموف، وف. أسطافييف، وف. بيلوف، وف. راسبوتين، وف. شوكشين، وكازاكوف (جزئيًّا)، وب. سيرجونينكوف، وف. ليلانيكوف؛ وعلى مقربة منهم كان هناك الشعراء: أ. بيريرييف، ون. روبتسوف، وأ. براسولوف، وج. جوربوفسكي، وبعيدًا عن «الستينيين الشباب» كان هناك أيضًا الشعراء الغنائيون المفكرون الواعدون، والمحللون لحياة المدن، والبعيدون عن الشهرة؛ الروائيون: ف. ماكنين، وأ. بيتوف، وأ. كيم، وج. سيميونوف، ود. جرانين، وف. تشيفنوف؛ وأحيانًا: ر. بوجودين؛ والشعراء: أ. كوشنير، وإ. برودسكي، وف. كورنيلوف …).
لكن مسيرة العديد منهم كانت كلها لا تزال في المستقبل البعيد، خارج حدود «ذوبان الجليد».
لفترة ما، انتقلت الأحداث الرئيسية للحياة الأدبية على تخوم الخمسينيات والستينيات إلى المناظرات الصحفية المبدئية (وخاصةً في تلك المواجهة المشهودة التي جرت بين مجلتَي «العالم الجديد» و«أكتوبر»، جدير بالذكر هنا أيضًا تلك المناظرة التي شاركت فيها أيضًا مجلة «الحرس الفتي» والتي دارت رحاها على الرغم من أنها انطلقت من مواقف متناقضة تمامًا دفاعًا عن التقاليد والقيم القومية). ننبِّه أيضًا إلى الأهمية الكبيرة للعمل الذي قام به تفاردوفسكي، الشاعر ورئيس تحرير «العالم الجديد». لقد ارتبط بهذه المجلة كل النشر الكبير تقريبًا في هذه السنوات من أبراموف وشوكشين إلى تريفونوف وسولجينتسين. لقد فتحت الأعمال التي قامت «العالم الجديد» بنشرها عملًا روحيًّا منعشًا، وهزت الكثير من الرُّقى والأصنام التي خلقتها الأيديولوجية الشمولية، وعلى الرغم من كل ذلك فإنه لم يكن بمقدورها دائمًا أن تتخطى بعضًا من الدوجمات «الشيوعية».
تغيَّرت أحوال الحياة الأدبية في هذا العقد على نحو جارف. ويرجع الفضل الأول ﻟ «ذوبان الجليد» إلى حد معين لِما جرى خلاله من «ترميم». في هذه السنوات تم تجديد ومناقشة تاريخ الأدب الروسي للقرن العشرين، والذي تعرَّض للتزييف خطوةً وراء الأخرى. بدأت عملية «إعادة الاعتبار» للكتَّاب المضطَهدين، وأُعيد إصدار أعمال أرتيوم فيسيولي، وإ. بابل، وإ. كاتايف، وأ. فورونسكي، وب. فاسيليف، وب. كورينلوف، ولو في طبعات شديدة التواضع. ظهرت قصائد م. تسيفتايفا، واستمرت «العالم الجديد» في نشر مذكرات إيليا إهرنبورج: «الناس، السنوات، الحياة». وعلى الرغم من ذاتيتها، فإنها خلخلت على نحو جاد الصورة النمطية الدوجمائية لوصف الحياة الثقافية والأدبية السوفييتية. وبينما كان «ذوبان الجليد» يلفظ أنفاسه الأخيرة تم نشر رواية بولجاكوف «الأستاذ ومرجريتا».
ثانيًا: في هذه السنوات تحديدًا حل الزمن، الذي أصبح فيه بالإمكان إظهار خبرة كتَّاب جيل الحرب، والتي ظلت لمدة طويلة غير مطلوبة. في النهاية أصبح لهؤلاء حق الحديث، ومنذ ظهور أعمالهم الأولى برزت صورة جديدة تمامًا غير مألوفة «لحرب الخنادق» الخشنة القاسية دون زيف أو أوهام. ومع هذا فقد احتل المبدأ الرمزي هنا مكانةً صغيرة، ولكنه ترك انطباعًا هائلًا يختلف تمامًا عن الانطباع الذي تركه م. شولوخوف «السنيي» في قصته «مصير إنسان» (١٩٦٥م). في هذه القصة تحدَّث شولوخوف عن الحرب على نحو عميق وعن الأهم فيها، حتى إن العقود الأربعة التالية من «النثر الحربي» لم تفعل شيئًا سوى أنها راحت تفك شفرة الاستعارة التراجيدية في «مصير إنسان» (أندريه سوكولوف عند شولوخوف يبدأ حكايته عن الحرب بقوله: «تنظر إلى الظلام بعيون فارغة وتفكر: لماذا طعنتِني أيتها الحياة؟ لماذا قضيتِ علي؟ ليس لديك إجابة على أسئلتي، ولست أنتظرها منك!»).
بالنسبة لأدب ما بعد الحرب، الذي كُتب تحديدًا عن الحرب، لم تُطرح على وجه العموم أي أسئلة. كان على الأدب الروسي الجديد أن يحصل على الإجابات بفضل ما يبذل من جهد غير عادي، متجنبًا الأساطير، المرتبطة بالمباهاة، بالانتصار في الحرب. شكَّل ما عُرف باسم «أدب الخنادق»، الذي كتب في سنوات «ذوبان الجليد» البداية غير الرديئة، والتي أثارت قلقًا حادًّا لدى الكتاب «المُعيَّنين» (كانت أولى الروايات والقصص لكل من: أ. أنا نييف، وف. بوجومولوف، وج. بالكلانوف، وي. بوندارييف، وب. أكوجافا، وق. فوربيوف، وف. كوروتشكين …).
رابعًا: ترتبط سنوات «ذوبان الجليد» بالإدراك الذاتي لِما عُرف باسم «نثر المدينة»، باعتباره رد الفعل الحاد للإنسان المعاصر على مسيرة التمدين التي تميَّزت بالجموح والخداع، والتي أنزلت في حقيقة الأمر خسارةً فادحة بعلاقة الإنسان بالطبيعة، وكانت سببًا في وحدته المضنية وأغرته بالاتساق مع «الثقافة الجماهيرية». خطَت الأعمال الأساسية ﻟ «نثر المدينة» أيضًا خطواتٍ للأمام، على أنه وفي نهاية سنوات «ذوبان الجليد» ظهرت نوعية جديدة في هذا الأدب على يد يوري تريفونوف، وهو أحد رواد هذا الاتجاه في الأدب.
تُعتبر الستينيات والسبعينيات هي زمن النضج الإبداعي للشعراء الموهوبين من «أصحاب الفكر المدني»: أرسين تاركوفسكي، وفلاديمير كورنيلوف، وسيميون ليبكين، وبوريس تشيتشبابكين، ودافيد صمويلوف، وناءوم كورجافين، وألكسندر كوشنير …
كان زمن «ذوبان الجليد» مشبعًا ﺑ «الصقيع»، ولم يكن باستطاعة هؤلاء الكتَّاب أن يوقِفوا من قدومه.
في حِمى «التوجه الليبرالي» الخرشوفي، كانت هناك شواهد عديدة على أن النظام القديم لا يمكن إصلاحه، وأنه نظام متناقض جذريًّا مع الحاجات العميقة للحياة الشعبية والقومية (بل «مهيأ» لمحاربة من يعادون «عبادة الفرد»). ليس من قبيل الصدفة أن ظهر في هذه السنوات تحديدًا أدب كان بمثابة رثاء حزين للقرية وللريف الروسي. في زمن خرشوف ثم بريجينيف من بعده، جرى في الواقع تدمير القرية الروسية نهائيًّا باعتبارها نموذجًا لحياة الملايين من البشر. وفي الوقت نفسه تم شن هجوم ضارٍ على الأرثوذوكسية وعلى الدين، سواء في ظواهره اليومية أو الثقافية أو التاريخية، وفي هذه الفترة شغل الإلحاد المعادي للثقافة مساحةً كبيرة.
أصبح القمع، الذي تعرَّض له ب. باسترناك، حين أقدموا في السويد على منحه في عام ١٩٥٨م، بلا إذن، جائزة نوبل، أصبح عملًا عدوانيًّا ضد الكلمة الحرة الحقيقية، وضد الإبداع الكامل المستقل. أضف إلى ذلك أنهم في الخارج نشروا، مرةً أخرى دون استئذان، القيادة الأدبية والحزبية، رواية «دكتور جيفاجو» «المثيرة للشك». هذا ما لم يكن يسمح به النظام. عندئذٍ اتخذت المؤسسة أكثر قراراتها قسوةً وفعالية؛ حملة «إدانة» واسعة للشاعر، طرده من اتحاد الكتَّاب، تهديده بالنفي عن البلاد. ولكن الآراء تضاربت هنا؛ فعلى الرغم من انتصار «الجهات» الإدارية دون جهد، فإن هذا العمل فقد هيبته أخلاقيًّا تمامًا، وهو ما تكرَّر بعد فترة قصيرة إبَّان المحاكمات التي تعرَّض لها الشاعران: أ. سينيافسكي ويوري دانييل، ثم مُصادرة رواية ف. جروسمان «الحياة والقدر»، وهلم جرًّا. لقد توقَّف النظام بشكل واضح عن إدارة سريان الأفكار فقط؛ لأن البلاد كانت — وأنا هنا أستخدم تعبير ب. باسترناك — تُعاني من «مرض عضال».
على تخوم حقبتين زمنيتين هما تحديدًا «ذوبان الجليد» و«الركود» من الإحباط إلى «الإصلاحات المبتسرة» لخروشوف، وُلدت حركة الانشقاق، التي راحت «الساميزدات» و«التاميزدات» في توظيفها بشجاعة تامة وعلى نطاق واسع (فمن خلال «الساميزدات» ظهر العديد من أعمال الأدب الروسي المتميزة. نذكر هنا: الأعمال غير المنشورة لبولجاكوف، وبلاتونوف، و«القداس الجنائزي» لأخماتوفا، و«بحق الذاكرة» و«تيوركين في العالم الآخر» لتفاردوفسكي، و«جناح السرطان»، و«في الدائرة الأولى» لسولجينتسين، وأعمالًا أخرى كثيرة …).
باختصار، فبحلول منتصف الستينيات، أصبح من الجَلِي أن النموذج الشمولي المتداعي قد توقف عن العمل، وأنه فَقَد السيطرة الحقيقية على الحركة الأدبية. وفي هذا يكمن الاختلاف الجذري بين أدب زمن «الركود» الذي حل سريعًا، وبين المصائر الأدبية في ذلك العقد التراجيدي الذي سبق الحرب. عشرون عامًا من «الركود» هي زمن عملي جاد، وُضعت فيه مكتبة كاملة من الأعمال الرائعة، التي ستبقى في حياة الأدب زمنًا طويلًا، أعمال تختلف تمامًا عن تلك الأعمال المزيَّنة والمزيفة التي لم تعِش سوى يوم واحد في زمن ستالين، مهما جرى تغطيتها بطبقة من الجوائز المذهَّبة.
(١٥) أدب أزمنة الركود (نهاية الستينيات وحتى الثمانينيات): الانهيار والنهوض
هذا زمن انهيار النظام الشمولي الإداري السابق في الأدب ونهوض النموذج العضوي للتطوُّر الأدبي. زمن الانهيار البطيء، الذي أصاب الثقافة على نحو خطير، وزمن النهوض البطيء والمؤلم والفطري الذي لا تراجع عنه، ومهما وُجِّهت من لعنات لأزمنة «الركود» في الأدب، فإنها كانت أزمنةً للعمل الجاد، للتراكم والجمع، للتطور العضوي، الذي غيَّر الحياة الأدبية في كثير من أوجهها (على الرغم من أن اللعنات اليوم لم تعد على هذا النحو من الصخَب، بينما كانت السنوات ملبَّدةً — هباء! — بدخان الحنين إلى الماضي).
في هذه السنوات حصل على جائزة نوبل كل من: م. أ. شولوخوف (١٩٦٥م)، وأ. إ. سولجينيتسين (١٩٧٠م)، وإ. أ. برودسكي (١٩٨٧م).
أما الأسماء التي ظلَّت هي الحاكمة إبَّان عصر بريجينيف، والتي اقتنعت الآن أنه لم يعد لها اليد العليا كما كان الأمر من قبل، وإن كان لا يزال بإمكانها كسابق العهد أن تحصل على بعض المكاسب كونها مدعومةً من وضع اللامبالاة العام، فقد هجرت الأدب أساسًا واشتغلت ببناء مجتمع الوفرة لصالحها الشخصي (الحقيقة أن النظام كان لا يزال كسابق عهده يُدافع بقوة عن مصالحه في مواجهة النقد المباشر ﻟ «المنشقين» و«دعاة حقوق الإنسان»).
وعلى الرغم من أن الكلمة استعادت لنفسها حريةً أكبر، فإن ذلك لم يتحقَّق على نظام واسع أو دون عوائق. في ذلك الزمن بدأ الأدب «الممنوع» في التسرُّب عبر الموانع كافة، متشبِّثًا بقوة بالثقافة، وإن جرى ذلك عبر دفقات صغيرة، بل أحيانًا قطرةً فقطرة. نُشرت رواية بولجاكوف الكبرى «الأستاذ ومرجريتا» علنًا لتصبح هي الرواية الأكثر شعبية، وعلى أثرها قرأ الناس مسرحياته ونثره الهجائي المبكِّر، سواء عبر «الساميزدات» أو في مطبوعات المهجر. بالطريقة نفسها عادت الأعمال «الممنوعة» لكلٍّ من ماندلشتام وبلاتونوف، كما عادت «دكتور جيفاجو» وغيرها. عدد من أعمال الكلاسيكيين في القرن التاسع عشر أصبح متاحًا أيضًا للمرة الأولى على نطاق واسع، على سبيل المثال: «مختارات من المراسلات مع الأصدقاء» ن. جوجول، وخطابات ب. ي. تشاداييف، وللمرة الأولى أيضًا تم إصدار أعمال ن. ستراخوف والأخوين كيرييفسكي، وف. سولوفيوف ون. فيودورف. وبدأ الناس في قراءة بيرداييف والفيلسوف س. بولجاكوف، وإن جرى ذلك بحذر شديد.
ومن الواضح أن المناظرات التي جرت وقائعها على صفحات المجلات قد خفَّت حِدتها الفكرية السابقة (بينما تعاظم في الوقت نفسه الصراع على الحصول على المميزات بين أفراد النُّخبة المثقفة). تدريجيًّا تراجعت في مظاهر الحياة الأدبية اليومية كافةً حدة التطرُّف الأيديولوجي والتعصب.
نقول في إيجاز إنه بالنسبة للعلاقة بين السلطة والأدب فقد حل زمن المساواة، وهي مساواة ليست مبدئيةً للغاية وليست براجماتية، وإنما مساواة أتاحت الفرصة لكل من الجانبَين أن يقوم بعمله على نحو من الحماس كل وفقًا لذائقته. وبالنسبة للعديد من الأدباء ظلَّ هذا الحماس ممثَّلًا في الأدب والمخطوط والنص والكلمة.
وهذا الأمر، في تركيبه العام، جعل من زمن «الركود»، في ظروف التطرُّف الحاد وانتكاسات النظام الشمولي في بعض الأحيان (النفي القسري لسولجينتسين في عام ١٩٧٤م، والاضطهاد المتعسِّف ﻟ «دعاة حقوق الإنسان» ومن أشهرهم الأكاديمي ألكسندر ساخاروف، انتصار المؤسسة على التجريب الأدبي، على سبيل المثال: النقد اللاذع شبه الساخر الذي وجَّهته للتقويم الأدبي «متروبول» في عام ١٩٧٩م، وهلم جرًّا) زمنًا للعمل المُثمر في مجال الأدب لكل من كانت لديه الرغبة والقدرة على العمل تقريبًا. وهو تأكيد آخر على صلابة المبدأ الاجتماعي المبتذل للأدب ذي المدلول الواحد «المرتبط» بتيار العملية الاجتماعية؛ فالركود في الحياة الاجتماعية كان من الممكن أن يؤدي إلى نهوض أدبي والعكس صحيح، فلا يوجد هنا أي ارتباط مباشر بين الركود والنهوض.
أصبح رفض الأدب للادعاءات بالتحدث الرسمي باسم «الشعب» و«المجتمع» و«الدولة» هو الدليل الجوهري على اضمحلال نموذج العملية الأدبية، الذي ظل مهيمنًا على مدى نصف القرن الماضي. ولم تعد توصياته تؤخذ على أنها مُلزمة بشكل عام، وقد أدَّى ضعف الاحتكار الحكومي، الذي كان يقود الرقابة الأيديولوجية على الأدب وعلى القراءة، إلى انفصال الأدب نفسه عن قُرَّائه.
أحيت الحركة الذاتية للروح الإبداعية، بوسائلها المرتبطة بحياة الشعب والعالم، بعيدًا عن العمل في كنَف القيادة، كل ما هو أفضل وأصيل، وهو ما ظهر في الأدب في تلك السنوات. لم تتضمَّن توجيهات مؤتمرات اتحاد الكتَّاب السوفييت أو اجتماعاته، على سبيل المثال، أيَّ خطط ﻟ «الأدب الريفي» أو «أدب المدينة» على الإطلاق. هذا الإصرار على حرية الفنان سنجده أيضًا في بعض تناقضاته، يتعلَّق الأمر هنا بأدب «الأندرجراوند» (الأدب السري)، الذي اشترط على نفسه حب الحرية. يكمن تناقض «الأدب الروسي» في أنه بطبيعته لا يستطيع الظهور إلا في ظرف الاستعباد فقط، وهو يحتاج إلى الصراع مع شيء آخر وإلى المواجهة والمحاكاة والسخرية حاجة الإنسان إلى الماء والهواء. باختفاء «الأدب الحكومي» من الساحة قرنًا من الزمن، اختفى معه قرينه الساخر، الأندرجراوند، ليصبح هو أيضًا من الماضي.
أعطى غياب القسر السابق للقارئ أيضًا وللمرة الأولى إمكانية الاختيار.
وفي هذه السنوات أصبح القارئ هو العامل النشيط في العملية الأدبية. ولكن القارئ الجماهيري، الذي لا يملك الإرادة، أو إن شئت الدقة، الذي تم إعداده بواسطة التوجيهات النمطية الاجتماعية المبتَذَلة والتافهة، القارئ الذي تحرَّر جزئيًّا من التبعية البغيضة، اندفع لا إلى الأدب الحر الموهوب، وإنما إلى النصوص الخالية من الأفكار العميقة، التي وُضعت للاستهلاك. وللمرة الأولى بعد نصف قرن يظهر الرواج في سوق الأدب على نحو عَفْوي، يفتقر إلى الثقافة، ولكنه أصبح على أي حال دليلًا على ما جرى من تحولات.
نسأل القارئ أن يلقي نظرةً سريعة على الفُسيفساء الأدبي في تلك السنوات.
دفعت عمليات «التمدين» و«التضليل العام»، المرتبطة بتحولات السوق، التي لا تنقطع ﻟ «أنماط السلوك»، دفعت القارئ الجماهيري نحو طلب الأدب «الموجَّه» المخفَّف، إن صح التعبير، من النزعة الاجتماعية ونحو النصوص المبسطة، كما أوجدت الحاجة إلى إصدار مجموعة من التوصيات في مجال ما عُرف باسم «أسلوب الحياة السوفييتية»، أو إن شئت الدقة، إلى نوع مميز من الوصفات المؤكَّدة. ومن أجل خدمة هؤلاء القراء ظهرت دائرة واسعة من القصص الملائمة للأذواق كافة. وكان النموذج الأقرب لأدب «الواقعية الاشتراكية» الآخذ في الزوال هو الأدب «الدعائي التعليمي». كان أدبًا مألوفًا وحقَّق نجاحًا كبيرًا لدى قراءٍ من نوعية محدَّدة (روايات: أ. إيفانوف، وب. بروسكورين، وج. ماركوف، وأ. تشاكوفسكي، وإ. ستادنيوك، وأ. بروخانوف وغيرها). كانت روايات ي. بوندارييف هي أكثر أنواع هذا الأدب جماليًّا و«نخبويًّا».
في هذه السنوات ازدهرت «الروايات البوليسية» على نحو كثيف (كانت دار نشر «جوسليتيراتورا» (دار النشر الحكومية) تتعامل مع هذا النوع من الروايات باستنكار)، وفي هذه الوقت أيضًا ظهرت الروايات الخيالية المتنوعة، وعايشت بشكل جارف المراحل كافة، من الازدهار وحتى الانهيار (وتنتسب أفضل الكتب التي كتبها الأخوان أو ب. ستروجاتسكي، وإ. يفريموف إلى الأدب الكبير ومشكلاته)، كما حقق الأدب المليودرامي أيضًا نجاحًا كبيرًا.
في تلك الفترة أصبح ف. بيكول واحدًا من أكثر الكتَّاب رواجًا، ولطبيعة نجاح مؤلفاته التاريخية أسباب معروفة تمامًا؛ فقد تجاوز بشجاعة البناء الحديدي للتصميمات الطبقية التوضيحية في وصف أحداث التاريخ الوطني، وملأ العديد من «الحلقات المفقودة» المثيرة. وفي النثر التاريخي لبيكول في الظروف المتاحة (تناول بيكول هذه الظروف في أحيان كثير على نحو «مبسط») نجد لديه الإنسان الحائر، المضلَّل، الذي تعب من مسيرة الحياة الروتينية، وهو يتعايش مع الاقتراب المنعش من الشخصيات الكاملة، البعيدة عن العُقَد الانتهازية المُهينة. لقد غضَّ الروائي هنا النظر عن الميل ناحية الوعي الجماهيري. لقد راق لقُراء بيكول، الذين شعروا بالضجر تجاه «الركود» الممل الرديء، راق لهم روح المغامرة، تذوَّق الفضائح، الإثارة وفي الوقت نفسه الاهتمام المخلص للتاريخ الوطني، السعي نحو إيقاظ الوعي الذاتي القومي الحي.
اقترن بذلك أيضًا الشعبية المؤكدة لنثر المغامرات السياسية لأديب «الركود» الآخر المُدلل ي. سيميونوف، الذي استغلَّ بشكل صحيح فقر المعلومات لدى القارئ واشمئزازه من الشكل الدعائي النمطي في وصف الحياة في الخارج. على أي حال، ففي السنوات الأخيرة، فيما عُرف بزمن «البيريسترويكا»، عندما أصبح بمقدور القُراء أن «يعيشوا على نحو أفضل وأكثر مرحًا»، من دون ف. بيكول، وي. سيميونوف، سقطت شعبية أعمالهما أمام الجميع وهما الآن، وخاصةً سيميونوف، لا يحظيان بالشعبية التي اكتسبتها كتب الجنس أو الروايات البوليسية المترجَمة. إن التربة التي خلقتهما قد أصبحت ماضيًا.
لكن الحدث الرئيسي للأدب في هذين العقدين تمثَّل، بطبيعة الحال، في تطوير موضوعات النثر، الذي ظهر قبل ذلك إبَّان سنوات «ذوبان الجليد».
هو «نثر الحرب»، و«نثر الريف»، و«نثر المدينة».
لقد كان «نثر الحرب» هو أقلَّهم حظًّا آنذاك؛ ففي سنوات «الركود» لم يذهب هذا النثر أبعد من «نثر الخنادق»، الذي ظهر في نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات: «إيفان» لبوجومولوف، وروايته الأخرى الرائعة «لحظة الحقيقة»، «قتلى على أبواب موسكو» لفوروبيوف، «الحرب هي الحرب» لكوروتشكين، قصص ف. بيكوف، القصص الأولى لبلاكلانوف، روايتا ي. بوندارييف «الهدوء» و«اثنان»، جميعهم ظلوا النقطة السامقة، التي راح الجنود السابقون الذين حاربوا على الجبهة يتطلَّعون إليها. أضف إلى ذلك، بطبيعة الحال، «مصير إنسان» لشولوخوف، وهي الرواية التي تُعد الرمز والمغزى والتي ينبغي على الكتَّاب الجدد اكتشافها.
لماذا إذن أعاق «الركود» «نثر الحرب»؟ أعتقد لأنه كان من الأسهل على النظام الحاكم أن يحافظ بهذه الطريقة على استمرار العلاقة مع الستالينية، وأن يصبح بإمكانه أن يتطفَّل على الأساطير والتعاويذ، التي تربط بين الحروب والانتصار باسم الديكتاتور. ولهذا فإن ذكرى الحرب ظلت هي نقطة الارتكاز الأيديولوجية للنظام والموضوع الأكثر خطرًا بين باقي الموضوعات، لِما تحتويه من حقيقة مريرة، علاوةً على إضفاء صبغة القداسة والتحريم عليها. وقد استطاعت البيروقراطية الأدبية والأيديولوجية، التي خسرت مواقعها أن تنتقم لنفسها في هذا المجال، وقد فعلت. يكفي أن نتذكَّر تطوُّر موضوع الحرب عند ق. سيمونوف في ثلاثية «الأحياء والأموات»، وعند ي. بوندارييف من «السكون» إلى «الشاطئ» و«الاختيار». ولعل أكثر هذه الإشارات على الانتقام الرسمي نجدها واضحةً في روايات أ. تشاكوفسكي «الحصار» و«النصر»، وفي رواية الحرب التي كتبها إ. ستادنيوك، وهلم جرًّا.
في السنوات الأخيرة فقط، على تخوم التسعينيات، عندما أصبح الأمر صعبًا أمام الأصنام كافة، عاد موضوع الحرب مرةً أخرى ليفرض نفسه على الفنان، ومرةً أخرى يطرح جندي تلك الحرب السؤال الملعون: «لماذا تعذبيني هكذا أيتها الحياة؟» هنا يمكننا أن نكتفي فقط بالحديث عن العمل الذي بدأ الفنان، الذي لديه الإجابة عن هذا السؤال، بما لديه من خبرة عن الحرب، عن فيكتور أصطافيف، عن الإصدار الجديد لروايته «الراعي والراعية»، عن روايته الجديدة «ملعونون وقتلى»، وعن رواية ج. فلاديموف «الجنرال وجيشه» …
تعرَّض «النثر الريفي» بدرجة أقل للرقابة من وجهة نظر الأصنام الأيديولوجية، وبدت اكتشافات هذا النثر في سنوات «الركود» بارزة. هذا النثر أعاد إلينا عددًا من الحقائق الأساسية؛ فالريف في روسيا تحديدًا هو الذي خلق الفضاء الثقافي الأصيل، بما في ذلك الكلمة المجازية. وفي الريف تشكَّل، حسب تعبير ف. أبراموف، علم الأخلاق الروسي وعلم الجمال الروسي، وظل الريف لقرون طويلة هو نقطة ارتكاز التاريخ القومي وقواه الحية.
أصبحت جميع مؤلفات ف. أبراموف (رباعية «الإخوة والأخوات»، قصص «الخيول الخشبية»، «بيلاجيا»، «أليكا»، «مامونيخا»)، وف. أصطافيف («التحية الأخيرة»، «السمكة الملكة»)، وف بيلوف («العمل الرئيسي»، «قصص النجارين»، «الانسجام»)، وف. راسبوتين («عش وتذكَّر»، «الموعد الأخير»، «وداعًا ماتيورا»، «الحريق»)، وف. شوكشين (من قصصه التراجيدية وحتى «كالينا كراسنايا»)، أصبحت دعوةً للفنانين الروس الموهوبين للحفاظ على الأمة، دعوة موجهة إلينا جميعًا عند لحظة التحول الفارقة لمصائر الشعب. وبقوة البصيرة النبوية تحدَّثت هذه المؤلفات عن أن القرية والفلاحين، اللذين عانا من المصيبة لم يكونا مجرد «تكوين اجتماعي واقتصادي»، وإنما هما خلاصة الخبرة الغابرة للحياة وللمعايشة على أرضنا، الخبرة التي أصبحت هي المهد الروحي للأمة. وبالإضافة إلى ذلك فإن مغزى هذه الأعمال، من وجهة نظري، لا يكمن على الإطلاق في إعادة التاريخ إلى الوراء، وإنما في حتمية أن يصبح الفرد، الذي يدخل في الكون المدني الجديد معاصرًا، حتمًا «من أجل الحياة على الأرض»، أن يقتنص من ماضيه الريفي، ما كان وما سيبقى قيمًا خالدة.
جمع «نثر المدينة» في بؤرته أيضًا العديد من الصدمات الاجتماعية والنفسية في زماننا. وإذا كان باستطاعتنا أن نتحدث عن «النثر الريفي» باعتباره ظاهرةً مُكتملة في الأساس، فإن «نثر المدينة» في ظروف «التَّمدِين» المكثف الجارف وما يثيره من أحداث درامية ومشكلات ما زالت له مكانته في المشهد الأدبي.
نذكر هنا ولو أعمال أ. بيتوف، وف. دودانتسيف، ود. جرانين، وأ. جيتينسكي، وس. كاليدين، وأ. أكيم، وف. كونتيتسكي، وم. كورايف، وف. ماكانين، ول. بتروشيفسكايا، وج. سيمونوف، وأ وب. ستروجاتسكي، وي. تريفونوف …
لقد انتشرت الدراما الإنسانية في هذه الأعمال بين المواطنين؛ أي في أوساط تلك الفئة الجماهيرية الثقافية والاجتماعية، التي نمت على مدى سنوات طويلة على نحو متدفِّق في بلادنا، والمطحونة بين شقَّي رحى «الحضارة السوفييتية» المشوَّهة. ومع ذلك فقد سعت «ذرة غبار» إنسانية في هذه الفئة للانفصال «على نحو خاص» عن «سواد الشعب» مع ما يسبِّبه لها ذلك من ألم، وأحيانًا دون أن يتحقَّق في ذلك أي نجاح، مندفعةً نحو تحقيق وجودها الذاتي. لقد تعرَّض المواطنون بصورة حادة للاغتراب عن الطبيعة وعن الروح، وأخيرًا عن عالمهم الباطن ذاته. لقد تعرَّضوا أكثر من الفلاح «الجاهل» لمرض الانتهازية، وعانَوا من الوحدة وهم بين الجماهير التي عانت هي نفسها منها. كان الصليب الذي حمله المواطنون ثقيلًا، وكان على كل واحد منهم، إن أراد أن يذود عن نفسه، أن يسير على طريق الجلجثة الخاص به، أن يضحِّي برفاهيته مقابل تحقيق ذاته.
تطلَّب ذلك من الإنسان جهودًا مضنية مستمرة، فكرية وروحية، ليس من قبيل الصدفة، أن يكون المنتصرون في هذا الصراع هم دائمًا الأقوياء داخليًّا، الذين اشتبكوا مع الزمن والتاريخ في مبادرة حوارية متوترة، يمكن أن نتذكَّر هنا أبطال روايات ماكنين، وكيم، بيتوف، وإسكندر أو فيودور ديجكين، دودينتسيف في «الملابس البيضاء»، وزوبر، وأ. أ. ليوبتشيف عند جرانين …
وقد تبيَّن وبالدرجة نفسها، للأسف، أن الضحايا الأوائل والمنتصرين النادرين كانوا من «المثقفين المتوسطي الأهمية»، الذين شكَّلوا أكثر الفئات جماهيريةً بين المواطنين المعاصرين.
وهناك ملاحظة أخرى، ففي سياق العملية الأدبية من الستينيات وحتى الثمانينيات، كان كل من يُطلق عليهم «المنشقون»، كانوا يعيشون جميعهم في الواقع في فضاء «نثر المدينة»؛ إذ إن فكرهم المخالف ومقاومتهم كان وراءها الأوضاع التي كان على الفرد فيها أن يواجه ضغطًا متزايدًا من جانب الأنماط الفكرية والنفسية والأخلاقية المبتذلة. ونتيجةً لمقاومة «الركود» ظهرت المؤلفات التي لم يتم تقديرها لكل من: ف. أكسيونوف، وج. فلاديموف، وف. مكسيموف، وف. فوينوفيتش … وبالنسبة لهذه الأسماء أُذكِّر أن سنوات الركود أصبحت زمنًا ﻟ «الموجة الثالثة» للمهجر الأدبي (أُضيف هنا، علاوةً على من ذَكَرنا من المهاجرين المنشقين: أ. برودوسكي، وأ. سينيافسكي، وس. دوفلاتوف، وإ. ليمونوف، وس. وسوكولوف وآخرين).
وهناك، وراء المحيط، في ولاية فيرمونت الأمريكية، ظل «المنشق» المعاصر الأعظم، الفنان والمفكر والباحث لعقدين من الزمان تقريبًا ألكسندر إيسايفيتش سولجينتسين يغزل «عقدة» وراء «عقدة» الدراما الروسية للقرن العشرين ليضع لنا ملحمتَي «أرخبيل جولاج» و«العجلة الحمراء».
هذه بعض الخطوط التمهيدية للعملية الأدبية في العقدين قبل الأخرين، والتي شكَّلت الانعطافة الجديدة التي بدت ظاهريًّا أكثر المنعطفات حدةً في تاريخ الأدب الروسي.
(١٦) الأدب في نهاية القرن العشرين: البحث عن طُرق جديدة (التسعينيات)
اقتربنا الآن بشدة من المعاصرة. نحن الآن في خِضم الأدب اليومي.
هل هناك اليوم عملية أدبية؟
إذا أدركنا هذه العملية بشكل طولي، في تطوُّرها السطحي، باعتبارها استمرارًا للحركة، وفقًا لخط سير وُضع بتوجيهات من شخص ما، فإن هذه العملية، بداهة، لم يعد لها وجود؛ لأن المصدر السابق لهذه الحركة قد نضب ببساطة.
ولكن، لعلنا لم يسبق لنا أنْ لاحظنا من قبل، وجود عمليات انفجارية بهذا القدر في الأدب، عمليات مُدمِّرة على نحو كارثي ﻟ «النموذج» القديم لتُبدع أدبًا شديد الاختلاف، أدبًا لم يكن موجودًا على امتداد أجيال عديدة، ربما لم يكن موجودًا على الأرض الروسية الغابرة. إذن، فإن ما نعيشه اليوم، ليس في مجال الأدب وحده، يغيِّر مصيرنا الممتد على مدى القرون.
إن «النموذج» السابق للعملية الأدبية، الذي تم تحطيمه تقريبًا، كان قائمًا على الفكرة الراسخة التي تقول: «نزولًا على رغبة الطبقة، وبناءً على مطالب الحزب.»
يتميَّز «النموذج» الجديد بأنه نموذج عَفْوي فطري، ومن ثم كان مفاجئًا للجميع، ونظرًا لبعض ما تميَّز به من خصائص فإنه لم يكن على هوى الكثيرين (الحقيقة أن المسيرة الظاهرية للأحداث أتاحت لباحثي الأدب أن يرَوا «بصورة غير مكتملة»، في لحظة خاطفة، كلًّا من البداية ونهاية تاريخ الأدب في القرن العشرين. الآن يعيش المختصون هذه «اللحظات المصيرية» كما لو أن الآلهة «الرحيمة» قد دعت كل البسطاء الفانين «للاحتفال صحبةً بالمأدُبة» (ف. تيوتشيف).
لنلقِ نظرةً على الوضع على نحو مرتَّب.
لعل الأهم في الطفرة التي حدثت هو هذا التلاحم المستمر لكل تيارات الكلمة الروسية. وعلى مدى خمس أو ست سنوات إذا بنا نُحاط، دون مبالغة، بتيار أدبي هادر تجمَّعت قواه بدون نقصان على مدى مائة عام كاملة. لقد اندفعت خارجةً من أسر الحظر مئات وآلاف المطبوعات؛ روايات، قصص، مذكرات، مواد أرشيفية، حكايات، نوادر، مُراسلات، معاهدات، اقتباسات تسجيلية من «الملفات الشخصية» … من الأدراج خرجت أيضًا لتجد طريقها إلى النشر مخطوطاتُ العقود السابقة، التي لم يكن من الممكن لأحد أن يتنبَّأ بما تحتويه. وتحوَّلت كثير من المجلات لتتناول، في الواقع، موضوعات هذا «الأرشيف التاريخي».
في وقت واحد أصبح في مجال رؤيتنا اليوم: أدب كافة «موجات» المهجر الروسي؛ كل ما كُتب على امتداد ثلاثة أرباع القرن في اتجاه معاكس للحظر الشمولي والتعليمات، من زامياتين وبونين وجوركي حتى بيليناك وجروسمان وسولجينتسين (وهو الأدب الذي أصبح يُعرَف باسم الأدب «العائد»)؛ نذكِّر أيضًا بمطبوعات أدب «الانشقاق» وأدب المهجر الجديد، من ف. أكسيونوف وحتى إ. برودوسكي، ثم إلى الأدب «السري» بزعمائه وادعاءاته. من بين أكثر الأسماء الجديدة غير المألوفة تنوُّعًا: مارك خاريتونوف، وميخائيل جفانيتسكي، وف. سوروكين، وأ. سلابوفسكي. وتشغل سفيتلانا ألكسيفيتش مكانةً متميِّزة في مجال الأدب التسجيلي.
رُفع الستار عن كواليس تاريخ الأدب الوطني كافة، عن كل زوايا الأدب ومخابئه وعن «فنائه الخلفي»، حتى وصل الأمر إلى إعادة نشر الأعمال الإيروتيكية الفضائحية لإيفان باركوف (القرن الثامن عشر)، النوع نفسه من الأعمال لإدوارد ليمونوف (نهاية القرن العشرين)، واندفعت نحو مقدمة المشهد من جديد، بعد أن ألقت ملابسها الأدبية البالية، الاتجاهات الممثِّلة للظواهر الجديدة كافة: ما بعد الحداثة، السنتمنتالية النقدية، المفهومية، العبثية. باختصار، انتقم الفن التجريبي «بعنف» بعد انتظار طويل لهذه الساعة. بالإضافة إلى ذلك فقد شكَّل هذا الفن عددًا من الاتجاهات المتصارعة المتنافرة، خليط متفجِّر، زاد من ضغطه على وعي القارئ. وفي الوقت نفسه راحت السوق تُطلِق مطبوعات وعناوين جديدة واحدًا تلو الآخر، من العناوين النخبوية إلى العناوين التجارية على نحو صريح، المخصَّصة لأصحاب الذوق المتدني. ناهيك عن المطبوعات التي لا حصر لها، التي صدرت على نفقة أصحابها، والتي اشتدَّ الخلط فيها بين المواهب التي لا تخطئها العين، وبين «الخربشة» الواضحة المتعجلة.
تغيَّرت الصورة المألوفة للحياة الأدبية رأسًا على عقب، على نحو بات من الصعب التعرُّف عليها، وتفجَّرت البِنى التقليدية و«السوفييتية» تحت ضغط البيئة المحيطة المنفلتة. وبدلًا من الأدب الشمولي بنظامه «القيمي»، المبني على أساس خطة محدَّدة مخيفة، وإن كانت منطقيةً من حيث بناؤها الداخلي. ظهرت التغيرات السريعة النشطة دون أي عوائق نتيجة انهيار لهذا النظام، ولتظهر وتختفي أكثر فأكثر «ذرات» أدبية متفتِّتة. ولم يكن بوسع أحد أن يوجِّه هذه الحركة أو أن يقوم بالأحرى على تنظيمها.
كان من الواضح أن «البيريسترويكا» لم تحقِّق نجاحًا في مجال الأدب. بدا أن القيام بتجديد الأدب على نحو منظم أمر مستحيل؛ إذ إن «مديري أعمال البيريسترويكا» لم تكن لديهم «أفكار» قادرة على بعث الروح في العملية الإبداعية. على أن مثل هذه الأفكار لم تكن موجودةً أيضًا لدى أيٍّ من الاتجاهات التي ظهرت في الأعوام الأخيرة. وكلما سارت الأمور إلى الأمام، انعكست التناقضات على نحو أكثر حدة. سقط اتحاد الكتَّاب لتثمر التغيرات التي لحقت به جماعات وهيئات وجمعيات صغيرة ومتوسطة.
أدَّت علاقات السوق إلى العديد من الأزمات، التي هدَّدت الوجود المادي للأدب ذاته. أصبح الحصول على الورق صعبًا، الأمر الذي أدَّى إلى «إفلاس» دُور النشر، لتعود الكتابة اليدوية من جديد، وبات إصدار العديد من المجلات «السميكة» مُهدَّدًا بالتوقف، وهي المجلات التي ظلَّت تصدر تباعًا لعدة عقود (فراحت تصدر في «عددين» أو «ثلاثة»، وهو ما لم يحدث منذ زمن الحرب). على أنه سرعان ما ظهرت دُور نشر جديدة وتأسَّست مجلات جديدة أصبحت منابر لمختلِف التيارات الفكرية والإبداعية في الأدب الحالي («أبريل»، «فيستنيك نوفوي ليتيراتوري» (بشير الأدب الجديد)، «كونتينينت» (القارة) انتقلت الآن إلى موسكو، «موسكوفسكي فيستنيك» (بشير موسكو)، «رافنودينستفيه» (الاعتدال)، «صوجلاصيا» (الاتفاق) وغيرها)، كما ظهرت صحف جديدة: «دِن» (اليوم)، «ليتيراتور» (الأديب). واشتبكت مع الجدل القائم التقاويم والمنتخبات الأدبية، التي تحوَّل بعضها إلى إصدارات دورية: «فزجلياد» (وجهة نظر)، «ليتسا» (وجوه)، «ليتشنوي منينيا» (رأي خاص)، «نيزنايما زيمليا» (الأرض المجهولة)، «تيوبلي ستان» (البلدة الدافئة)، «بوزيتسيا» (الموقف)، «سوبيسيدنيك» (السمير)، «ستريليتس» (رامي القوس)، «نوفي جورنال» (المجلة الجديدة)، «روسكايا بروفينتسيا» (الريف الروسي).
ما الذي كان من الممكن أن يحدث على خلفية هذا المشهد، وسط هذه الزمرة التي لا تهدأ، التي وصلت بالكلمة إلى حدود الإجهاد والتوتر، لتدفع الجميع إلى الصراخ وجذب الانتباه لها مرةً أخرى. كم من مرة حدث ذلك! أصبحت القضية هي على أي نحو في أيامنا هذه يبدو العمل الرئيسي للكاتب؟
يعاني الكاتب أيضًا من أزمة، لعلها واحدة من أصعب الأزمات في تاريخ الأدب الروسي بأكمله.
لنتذكَّر مرةً أخرى واحدة من مفارقات «الركود». لقد راح المجتمع في التدهور على نحو عميق ومُدمر، أما الفنان فكان يشعر بتدفق قوته الإبداعية؛ فقد أتاح له هذا التدهور مزيدًا من الإحساس والقدرة على التعبير: «وداعًا ماتيورا» و«الحريق» ف. راسبوتين، «التربية على طريقة دكتور سبوك» ف. بيلوف، «السمكة الملكة» ف. أصطافييف وغيرها.
لماذا إذن في زمن الحرية العظيمة، والتي لا حدود لها، لدرجة إباحة كل شيء، يشعر الفنان أنه مقيَّد هكذا؟ لماذا يعجز لسانه النبوي عن التعبير؟ لماذا على مدى الخمس ست سنوات الأخيرة لم تصدر تقريبًا أي رواية جديدة أخرى كبرى لها أهمية عامة، باستثناء الروايات ذات التأثير الكبير لأصطافييف: «ملعونون وقتلى»، الرواية الحادة الموجزة «الجنرال وجيشه» لفلاديموف؟ تتوقف الإجابة على هذا السؤال على الكتَّاب أنفسهم، وعليهم أيضًا أن يُجيبوا على السؤال الخاص بمستقبل الأدب.
لا يمكن أن يكون اختفاء الرقابة وحده هو الضمان للقدرة الإبداعية. إن الفنان يشعر بأنه قادر على كل شيء، عندما يكون موجودًا — روحيًّا — في مركز العالم. هذا «التصويب على البؤرة» اليوم؛ أي في الخمس ست سنوات الأخيرة بات أمرًا صعبًا؛ فلكي يُنجز الفنان عمله بكامل قوته، عليه أن يرى كل شيء بنفسه، دون عوائق وعلى نطاق واسع، وأن يشعر أنه على تلك القمة، التي يمكنه وهو فوقها أن يرى منها «أبعد نقطة في الكون».
هنا يكمن الدليل على وجود «النواة» ذاتها للعمليات الأدبية العميقة الضائعة في ثقافتنا، وعلى ما يجري فيها من تناقضات صعبة وبحوث مضنية.
من الواضح أن الأدب الجديد لن يحقِّق نجاحًا على المدى القريب في الخروج من هذه المتاهة.
تُرى هل ينبغي علينا أن نحزن على ما آل إليه الأمر؟ يبدو أن الكتَّاب المعاصرين لن يُضطروا لأن تكون لهم الهيمنة على الكنوز التي لا تنتهي كافة، وأن ينجحوا في إعادة صهرها في روائعهم الخاصة.
على أي حال فالجديد سوف يبدعه آخرون، سيأتون في أعقابهم، ونعني بهم فناني القرن الحادي والعشرين.
الفن الحديث يبحث عن العامل المشترك الضائع، عن الفكرة الاجتماعية، الأخلاقية، الدينية، الإصلاحية، التي توحِّد الجميع. وعندما يتم العثور على هذه الفكرة فإن كلمة الفنان سوف تصبح ضروريةً من جديد للجميع؛ وعندئذٍ سوف يُبعث من جديد، كما كان الحال في أفضل عهود تاريخنا الثقافي، «الفضاء الثقافي» الواحد، لا من خلال «التنوير» و«التعليم»، وإنما من خلال «صحوة العقل»، وعن ذلك كتب دانييل أندرييف في روايته «زهرة العالم».
الشرط الثالث.
للإجابة على السؤال: هل للأدب «مستقبل»؟ ينبغي أن ننصت إلى ما يقوله «الشارع» (الجمهور، الشعب).
يقول الشارع: الأمر بشع! ولكنه يقولها بصوت مليء بالحياة. إن كلمة «الشارع» المعاصر موجودة بشكل مبتذل وركيك عند البالوعات كافة، بدءًا من الأفنية العادية إلى مقار الاجتماعات الجماهيرية. ومع ذلك فإن هذه الكلمة الحية تُعاني من المرض، وأكثر ما يعاني فيها منه هو روحها المعذَّبة شبه الميتة. ولكن، ما دام أنها مريضة، فإن ذلك يعني أنها لا تزال على قيد الحياة، كما يعني أنه لا يزال هناك أمل في بعثها.
أما فيما يخص الأدب الحالي خاصة، فإنه يمكن أن يبدو لنا أنه يموت بسبب عدم الإقبال عليه، وما هي إلا برهة قصيرة حتى لا يجد من يقرؤه، بما في ذلك الأدب الكلاسيكي العظيم في كل الأزمان ولدى كل الشعوب. لقد سقط الاهتمام به دفعةً واحدة في السنوات الأخيرة. والذين يقرءون الكتب، يقرءونه من قبيل العادة، وجزء منهم يقرأ أدبًا غير حقيقي. ولكن ليست هذه كل الحقيقة، هناك قُراء آخرون يقرءون اليوم على نحو لم يقرءوا مثله قط، مستمتعين بأقصى درجات السعادة من جرَّاء القراءة الحرة بالمعنى الحقيقي للكلمة. سعداء أولئك الذين وُلدوا ليمارسوا في الحقيقة هذا الفعل السري المساوي للإبداع، وهم قلة (ودائمًا ما كانوا كذلك)، لعلهم سبعة، وربما عشرة بالمائة من كل السكان المثقفين. وعلاوةً على ذلك فإن تقسيم القراء (مثل تقسيم الأدب نفسه) عملية طبيعية، وهو في العموم عملية صحية. يجب أن يقرأ كل من كانت القراءة تمثِّل له أمرًا مهمًّا، كل من لا يستطيع الحياة بدونها.
أما الآخرون، المقتَنعون بإمكانية العيش بسعادة دون قراءة، فلعلهم طرحوا جانبًا هذا العمل الذي لا طائل من ورائه، وكثير منهم لن يعودوا للقراءة أبدًا.
الآن ينمو ويترعرع الجيل الأول غير القارئ، أو إذا ما أتممنا عبارتنا إلى نهايتها، الذين لا يقرءون بالعصا كما كان يحدث عندنا لعشرات السنين.
وهنا مربط الفرس!
عندما كانت القراءة تتم كرهًا كان مصيرها النسيان؛ عندئذٍ جاء الميلاد الجديد للأدب، باعتباره قيمةً روحية صادقة؛ لأن مكانته في الثقافة لا يمكن لأي فرد أن يشغلها. «من الذي سيضع للبشرية نظامًا موحَّدًا للحساب، للخير والشر؟ هنا تصبح الدعاية والقسر والإثبات العلمي عاجزة. ولكن، لحسن الحظ، هناك وسيلة موجودة في العالم! هي الفن، هي الأدب» (ألكسندر سولجينتسين، من خطاب جائزة لينين).
اليوم ونحن على تخوم القرن الحادي والعشرين يُطرح سؤال: وهل للأدب الروسي مستقبل؟ أم إن «ماضيه»، كما كتب يفجيني زامياتين، هو مستقبله؟
أسمح لنفسي أن أفترض أن الاتجاهين المنفصلين، اللذين ظهرا في الرُّبع الأخير من القرن على أطلال الأدب «السوفييتي» الأرثوذوكسي و«البيرويسترويكا» سوف يقويان من التطور إلى الأمام. الأرجح أنه سيوجد أدبان متوازيان في الوقت نفسه؛ الأول ﻟ «الاستهلاك المحلي» كما كان يكتب ف. ماياكوفسكي أحيانًا وهو يُهدي دواوينه؛ وسوف يكون هناك أدب ﻟ «الأسئلة الخالدة» المطروحة على كل إنسان.
وإلى جانبهما، ولكن دون تماس، سوف يظهر «أدب جماهيري»، قَصَص، تكمن جاذبيتها في أنها تنزع عن الإنسان ما يُثقل روحَه وتحرِّره من صعوبة الاختيار الشخصي ومن وضع الإجابة الشخصية على أسئلته.
يعود الأدب إلى الناس بشتى الطرق، ويعود الناس إلى الأدب. وفي البحث عن مغزًى للحياة، فإن هذا الجزء من الناس، الذين يعيشون دون مغزًى سيكون الأمر بالنسبة لهم سيئًا. فجأةً وفي زمن ما، سيكتشفون أن هناك إجابة لعذاب الإدراك الذاتي، سوف تعطيهم الكتب هذه الإجابة، من الكتاب المقدس وحتى الكشوف الأدبية للقرن العشرين.
الآن يطرح البعض سؤالًا سيكون، على الأرجح، على النحو التالي: ما دام الأدب لن يموت، فإنه لن يُبعث، إذن فلا «غد»، كما يبدو، للأدب الجديد، ولكن ربما سيأتي المستقبل «بعد غد».
أما فيما يتعلَّق بالنسبة للمئوية الصغيرة لقُراء الكتب، الذين وُلدوا، فإن مائة حياة لن تكفي لقراءة الكتب العظيمة والرائعة، وسوف يجدون دائمًا ما يلزمهم، سواء على المستوى المهني أو الروحي. وأخيرًا فإن السبعة إلى عشرة بالمائة، هي نسبة كبيرة، إنها تعني أكثر من عشرة ملايين من الناس القريبين منا.
هؤلاء سوف يظل الأدب دائمًا هو بيتهم (لنتذكَّر م. بولجاكوف)، وبالنسبة لآخرين سيكون لهم النور والسكينة.